تفسير العثيمين: الشورى
الناشر
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٣٧ هـ
مكان النشر
المملكة العربية السعودية
تصانيف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
* * *
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله مِن شُرور أَنْفُسنا ومِن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهُدَى ودِين الحقِّ؛ فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في الله حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليَقينُ، فصَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين.
أَمَّا بَعْدُ: فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أَثْناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة؛ حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدَايَةُ التَّسْجِيلِ الصَّوتيِّ لَهَا مِن سُورة النُّور وَمَا بَعدَها؛ حتَّى بلَغ فَضيلتُه قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ،
1 / 5
المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد بنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^٢). تغمَّدهما الله بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجزاءِ.
وسَعْيًا - بإِذْنِ اللهِ تَعالَى - لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ محُمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجَزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعْلِيَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
وَصَلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ
١٤ مُحَرَّم ١٤٣٧ هـ
* * *
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
(^٢) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قبْل أنْ نبدأَ بالتفسيرِ أحبُّ أن أحثَّ طلَّابَ العلمِ على تعلُّمِ تفسيرِ القرآنِ؛ لأنَّ القرآنَ أشرفُ كتابٍ وأعظمُ كتابٍ، فإنَّه كلامُ اللهِ ﷿ تَكَلَّمَ به حقيقةً، وسَمَّعَه جبريلَ فألقاه إلى النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ - ثم إن هذا شأنُ الصحابةِ ﵃ فقد كانوا لا يتجاوزون عَشْرَ آياتٍ حتى يتعلَّموها وما فيها من العلمِ والعملِ، قالوا: فتَعَلَّمْنا القرآنَ والعلمَ والعملَ جميعًا (^١).
ومن المعلومِ أنَّ الإنسانَ إذا قرأ القرآنَ بدونِ معرفةٍ لمعناه فإنه لا يستفيدُ منه شيئًا، كما لو قرأ كتابَ فقهٍ، أو كتابَ طبٍّ، أو كتابَ أدبٍ، وهو لا يعرفُ المعنى فإنه لا يستفيدُ من هذا شيئًا.
أهمّ شيءٍ في القرآنِ أن تَتَدَبَّرَ آياتِهِ وتَتَّعِظَ بها؛ كما قال اللهُ تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩].
ويوجَدُ بعضُ الناسِ تمِيلُ نفسُهُ إلى فنٍّ من فنونِ العِلْمِ ويُهمِلُ القرآنَ، ولو ناقشْتَه في أقلِّ معنًى للآياتِ وَجَدْتَه ليس عنده منها خبر، ولا وَقَفَ منها على عيْنٍ ولا أثر، وهذا نقصٌ كبيرٌ في العِلْمِ، فأصْلُ المعلوماتِ وأهمُّها وأشرفُها وأَجَلُّها هو تَعَلُّمُ القرآنِ الكريمِ؛ ولذلك تنبغي العنايةُ به، واعْلَمْ أنَّ القرآنَ الكريمَ لم يَنْزِلْ
_________
(^١) أخرجه الإمام أحمد (٥/ ٤١٠)، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي ﷺ ... فذكره.
1 / 7
على أنه كتابُ نحوٍ، أو كتابُ صَرْفٍ، أو كتابُ فَلَكٍ، أو ما أَشْبَهَ ذلك إنما نَزَل ليستقيمَ العبدُ في معاملتِه مع اللهِ ومعاملتِه مع الخَلْقِ؛ ولذلك تَجِدُ القرآنَ الكريمَ لا يعتني كثيرًا بالآياتِ الكونيَّةِ الفلكيَّةِ، وإنما يشيرُ إليها إشارةً، لكنَّه في الأحكامِ الشرعيَّةِ يأتي فيها بالتفصيلِ والبيانِ.
ولقد حاول بعضُ المتأخِّرين أن يُنزِّل المعلوماتِ الكونيَّةَ الفلكيَّةَ والأرضيَّةَ، وحاول أن يَجْعَلَ القرآنَ دالًّا عليها بالتفصيلِ، فصار يَسُوقُ الآياتِ ويتكلَّفُ في معناها؛ ليُخْضِعَها إلى موافَقةِ ما قيلَ عن علمِ الفَلكِ والأرضِ، وهذا غلطٌ؛ لأنَّ القرآنَ إنَّما نَزَلَ لهدايةِ الخَلْقِ في العباداتِ والمعاملاتِ، وما أتى فيه من كلامٍ عن الأمورِ الكونيَّةِ فهذا أتى على وجْهٍ إجماليٍّ التفصيلُ فيه قليلٌ إن كان هناك تفصيلٌ، فليعتنِ طالبُ العلمِ بتفسيرِ كلامِ اللهِ ﷿.
مسألة: أَحْسَنُ ما عَلِمْتُ (تفسير ابْنِ كَثِيرٍ) ﵀، فهو موثوقٌ من جِهَةِ العقيدةِ وإن كان فيه بعضُ القصورِ، فإنَّه يَذْكُرُ أشياءَ إسرائيليَّةً، ويتكلَّمُ على كثيرٍ منها. و(تفسيرُ الشَّيخِ عبْدِ الرحمنِ السَّعْدِيِّ) ﵀ جيِّدٌ خصوصًا في استنباطِ الفوائِدِ من الآياتِ، و(تفسيرُ الشَّيخِ الشَّنْقِيطِيِّ) ﵀ جيِّدٌ، لكن لا يَصْلُحُ إلا لطالِبِ عِلْمٍ مُتَمَكِّنٍ. هذا الَّذي أَعْلَمُ الآنَ.
* * *
1 / 8
سورةُ الشُّورى
* * *
قال المفسِّرُ ﵀ (^١): [سورةُ الشُّورى] ويُقالُ: سورةُ شورى وهي تقالُ بهذا وهذا، أمَّا الشُّورى فـ (أل) فيها للبيانِ، وأمَّا شورى فهي مأخوذةٌ من قولِهِ: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: ٣٨]، وليس فيها (أل).
