وتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال لهم: " أتدعون الجاهية، وأنا بين أظهركم بعد، إذ أكرمكم الله بالإسلام وشرفكم بالإيمان والتوحيد الرافع لجميع الخصومات " فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح و استغفروا وتعانقوا وتحابوا، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
{ و } لذلك قال لهم: { كيف تكفرون } يا أيها المؤمنون بالله الواحد الأحد الفرد الصمد { و } الحال أنكم { أنتم تتلى عليكم آيات الله } الدالة على توحيده { و } مع ذلك { فيكم رسوله } المرسل إليكم المولي لأموركم { ومن يعتصم } منكم { بالله } ويتبع رسوله المنزل من عنده بتوحيده الذاتي { فقد هدي } واهتدى { إلى صراط مستقيم } [آل عمران: 101] يوصله إلى صفاء الوحدة.
{ يأيها الذين آمنوا } معظم أموركم في محافظة الإيمان المؤدي إلى الكشف والعيان، التقوى والاجتناب عن محارم الله ومنهياته، والتحلي بأوامره ومرضياته { اتقوا الله } المطلع لجميع حالاتكم { حق تقاته } خالية عن الميل والرياء والبدع والأهواء المضيفة إلى الإلحاد والزندقة { و } اجتهدوا أيها المؤمنون أن { لا تموتن } عن هويتكم { إلا وأنتم مسلمون } [آل عمران: 102] مخلصون في الاعتصام بحبل التوحيد والإيمان، مخلصون عن ربقة التقليد والحسبان.
{ و } بعد موتكم عن أنانيتكم { اعتصموا } أيها المخلصون الموقنون { بحبل الله } الممتد من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات، وارفعوا أنانيتكم وهويتكم عن البين { جميعا } حتى لايبقى توهم الغير والسوى مطلقا، وتخلص نفوسكم عن مشتهياتها ومستلذاتها الفانية، وتصل إلى الحياة الأزلية والبقاء السرمدي { ولا تفرقوا } أي: لا تتفرقوا بمقتضيات أوهامكم المتفرعة على هوياتكم الباطلة عن الحقية الحقيقية { و } بعدما وصلتهم بمقام الجمعية والوحدة الذاتية { اذكروا } أيها العكوس والأظلال { نعمت الله } المتجلي فيكم بذاته المتفضل { عليكم } بلا عوض ولا غرض { إذ كنتم أعدآء } بعداء متروكين في ظلمة العدم.
{ فألف } سبحانه بتجلياته الجمالية على مرأة العدم { بين قلوبكم } في قضاء الإمكان، بأن يجعلكم أزواجا وبنين وحفدة، متظاهرين بعضكم ببعض على مقتضى الإضافات، ورقائق المناسبات الرافعة بين الأوصاف والأسماء الإلهية { فأصبحتم } بعدما تيقظتم عن منام الإمكان { بنعمته } التي هي التوفيق والإقدار على طلب الرشد والرشاد { إخوانا } مجتمعين في فضاء الوحدة بلا توهم الكثرة المستدعية للعداوة والخصومة.
{ و } الحال أنكم { كنتم } في طغيان الإمكان { على شفا } طرف { حفرة } ملئت { من النار } مشرفين بالوقوع فيها، وهي حفرة العدم المباين لقضاء الوجود، المملوءة بنيران البعد والخذلان { فأنقذكم } الله؛ أي: أنجاكم وخلصكم { منها } بلفطه، بأن أودع فيكم العقل الجزئي المتشعب من العقل الكلي العائد إليه { كذلك يبين الله } الهادي { لكم } دائما مستمرا إلى توحيده الذاتي { آياته } آثار أسمائه وأوصافه الدالة على ذاته { لعلكم تهتدون } [آل عمران: 103] رجاء أن تهتدوا منها إليها لغاية ظهورها ووضوحها.
[3.104-108]
{ و } بعدما وفقتم للإيمان، ونبهتم للتوحيد والعرفان { لتكن منكم أمة } ملتزمة للإرشاد والتكميل { يدعون } الناس { إلى الخير } أي: إلى التوحيد وإسقاط الإضافات { ويأمرون بالمعروف } المستحسن في طريق التوحيد { وينهون عن المنكر } المستقبح فيه، المناسع عن الوصول إليه { وأولئك } الراشدون، المهديون، المرشدون، الهادون { هم المفلحون } [آل عمران: 104] الفائزون من عنده بالمثوبة العظمى، والدرجة العليا التي هي طريق مقام الجمعية والرضا.
{ ولا تكونوا } أيها المحمديون المتحققون بمقام الجمعية { كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جآءهم البينات } الدالة على الجمعية والاتفاق، ولم ينتبهوا منها إلى التوحيد الذاتي { وأولئك } الأشقياء الهاكلون في تيه الخذلان والحرمان { لهم عذاب عظيم } [آل عمران: 105] في جهنم البعد والإمكان وسعير الشرك والطغيان.
اذكر لهم يا أكمل الرسل: { يوم تبيض وجوه } بقبول النور من الوجه الباقي { وتسود وجوه } ببقائها في سواد الإمكان { فأما الذين اسودت وجوههم } ولم يرتفع غشاوة هوايتهم، وكثافة ماهياتهم عن أعينهم وأبصارهم، ولم تصف مرآت قلوبهم عن صداء الكثرة وشوب التنويه لذلك قيل تقريعا وتوبيخا: { أكفرتم } أيها الهالكون في بقعة الإمكان من { بعد إيمانكم } بوجوب الوجود، ووجوب الرجوع إليه { فذوقوا العذاب } أي: الطرد والحرمان { بما } أي: بأنانيتكم { كنتم تكفرون } [آل عمران: 106] وتسترونن، وتستبلدون به نور الوجود وصفاء التوحيد الخالص عن الكدورات مطلقا.
صفحة غير معروفة