تفسير الأعقم

الأعقم ت. 850 هجري
212

تفسير الأعقم

تصانيف

[27.15-21]

{ ولقد اتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } بالنبوة والمعجزة والملك { وورث سليمان داوود } نبوته وعلمه وملكه دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر، وكان داوود أكثر تعبدا، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله { وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير } وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يفهم المراد بمعاني نغماتها والذي علمه سليمان، ويحكي أنه مر على بلبل في شجر يحرك رأسه، ويميل ذنبه فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ فقالوا: الله ونبيه أعلم، قال: يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء وصاح طاووس فقال: يقول: كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال: يقول: استغفروا الله يا مذنبين، والديك يقول: اذكروا الله، والنسر يقول: يابن آدم عش ما شئت آخرك الموت، والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس { وأوتينا من كل شيء } علما، وقيل: من الملك والنبوة والكتاب والتسخير { إن هذا لهو الفضل المبين } الظاهر من الله علينا { وحشر لسليمان جنوده } أي جمع لسليمان جنوده { من الجن والإنس والطير فهم يوزعون } أي يحشر أولهم على آخرهم، وروي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وابرسم فرسخا في فرسخ وكان موضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فتقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، فتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عنه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط فتسيره، وروي أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرخاء فتسيره، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في أذنه، فنزل ومشى إلى الحراث وقال: أنا مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال: تسبيحة واحدة تقبلها الله خير مما أوتي آل داوود، وروي أنه كان يقعد على البساط وهو على كرسي وحوله العلماء والناس { حتى إذا أتوا على واد النمل } ، قيل: هو بالطائف، وقيل: وادي النمل بالشام { قالت نملة } ، قيل: كانت ذات جناحين فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال { يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون } أي لا يعلمون بكم { فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه } وذلك أن سليمان لما سمع النملة أمر الرياح فوقفت لئلا يذعرون حتى دخلن مساكنهن ثم دعى بالدعوة، ومعنى { وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين } يعني واجعلني من أهل جنتك مع عبادك الصالحين، ثم ذكر تعالى ما جرى لسليمان مع الهدهد فقال سبحانه: { وتفقد الطير } أي طلبها وبحث منها { فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين } وذكر في قصة الهدهد أن سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشره، فوافى الحرم وأقام به ما شاء الله وكان يقرب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على المسير إلى اليمن، فخرج من مكة صباحا، فوافى صنعاء عند الزوال، فرأى أرضا حسناء أعجبه خضرتها، فنزل يتعبد ويصلي فلم يجد الماء، وكان يرى من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاج، فتجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب، وتفقد الطير لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهدا رافعا فانحط إليه، فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس وأن تحت يدها اثني عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، فذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خاليا، فدعا عفريت الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب علي به، فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته، فناشدها بالله وقال: سألتك بالله الذي قواك وأقدرك علي ألا رحمتني، فتركته وقالت: ثكلتك أمك ان نبي الله قد حلف ليعذبنك، قال: وما استثنى؟ قالت: بلى، أو ليأتيني بعذر بين، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحه مكرها على الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان وعفى عنه، قيل: كان يعذب سليمان الطير أن ينتف ريشه ويشمسه، وقيل: يلقيه في واد النمل، وقيل: بل يفرق بينه وبين الفه { أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين }.

[27.22-31]

