وبالجملة: تلك الأمواج والسحب { ظلمات } متراكمة مترادفة { بعضها فوق بعض } بحيث { إذآ أخرج } من قوع فيها { يده } حذاء بصره اختبارا لنظره { لم يكد يراها } أي: لم يقرب أن يراها بالقوة فكيف بالفعل؟! هكذا أعمال الكفرة المتوغلين في بحر الغفلة والضلال، والمغشاة بالأمواج المتراكمة من الظلم والطغيان والغي والعدوان، من فوقه السحب الكثيفة والحجب الغليظة من الجهل بالله، والتعامي عن مطالعة آياته الدالة على توحيده واتصافه بالأوصاف الذاتية، وملاحظة آثاره البديعة وصنائعه العجيبة الغريبة.
وهم من غاية انهماكهم في ظلمات غفلاتهم وجهالاتهم، وكمال غيهم وضلالهم: إذا أمعنوا نظرهم إلى مشاهدة ما في نفوسهم من غرائب صنع الله لم يقربوا أن يكونوا مترصدين للوقوف عليها، فكيف الشهود والاطلاع بها؟! { و } بالجملة: { من لم يجعل الله } الهادي لعباده إلى زلال توحيده { له نورا } من جذبة وتوفيق يهدي به التائهين إلى مقصد توحيده { فما له } من نفسه وبمجرد كسبه وسعيه { من نور } [النور: 40] يرشده إليه سبحانه، ويوصله إلى فضاء توحيده.
هب لنا منك نورا نهتدي به إلى ما جبلنا لأجله بفضلك وجودنا يا ذا الطول العظيم.
[24.41-45]
{ ألم تر } ولم تعلم أيها المعتبر الرائي { أن الله } المتوحد برداء العظمة والكبرياء، المستقل بالوجود الحقيقي بكمال اللطف والجود { يسبح له } ويقدسه سبحانه عن جميع ما لا يليق بشأنه عن شوب النقص وسمات الحدوث والإمكان، جميع { من في السموت } من المجبولين على المعرفة المتوجهين نحو المبدع طوعا { و } جميع من في { الأرض } أيضا كذلك { و } كذا { الطير صآفات } باسطات أجنحتهن في الجو { كل } أي: كل واحد من المسبحين السماويين والأرضيين والهوائيين { قد علم } وأشعر { صلاته } وميله إلى ربه الذي أوجده وأظهره { وتسبيحه } الذي سبح ونزه به مبدعا عما لا يليق بجنابه { والله } المتجلي بأسمائه الحسنى وصفاته العليا { عليم } بعلمه الحضوري { بما يفعلون } [النور: 41] أي: بحميع ما صدر عنهم من التوجه والتسبيح، وإخلاصهم فيه.
وكيف لا يعلم سبحانه أفعال عباده ومملوكه؛ إذ { ولله } المظهر المبدع ابتداء { ملك السموت } وجميع من فيها وما فيها { والأرض } ومن عليها وما عليها، فله التصرف فيهما، وفيما بينهما بالاستقلال والاختيار بلا مزاحمة الأضداد والأغيار { و } كيف لا { إلى الله } لا إلى غيره من الأظلال الهالكة في بيداء الضلال { المصير } [النور: 42] أي: المرجع المنتهى؛ إذ الكل منه بدأ وإليه يعود، هو الأول والأخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء كائن وسيكون أزلا وأبدا عليم خبير، يظهره ويعدمه حسب علمه وخبرته بإرادته واختياره.
{ ألم تر } أيها الرائي { أن الله } المتكفل لأرزاق عباده كيف { يزجي } ويسوق أجزاء الأبخرة والأدخنة إلى فوق متفرقة؛ ليجعله { سحابا } هامرا { ثم يؤلف } ويركب { بينه } أي: بين أجزاء السحاب { ثم يجعله ركاما } متراكما متكاشفا متصلا؛ ليكون منه مياه كثيرة، ثم يجعل له فتوقا ومنافذ { فترى } أيها الناظر المعتبر { الودق } أي: المطر المتقاطر { يخرج من خلاله } وفتوقه غاية منه سبحانه لمن في حوزته فضله وجوده { و } كذا { ينزل من } جانب { السمآء من جبال فيها } يعني: من قطع سحاب متراكم في الجو على هيئة الجبال الرواسي { من برد } متكون من الأبخرة والأدخنة الواصلة إلى الطقبة الزمهريرية من الهواء وصولا تاما، إلى حيث انجمدت انجمادا صلبا كالحجر من كمال البرودة، فينزل منها إظهارا لقهره سبحانه، وتنبيها على صولة سطوة صفاته الجلالية { فيصيب به } سبحانه { من يشآء } من عباده ممن سبق القهر والغضب منه سبحانه يمقتضى جلاله سبحانه { ويصرفه } أي: يصرف شره { عن من يشآء } من أهل العناية على مقتضى لطفه وجماله.
ومن أمارات غضب الله وقهره: إنه { يكاد } ويقرب { سنا برقه } اللامع؛ أي: ضوئه الحاصل منه في كمال الظلمة حالة الاصطكاك { يذهب بالأبصار } [النور: 43] الناظرة نحوه، ويختطفها بحدوث الضد من الضد فجأة، وذلك من الأسباب التافهة التامة لتفريق البصر.
وكيف لا يخطف الأبصار حين { يقلب الله } المحول للأحوال فيه { الليل والنهار } بغتة بلا تراخ ومهلة إظهارا لكمال قدرته، واختباره واستقلاله بالتصرف في مظاهره ومصنوعاته { إن في ذلك } التبديل والقلب وإحداث الضد من الضد بغتة { لعبرة لأولي الأبصار } [النور: 44] المنكشفين بوحدة الواجب وصفاته الذاتية التي هي منشأ جميع ما ظهر وبطن من الكوائن والفواسد بإرادته واختياره، المستدلين من آثار أوصافه وأسمائه بعلو شأنه وسمو برهانه، المتيقنين بوحدة ذاته وتنزهه عن وصمة الكثرة والشركة مطلقا.
{ والله } المتوحد بذاته المعتزز بكمال أسمائه وصفاته { خلق } أي: أظهر وقدر { كل دآبة } تتحرك على الأرض { من مآء } وهو العنصر الأصلي لوجود الحيوانات؛ هو مبدأ حركاتهم ومنشأ إحساساتهم وإدراكاتهم، لذلك خص بالذكر بين العناصر وإن كانت مركبة من جميعها { فمنهم } أي: من الدواب، ذكر الضمير وجمعها جمع العقلاء على سبيل التغليب؛ لأن العقلاء منها { من يمشي } ويزحف { على بطنه } بلا آلة المشي كالحية { ومنهم من يمشي على رجلين } كالطير والإنسان { ومنهم من يمشي على أربع } كالمنعم والوحش.
صفحة غير معروفة