فهذه السُّورةُ تُسَمَّى سورةَ شورى وسورةَ الشُّورى.
قال المُفسِّر ﵀: [مَكِّيَّةٌ] ما نَزَلَ بعْدَ الهجرةِ ولو في مكَّةَ، فهو مَدَنيٌّ ما نَزَلَ بعْدَ الهجرةِ ولو بمكَّةَ فهو مَدَنيٌّ؛ كقولِهِ تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: ٣]، هذه نَزَلتْ في عرفةَ والنَّبيُّ ﷺ -واقفٌ بعرفةَ (^٢)، وما نَزَلَ قبْلَ الهجرةِ، ولو في الأسفارِ، أو في أيِّ مكانٍ فإنه مَكِّيٌّ، إذنِ الحدُّ الفاصلُ بيْنَ السُّوَرِ المكِّيَّةِ والمَدنيَّةِ هو الهجرةُ.
قال المُفسِّر ﵀: [إلا ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ الآياتِ الأربعَ] استثنى المُفسِّر ﵀ من هذه السُّورةِ هذه الآياتِ الأربعَ، يَعني: أنها مدنيَّةٌ وبقيَّةُ السُّورةِ مكِّيَّةٌ، ولكن لاحِظ أنَّ أيَّ إنسانٍ يَستثني آياتٍ من سورةٍ مدنيَّةٍ؛ لِتكُونَ هذه الآياتُ مكِّيَّةً أو بالعكسِ فإنَّنا نطالبُه بالدليلِ، وإلا فالأصلُ أنَّ السُّورةَ المكِّيَّةَ مكِّيَّةٌ بجميعِ آياتِها، وأنَّ السُّورةَ المدنيَّةَ مدنيَّةٌ بجميعِ آياتِها.
_________
(^١) المقصود بـ (المُفَسِّر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفي سنة (٨٦٤ هـ) رحمه الله تعالى، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
(^٢) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، رقم (٤٥)، ومسلم: كتاب التفسير، رقم (٣٠١٧)، من حديث عمر ﵁.
1 / 9
قد يقولُ قائلٌ مثلًا: الدليلُ أنَّ أسلوبَ الآياتِ المدنيَّةِ يختلفُ عن أسلوبِ الآياتِ المكِّيَّةِ. نقولُ: هذا لا يكفي.
وقد يقولُ قائلٌ مثلًا: الدليلُ على الإستثناءِ أنَّ هذه الآياتِ تبحثُ في فروعِ الدِّينِ وهذه علامةٌ على أنَّها مدنيةٌ؛ لأنَّ غالبَ السُّوَرِ المكِّيَّةِ تبحثُ في أصولِ الدِّينِ.
نقولُ: هذا ليس بدليلٍ، وعلى هذا فالأصلُ أنَّ هذه السُّورةَ مكِّيَّةٌ بجميعِ آياتِها حتى يَقُومَ دليلٌ واضحٌ على أنَّ هذه الآياتِ التي استثناها المُفسِّر مدنيَّةٌ، ثم اعلمْ أنَّ جميعَ السُّوَرِ المبدوءةِ بالحروفِ الهجائيَّةِ مكِّيَّةٌ إلَّا سورتيْنِ هما: البقرةُ وآلُ عمرانَ والباقي كُلُّه مَكِّيٌّ.
ثم قال المُفسِّر ﵀: [ثلاثٌ وخمسون آيةً] الآيةُ هي عِبارةٌ عن جُملةٍ من القرآنِ الكريمِ انفصلتْ عمَّا قبْلها انفصالًا توقيفيًّا، يَعني أنَّ الآياتِ فُصِلَتْ هذه عن هذه بالتوقيفِ، وليس تابعًا للمعنى؛ ولهذا تجدون قولَ اللهِ ﵎: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: ٤ - ٥] هاتانِ آيتانِ، مع أنَّ ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ مرتبطةٌ تمامًا بقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾.
المهمُّ: أنَّ فصلَ آيةٍ عن آيةٍ إنما هو بالتوقيفِ، كذلك أيضًا وَضْعُ الآياتِ بعضِها إلى بعضٍ هو أيضًا توقيفيٌّ، ليس للرأيِ فيه مجالٌ، وليس لأحدٍ فيه أيُّ عملٍ، بل هو توقيفيٌّ، إذا نزلتِ الآيةُ قال النَّبِيُّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم -: "ضعوا هذه الآيةَ في مكانِ كذا من سورةِ كذا" (^١). فصار الآن فَصْلُ الآياتِ عن بعضِها البعضِ ترتيبُها توقيفيٌّ.
_________
(^١) أخرجه الإمام أحمد (١/ ٥٧)، والترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة، رقم (٣٠٨٦)، من حديث عثمان بن عفان ﵁.
1 / 10
أمَّا السُّوَرُ فبعضُها ترتيبُه توقيفيٌّ وبعضُها ترتيبُه غيرُ توقيفيٍّ، فمثلًا البقرةُ وآلُ عمرانَ ترتيبُها توقيفيٌّ، آلُ عمرانَ بَعْدَ البقرةِ، ولا يُشْكِلُ عليك حديثُ حذيفةَ أنَّه صلَّى مع النبيِّ ﷺ ذاتَ ليلةٍ فقرأ بالبقرةِ، ثم قرأ بالنساءِ، ثم قرأ بآلِ عمرانَ (^١)؛ لأنَّ الترتيبَ النِّهائيَّ أنَّ آلَ عمرانَ بعدَ البقرةِ، ويكونُ حديثُ حذيفةَ ﵁ قبْلَ الترتيبِ النِّهائيِّ؛ ولهذا تجدون في الحديثِ أنَّ النَّبيَّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم - يَقْرِنُ دائمًا بيْنَ البقرةِ وآلِ عمرانَ؛ كقولِهِ: "اقْرَؤُوا الزَّهْراويْنِ" (^٢) يَعني البقرةَ وآلَ عمرانَ.
