{ وإن كنتم } أيها المتداينون { على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهن مقبوضة } أي: فعليكم في أمثال هذه المعاملة رهن مقبوض من الديون إلى أجل مسمى { فإن أمن بعضكم } أيها الدائنون { بعضا } من المدينون بلا ارتهان اعتمادا على أمانته { فليؤد } المديون { الذي اؤتمن } اعتمادا { أمانته } اي: دينه عند انقضاء أجله المسمى { وليتق الله ربه } في الإنكار والخيانة والبخص والمماطلة { ولا تكتموا } أيها المؤمنون { الشهدة } الحاضرة الحاصلة عندكم، المتعلقة بحقوق الناس سواء كنتم من المستشهدين أو الشاهدين على أنفسكم، المعترفين بما في ذمتكم من حقوق الغير { ومن يكتمها } إنكارا وعنادا { فإنه آثم قلبه } أي: يأثم قلبه، ومن كان إثمه من قلبه لا يرجى منه الفلاح والفوز بالنجاح { و } المحيط بحيلكم ومخايلكم { الله بما تعملون } من الإنكار والخيانة وكتمان الشهادة { عليم } [البقرة: 283] ينتقم منكم بكل ما جرى في نفوسكم منها.
{ لله } الواحد الأحد الحي، الحقيق بالحقية، القيوم المتفرد بالقيومية، الدائم الظاهر بالديمومية مظاهر { ما في السموت } من الأسماء الذاتية والصفات الفعلية { وما في الأرض } أي: الطبيعة العدمية القابلة لمظهرية آثار الصفات الذاتية، المحدثة المظهر للكائنات الكونية والكيانية، والواردات الغيبية والواضحات العينية { و } بعدما ظهر ما ظهر وما بطن { إن تبدوا } تظهروا أيها الأظلال والعكوس { ما في أنفسكم } من الأنانية والأصالة في الوجود والاستقلال بالآثار { أو تخفوه يحاسبكم به الله } الجامع بجميع الأسماء، المحيط بجميع الأشياء، بل الأشياء كلها مستهلكة في وجوده، فانية في ذاته { فيغفر } يستر ذنب الأنانية ومعصية الغيرية { لمن يشآء } من عباده بفضله وجوده { ويعذب من يشآء } بقهره وطرده إرادة واختيارا؛ إظهارا لقدرته وقلعا لشوكته { والله على كل شيء } مما شاء ويشاء { قدير } [البقرة: 284] بالقدرة الأزلية الأبدية المتصرف مطلقا في جميع ما كان ويكون، لا يعزب عن حضوره ذرة، ولا يشغله فترة.
[2.285-286]
لذلك : { ءامن الرسول } الفاني في الله، الباقي ببقائه، المستغرق بمطالعة لقائه { بمآ أنزل إليه } من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات، المتجددة بتجددات التجليات، المنتشئة { من ربه } الذي يربيه؛ لاستخلافه ونيابته وتحمل أسرار أعباء نبوته ورسالته { والمؤمنون } المتبعون له، المسترشدون منه المقتفون أثره { كل آمن بالله } المتفرد والمتعزز بالعظمة والكبرياء { وملائكته } المرسومين بصفات الذات والأسماء { وكتبه } المنزلة على ألسنة رسله للهداية والإهداء { ورسله } المنبهة على أولي البصائر والنهى مما في آياته الكبرى من السرائر والأسرار التي تفتت دونها الآراء، واضمحلت الأهواء، قائلين حالا ومقالا: { لا نفرق بين أحد من رسله } بعدما ظهر الكل منه ورجع إليه { و } بعدما آمنوا بالله وإحاطته { قالوا } طوعا { سمعنا و } سمعا { أطعنا } بجميع ما جاءوا به؛ إذ الكل من عندك نرجو { غفرانك ربنا } يا من ربانا بملابس الإمكان، والمفضي بالطبع إلى الخذلان والخسران { وإليك } يا هادي الكل لا إلى غيرك؛ إذ لا غير معك { المصير } [البقرة: 285] في الإعادة عن شيطان الإمكان.
