194

تفسير صدر المتألهين

تصانيف

ثم يحصل للنفس بعدها قوة وكمال، أما القوة فهي أن يكون بحيث أن يطالع المعقولات المفروغ عنها متى شاءت من غير تعمل وطلب، وهذه هي القوة القريبة من الفعل، ويسمى عقلا بالفعل، وأما الكمال، فهو أن تكون المعقولات حاصلة بالفعل مشاهدة، ويسمى العقل المستفاد، وهذان العقلان متعاكسان في التقدم والتأخر من جهة الحدوث والاستمرار، وبقاء الأخير لا يكون إلا في الدار الآخرة، اللهم إلا لبعض الكاملين من إخوان التجريد.

وأما أنه كم ينبغي أن يحصل للنفس الإنسانية من تصور المعقولات حتى يقع عليه هذا الإسم، اي العقل بالفعل المساوق للعقل المستفاد من جهة الاستمرار الأخروي، ويرجو السعادة العقلية، ويتخلص من الشقاوة التي بإزائها لمن يتصف بالجهل المضاد للعلم اليقيني الإيماني، فقد قال صاحب الشفاء: إنه ليس يمكنني أن انص عليه نصا إلا بالتقريب، وأظن أن ذلك أن تتصور نفس الإنسان المبادي المفارقة تصورا حقيقيا، وتصدق بها تصديقا يقينيا لوجودها عندها بالبرهان، وتعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية، التي لا تتناهى، وتتقرر عندها هيئة الكل ونسب أجزائه بعضها الى بعض، والنظام الآخذ من المبدإ الأول الى أقصى الوجودات في ترتيبه، وتتصور العناية وكيفيتها، وتتحقق ان الذات المفيدة للكل أي وجود يخصها وأية وحدة تخصها، وأنها كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثر وتغير بوجه من الوجوه، وكيف تترتب نسبة الموجوات اليها.

ثم كلما ازداد الناظر استبصارا، ازداد للسعادة استعدادا، وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه، إلا أن يكون أكد العلاقة مع ذلك العالم، فصار له شوق الى ما هناك وعشق لما هناك، فصده عن الالتفات الى ما خلفه جملة، ونقول أيضا: إن هذه السعادة لا تتم إلا بإصلاح الجزء العلمي من النفس. انتهى كلامه.

وهذه التي ذكرها من المعارف التي لا بد للانسان الكامل الإيمان أن يعرفها، هي بعينها من المقاصد التي يستفاد وجوب معرفتها عقلا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، على تغاير في الاصطلاح، لا في أصول المقاصد.

وكذا قوله: إن هذه السعادة لا تتم إلا بإصلاح الجزء العملي، يدل على أن الإيمان لا يتم إلا بأن يكون مشفوعا بالأعمال الصالحة، من الطاعات والعبادات. كالقيام والإمساك عن الطعام، وبذل المال للفقراء، والمجاهدة مع أعداء الدين، وزيارة بيت الله وحضور مناسك المسلمين، وغير ذلك مما ورد في الشريعة الحقة، فإن اصلاح الجزء العملي الذي غايته قطع علائق الدنيا والأغراض النفسانية، لا يمكن إلا بالعمل الصالح.

فالعمل الصالح وإن لم يكن داخلا في ما هو المقصود من الإيمان كما توهم، إلا انه لا بد منه في حصول حقيقة الإيمان، أي النور القلبي الذي إذا حصل للإنسان يصير بصيرا بالأمور الغيبية والحقائق الملكوتية الغائبة عن مشاهدة الحواس.

فصل

[الأقوال في المراد من الغيب]

فقوله تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب } ، إشارة الى ما ذكر، أي أنهم يصدقون تصديقا بالأشياء المرتفعة عن هذا العالم، والخارجة عن مدركات الحس الظاهر، كوجود الباري، والملائكة، واللوح، والقلم، والأمور الأخروية من الجنة والنار، والصراط والحساب والميزان، وتطاير الكتب ونشر الصحف، وأحوال القبر والبعث، وأهوال المحشر وغير ذلك مما لا تستقل باثباته عقول الخلائق بأنظارهم الفكرية، ودلائلهم النظرية، وإنما تتكشف بنور متابعة الشريعة، والاقتباس من مشكاة الوحي والنبوة.

والغيب في اللغة: مصدر أقيم مقام اسم الفاعل، كالصوم بمعنى الصائم، والمفسرون ذكروا في قوله: { يؤمنون بالغيب } وجهين:

صفحة غير معروفة