ثم لما بين سبحانه أن الهداية إلى طريق التوحيد والإضلال عنه بقدرته واختياره، يؤتي ملك توحيده من يشأ من عباده ويمنعه عمن يشاء، أراد أن ينبه على خلص توحيد عباده ما يقربهم إلى الهداية ويبعدهم عن الضلا فقال تحذيرا لهم: { لا يتخذ المؤمنون } المتوجهون نحو توحيد الذات، الطالبون إفناء ذواتهم في ذات الله، لخوضوا في لجج بحر التوحيد، ويفوزوا بدرر المعارف والحقائق الكامنة فيها { الكافرين } الساترين بهوياتهم الكثيفة المظلة نور الوجود { أوليآء } ولا يصاحبون معهم، ولا يجالسون موالاة لهم ومؤخاة معهم لقرابة طينية وصداقة جاهلية، مع كوهم خالين معهم { من دون } حضور { المؤمنين } الماظهرين لهم؛ لئلا يسري كفرهم ونفاقهم إليهم؛ إذ الطبائع تسرق والأمراض تسري، سيما الكفر و الفسوق؛ إذ الطبائع مائلة إليها { ومن يفعل ذلك } ولم يترك مصاحبتهم ولا موالاتهم { فليس من } ولاية { الله } وطريق توحيده { في شيء } بل ملحق بهم معدود من عداوتهم بل أسوءهم حالا وأشدهم جرما عند الله بعدما نهاهم الله ولم ينتهوا { إلا أن تتقوا منهم } وتخافوا { تقة } توجب الموالات المصاحبة ضرورة من إتلاف النفس المال والعرض، وعند ذلك المحذور موالاتهم جائزة ومؤاختهم معذورة مداهنة ومداراة { و } مع وجود تلك الضرورة المستلزمة للموالاة الضرورةي { يحذركم الله نفسه } أي: يحذركم يا أهل العزائم عن نفسه على وجه المبالغة، حتى لا تأمنوا عن سخطه ولا تغفلوا عن غضبه، ولا تميلوا عنه سبحانه بارتكاب ما نهيتم عنه { و } اعلموا أن المحذورات كلها راجعة { إلى الله } إيجادا وإظهارا؛ إذ إليه { المصير } [آل عمران: 28] في الخير والشر والنفع والضر، لا مرجع سواه ولا منتهى إلا إياه.
[3.29-32]
{ قل } لهم يا أكمل الرسل تذكيرا وعظة وتنبيها على ما في فطرتهم الجبلية: { إن تخفوا ما في صدوركم } من محبة أقاربكم { أو تبدوه يعلمه الله } المحيط بظواهركم وبواطنكم { ويعلم } أيضا بعلمه الحضوري جميع { ما في السموت } من الكائنات والفاسدات أزلا وأبدا { وما في الأرض } منها لا يغيب عن علمه مما لمع عليه نور وجوده { والله } المتجلي لذاته بذاته { على كل شيء } من مظاهر تجلياته { قدير } [آل عمران: 29] بلا فتور وقصورن، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، يجازيهم على مقتضى علمه وقدرته في النشأة الأخرى.
{ يوم تجد كل نفس } خيرة { ما عملت } في النشأة الأولى { من خير } إحسان وإنعام وعمل صالح ويقين وعرفان { محضرا } بين يديه يستحضره ويود استعجاله { و } كذا تجد كل نفس شديدة { ما عملت } فيها { من سوء } غير صالح وكفر ونفاق وشرك وشقاق محضرا بين يديه، مشاهدا بين عينيه تستأخره وتتمنى بعده { تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } وزمانا متطاولا، بل يتمنى ألا تلقاه أصلا { ويحذركم الله } بهذا التذكير والتنبيه { نفسه } وقدرته على الانتقام وزيادة قهره وغضبه على من استكبر عن أوامره ونواهيه { والله } القادر المقتدر على انتقام العصاة { رؤوف } عطوف مشفق { بالعباد } [آل عمران: 30] الذين يترصدون إلى الله بين طرفي الخوف والرجاء، معرضين عن جانبي القنوط والطمع.