فصار عندنا الآن ترتيبُ السُّوَرِ بَعْضُه توقيفيٌّ وبَعْضُه غيرُ توقيفيٍّ، ترتيبُ الآياتِ توقيفيٌّ، تفصيلُ الآياتِ توقيفيٌّ.
وإنما سُمِّيت القطعةُ أو الجملةُ من القرآنِ آيةً؛ لأنَّها مُعجِزةٌ، يعني: الآيةُ الواحدةُ لا يستطيعُ أحدٌ أن يأتِيَ بمثْلِها، لا في موضِعِها، ولا في صيغتِها ولا في مدلولِها.
* * *
_________
(^١) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، رقم (٧٧٢).
(^٢) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، رقم (٨٠٤)، من حديث أبي أمامة الباهلي ﵁.
1 / 11
الآيات (١ - ٣)
* * *
* قَالَ اللهُ ﷿: ﴿حم (١) عسق (٢) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الشورى: ١ - ٣].
* * *
﴿حم (١) عسق﴾ هذه خمسةُ أحرفٍ (حاء) (ميم) (عين) (سين) (قاف) خمسة أحرف، لكنها أحرفٌ هجائيةٌ يعني هي مثلُ: (ألف) (باء) (تاء) (ثاء) (جيم) (حاء) (خاء) هذه (حاء) (ميم) (عين) (سين) (قاف) ليس لنا أن نتكلمَ لماذا اختار اللهُ ﷿ هذه الحروفَ بعينِها دونَ غيرِها؟ هذا ليس إلينا، ولا يمكننا أن نحيطَ بذلك علمًا.
لكن لنا أن نسأل: هل لهذه الحروفِ معنًى؟
الجواب: المُفسِّر ﵀ يقولُ: [اللهُ أعلمُ بمرادِه به]، وهذا يقتضي أنه أثبتَ لهذه الحروفِ معانيَ لكنها غيرُ معلومةٍ، وهذه الحروفُ الهجائيةُ التي ابتُدئت بها بعضُ السُّوَرِ اختَلف فيها العلماءُ ﵏ سلفًا وخَلفًا ما معناها، وهل هي رموزٌ أو أسماءٌ للسورِ التي ابتُدئت بها؟ ولكنَّا إذا طبَّقْنا ذلك على ما تقتضيه الأدلةُ وَجَدْنا أنها حروفٌ هجائيةٌ ليس لها معنًى.
الدَّليلُ: أنه لا يُوجَدُ في القرآنِ شيءٌ ليس له معنًى معلومٌ لجميعِ الناسِ؛ لأنَّه لو قدر أن في القرآن شيئًا مجهولًا لجميعِ الناسِ لم يكنْ هذا القرآنُ بيانًا للناسِ؛
1 / 12
لأنَّ مقتضَى البيانِ ألا يكُونَ فيه شيءٌ إلا كان معلومًا للناسِ جميعًا أو لبعضِ الناسِ، أمَّا أن يوجد فيه ما ليس معلومًا لجميع الناسِ فهذا لا يمكنُ، وقد قال اللهُ تعالَى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩]، وقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٨، ١٩]، وهذا يشملُ البيانَ اللفظيَّ والبيانَ المعنويَّ.
إذَن: أولًا: اعلم أنه لا يوجَدُ شيءٌ في القرآنِ لا يَفْهَمُ الناسُ معناه أبدًا، لا بُدَّ أن يفهموا معناه، فإذا وُجِدَ شيءٌ لا يُعْرَفُ معناه يعني ذلك أنه ليس له معنًى، هذه واحدةٌ.
ثانيًا: إذا طَبَّقْنا هذه الحروفَ على قولِ اللهِ ﵎: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٣ - ١٩٥]، وقولِهِ تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزُّخرف: ٣]، قلْنا: هذه الحروفُ في لغةِ العربِ ليس لها معنًى، إذن فمقتضَى كوْنِ القرآنِ باللسانِ العربيِّ المبينِ ألا يكونَ لهذه الحروفُ معنًى، لأنَّ هذه الحروفَ ليس لها معنًى في اللغةِ العربيةِ، وهذا هو الذي نَقَلَه ابْنُ كثيرٍ ﵀ عن إمامِ المفسِّرِين في عهْدِه مجاهدِ بنِ جبرٍ ﵀ الذي أَخَذ تفسيرَ القرآنِ عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ.
فقال: إن هذه الحروفَ الهجائيَّةَ ليس لها معنًى (^١) نَجْزِمُ بذلك، لا تَخَرُّصًا ولكن استدلالًا بالقرآنِ، واستدلالًا بحالِ القرآنِ، استدلالًا بالقرآنِ، لأنَّه نَزَلَ باللغةِ العربيةِ وهذه الحروفُ الهجائيَّةُ ليس لها معنًى في اللغةِ العربيَّةِ، واستدلالًا بحالِ القرآنِ أنَّ القرآنَ ليس فيه شيءٌ لا يَعْرِفُ الناسُ معناه كُلَّهُ، لا بُدَّ أن يَكُونَ فيه شيءٌ معلومٌ.
_________
(^١) أخرجه الطبري في تفسيره (١/ ٢٠٩)، وانظر: تفسير ابن كثير (١/ ٧٠).