{ فمكث غير بعيد } أي لبث قليلا وجاء الهدهد فقال: ما الذي أبطأك؟ { فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبأ يقين } أحطت يعني علمت شيئا، وسبأ: اسم رجل باليمن، وقيل: اسم مدينة { إني وجدت امرأة تملكهم } أي تملك أهل سبأ اسمها بلقيس { وأوتيت من كل شيء } أخبار عن سعة ملكها { ولها عرش عظيم } ، قيل: أن عرشها كان ثمانين ذراعا في ثمانين وسمك ثمانين، وقيل: ثلاثين، وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر، وكان قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودر وزمرد { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم } يعني عبادتهم الشمس، قوله تعالى: { فصدهم عن السبيل } أي صدهم عن سبيل الحق { فهم لا يهتدون } إلى طريق الرشد { ألا يسجدوا } ، قيل: المراد سجود الصلاة، وقيل: هذا من كلام الهدهد قاله بحضر سليمان، وقيل: هو اعتراض في الكلام { لله الذي يخرج الخبء } ، قيل: الغيب وهو ما غاب عن الإدراك، يعني يعلم غيب السماوات والأرض، وقيل: خبء السماء المطر والرياح، وخبء الأرض النبات والأشجار { ويعلم ما تخفون وما تعلنون } يعني يعلم السر والعلانية { الله لا إله إلا هو } أي لا شريك له { رب العرش العظيم } ، وقيل: أيضا هذا من كلام الهدهد { قال سننظر } في أمرك { أصدقت أم كنت من الكاذبين } ثم كتب سليمان كتابا وختمه بالمسك ثم قال للهدهد: { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون } وروي أنه حمله بمنقاره وطار حتى وقف على رأس المرأة وألقاه إليها وحولها الملأ، وقيل: دخل من كوة البيت وهي نائمة وألقى الكتاب عند رأسها فنبهت ورأت الكتاب ففزعت وخافت أن يكون وقع في ملكها شيء، وقيل: أتى اليها وهي لثلاثة أيام من صنعاء اليمن وكانت عربية كاتبة { فقالت يا أيها الملأ } وهم يومئذ اثني عشر ألف قائد مع كل قائد مائة ألف { إني ألقي إلي كتاب كريم } وسمي كريما لأنه كان مختوما، وقيل: شرف بشرف صاحبه ولأن الطائر أتى به { إنه من سليمان } لأنه كتب من عبد الله سليمان إلى بلقيس ملكة سبأ { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } ، وقيل: إنها كانت بخبر سليمان { ألا تعلوا علي } أي لا تتكبروا علي { وأتوني مسلمين } مؤمنين بالله ورسوله.

[27.32-37]

{ قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري } أي أشيروا علي بالصواب { ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون } أي حتى تحضرون وتشيرون علي، ثم { قالوا نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد } أي ذو سلاح وشدة في الحروب، فقالت لما عزوا الحرب { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة } وقوله: { افسدوها } خربوها، وقيل: إذا دخلوا قرية عنوة وقهرا أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، أي أهانوا أشرافها { وكذلك يفعلون } ، قيل: هو قول الله تصديقا لها فيما قالت، وقيل: قال ذلك قومها، قالت بلقيس: { وإني مرسلة إليهم بهدية } أي إلى سليمان وقومه { فناظرة بم يرجع المرسلون } بقبول أو رد، وقيل: ما يلتمسون من خير أو شر، قيل: أنها أرسلت بوصائف وغلمان على زي واحد وقالت ان رد الهدية وأبى إلا المبايعة على دينه فهو نبي وإن قبل الهدية فإنما هو ملك وعندنا ما يرضيه، وقيل: إني مرسلة إليهم بهدية أي مرسلة رسلا بهدية أصانعه بها على ملكي فناظرة ما يكون منه حتى أعمل على حسب ذلك، وروي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجوار وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبين خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجوهر وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع والمسك والعنبر، وحقا فيه درة عذراء معوجة الثقب، وبعثت رجلا من أشراف قومها المنذرين بن عمرو وآخر ذا رأي وعقل، وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري، وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا ثم قالت للمنذر إن نظر اليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولك، وإن رأيته بشا لطيفا فهو نبي، فأقبل الهدهد فأخبر سليمان، فأمر الجن فصرفوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائط فشرفوه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر أولاد الجن وهم خلق فأقيموا على اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكراسي عن جانبيه، فاصطفت الشياطين صفوفا فراسخ والإنس صفوفا، والوحوش والسباع والطير والهوام كذلك، فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ورأوا الدواب تروث على اللبن، فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم، ولما وقفوا بين يدي سليمان نظر إليهم بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ وأين الحق؟ وأخبره جبريل بما فيه فقال لهم: إن فيه كذا وكذا، ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفرت فيها وجعل رزقها في الفاكهة، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب وجهها، والغلام كلما يأخذ به يضرب وجهه، ثم رد { ارجع إليهم } الآية، قالت: هو نبي وما لنا به من طاقة، فشخصت اليه في اثني عشر ألف قيل تحت كل قيل ألف.

