162

تفسير الشعراوي

تصانيف

. ذلك أن أحدا لم يسحر أعينهم.. ولكن عندما ألقى موسى عصاه تحولت إلى حية حقيقية.. فعرفوا أن هذا ليس سحرا ولكنها معجزة من الله سبحانه وتعالى.. لماذا؟ لأن السحر لا يغير طبيعة الأشياء، وهم تأكدوا أن عصا موسى قد تحولت إلى حية.. ولكن حبالهم وعصيهم ظلت كما هي وإن كان قد خيل إلى الناس أنها تحولت إلى حيات. إذن فالسحر تخيل والساحر يرى الشيء على حقيقته لذلك فإنه لا يخاف.. بينما المسحورون الذين هم الناس يتخيلون أن الشيء قد تغيرت طبيعته.. ولذلك سجد السحرة لأنهم عرفوا أن معجزة موسى ليست سحرا.. ولكنها شيء فوق طاقة البشر. السحر إذن تخيل والشياطين لهم قدرة التشكل بأي صورة من الصور، ونحن لا نستطيع أن ندرك الشيطان على صورته الحقيقية، ولكنه إذا تشكل نستطيع أن نراه في صورة مادية.. فإذا تشكل في صورة إنسان رأيناه إنسانا، وإذا تشكل في صورة حيوان رأيناه حيوانا، وفي هذه الحالة تحكمه الصورة.. فإذا تشكل كإنسان وأطلقت عليه الرصاص مات، وإذا تشكل في صورة حيوان ودهمته بسيارتك مات، ذلك لأن الصورة تحكمه بقانونها.. وهذا هو السر في إنه لا يبقى في تشكله إلا لمحة ثم يختفي في ثوان.. لماذا؟ لأنه يخشى ممن يراه في هذه الصورة أن يقتله خصوصا أن قانون التشكل يحكمه.. ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تشكل له الشيطان في صورة إنسان قال:

" ولقد هممت أن أربطه في سارية المسجد ليتفرج عليه صبيان المدينة ولكني تذكرت قول أخي سليمان: " رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ". فتركته "

الحديث لم يخرج. ومن رحمة الله بنا أنه إذا تشكل الشيطان فإن الصورة تحكمه.. وإلا لكانوا فزعونا وجعلوا حياتنا جحيما.. فالله سبحانه وتعالى جعل الكون يقوم على التوازن حتى لا يطغى أحد على أحد.. بمعنى أننا لو كنا في قرية وكلنا لا نملك سلاحا وجد التوازن.. فإذا ملك أحدنا سلاحا وادعى أنه يفعل ذلك ليدافع عن أهل القرية، ثم بعد ذلك استغل السلاح ليسيطر على أهل القرية ويفرض عليهم إتاوات وغير ذلك، يكون التوازن قد اختل وهذا ما لا يقبله الله. السحر يؤدي لاختلال التوازن في الكون.. لأن الساحر يستعين بقوة أعلى في عنصرها من الإنسان وهو الشيطان وهو مخلوق من نار خفيف الحركة قادر على التشكل وغير ذلك.. الإنسان عندما يطلب ويتعلم كيف يسخر الجن.. يدعي أنه يفعل ذلك لينشر الخير في الكون، ولكنها ليست حقيقة.. لأن هذا يغريه على الطغيان.

. والذي يخل بأمن العالم هو عدم التكافؤ بين الناس.. إنسان يستطيع أن يطغى فإذا لم يقف أمامه المجتمع كله اختل التوازن في المجتمع.. والله سبحانه وتعالى يريد تكافؤ الفرص ليحفظ أمن وسلامة الكون.. ولذلك يقول لنا لا تطغوا وتستعينوا بالشياطين في الطغيان حتى لا تفسدوا أمن الكون. ولكن الله جل جلاله شاءت حكمته أن يضع في الكون ما يجعل كل مخلوق لا يغتر بذاتيته.. ولا يحسب أنه هو الذي حقق لنفسه العلو في الأرض.. ولقد كانت معصية إبليس في أنه رفض أن يسجد لآدم. إنه قال:

قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين

[الأعراف: 12]. إذن فقد أخذ عنصر الخلق ليدخل الكبر إلى نفسه فيعصي، ولذلك أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلم البشر من القوانين، ما يجعل هذا الأعلى في العنصر - وهو الشيطان - يخضع للأدنى وهو الإنسان، حتى يعرف كل خلق الله أنه إن ميزهم الله في عنصر من العناصر، فإن هذا ليس بإرادتهم ولا ميزة لهم.. ولكنه بمشيئة الله سبحانه وتعالى.. فأرسل الملكين ببابل هاروت وماروت ليعلما الناس السحر. الذي يخضع الأعلى عنصرا للأدنى. واقرأ قوله سبحانه: { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ومآ أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } [البقرة: 102].. فالله تبارك وتعالى أرسل الملكين هاروت وماروت ليعلما الناس السحر.. ولقد رويت عن هذين الملكين قصص كثيرة.. ولكن ما دام الله سبحانه وتعالى قد أرسل ملكين ليعلما الناس السحر.. فمعنى ذلك أن السحر علم يستعين فيه الإنسان بالشياطين.. وقيل إن الملائكة قالوا عن خلق آدم كما يروي لنا القرآن الكريم:

قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك..

[البقرة: 30]. حينئذ طلب الحق جل جلاله من الملائكة.. أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض لينظروا ماذا يفعلان؟ فاختاروا هاروت وماروت.. وعندما نزلا إلى الأرض فتنتهما امرأة فارتكبا الكبائر.. هذه القصة برغم وجودها في بعض كتب التفسير ليست صحيحة.. لأن الملائكة بحكم خلقهم لا يعصون الله.. ولأنه من تمام الإيمان أن يؤدي المخلوق كل ما كلف به من الله جل جلاله.. وهذان الملكان كلفا بأن يعلما الناس السحر.. وأن يحذرا بأن السحر فتنة تؤدي إلى الكفر وقد فعلا ذلك.. والفتنة هي الامتحان.. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله } [البقرة: 102].

. إذن فهذان الملكان حذرا الناس من أن ما يعلمانه من السحر فتنة تؤدي إلى الكفر.. وإنها لا تنفع إلا في الشر وفي التفريق بين الزوج وزوجه.. وإن ضررها لا يقع إلا بإذن الله.. فليس هناك أي قوى في هذا الكون خارجة عن مشيئة الله سبحانه وتعالى.. ثم يأتي قول الحق تبارك وتعالى: { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } [البقرة: 102].. إن الله سبحانه وتعالى يخبرنا أن تعلم السحر يضر ولا ينفع.. فهو لا يجلب نفعا أبدا حتى لمن يشتغل به.. فتجد من يشتغل بالسحر يعتمد في رزقه على غيره من البشر فهم أفضل منه.. وهو يظل طوال اليوم يبحث عن إنسان يغريه بأنه يستطيع أن يفعل له أشياء ليأخذ منه مالا، وتجد شكله غير طبيعي وحياته غير مستقرة وأولاده منحرفين. وكل من يعمل بالسحر يموت فقيرا لا يملك شيئا وتصيبه الأمراض المستعصية، ويصبح عبرة في آخر حياته. إذن فالسحر لا يأتي إلا بالضرر ثم بالفقر ثم بلعنة الله في آخر حياة الساحر.. والذي يشتغل بالسحر يموت كافرا ولا يكون له في الآخرة إلا النار.. ولذلك قد اشتروا أنفسهم بأسوأ الأشياء لو كانوا يعلمون ذلك.. لأنهم لم يأخذوا شيئا إلا الضر.. ولم يفعلوا شيئا إلا التفريق بين الناس.. وهم لا يستطيعون أن يضروا أحدا إلا بإذن الله. والله سبحانه وتعالى إذا كانت حكمته قد اقتضت أن يكون السحر من فتن الدنيا وابتلاءاتها.. فإنه سبحانه قد حكم على كل من يعمل بالسحر بأنه كافر.. ولذلك لا يجب أن يتعلم الإنسان السحر أو يقرأ عنه.. لأنه وقت تعلمه قد يقول سأفعل الخير ثم يستخدمه في الشر.. كما أن الشياطين التي يستعين بها الساحر غالبا ما تنقلب عليه لتذيقه وبال أمره وتكون شرا عليه وعلى أولاده.. واقرأ قوله سبحانه وتعالى:

وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا

صفحة غير معروفة