وأما معنى: فلا شتماله على جميع أحواله الحقائق العينية والأسرار الغيبية مما كان وسيكون في النشأتين، ولا يتيسر الاطلاع عليها والإتيان بها على هذا النمط البديع إلا لمن هو علام الغيوب.
وإنما أنزلناه إليك أيها اللائق لأمر الرسالة والنيابة، لتهتدي به أنت إلى بحر الحقيقة، وتهدي به أيضا من تبعك من التائهين في بيداء الضلالة؛ إذ فيه { هدى } عظيم { للمتقين } [البقرة: 2] الذين يحفظون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه نفوسهم عن خبائث المعاصي المانعة من الطهارة الحقيقية والوصول إلى المرتبة الإصلية.
و { الذين يؤمنون } يوقنون ويذعنون بأسراره ومعارفه { بالغيب } أي: غيب الهوية الذي هو ينبوع بحر الحقيقة وإليه منتهى الكلم، وبعد ذلك يتوجهون بمقتضيات أحكامه نحوه، ويهدون إليه بسببه { ويقيمون } يديمون { الصلوة } الميل بجميع الأعضاء والجوارح على وجه الخضوع والتذلل إلى جنابه؛ إذ هو المقصد للكل إجمالا وتفصيلا، ولكل عضو وجارحة تذلل خاص وله طريق مخصوص يناسبه، يرشدك إلى تفاصيل الطرق، فعله صلى الله عليه وسلم في صلاته على الوجه الذي وصل إلينا من الرواة المجتهدين - رضوان الله عليهم أجمعين - ولما تنبهوا له به بمتابعته ومالوا نحو جنابه بالميل الحقيقي بالكلية لم يبق لهم ميل إلى ما سواه من المزخرفات الفانية لذلك { ومما رزقناهم } سقنا إليهم ليكون بقيا لحياتهم ومقوما لمزاجهم { ينفقون } [البقرة: 3] في سبيلنا طلبا لمرضاتنا وهربا عما يشغلهم عنا، فكيف إنفاق الفواضل؟.
{ والذين يؤمنون } ينقادون ويمتثلون { بمآ أنزل إليك } من الكتاب الجامع أسرار جميع ما أنزل من الكتاب السالفة على الوجه الأحسن الأبلغ، ومن السنن ومن الأخلاق الملهمة إليك { و } مع ذلك صريحا يعتقدون { مآ أنزل من قبلك } من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين مع الإيمان بجميع الكتب المنزلة، وإن كان كل كتاب متضمنا للإيمان بالنشأة الآخرة بل هو المقصود الأصلي من جميعها { وبالآخرة هم يوقنون } [البقرة: 4] أفردها بالذكر؛ اهتماما بشأنها لكثرة المرتابين فيها.
{ أولئك } أي: جزاء أولئك المؤمنون المتعقدون بجميع الكتب المنزلة على الرسل، والمؤمنون المذعنون بالنشأة الآخرة بل خاصة أنهم { على هدى } عظيم { من ربهم } الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم إلى أن يبلغوا إلى هذه المرتبة التي هي الاهتداء إلى جانب قدسه { و } مع ذلك الجزاء العظيم والنفع الجسيم { وأولئك } السعداء { هم المفلحون } [البقرة: 5] الفائزون، الناجون عن مضائق الإمكان الواصلون إلى فضاء الوجوب، رزقنا الله الوصول إليه.
[2.6-10]
ثم قال سبحانه جريا، بل على مقتضى سنته من تعقيب الوعد بالوعيد: { إن الذين كفروا } ستروا الحق وأعرضوا عنه، وأظهروا الباطل وأصروا عليه عنادا واستكبارا، لا ينفعهم إنذارك وعدمه بل { سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [البقرة: 6] بك وبكتابك؛ لأنهم هم.
{ ختم الله } المحيط بذواتهم وأوصافهم وأفعالهم { على قلوبهم } لئلا يكونوا من أرباب المكاشفات { وعلى سمعهم } لئلا يكونوا من أصحاب المجاهدة { وعلى أبصرهم } لئلا يكونوا من أرباب المشاهدة { غشاوة } ستر عظيم لا يمكنك رفعه بل { ولهم عذاب عظيم } [البقرة: 7] هو عذاب الطرد والبعد؛ إذ لا عذاب أعظم منه، أولئك الأشقياء البعداء عن ساحة الحضور، هم الضالون في تيه الحرمان، الباقون في عظلمة الإمكان، أعاذنا الله من ذلك.
{ ومن الناس } الذين نسوا العهود السابقة التي عهدوا في الفطرة الأصلية { من يقول } قولا لا يوافق اعتقادهم، وهو أنهم يقولون تلبيسا ونفاقا: { آمنا } أذعنا { بالله } أي : الذي أنزل علينا الكتاب وإنك الرسول { و } وأيقنا { باليوم الآخر } الموعود بجزاء الأعمال { و } الحال أنهم { ما هم بمؤمنين } [البقرة: 8] موقنين بهما في بواطنهم، بل غرضهم من هذا التلبيس في زعمهم الفاسد أنهم:
{ يخادعون الله } المحيط بجميع أحوالهم مخادعتهم مع آحاد الناس، تعالى عن ذلك { و } يخادعون الموحدين { الذين آمنوا } بإحاطة الله بتوفيقه وإلهامه؛ حفظا لدمائهم وأموالهم منهم { و } هم { ما يخدعون } بهذا الخداع { إلا أنفسهم } لأن الله ومن هو في حمايته أجل من أن ينخدع منهم، فهم بهذا الخداع ما يخدعون إلا أنفسهم { وما يشعرون } [البقرة: 9] بخداعهم؛ لأن:
صفحة غير معروفة