254

تفسير الشعراوي

تصانيف

والرشوة مأخوذة من الرشاء، والرشاء هو الحبل الذي يعلق فيه الدلو، فأدلى ودلا في الرشوة. ولماذا يدلون بها إلى الحكام؟ إنهم يفعلون ذلك حتى يعطيهم الحكام التشريع التقنيني لأكل أموال الناس بالباطل، وذلك عندما نكون محكومين بقوانين البشر، لكن حينما نكون محكومين بقوانين الله فالحاكم لا يبيح مثل هذا الفعل. ولذلك وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ فقال:

" إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها ".

إن الذين يقول ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المعصوم، إنه يحذر من أن يحاول أحد أن يبالغ في قوة الحجة ليأخذ بها حقا ليس له. إذن فحين يقنن الفساد فذلك نتيجة أن الحاكم يقر ذلك، ويأخذ الإنسان حكم الحاكم كأمر نهائي، مثال ذلك: بعض من الحكام لم يحرموا الربا، ويتعامل به الناس بدعوى أن الحكومات تحلله، فلا حرج عليهم. ومثل هذا الفهم غير صحيح لأن الحكومات لا يصح أن تحلل ما حرمه الله، وإن حللت ذلك فعلى المؤمن أن يحتاط وأن يعرف أنه والحكام محكومون بقانون إلهي، وإن لم تقنن الحكومات الحلال من أجل سلطتها الزمنية فعلى المؤمن ألا يخرج من تعاليم دينه. وإذا نظرنا إلى أي فساد في الكون، في أي مظهر من مظاهر الفساد فسنجد أن سببه هو أكل المال بالباطل، ولذلك لم يترك الحق سبحانه وتعالى تلك المسائل غائبة، وإنما جعلها من الأشياء المشاهدة. وأنت إن أردت أن تعرف خلق أي عصر، واستقامته الدينية وأمانته في تصريف الحركة فانظر إلى المعمار في أي عصر من العصور، انظر إلى المباني ومن خلالها تستطيع أن تقيم أخلاق العصر. إنك إن نظرت إلى عملية البناء الآن تجد فيها استغلال المال، وعدم أمانة المنفذ، وخيانة العامل، وكل هذه الجوانب تراها في المعمار. لننظر مثلا إلى مجمع التحرير ولنسترجع تاريخ بنائه، ولنقرنه بمبنى هيئة البريد أو دار القضاء العالي وما بني في عهدهما. ولننظر إلى المباني والإنشاءات التي نسمع عنها وتنهار فوق سكانها ولنقارنها بمبنى هيئة البريد أو دار القضاء العالي، سنجد أن المباني القديمة قامت على الذمة والأمانة، أما المباني التي تنهار على سكانها في زماننا أو تعاني من تلف وصلات الصرف الصحي فيها، تلك المباني قامت على غش الممول الشره الطامع، والمهندس المدلس الذي صمم أو أشرف على البناء أو الذي تسلم المبنى وأقر صلاحيته، ومرورا بالعامل الخائن، وتكون النتيجة ضحايا أبرياء لا ذنب لهم، ينهار عليهم المبنى ويخرجون جثثا من تحت الأنقاض، إن كل ذلك سببه أكل المال بالباطل.

ولقد نظر الشاعر أحمد شوقي في هذه المسألة، وجعل الأخلاق والدين من المبادئ فقال:

وليس بعامر بنيان قوم

إذا أخلاقهم كانت خرابا

وأنا أقترح على الدولة أن تعد سجلا محفوظا لكل عمارة يتم بناؤها، ويحفظ في هذا السجل اسم ممولها، والمهندس الذي أشرف على بنائها، وكذلك أسماء عمال البناء، وعمال التشطيب، والأعمال الصحية والكهربائية وكافة العمال الذين شاركوا في بنائها. ويحفظ كل ذلك في ملف خاص بالعمارة، وعندما يحدث أي شيء يأتون بهؤلاء، كل في تخصصه ويحاسبونهم على ما قصروا فيه من عمل، وإلا فإن أرواح الناس ستذهب سدى فكل إنسان منا له فرصة في هذه الحياة وعليه ألا يطغى على نصيب غيره. وهب أننا نأخذ سلعة " بطابور " حتى لا يتقدم أحد على دور الآخر، وقد جاء الأول في " الطابور " من الساعة السابعة صباحا وأخذ دوره، وجاء آخر متأخرا بعد أن نام واستراح ثم قضى جميع مصالحه وذهب للجمعية ووجد الصف طويلا، فنظر حوله إلى شخص يتخطى هذا " الطابور " وأعطاه مبلغا من المال سهل له قضاء حاجته، مثل هذا الإنسان تعدى على حقوق كل الواقفين في " الطابور ". وقد يقول: أنا أخذت مثلما يأخذون، نقول له: لا لقد أخذت زمن غيرك، ولا يصح أن تأتي آخر الناس وتأخذ حق الشخص الذي وقف في " الطابور " من السابعة صباحا. إن حقك مرتبط بزمنك، فلا تعتد على وقت الآخرين الذي هم أضعف منك قدرة أو مالا. إن الحق يقول: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } [البقرة: 188]. والفريق هو الجماعة المعزولة من جماعة أكثر عددا، فإذا ما انفصلت جماعة صغيرة عن أناس بهذه الجماعة تسمى فريقا. والإثم الأصيل فيه - ولو لم يكن هناك دين - أن تفعل ما تعاب عليه وتذم، وكذلك تعاب عليه وتذم من ناحية الدين، وفوق ذلك تعاقب في الآخرة. وما هو مقياس الحق والباطل؟ إن المقياس الذي ينجيك من الباطل هو أن تقبل لنفسك ما تقبله للطرف الآخر في أية صفقة أو معاملة لأنك لا ترضى لنفسك إلا ما تعلم أن فيه نفعا لك. ثم ينتقل الحق سبحانه وتعالى إلى قضية يعالج فيها أمرا واجه الدعوة الإسلامية، والدعوة الإسلامية إنما جاءت لتخلع المؤمنين بالله من واقع في الحياة كان كله أو أغلبه باطلا، ولكنهم اعتادوه وألفوه أو استفاد أناس من ذلك الباطل، ذلك أن الباطل لا يستمر إلا إذا كان هناك من يستفيدون منه. وجاء الإسلام ليخلص الناس من هذه الأشياء الباطلة. فالحق لم يشأ أن يعلمنا أن كل أحوال الناس غارقة في الشرور، بل كانت هناك أمور أقرها الإسلام كما هي، فالإسلام لم يغير لمجرد التغيير، ولكنه واجه الأمور الضارة بالحياة التي لا يستفيد منها إلا أهل الباطل.

مثال ذلك كان العرف السائد في الدية أنها مائة من الإبل يدفعها أهل القاتل، وقد أبقاها الإسلام كما هي. وحينما استقبل المسلمون الإيمان بالله، فهم قد استقبلوا أحكامه وأرادوا أن يبنوا حياتهم على نظام إسلامي جديد طاهر، حتى الشيء الذي كانوا يعملونه في الجاهلية كانوا يسألون عن حكمه لأنهم لا يريدون أن يصنعوه على عادة ما كان يصنع، بل على نية القربى إلى الله بالامتثال، إذن فهم عشقوا التكليف، وعلموا أن الله لم يكلفهم إلا بالنافع، وعندما نقرأ " يسألونك " في القرآن فاعلم أنها من هذا النوع، مثل ذلك قوله تعالى:

ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو..

[البقرة: 219]. وقوله تعالى:

صفحة غير معروفة