{ قل } أيها المخلوق على صورتنا، المجبول على مقتضيات جميع أوصافنا وأسمائنا، المتخلق بجميع أخلاقنا، لمن أراد إرشادهم وتبلغهم من البرايا { إن كنتم } أيها الأضلال المنهمكون في بحر الغفلة والضلال { تحبون الله } أي: تدعون محبة الله المظهر لكم من العدم، وتطلبون التوجه إلى جنابه والترب نحو بابه { فاتبعوني } بأمره وحكمه { يحببكم الله } أي: يقربكم إلى جنابه، ويوصلكم إلى ضرف لقائه { ويغفر } يستر، ويضمحل { لكم } عن أبصاركم وبصائركم { ذنوبكم } التي حجبتم بها عن مشاهدة جمال الله وجلاله، ومعاينة أسمائه وصفاته { والله } الهادي لكم إلى صراط توحيده { غفور } لكم يرفع موانع وصولكم { رحيم } [آل عمران: 31] لكم يوصلكم إلى مطلوبكم.
{ قل } لهم أيضا أجل أعمالكم وأفضالها إطاعة أمر الله وإتباع رسوله المرسل إليكم { أطيعوا الله } في امتثال جميع أوامره وأحكامه، واجتناب جميع نواهيه ومحظوراته مما فاز به المؤمنون { و } أطيعوا { الرسول } المبلغ لكم كتاب الله، المبين لكم المراد منه، فإن أطاعوا فازوا مما فاز به المؤمنون { فإن تولوا } أعرضوا عن إطاة الله ورسوله، فقد كفروا فلهم ما سيجري عليهم من عذاب الله وغضبه في النشأة الأخرى { فإن الله } الهادي لعباده { لا يحب الكافرين } [آل عمران: 32] منهم لا يقربهم ولا يرضى عنهم، بل يعذبهم ويبعد9م عن عز حضورهم.
[3.33-37]
ثم لم وقف سبحاه محبته ورضاه لعباده على متابعة حبيبه ورسوله المصور على صورته، المتخلق بأخلاقه، صار مظنة أن يتوهم أن نسبة ظهوره إلى المظاهر كلها على السواء، فما وجه التخصيص باختيار بعض بالمتابعة؟ أشار سبحانه إلى دفعه، بأن من سنتنا تفضيل بعض مظاهرنا على بعض فقال: { إن الله اصطفى } اختار واجتبى { ءادم } بالخلافة والنيابة، وأمر الملائكة الذين يدعون الفضيلة عليه بسجوده كرمه على جميع مخلوقاته { و } أيضا اصطفى { نوحا } بالنجاة والخلاص، وإغراق جميع من في الأرض بدعائه { و } كذا اصطفى { آل إبراهيم } أي: أهل بيته بالإمامة والخلافة، لذلك دعا إبراهيم عليه السلام ربه بألا يخرج الزمان عن إمامة ذريته إلى يوم القيامة { و } كذا اختار { آل عمران على العالمين } [آل عمران: 33] بإرهاصات ومعجزات لم يظهر من آحد مثلها، مثل: إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والولادة بلا أب وغير ذلك.
ثم إن اصطفاء الله إياهم ليس مخصوصا بهم بل اصطفى منهم { ذرية } أخلافا فضلاء { بعضها من بعض } أي: أعلى ربتة من بعض في الفضيلة كما قال سبحانه: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } [البقرة: 253] { والله } المحيط بسرائر عباده المتوجهين نحو بابه { سميع } لمناجاتهم الصادرة من ألسنة استعدادتهم { عليم } [آل عمران: 34] بما يليق لهم من المراتب العلية.
اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مناقب آل عمران وقت { إذ قالت امرأت عمران } حين ناجت ربها في سرها بلسان استعدادها وقت ظهور حملها، بإلقاء الله إياها: { رب } يا من رباني بحولك وقولك { إني نذرت لك ما في بطني محررا } معتقا عن أمور الدنيا كلها، خالصا لعبادتك وخدمة بيتك لا أشغله شيئا سواه، وكان من عادتهم تحرير بعض أولادهم الذكور لخدمة بيت المقدس شرفها الله { فتقبل } بلطفك { مني } ما نذرت لك للتقرب إليك يا رب { إنك } بذاتك وصفاتك وأسمائك { أنت السميع } لمناجاتي { العليم } [آل عمران: 35] بحاجاتي.
صفحة غير معروفة