وإنما قلنا إنها ظنية، لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف. ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم الى حد التواتر، فكانت روايتهم مظنونة.
وأيضا، فهي مبنية على عدم الاشتراك، وعدم التخصيص، وعدم الاضمار بالزيادة والنقصان، وعدم التقديم والتأخير، وكل ذلك أمور ظنية، وأيضا فهي مبنية على عدم المعارض العقلي، فإن بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معا، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل، لأن العقل أصل النقل، فالطعن في العقل يوجب الطعن في النقل والعقل معا، لكن عدم المعارض العقلي مظنون. هذا إذا لم يوجد، فكيف [وقد] وجدنا ها هنا دلائل عقلية على خلاف هذه الظواهر.
فثبت أن دلالة هذه الدلائل النقلية ظنية، وأما أن الظني لا يعارض فلا شك فيه.
الثاني: هو إن التجاوز عن الوعيد مستحسن فيما بين كما مر في كلام صاحب الفصوص، قال الشاعر:
فإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف معيادي ومنجز موعدي
بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه يعد لؤما. وإذا كان كذلك وجب أن لا يقبح من الله تعالى وهذا بناء على حرف، وهو أن كثيرا من أهل الإسلام جوزوا نسخ الفعل قبل مضي مدة الامتثال، وحاصل حرفهم فيه، أن الأمر يحسن تارة لحكمة تنشأ من نفس المأمور به، وتارة لحكمة تنشأ من نفس الأمر، فإن السيد قد يقول لعبده: إفعل الفعل الفلاني غدا وإن كان يعلم في الحال انه سينهاه غدا، ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يظهر العبد الانقياد لسيده، ويوطن نفسه على طاعته، وكذلك إذا علم الله من العبد أنه سيموت غدا، فإنه يحسن عند هؤلاء القوم أن يقول: صل غدا إن عشت. ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل الأمور به لأنه ها هنا محال، بل المقصود حكمة تنشأ من نفس الأمر فقط. وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرد.
وإذا ثبت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يقال: الخبر أيضا كذلك، فتارة يكون منشأ الحكمة من الإخبار هو الشيء المخبر، وذلك في الوعد، وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر، لا المخبر عنه؛ كما في الوعيد، فإن الإخبار على سبيل الوعيد، مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات، فإذا حسن هذا المقصود، جاز أن لا يوجد المخبر وعند هذا قالوا: إن وعد الله الثواب حق لازم، أما توعيده بالعقاب فغير لازم، وإنما قصد به صلاح المكلفين، مع رحمته الشاملة لهم كوالد يهدد ولده بالقتل والسل والقطع والضرب، فإن قبل الولد أمره فقد انتفع، وإن لم يقبل؛ فما في قلب الوالد من الشفقة يرده عن قتله وعقوبته.
فإن قيل: فعلى جميع التقادير ذلك كذبا، والكذب قبيح.
قلنا: لا نسلم أن كل كذب قبيح، بل القبيح هو الكذب الضار، أما الكذب النافع فلا، ثم - إن سلمنا - لكن لا نسلم انه كذب.
صفحة غير معروفة