مقدمة في فضل تعلم القرآن وتعليمه ومكانة أهله
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قد صح عن الرسول ﵌ أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وقد كان ﵌ يعطي القرآن الكريم اهتمامًا عظيمًا جدًا، وعلى هذا ربى أصحابه رضي الله ﵎ عنهم، ومن مظاهر هذا الاهتمام بكتاب الله ﵎: أن إقراء القرآن وتحفيظ القرآن كان أول ما عمد إليه النبي ﵌ في إبلاغ دعوته الكبرى، فكان مبعوثوه إلى مختلف الجهات أول ما يقومون بإقراء الناس القرآن.
وكتب النبي ﵌ لـ عمرو بن حزم حين وجهه إلى اليمن كتابًا أمره فيه بأشياء منها: أن يعلم الناس القرآن ويفقههم فيه كما جاء في سيرة ابن هشام.
وروى البخاري عن أبي إسحاق عن البراء قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي ﷺ مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا ويحفظاننا القرآن.
وكان مصعب رضي الله تعالى عنه يسمى: المقرئ، يعني: الذي يقرئ الناس القرآن ويعلمهم كتاب الله ﵎.
وكان الرجل من المسلمين إذا هاجر من المدينة دفعه النبي صلى عليه وآله وسلم إلى رجل من الحفظة ليعلمه القرآن.
ولما فتح النبي ﵌ مكة ثم أراد الرجوع إلى المدينة استخلف عتاب بن أسيد وخلف معه معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه يقرئهم القرآن ويفقههم في دينهم.
وعن أنس بن مالك ﵁ قال: (جاء ناس إلى النبي ﷺ فقالوا: ابعث معنا رجالًا يعلموننا القرآن والسنة، فبعث معهم سبعين رجلًا من الأنصار يقال لهم: القراء) إلى آخر الحديث كما هو في صحيح مسلم، وفيه ذكر غدر هؤلاء القوم بالقراء، حيث قتلوهم رضي الله تعالى عنهم.
وأوصى النبي ﵌ بإكرام أهل القرآن إكرامًا خاصًا ومتميزًا، حتى إنه ﵌ سماهم اسمًا ينبض بأعظم المعاني، حيث سمى أصحاب القرآن وأهل القرآن: أهل الله وخاصته، كما رواه ابن ماجة وأحمد والدارمي من حديث أنس رضي الله ﵎ عنه.
وكان النبي ﵊ كثيرًا ما يميز بين الناس ويرتبهم ترتيبًا يخضع لحفظ كل منهم من القرآن الكريم، فمثلًا: في إمامة الصلاة يقول: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، حتى عند دفن الموتى كان يقدم أكثرهم قرآنًا، وعند اختيار أمير على مجموعة من الصحابة رضي الله ﵎ عنهم اختار ذلك الصحابي الذي كان يحفظ سورة البقرة وقال: (أنت أميرهم).
وقال ﵌: (إن من إجلال الله -يعني: من علامات تعظيم الله ﷾ وإجلاله- إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقصد) رواه أبو داود عن أبي موسى رضي الله ﵎ عنه.
قوله: (وحامل القرآن) يعني: وإكرام حامل القرآن.
قوله: (غير الغالي فيه) يعني: الذي لا يغلو في تعامله مع القرآن، حتى يضيع غير ذلك من الواجبات عليه.
قوله: (والجافي عنه) وهو البعيد عن القرآن الهاجر للقرآن.
وقال ﷺ: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فدل على أن أشرف الوظائف الانشغال بتعليم القرآن وتعلمه؛ ومن أجل هذا الحديث قعد الإمام الجليل أبو عبد الرحمن السلمي أربعين عامًا يقرئ الناس القرآن بجامع الكوفة مع جلالة قدره وكثرة علمه.
وسئل سفيان الثوري رحمه الله تعالى أيهما أفضل الجهاد أم تعليم القرآن؟ فرجح تعليم القرآن في الثواب والفضل على الجهاد في سبيل الله ﵎، واستدل بقوله ﷺ: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وعن عمرو بن العاص رضي الله ﵎ عنه -كما في الحديث الذي رواه الحاكم)، والله أعلم بصحته.