1 / 13
وعلى هذا فإننا نَجْزِمُ بأنَّ هذه الحروفَ ذاتَها ليس لها معنًى، لكن إذن يَرِدُ علينا إشكالٌ، إذا قلنا: ليس لها معنًى صار إنزالُها وكلامُ الرَّبِّ بها ﷿ عبثًا، واللهُ ﵎ لا يَفْعَلُ شيئًا عبثًا، فنقولُ: ليس بعبثٍ، هي ذاتُها ليس لها معنًى، لكن لها مغزًى يقترنُ بالتحدي، وهو أن يُقالَ: إنكم أيها العربُ تركِّبون كلامَكم من هذه الحروفِ والقرآنُ لم يأتِ بحرفٍ لم تتكلموا به، بل كُلُّهُ من الحروفِ التي تتكلمون بها، وهذا مثالٌ: (ح) (م) (ع) (س) (ق)، ومع هذا عَجَزْتُمْ أن تأتوا بمثْلِهِ، فيكون بهذا مغزًى عظيمٌ، وهو أنَّ القرآنَ الذي أَعْجَزَكُم أيها العربُ مع أنكم أئمَّةُ الفصاحةِ، هل أتى بحروف جديدة، تقولون: واللهِ لا نعرف هذه الحروف، أو هو من الحروفِ التي أنتم تنطقون بها؟ فالجوابُ: الثاني ومع ذلك أَعْجَزَكُم.
ويدُلُّ لهذا المغزى الذي أقرَّهُ شيخُ الإسلامِ (^١) ﵀ ومن سَبَقَه ومن لَحِقَه، يدُلُّ على هذا: أنك لا تكادُ تجدُ سورةً مبدوءةً بهذه الحروفِ إلا وبعدها ذِكْرُ القرآنِ الكريمِ، أو ذِكْرُ ما لا يُمْكِنُ إلا بوحيٍ، ننظرُ الآنَ: ﴿الم﴾ [البقرة: ١]، في أوَّلِ البقرةِ بَعْدَهَا: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، وفي آلِ عمر ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [آل عمرانَ: ١ - ٣]، و﴿المص﴾ [الأعراف: ١] ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ وهلمَّ جرًّا، ليس هناك إلا سورتان أو ثلاثٌ، لكنَّ حقيقةَ الأمرِ أنَّ الذي يلي هذه الحروفَ لا يتأتَّى العلمُ به إلا عن طريقِ الوحيِ.
فقولُهُ: ﴿حم (١) عسق﴾ نقولُ في تفسيرِها: هذه حروفٌ هجائيَّةُ ليس لها معنًى، لكن لها مغزًى.
قال المُفسِّر ﵀: [﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثلَ ذلك الإيحاءِ ﴿يُوحِي إِلَيْكَ﴾ وأوحى
_________
(^١) انظر تفسير ابن كثير (١/ ٧١).
1 / 14
إلى الذين من قبلِك، اللهُ فاعلُ الإيحاءِ] ﴿كَذَلِكَ﴾ تأتي في القرآنِ كثيرًا، وإعرابُها في جميعِ المواطنِ إلا يسيرًا أن تقول: الكافُ بمعنى (مثل) منصوبةٌ على أنها مفعولٌ مطلقٌ عاملُها ما يأتي بَعْدَهَا. حوّل الكافَ إلى مثلٍ تقولُ: مِثْلَ ذلك، والعاملُ فيها ﴿يُوحِي﴾ أي: يوحي إليك مثلَ ذلك الإيحاءِ اللهُ العزيزُ الحكيمُ.
وقولُهُ: ﴿كَذَلِكَ﴾ (ذلك) المشارُ إليه الوحيُ النازلُ على الرَّسُولِ ﷺ يوحي إليك: الوحيُ في اللغةِ الإعلامُ بسرعةٍ وخفاءٍ، ويُطْلَقُ على الرمزِ ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: ١١]، ويُطْلَقُ على الإلهامِ؛ كما في قولِهِ: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: ٦٨]، ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: ٧].
أمَّا في الإصطلاخ: فالوحيُ إعلامُ اللهِ تعالى بالشرعِ لأنبيائِهِ ورسُلِه.
وقولُهُ: ﴿وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك﴾ الواوُ حرفُ عطْفٍ ﴿وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ معطوفةٌ على ﴿إِلَيْكَ﴾ وإذا كانتْ معطوفةً على ﴿إِلَيْكَ﴾ كان تقديرُ الفعلِ: ويوحي إلى الذين من قَبْلِك. لكنْ لاحظوا أنَّ المُفسِّر ﵀ صَرَفَهَا فقال: [وأوحى إلى الذين من قَبْلِك]، فَقَدَّرَ فعلًا ماضيًا، مع أنها معطوفةٌ على معمولِ فعلٍ مضارعٍ؛ لأنَّ إيحاءَ اللهِ إلى رسولِهِ محمَّدٍ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم - مستمرٌّ، وإيحاؤه إلى من سَبَقَه ماضٍ منتهٍ؛ فلهذا قَدَّرَ المُفسِّر فعلًا ماضيًا.
ولكننا نقولُ: الأصلُ عدمُ التقديرِ؛ لأنَّ القرآنَ كاملٌ لا يحتاجُ إلى تقديرٍ إلا ما دعتِ الضَّرُورةُ إليه، ولا ضرورةَ هنا، ونقولُ: كذلك يوحي إليك ويوحي إلى الذين من قَبْلِك، ويكونُ ذِكْرُ الإيحاءِ لمن سَبَقَنَا من بابِ ذِكْرِ صورةِ الحالِ، فإنه ﷾ حين وحْيِهِ إلى من سبق، و﴿يُوحِي﴾ فعلٌ مضارعٌ، فيكونُ هذا على حكايةِ الحالِ.
1 / 15
وقولِهِ: ﴿وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ المرادُ بهم الأنبياءُ والرسلُ، قال المُفسِّر ﵀: [﴿اللَّهُ﴾ فاعلُ الإيحاءِ] لو قال: فَاعِلُ ﴿يُوحِي﴾ كان أَحْسَنَ من حيث البيانُ الإعرابيُّ، فعلى هذا نقولُ: ﴿يُوحِي﴾ فعلٌ مضارعٌ، و﴿اللَّهُ﴾ فاعلٌ: يوحي اللهُ.
