فسقناه إلى بلد ميت..
[فاطر: 9]. و " الميت " بتشديد الياء هو من ينتهي أمره إلى الموت وإن كان حيا، فكل واحد منا يقال له أنت ميت، أي مصيره إلى الموت، ولذلك يخاطب الله رسوله:
إنك ميت وإنهم ميتون
[الزمر: 30]. إذن فكلمة " ميت " معناها أنك ستموت، رغم أنك الآن حي. لكن عندما نقول: " ميت " ، بتسكين الياء، فمعناها مات بالفعل، وفي الشعر العربي جاء:
وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
والحق سبحانه وتعالى يقول: { إنما حرم عليكم الميتة والدم } [البقرة: 173]، ولو قال: " الميتة " بتشديد الياء، لقلنا: إن كل شيء سيموت يصير محرما، لكن كلام الله هنا الميتة - بالياء الساكنة - وهي الميتة بالفعل، وهي التي خرجت روحها حتفا لأنه فيه خروج الروح إزهاقا بمعنى أن تذبحه فيموت لكن هناك مخلوقات تموت حتف أنفها، وساعة تموت الحيوانات حتف أنفها تحتبس فيها خلاصة الأغذية التي تناولتها وهي الموجودة بالدم وهذا الدم فيه أشياء ضارة كثيرة، ففي الدم مواد ضارة فاسدة استخلصتها أجهزة الجسم وهو حي، وكانت في طريقها إلى الخروج منه، فإذا ما ذبحناه سال كل الدم الفاسد والسليم، ولأن درء المفسدة مقدمة على جلب المصلحة، فإننا نضحي بالدم السليم مع الدم الفاسد. وهذا الدم يختزنه الجسم عندما يموت، وتظل بداخله الأشياء الضارة فيصبح اللحم مملوءا بالمواد الضارة التي تصيب الإنسان بالأمراض. ونظرة بسيطة إلى دجاجتين، إحداهما مذبوحة أريق دمها، والأخرى منخنقة أي لم يرق دمها، فإننا نجد اختلافا ظاهرا في اللون، حتى لو قمنا بطهي هذه وتلك فسنجد اختلافا في الطعم، سنجد طعم الدجاجة المذبوحة مقبولا، وسنجد طعم الدجاجة الميتة غير مقبول، وكان الذين لا يؤمنون بإله أو بمنهج يقومون بذبح الحيوانات قبل أكلها، لماذا؟ لقد هدتهم تجاربهم إلى أن هذه عملية فيها مصلحة، وإن لم يعرفوا طريقة الذبح الإسلامية. وحين يحرم الله { الميتة } فليس هناك أحد منا مطالب أن يجيب عن الله لماذا حرم الميتة؟، لأنه يكفينا أن الله قال: إنها حرام، وما دام الذي رزقك قال لك: لا تأكل هذه فقد أخرجها من رزقيه النفعية المباشرة، ولو لم يكن فيها ضرر نعلمه، هو سبحانه قد قال: لا تأكلها، فلا تأكلها، لأنه هو الذي رزق، وهو الذي خلقك، وهو الذي يأمرك بألا تأكلها، فليس من حقك بعد ذلك أن تسأل لماذا حرمها علي؟. وهب أننا لم نهتد إلى حكمة التحريم، ولم نعرف الأذى الذي يصيب الإنسان من أكل الميتة؟ هل كان الناس يقفون عند الأمر حتى تبدو علته، أم كانوا ينفذون أوامر الله بلا تفكير؟ لقد استمع المؤمنون لأوامر الحق ونفذوها دون تردد.
إذن، فما دام الله يخاطبنا، فبمقتضى حيثية الإيمان يجب أن نتقبل عنه الحكم، وعلة قبول الحكم هي صدوره من الذي حكم. أما أن نعرف علة الحكم، فهذه عملية إيناس للعقل، وتطمين على أن الله لم يكلفنا بأمر إلا وفيه نفع لنا، والمؤمن لا يصح أن يجعل إيمانه رهنا بمعرفة العلة. إن الحق يقول: { إنما حرم عليكم الميتة } [البقرة: 173] والآية صريحة في أن كل ميتة حرام، وما دامت ميتة فقد كان فيها حياة وروح ثم خرجت، لكننا نأكل السمك وهو ميت، وذلك تخصيص من السنة لعموم القرآن، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
" أحل لكم ميتتان: السمك والجراد، ودمان الكبد والطحال ".
لماذا هذا الاستثناء في التحليل؟ لأن للعرف في تحديد ألفاظ الشارع مدخلا، فإذا حلفت ألا تأكل لحما وأكلت سمكا فهل تحنث؟. لا تحنث، ويمينك صادقة رغم أن الله وصف السمك بأنه لحم طري، إلا أن العرف ساعة يطلق اللحم لم يدخل فيه السمك. إذن، فالعرف له اعتبار، لذلك فالزمخشري صاحب الكشاف يقول في هذه المسألة: " لو حلفت ألا تأكل اللحم وأكلت السمك فإجماع العلماء على أنك لم تحنث في يمينك ". وضرب مثلا آخر فقال: لو حلفت بأن تركب دابة، والكافر قد أسماه الله دابة فقال:
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا
صفحة غير معروفة