[27.38-43]

{ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } ، قيل: رجعت الرسل إليها بالرسالة، قالت: ما هذا ملك، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك، فعند ذلك قال سليمان لأشراف قومه: { يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } ، وقيل: جلس سليمان ذات يوم فرأى غبارا قريبا منه فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس، فقال: أيكم يأتيني بعرشها، وروي أنه رأى الغبار على قدر فرسخ واختلفوا ما السبب الذي لأجله طلب العرش، قيل: أعجبه صفته فأحب أن يراه وكان من ذهب وقوائمه من جوهر مكلل باللؤلؤ، وقيل: معجزة الله تعالى في عرشها، وقيل: علم أنها إذا أسلمت حرم عليه مالها فأراد أخذه قبل اسلامها { قبل أن يأتوني مسلمين } طائعين { قال عفريت من الجن أنا آتيك به } أي بالعرش { قبل أن تقوم من مقامك } ، قيل: مجلسك الذي تقضي فيه بين الناس، وقيل: كان يقضي بين الناس إلى نصف النهار ولم يكن ذلك الحمل معجزة لأنه تعالى قوى الشياطين وقت سليمان فلما مات سليمان رجعوا إلى حالهم { وإني عليه لقوي أمين } قال سليمان أريد أسرع من هذا { قال الذي عنده علم من الكتاب } رجل كان عنده اسم الله الأعظم وهو يا حي يا قيوم، وقيل: يا إلهنا وإله كل شيء واحدا لا إله إلا أنت، وقيل: ياذا الجلال والإكرام، وعن الحسن: الله والرحمان، وقيل: هو آصف بن برخيا كاتب سليمان وكان صديقا عالما، وقيل: هو جبريل، وقيل: هو الخضر علم من الكتاب المنزل وهو علم الوحي والشرائع { انا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } ، قيل: أراد المبالغة في السرعة، ومعنى قوله: قبل أن يرتد إليك طرفك إنك ترسل طرفك إلى شيء قبل أن تراه أبصرت العرش بين يديك، وروي أن آصف قال لسليمان: مد عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد عينيه فنظر نحو اليمن ودعا آصف فغار العرش بمأرب ثم نبع عند مجلس سليمان بقدرة الله قبل أن يرتد طرفه { فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } لأن نفعه يعود عليه { ومن كفر فإن ربي غني كريم } { قال } يعني سليمان { نكروا لها عرشها } غيروا هيئة السرير هل تهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون إلى أنه عرشها { فلما جاءت قيل أهكذا عرشك } فنظرت فيه و { قالت كأنه هو } فعرف سليمان كمال عقلها { وأوتينا العلم } هذا من كلام سليمان، يعني أوتينا العلم بالله وبقدرته على ما شاء من قبل هذه المرأة { وكنا مسلمين } ، وقيل: هو من كلام قوم سليمان { وصدها ما كانت تعبد من دون الله } وهو الشمس { إنها كانت من قوم كافرين }.

[27.44-58]

{ قيل لها ادخلي الصرح } القصر، وقيل: صحن الدار، وروي أنه أمر قيل: قدومها فبني له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى فيه من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره، ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره وتحقيقا لنبوته وبيانا على الدين، وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية، وقيل: خافوا أن يولد له منها ولد فيجمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد وأفظع، فقالوا له: إن في عقبها شيئا وهو شعر الساقين ورجلها كحافر الحمار، فاختبر عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليعرف ساقها فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقا إلا أنها شعراء، ثم صرف بصره وناداها: { إنه صرح ممرد من قوارير } ، وقيل: هي السبب في اتحاد النورة أمر بها الشياطين فاتخذوها، واستنكحها سليمان وأحبها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سلحين وعمدان، وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له، وقيل: بل زوجها ذا تبع ملك همدان وسلطه على اليمن، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه فبنى له المصانع ولم يزل أميرا حتى مات سليمان، روي ذلك في الكشاف، ثم بين تعالى قصة صالح فقال تعالى: { ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون } يعني فريق مؤمن وفريق كافر، وقيل: أراد بالفريقين صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد، وقوله: { يختصمون } يقول كل فريق: الحق معي، وذلك أنهم سارعوا في الدين قبل اختصامهم ما حكى الله عنهم في سورة الأعراف قوله:

صفحة غير معروفة