فـ ﴿اللَّهُ﴾ هو عَلَمٌ على ربِّنَا ﷿ قيل: وأصلُهُ (الإلهُ) فحُذفت الهمزةُ؛ لكثرةِ الإستعمالِ كما حُذفت الهمزةُ من خيرٍ وشرٍّ في قولهم: فلانٌ خيرٌ من فلانٍ، أو فلانٌ شرٌّ من فلانٍ، والتقديرُ: أَخْيَرُ وَأَشَرُّ.
﴿اللَّهُ﴾ معنى هذه الكلمةِ العظيمةِ قيلَ: إنه اسمٌ جامدٌ ليس له معنًى فهو غيرُ مشتقٍّ، لكن هذا القولَ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف: ١٨٠]، والإسمُ المجرَّدُ عن معنًى لا يَدْخُلُ في الحسنى، بل ولا في الحَسَنِ، فكلُّ اسمٍ من أسماءِ اللهِ، فإنه متضمنٌ لصفةٍ من صفاتِ اللهِ أو أكثرَ، وليس في أسماءِ اللهِ اسمٌ جامدٌ لا يحملُ معنًى أبدًا، وعلى هذا فنقول: اللهُ مشتقٌّ من الألوهيَّةِ، والألوهيَّةُ هي: التذلُّلُ للمألوهِ مع المحبَّةِ والتعظيمِ؛ إذنْ فاللهُ بمعنى المتألَّهِ إليه حبًّا وتعظيمًا.
قال المُفسِّر ﵀: [﴿اللَّهُ الْعَزِيزُ﴾ قال: في مُلْكِه، ﴿الْحَكِيمُ﴾ الحكيمُ في صُنْعِه].
أولًا: قال ﵀: [﴿الْعَزِيزُ﴾ في مُلْكِه] لكنْ لم يفسرْ معنى العزَّةِ، العزيزُ في الأصلِ: الغالبُ، العزيزُ يعني: الغالبَ القاهرَ لمن سِوَاه ﷿، واستمعْ إلى قولِ اللهِ تعالى عن المنافقين: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ [المنافقون: ٨]، يريدون بالأعزِّ أَنْفُسَهُمْ، ويريدون بالأذلِّ الرسولَ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم - وأصحابِهِ.
1 / 16
قال اللهُ ردًّا عليهم: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨]؛ أي: للهِ الغلبةُ ولرسولِهِ وللمؤمنين، وتَأَمَّلْ قولَهُ: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ﴾ ولم يَقُلْ: واللهُ الأعزُّ، مع أنهم هم يقولون: الأعزُّ والأذلُّ، لم يَقُلْ: واللهُ أعزُّ قال: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ﴾؛ لأنَّه لو قال: واللهُ هو الأعزُّ لأثبت للمنافقين عزةً مفضولةً، لكنَّ الحقيقةَ أنه لا عِزَّةَ للمنافقِ، بل هو مغلوبٌ دائمًا، بل حالُهُ تَدُلُّ على أنه مغلوبٌ؛ لأَنَّه مختفٍ جبانٌ يُظْهِرُ أنه مُسْلِمٌ وليس بمُسْلِمٍ.
ولهذا نقولُ: إن الكافرين الْخُلَّصَ الصرحاءَ أشجعُ من المنافقين؛ لأنَّهم يُصَرِّحُون ويُعْلِنون، أمَّا المنافقُ فذليلٌ يُظْهِرُ الإسلامَ خوفًا من المسلمين ويُبْطِنُ الكفرَ؛ لأنَّه كافرٌ، والعياذُ باللهِ.
مسألة: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النِّساء: ١٤٥] لا تدلُّ على أنَّ غيْرَهم لا يكونُ فيها، كما لو قلتَ مثلًا: فلانٌ في بيتِ فلانٍ، لا ينافي أن يَكُونَ أحدٌ في هذا البيتِ.
الخلاصةُ: ﴿الْعَزِيزُ﴾ المُفسِّر ﵀ لم يُبَيِّنْ معناها، فنقولُ: العزَّةُ يعني: الْغَلَبَةَ.
﴿الْحَكِيمُ﴾ يقولُ المُفسِّر ﵀: [في صُنْعِه]، وهذا ناقصٌ جدًّا؛ لأنَّ حِكْمَةَ اللهِ تعالى في صُنْعِه وفي شَرْعِه، فهو حكيمٌ في صُنْعِه؛ أي: في خَلْقِه، وهو حكيمٌ في شَرْعِه.
واقرأْ قولَ اللهِ تعالى في سورةِ المُمْتَحَنَةِ: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا﴾ [الممتحنة: ١٠] كُلُّ هذه أحكامٌ شرعيَّةُ، ثم قال: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
1 / 17
فهو جَلَّ وَعَلَا حكيمٌ في شَرْعِه وحكيمٌ في صُنْعِه؛ يعني: في خَلْقِه، كُلُّ ما خَلَقَه اللهُ تعالى فالحكمةُ تقتضي وجودَه، وكلُّ ما أَعْدَمَهُ اللهُ تعالى فالحكمةُ تقتضي عَدَمَهُ، هذا أمرٌ مُسَلَّمٌ به، كلُّ ما شَرَعَه اللهُ إيجابًا، أو تحريمًا، أو تحليلًا، فالحكمةُ تقتضي شَرْعَه، كذلك الواجبُ تقتضي الحكمةُ إيجابَهُ، والمُحَرَّمُ تقتضي الحكمةُ تحريمَه، والمباحُ تقتضي الحكمةُ إباحَتَهُ، لكنْ لا يَلْزَمُ من وُجُودِ الحكمةِ في ذلك أن تكونَ معلومةً لنا، هناك حكمةٌ لكنْ قد نَعْلَمُها وقد لا نَعْلَمُها. وإذا حُجِبَ عنا عِلْمُهَا لا يعني العَدَمَ؛ لأننا قاصرون، إننا قاصرون بكلِّ شيءٍ، ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٢٨]، في كلِّ شيءٍ ضعيفٌ؛ في قوتِهِ، في إدراكِهِ، في عِلْمِهِ، في كلِّ شيءٍ.
