{ و } هم { الذين إذا ذكروا } ووعظوا { بآيات ربهم } الدالة على توحيده واستقلاله في ألوهيته وربوبيته { لم يخروا } ولم يسقطوا { عليها } أي: على الآيات { صما } أصمين غافلين عما فيها من الأوامر والنواهي، والعبر والأمثال، والرموز والإشارات { وعميانا } [الفرقان: 73] أعمياء عن مطالعة آثار أوصاف صفاته الجلالية والجمالية فيها بل يخرون ويتذللون عند سماعها، واعين حافظين بما فيها من المواعظ والتذكيرات المتعلقة لأحوالهم في النشأتين، مطالعين منها آثار الأوصاف والأسماء الإلهية، ناظرين عليها بنظر الاعتبار والاستبصار.
{ والذين يقولون } داعين مناجين متضرعين قائلين: { ربنا } يا من ربانا على فطرة التوحيد والإيقان { هب لنا } بفضلك، وسعة لطفك وجودك من في حوزتنا وجوارنا { من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } أي: أجعلهم بحيث تقر وتتنور عيوننا برؤيتكم من كمال صلاحهم وسدادهم، ممتثلين بأوامرك، مجتنبين عن نواهيك { و } بعدما وهبتنا يا مولانا ولأهلينا ما تقر به عيوننا من الاتقاء عن محارمك والامتثال بأوامرك، و { اجعلنا } بلطفك { للمتقين } المحترزين الحذرين عن محارمك ومنهياتك { إماما } [الفرقان: 74] مقتدى بهم، نرشدهم إلى طريق توحيدك.
وبالجملة: { أولئك } السعداء المقبولون عند الله، المذكورة أوصافهم من قوله سبحانه:
وعباد الرحمن...
[الفرقان: 63] إلى هنا، هم الذين { يجزون } من عند ربهم تفضلا عليهم وامتنانا { الغرفة } وهي أعلى درجات الجنان { بما صبروا } أي: بسبب ما صبروا على مشاق الطاعات ومتاعب الرياضات، والتحمل على قطع التعلقات وترك المألوفات، والذب عن جملة المشتهيات والمستلذات { و } بعدما استقروا عليها { يلقون فيها تحية } وترحيبا من الملائكة من جميع الجوانب { وسلاما } [الفرقان: 75] أي: سلامة عن جميع الآفات.
{ خالدين فيها } أي: في الجنة لا يتحولون عنها ولا يتبدلون، بل دائمون فيها مقيمون؛ لذلك { حسنت مستقرا } مستقرون فيها ومتمكنون عليها { ومقاما } [الفرقان: 76] يقيمون ويتوطنون فيها.
ثم لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عموم المشركين إلى الإيمان والتوحيد، وأمرهم بالإطاعة والانقياد على ما أمرهم الله، ونهاهنم عما نهاهم سبحانه على مقتضى الوحي الإلهي والكتاب المنزل من عنده كذبوه، وأنكروا له قائلين: نحن لا نؤمن بك ولا بكتابك ولا بربك الذي ادعيت الرسالة عنه، ولا نطيع بما أمرنا ونهينا عنه، وبالجملة: لا نقلل منك جميع ما جئت به من قبل ربك، ونسبته إليه افتراء ومراء.
رد الله عليهم قولهم هذا على أبلغ وجه وآكده مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم، آمرا له بقوله: { قل } لهم بعدما انصرفوا عن دعوتك، والإيمان بك وبربك والعمل بكتابك: { ما يعبأ } أي: ما يبالي ويعتد بكم وبإيمانكم وكفركم { بكم ربي لولا دعآؤكم } أي: إطاعتكم وعبادتكم إياه وانقيادكم له { فقد كذبتم } بي وبربي، وأنكرتم بجميع ما جئت به من عنده سبحانه عنادا ومكابرة، الزموا مكانكم فتربصوا، وانتظروا لجزاء تكذيبكم وإنكاركم { فسوف يكون لزاما } [الفرقان: 77] أي: سكون جزاء تكذيبكم حتما لازما عليكم غير منقطع عنكم أبدا، بل يكبكم في النار خالدين صاغرين، ويعذبكم فيها مهانين ذليلين، نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي اللازم لتهذيب الأخلاق عن الرذائل، وتطهير الصفات عن الذمائم، والأطوار عن القبائح، والأسرار عن الميل إلى السوى والأغيار من الأمور المنافية المكدرة لصفاء مشرب التوحيد، أن تتأمل وتتعمق في مرموزات الآيات العظام المذكورة في هذه السورة، سيما في الآيات التي وصف بها سبحانه خلص عباده المتحققين لمرتبة العبودية، المنكشفين بسعة اسمه الرحمن، المظهر لمظاهر الأكوان شهادة وغيبا، وتتدبر في إشاراتها حق التدبر والتفكر إلى أن يتسرخ في قلبك معانيها رسوخا تاما، وينتفش في صحيفة سرك وخاطرك فحاويها انتقاشا كاملا، إلى أن تصير من جملة وجدانيتك وذوقك.
صفحة غير معروفة