وقال ﵌: (يؤم القوم أكثرهم قرآنًا، فإن كانوا في القراءة واحدًا فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة واحدًا فأفقههم فقهًا، فإن كانوا في الفقه واحدًا فأكبرهم سنًا)، فهذا فيه رد على بعض الناس الذين حينما يختارون إمامهم في الصلاة يقدمون السن على ما عداه من الاعتبارات، وينبغي التقديم على الترتيب الذي دلنا عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يؤم القوم أكثرهم قرآنًا)، وهذا في حالة عدم وجود إمام راتب للمسجد.
وكان القراء أصحاب مجلس عمر بن الخطاب رضي الله ﵎ عنه وأصحاب مشاورته.
ففضل الاشتغال بالقرآن الكريم لا يدانيه فضل، وكل من انتسب إلى الدعوة إلى الله ﷾ عامة، وإلى الدعوة السلفية بصفة خاصة، فينبغي أن يتميز باهتمامه بالقرآن العظيم، ووجود علاقة خاصة بكلام الله ﷿.
قال النبي ﵌: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين).
وقد ثبت في فضيلة حفظ كتاب الله ﷿ قول النبي ﵌: (يقال لصحاب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).
ومما يرغب في حفظ القرآن الكريم كثرة الأحاديث في فضل ذلك، ومنها: أن الله ﵎ لا يحرق أو لا يعذب بالنار صدرًا هو وعاء للقرآن، فإن ضم القلب كلام الله ﵎ فيرجى من رحمة الله ﵎ ألا يعذب بالنار هذا القلب الذي وعى القرآن وتشرف به، فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، وجاء في بعض التفاسير لقول النبي ﵌: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا) أن الإنسان إذا نال شرف القرآن فعليه أن يستغني به عما عداه، عليه ألا ينزل إلى مرتبة التنافس مع الناس في الدنيا، وألا يذل نفسه وقد حمل القرآن الكريم، وأن يكون عزيزًا، وهذا على أحد أوجه تفسير الحديث.
فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، ويكفي أنك إذا شرفت بنيل إجازة من القراء المشايخ فقد نلت شرفًا عظيمًا جدًا لا يدانيه شرف، ويكفي أنك ستكون في سلسلة تظل تتدرج من شيخك إلى شيخ شيخك، إلى التابعين، إلى الصحابة رضي الله ﵎ عنهم، إلى النبي ﵊، ثم إلى جبريل ﵇، ثم إلى رب العزة، فكأنه حبل طرفه عندك والطرف الآخر عند الله ﷿، فهل يعلم أحد شرف ونسب أعظم من هذا النسب؟! طرف سلسلة الإسناد تبدأ به وتنتهي بالله ﷿! فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، وشرف التفقه فيه فوق كل شرف، ألا ترى أنه لا يصد واحدًا من أهل القرآن عن إمامة الناس في الصلاة، حتى لو كان أعرابيًا أو عبدًا مملوكًا أو حتى ولد زنا على قول الإمام أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني.
إذًا: شرف القرآن يرفع عنه كل وضيعة، ويؤهله لإمامة الصلاة التي هي من الوظائف الشرعية الشريفة.
كذلك القيام على خدمة المصحف الشريف وتعليمه للناس هو فخر الفاخرين، وشرف من يطلب الشرف، والدليل على ذلك قوله ﵌: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وفي الحقيقة نحن مقصرون تقصيرًا شديدًا بالنسبة للاهتمام بتحفيظ القرآن ومدارسته، وقد قال بعض السلف: عجبت لمن لم يحفظ القرآن ولا يعلم تأويله كيف يلتذ بتلاوته؟! أي: عجبت ممن يقرأ القرآن وهو لا يعرف تفسيره كيف يلتذ بتلاوته؟!
1 / 2