ولهذا لما قالوا: ما هي الرُّوحُ يا محمَّدُ؟ قال اللهُ تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥]، خَتَمَ الآيةَ بقولِهِ: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ كأنه يقول: لم يَبَقْ عليكم من العلم إلا الروحُ حتى تسألوا عنها، بل الذي فاتَكُم من العِلْمِ أكثرُ من الذي أدركتُمُوه؛ ولهذا قال: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ولذلك واجبُ المسْلمِ تجاه خَلْقِ اللهِ وتجاه شَرْعِ اللهِ أن يستسلمَ تمامًا، وأن يقول: هذا هو الحكمةُ.
أَضْرِبُ مثلًا في الشرائعِ: لماذا يأتي الناسُ بحصى حجراتٍ صغيرةٍ يضربون بها مكانًا معينًا؟ قد يقولُ قائلٌ: ما الحكمةُ من هذا؟
فنقول: مجرَّدُ كوْنِ اللهِ شَرَعَ ذلك دليلٌ على الحكمةِ، ونكتفي بهذا. مع أن من أعظمِ الحِكَمِ فيه كمالُ التعبُّدِ أن يأتيَ الإنسانُ بحجرٍ يَضْرِبُ بها مكانًا لمجرد امتثالِ أمْرِ اللهِ، ففيه كمالُ التعبُّدِ؛ لأنَّ انقيادَ النفسِ لما تَعْلَمُ فائدتَهُ أسهلُ من انقيادِها لما لا تَعْلَمُ فائدتَهُ، وانقيادُها لما لا تَعْلَمُ فائدتَه أَبْلَغُ في التذلُّلِ والتعبُّدِ للهِ ﷿ مع أن
1 / 18
هذا العملَ مقرونٌ بِذِكْرِ كلِّ حَصاةٍ ترميها تقولُ: اللهُ أكبرُ. مقرونٌ أيضًا باتباعِ، كلِّ حصاةٍ ترميها وأنت تَشْعُرُ أنك متبِّعٌ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
ونقولُ: إنَّ قَصْرَ المُفسِّر (الحكيمَ) على حِكمةِ الصنعةِ قاصرٌ بلا شكَّ، فهو حكيمٌ في صُنْعِه، وحكيمٌ في شَرْعِه ﵎.
ولا بُدَّ أن نَعْرِفَ ما هي الحكمةُ؛ يقولُ العلماءُ: إن الحكمةَ هي وَضْعُ الأشياءِ في مواضِعِها؛ بمعنى: أنَّ اللهَ ﷾ إذا خَلَقَ شيئًا، أو شَرَعَ شيئًا، فإنه في مكانِهِ اللائقِ به؛ ولهذا قال بعضُ السَّلَفِ: إنَّ اللهَ تعالى لم يأمُرْ بشيءٍ فيقولُ العقلُ: ليته لم يَأْمُرْ به، ولم يَنْهَ عن شيءٍ فيقولُ العقلُ: ليْتَه لم يَنْهَ عنه، فكلُّ ما ثَبَتَ بالشرعِ فإنه لا ينافي العقلَ، بل إن العقلَ يؤيِّدُ ويَشْهَدُ بصِحَّتِه.
فالحكيمُ إذن هو واضعُ الأشياءِ مواضِعَها، سواءٌ الشرعيَّةُ أو الكونيَّةُ، فما أمرَ اللهُ بشيءٍ فقال العقلُ: ليْتَه لم يَأْمُرْ به، وما نهى عن شيءٍ فقال العقلُ: ليته لم يَنْهَ عنه.
أمَّا في الأمورِ الكونيَّةِ؛ فإن اللهَ ﷾ ربَّما يُقَدِّرُ أشياءَ تظنُّها فسادًا فإذا بها تكونُ صلاحًا وخيرًا، قال اللهُ ﵎: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ١٩]، فاللهُ ﷾ قد يُقَدِّرُ أشياءَ إذا نَظَر إليها الإنسانُ أوَّلَ وَهْلَةٍ قال: هذه لا فائدةَ فيها. أو قال: هذه مُضِرَّةٌ، لكنْ إذا تأمل وجد أن الحكمةَ تقتضي ذلك.
وأنت أيها العبدُ إذا آمنْتَ أن اللهَ حكيمٌ في شرْعِه وحكيمٌ في خَلْقِه، فإنه لا يبقى لك شَكٌّ في أن ما شَرَعَه خيرٌ، ومما قَدَّرَه خيرٌ.
وللحكيمِ معنًى آخرُ غيرُ الحكمةِ، وهو الحاكمُ؛ لأنَّ هذه المادةَ (حاء) (كاف)
1 / 19
(ميم) تدلُّ على المَعْنيَيْن: على الحكمةِ وعلى الحُكْمِ، فهو ﷾ الحاكمُ، يَحْكُمُ في الناسِ ويَحْكُمُ بين الناسِ، يَحْكُمُ في الناسِ بما يُلْزِمُهُم به من الأحكامِ الشرعيَّةِ، ويَحْكُمُ بَيْنَ الناسِ فيما يختصمون فيه، فهو الحاكمُ وحُكْمُهُ مبنيٌّ على العدلِ التَّامِّ لا ظُلْمَ ولا جَوْرَ، لا بالنسبةِ لما يَحْكُمُ فيه بين النَّاسِ، ولا بالنسبةِ لما يُحْكَمُ به في الناسِ، كُلُّه عدلٌ، كلُّهُ خيرٌ. إذن الحكيمُ له معنًى آخرُ: الْحُكْمُ.