ثم نبه سبحانه على خلص عباده ما يؤول أمرهم إليه وينقطع سعيهم دونه بقوله: { لا يكلف الله } الهادي لعباده نحو جنابه { نفسا إلا وسعها } أي: إلا ما في وسعها وطاقتها واستعدادها مما عينه الله في سابق علمه الحضوري لأجله، فظهر أن { لها ما كسبت } م نالخيرات باستعداده الفطري الجبلي { وعليها ما اكتسبت } من الشرور بمتابعة قوى النفس في الإمكان التي هي منشأ جميع الفسادات، ثم لما أشار سبحانه إلى سر التكليف أراد أن يشير إلى الإتيان بما كلف به لا يكون إلا بتوفيقه وجذب من عنده، لذلك لقنهم الدعاء والاستعانة والمناجاة بقوله: { ربنا } يا من ربانا بلطفك لقبول تكليفاتك لنصل إلى صفاء توحيدك وتقديسك { لا تؤاخذنا إن نسينآ } إتيان ما تكلفنا بسبب إمكاننا { أو أخطأنا } فيها لقصور إدراكنا { ربنا ولا تحمل علينآ إصرا } حجابا غليظا وغشاوة كثيفا، يعمي بصائر قلوبنا عن إدراك نور توحيدك { كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا } من متاعب الرياضات ومشاق التكليفات الفائقة لدرن الإمكان ورين التعلقات { ما لا طاقة لنا به واعف } امح بفظلك { عنا } مقتضيات أوصافنا الإمكانية { واغفر لنا } أي: استر لنا ربنا أنانيتنا وهويتنا عن نظرا { و } بعد ذلك { ارحمنآ } برحمتك الواسعة { أنت مولنا } ومولى نعمنا { فانصرنا } بعونك ونصرتك في ترويج توحيدك { على القوم الكافرين } [البقرة: 286] الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق الظاهرة على الآفاق.
حققنا بلطفك بحقيتك وتوحيدك، يا خير الناصرين، ويا هادي المضلين.
خاتمة سورة البقرة.
عليك أيها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات - شرح الله صدرك ويسر أمرك - أن تأخذ لنفسك حسب قدرتك وطاقتك من هذه السورة المشتملة على جميع المطالب الدينية والمراتب اليقينة، فلك أن تشمر أولا ذيلك عن الدنيا وما فيها، معرضا عن لذاتها وشهواتها، متوجها بوجه قلبك إلى توحيد ربك، مستفتحا لما في صدرك من خزائن جوده ودفائن وجوده، طاويا كشح حالك وفعلك عما لا يعنيك، هاربا عن مصاحبة ما يضرك ويغويك، طالبا الوصول إلى معارج التوحيد ومدارج التجريد والتفريد، راغبا عما سوى الحق من أسباب الكثرة والتقييد، مستنشقا من نسمات أنسه ونفحات قدسه، مستروحا بنفسات رحمته، مستكشفا عن أسرار ربوبيته، مستهديا من زلال هدايته بمتابعة نبيه المخلوق على صورته، المبعوث على جميع بريته، مسترشدا من كتابه المنزل عليه، الجامع لما في الكتب السالفة من الحكم والمواعظ والعبر والرموز والإشارات الواردة منه عنده؛ لإهداء التائهين في فضاء وجوده، المستغرقين في تيار بحار إحسانه وجوده.
فعليك أيها المريد القاصد لسلوك طريق الحق أن تلازم هذا الكتاب الذي لا ريب فيه هدايته لمن آمن في غيب الهوية، وأدام التوجه نحوه، صارفا عنان عزمك عن كل ما يشغلك عن ربك، مقبلا بشأنك نحو مقصدك ومطلبك، معرضا على نفسك ما فيه من الحقائق والمعارف والحكم والأحكام والقصص والتذكيرات؛ إذ ما من حرف من حروف هذا الكتاب إلا هو ظرف المعاني إلى ما شاء الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم عليم.
فلا بدك لك عند تلاوة القرآن أن تطهر ظاهرك وباطنك عن جميع لوازم بشريتك، بحيث تغيب عنك نفسك، وتفنى هويتك وشأنك، وأنقطك ربك بنطقه وكلامه، ومتى رسخت هذه الحالة فيك وصارت خلقك وشيمتك، فزت بحظك من تلاوته، وإياك أن تغفل عند قراءته عن محض إشارته والتدقيق في روايته ودرايته.
صفحة غير معروفة