الثاني: أن التعذيب في الآخرة ضرر خال من جهات المنفعة، أما أنه ضرر فظاهر، وأما انه خال عن جهات النفع، فلأن تلك المنفعة إما عائدة الى الله او الى غيره، والأول باطل، لتعاليه عن وسمة التغير والانفعال. والثاني أيضا باطل، لأنها إما عائدة الى المعذب، أو الى غيره، أما اليه فهو محال، لأن الإضرار لا يكون عين الانتفاع وأما الى غيره فهو محال، لأن دفع الضرر أولى بالرعاية من ايصال النفع، فايصال الضرر الى شخص لغرض ايصال النفع الى آخر ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو باطل.
وأيضا، فلا منفعة يريد الله ايصالها الى أحد إلا وهو قادر عليه بوجوه شتى، فالإضرار عديم الفائدة.
فثبت أن التعذيب ضرر خال عن جميع جهات المنفعة، وأنه معلوم القبح بديهة، بل قبحه أجلى في العقول من قبح الكذب الغير الضار، والجهل الغير الضار، بل من قبح الكذب الضار والجهل الضار؛ لأن الكذب الضار وسيلة الى الضرر، وقبح وسيلة الضرر دون قبح نفس الضرر.
وإذا ثبت قبح التعذيب، امتنع صدوره من الله تعالى، لأنه حكيم، والحكيم لا يفعل القبيح.
الثالث: انه كان عالما بأن الكافر لا يؤمن، كما اخبر عنه في الآية السابقة، فمتى كلف لم يظهر منه إلا العصيان، وهو يكون سببا للعقاب فكان ذلك التكليف مستعقبا لاستحقاق العذاب، أما لأنه تمام العلة، أو لأنه شطرها. فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحا لكونه مستعقبا للضرر الخالي عن النفع، والحكيم لا يفعل القبيح، فوجب أحد الأمرين: إما عدم التكليف أو عدم العقاب وعلى أيهما فالمطلوب حاصل.
الرابع: إنه سبحانه، إنما كلفنا النفع لعوده إلينا، لأنه تعالى قال:
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها
[الإسراء:7]. فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا تلك المنافع، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنسانا ويقول: إني أعذبك العذاب الشديد لأنك فوت على نفسك بعض المنافع، فإنه يقول له: إن تحصيل النفع مرجوح بالنسبة الى دفع الضرر، فهب اني فوت على نفسي أدون المطلوبين، فأنت تفوت علي لأجل ذلك أعظمها، أو هل يحسن من السيد أن يأخذ عبده ويقول: إنك قدرت على أن تكتسب دينارا لنفسك لتنتفع به خاصة من غير أن يكون لي فيه شيء ألبتة، فلما لم تفعل، فأنا أعذبك وأقطع اعضاءك إربا إربا. لا شك أن هذا نهاية السفاهة، فكيف يليق بأحكم الحاكمين؟!
ثم قالوا: هب أنا سلمنا هذا العقاب، فمن أين القول بالدوام، وذلك لأن أقسى الناس قلبا وأشدهم غلظة وبعدا عن الخير والرحمة؛ إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه عذبه يوما أو شهرا أو سنة، ثم إنه يشبع منه ويمل، ولو بقي مواظبا عليه يلومه كل أحد ويقال: هب أنه بالغ في الإساءة والإضرار بك، ولكن الى متى هذا التعذيب؟ فإما أن تقتله وتريحه، وإما أن تخلصه، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام، فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام الذي يقال؟!
الخامس: أنه تعالى نهى عباده من استيفاء الزيادة، فقال تعالى:
صفحة غير معروفة