والحُكْمُ ينقسمُ إلى: حُكْمٍ قَدَرِيٍّ، وحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، ولهذا إذا أُصيبَ الإنسانُ بمصيبةٍ قال: هذا حُكْمُ اللهِ. هذه اللغةُ تعبيرٌ عامِّيٌّ، هذا حُكْمُ اللهِ، يعني القَدَرِيَّ، لكنْ إذا قيل له: يجبُ عليك كذا وكذا قال: لماذا يَجِبُ؟ قال: هذا حُكْمُ اللهِ الشرعيُّ، وكلاهما في القرآنِ.
فمن الأولِ - أعني الحُكْمَ الْقَدَرِيَّ - قولُ اللهِ ﵎ عن أخي يوسفَ: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ [يوسف: ٨٠]؛ أي: يُقَدِّرُ لي، لم يَقُلْ: يَحْكُمُ فيَّ، قال: ﴿أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾، فالحُكْمُ هنا قَدَرِيٌّ.
ومثالُ الثاني - الحُكْمِ الشرعِيِّ - قولُ اللهِ ﵎ حينما ذَكَرَ أحكامَ الكافرات اللاتي يأتين من الكفارِ إلى المؤمنين قال: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة: ١٠]، أي: حُكْمَ اللهِ الشرعيَّ.
والفَرْقُ بين الحُكْمِ القَدَريِّ والشرعيِّ أن الحُكْمَ القدريَّ يكونُ فيما يرضاه اللهُ وفيما لا يرضاه اللهُ، الحكمُ الكونيُّ يكون فيما يرضاه الله وما لا يرضاه الله، يسرقُ الرجلُ، يزني، يشربُ الخمرَ، هذا حُكْمُ اللهِ القدريُّ، وهذا لا يرضاه اللهُ، يصلي الإنسانُ، يتصدقُ، يصومُ، يَحُجُّ، هذا حكمُ اللهِ الْكَوْنِيُّ، يرضاه الله، إذن الحكمُ الكونيُّ أو القدريُّ إن شئتَ يكون فيما يرضاه الله وما لا يرضاه.
1 / 20
أما الحكمُ الشرعيُّ فلا يكونُ إلا فيما يرضاه اللهُ، فلا يُحَرِّمُ اللهُ شيئًا إلا وهو يرضى ألا يَكُونَ، ولا يُوجِبُ شيئًا إلا وهو يرضى أن يكونَ.
كذلك أيضًا فَرْقٌ آخرُ: الحكمُ الكونيُّ - أو القدريُّ والمعنى واحدٌ - لا بد من وقوعِهِ، إذا حَكَمَ اللهُ بشيءٍ كونًا أو حَكَمَ به لا بُدَّ أن يَقَعَ، أمَّا الحُكمُ الشرعيُّ فقد يقعُ وقد لا يقعُ، وليس كلُّ النَّاسِ ملتزمين بأحكامِ اللهِ الشرعيَّةِ. فهذان فَرْقَانِ بَيْنَ الحكمِ الكونيِّ والحكمِ الشرعيِّ، وكلاهما يتضمنُه قولُهُ تعالى: ﴿الْحَكِيمُ﴾.
من فوائدِ الآياتِ الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: بيانُ قدرةِ اللهِ ﵎ حيث إن كلامَه المُنَزَّلَ على نبيِّه من الحروفِ التي يتكلمُ بها النَّاسُ، ويركِّبُون منها كلامَهم ومع ذلك أَعْجَزَهُم، وجْهُ الدلالةِ ﴿حم (١) عسق﴾.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: إثباتُ نُبُوَّةِ النبيِّ ﷺ بقولِهِ: ﴿يُوحِي إِلَيْكَ﴾.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إثباتُ النبوةِ في الأممِ السَّابقةِ؛ لقولِهِ: ﴿وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: إثباتُ هذين الإسميْنِ للهِ ﷿ وهما: العزيزُ والحكيمُ، واعلمْ أن أسماءَ اللهِ ﷾ لا بُدَّ أن تتضمَّنَ شيئيْن:
الأول: ثبوتُ ذلك اسمًا للهِ ﵎ فمثلًا العزيزُ الآنَ نحنُ نَشْهَدُ أنَّ من أسماءِ اللهِ العزيزِ، كذلك نَشْهَدُ أن من أسماءِ اللهِ الحكيمُ.
والثاني: الصفةُ التي دلَّ عليها هذا الإسمُ فمثلًا العزيزُ دلَّ على العِزَّةِ، والحكيمُ على الحكمةِ، لا بُدَّ لكلِّ اسمٍ من هذين.
قد يتضمَّنُ الإسمُ شيئًا ثالثًا: وهو الفعلُ المترتِّبُ على ذلك، وإن شئْتَ فَقُلْ:
1 / 21
الأثرُ المترتِّبُ على ذلك، فمثلًا: السميعُ يتضمنُ إثباتَ اسمِ السميعِ للهِ، وإثباتَ السمعِ له، والصفةُ معنًى زائدٌ على الذاتِ، والثَّالث: أنه يسمعُ كُلَّ شيءٍ.
وفي (الحكيمُ) نقولُ كذلك، إثباتُ الحكيمِ اسمًا للهِ، والثاني: إثباتُ الحكمةِ على أَحَدِ المعنييْن، وإثباتُ الحُكمِ على المعنى الآخرِ، والثالثُ: أن اللهَ ﷾ يَحْكُمُ بَيْنَ العبادِ، ويَحْكُمُ في العبادِ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: كمالُ عزَّتِه وكمالُ حِكمتِه؛ لأنَّ اللهَ قَرَنَ بَيْنَ العزيزِ والحكيمِ؛ إشارةً إلى أن عِزَّتَهُ وغَلَبَتُه مبنيّةٌ على الحكمةِ.
فعزةُ المخلوقِ قد تُوجِبُ أن يتصرَّفَ تصرفًا سفيهًا، كما في قولِهِ ﵎: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ [البقرة: ٢٠٦]، فهنا صار له عِزَّةٌ لكنها لم تنفعْه؛ لأنَّها ليستْ مقرونة بالحكمةِ.
كذلك أيضًا حِكمةُ اللهِ ﷿ مقرونةٌ بعزَّتِه؛ لأنَّ الحكيمَ قد يكونُ خوَّارًا ليس عنده غَلَبةٌ فيَفُوتُه شيءٌ كثيرٌ، ويَفُوتُهُ الحزمُ من أجْلِ أنه يقولُ: إن ذلك هو الحكمةُ، لكنَّ حكمةَ اللهِ ﷿ مقرونةٌ بعزَّتِه؛ ولهذا نحن نستفيدُ الآنَ من قَرْنِ الأسماءِ بعضِها ببعضٍ، نستفيدُ بذلك معنًى زائدًا على ما نستفيدُهُ من مُجَرَّدِ الإسمِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ الشرائعَ التي أُوحيتْ إلى الرُّسُلِ عزةٌ وحكمةٌ، قال اللهُ ﵎: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨]، وقال اللهُ تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النساء: ١١٣]، فمن تَمَسَّكَ بهذه الشرائعِ نال الأمْرَيْنِ جميعًا، وهما مجتمعانِ وهما: العزةُ والحكمةُ والحُكمُ أيضًا.
* * *
1 / 22
الآية (٤)
* * *
* قَالَ اللهُ ﷿: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: ٤].
* * *
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ﴿لَهُ﴾ الضميرُ يَعُودُ على اللهِ، ومعلومٌ أن ﴿لَهُ﴾ خبرٌ مقدَّمٌ، والمبتدأُ ﴿وَمَا﴾ لقولِهِ: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾؛ لأنَّ ﴿وَمَا﴾ هنا اسمٌ موصولٌ والتقديرُ: له الذي في السَّمواتِ.
والقاعدةُ عند البُلَغَاءِ: أن تقديمَ ما حقُّهُ التأخيرُ يقتضي الحصرَ والإختصاصَ، فقولُهُ: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ يعني: لا لغيرِه كلُّ ما في السمواتِ والأرضِ فهو للهِ ربِّ العالمَين.
قال المُفسِّر ﵀: [مُلْكًا وخَلْقا وعَبِيدًا] لو بدأ بالخلقِ قبل المُلكِ لكان أحسنَ؛ لأنَّ الخَلقَ سابقٌ، والمسألةُ ليست ذاتَ أهمِّيَّةٍ كبيرةٍ، المهمُّ أنَّ له ما في السموات مُلكًا؛ يعني: أنه مالكُ أعيانِها، وخَلقًا؛ يعني: أنه خالقُها، وعَبيدًا بالمعنى القَدَريِّ يعني: أنَّ ما في السَّمَواتِ والأرضِ متذلِّلٌ للهِ تعالى، كما قال اللهُ ﷿: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: ٩٣].
وقولُهُ: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ جَمَعَها ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أَفْرَدَها؛ لأنَّ السَّمواتِ أعظمُ من الأرضِ؛ ولهذا تجيءُ كثيرًا بلفظِ الجمعِ وتجيءُ بلفظِ الإفرادِ؛ كما في قولِهِ تعالى:
1 / 23
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران: ٥]، فإذا جاءتْ بالإفرادِ فالمرادُ الجنسُ، وإذا جاءتْ بالجمْعِ فالمرادُ العددُ، والسَّمواتُ عددُها سبعٌ، كما قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [المؤمنون: ٨٦].
والأَرَضُونَ لم تأتِ في القرآنِ إلا مفردةً باعتبارِ الجنسِ، ولكنَّ القرآنَ أشار إلى أنها سبعٌ في قولِهِ تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢]، والمثليَّةُ لو نَزَّلْتَهَا على الكيفيةِ لا تصحُّ؛ لأنَّ السَّماءَ أعظمُ وأوسعُ. إذن لم يبق إلا أن نُنْزِلَها على الكمِّيَّةِ، فيكونُ المعنى ﴿مِثْلَهُنَّ﴾ يعني في العددِ سبعُ أَرَضِينَ، وقد جاءتِ السُّنَّةُ بلفظِ السَّبْعِ فقال النبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ -: "مَنِ اقتطعَ شِبْرًا مِنَ الأرضِ ظُلْمًا طَوَّقَه اللهُ به يومَ القيامةِ من سبْعِ أَرَضِينَ" (^١)، وهذا نصٌّ صريحٌ.
وكذلك أيضًا يُرْوَى عنه ﵊ أنه كان يقولُ إذا أقبل على البلدِ: "اللهُمَّ ربَّ السَّمواتِ السَّبعِ وما أَظْلَلْنَ وَرَبَّ الأرَضينَ السَّبْعِ وما أَقْلَلْنَ" (^٢). فهي سبعُ أرَضينَ، ولكن كيف هي سبعُ أرَضينَ؟ هل المعنى أنها سبعةُ أقاليمَ أو سبعُ قارَّاتٍ أو ماذا؟
نقولُ: هي سَبْعُ أرَضين طباقًا، كما أن السَّمواتِ سبعٌ طباقٌ، كذلك الأرَضون سبعٌ طباقٌ، ويدلُّ لهذا أن النبيَّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ - قال: "طُوِّقَهُ يومَ
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، رقم (٢٤٥٢، ٢٤٥٣)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم (١٦١٠)، من حديث سعيد بن زيد ﵁.
(^٢) أخرجه النسائي في الكبرى رقم (٨٧٧٦)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (٢٥٦٥)، وابن حبان في صحيحه رقم (٢٧٠٩)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص: ٤٧٢)، والحاكم (٢/ ١٠٠)، من حديث صهيب ﵁.
1 / 24