393

{ و } مع أمرنا لموسى وأخيه المسلين إليه بتليين القول، والتنبيه بدلائل الآفاق والأنفس { لقد أريناه } تحقيقا وتأكيدا؛ لئلا يبقى عنا جداله، حين أخذنا بظلمه في وقت الجزاء، مع علمنا بأنه من الهالكين في بيداء البعد والعناد { آياتنا } الدالة على صدق موسى المرسل { كلها } متعاقبة مترادفة، وهي: العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين والطمس { فكذب } بجميعها { وأبى } [طه: 56] فامتنع عن تصديق شيء منها، بل نسب الكل إلى السحر والشعبذة.

{ قال } اغترارا بعلو شأنه ورفعة مكانه، مستفهما على وجه التهكم والإنكار: { أجئتنا } متمنيا لرئاستنا مع غاية حقارتك وضعفك { لتخرجنا } مع كمال عظمتنا وقوتنا { من أرضنا } التي استقررنا عليها زمانا طويلا { بسحرك } الذي تعلمت من شياطين الأمة في بلاد الغربة { يموسى } [طه: 57] المتمني محالا، ولولا خشيتي من اشتهار عجزي من دلائلكوأباطيلك لقتلك ألبتة فالزم مكانك.

{ فلنأتينك بسحر } من أنواع السحر كامل من سحرك لا من نوع آخر بل من { مثله } أي: مثل سحرك كامل منه، قم من عندي وتأمل في أمرك؛ إن شئت تب من هذياناتك وفضولك وارجع إلي بالاستغفار حتى أغفر زلتك، وإن شئت { فاجعل } أي: عين وقتا من الأوقات؛ ليكون { بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت } ثم عين { مكانا سوى } [طه: 58] أي: مسوى لا حائل فيه بحيث يرى كل أحد ما يجري بيننا حتى تفتضح على رءوس الأشهاد.

{ قال } موسى: إن معي ربي سيقويني لا أخاف من معارضتك بالسحر وتعيين موعد إتيانك، بل { موعدكم } للمعارضة مع المعجزة { يوم الزينة } أي: يوم العيد؛ إذ يجتمع فيه الأقاصي والأداني { و } لا يكون وقت تفرقهم إلى بيوتهم { أن يحشر الناس ضحى } [طه: 59] أي: في وقت الضحوة المعدة لإظهار الزينة، ليظهر كل منهم على صاحبه زينة؛ ليكون إعجازي لك أبعد من أن يرتاب فيه أحد.

{ فتولى فرعون } وانصرف عن مكالمة موسى استكبارا { فجمع كيده } أي: أمر بجميع سحرة مملكته ليرى القاصرين أن ما جاء به موسى من جنس السحر { ثم أتى } [طه: 60] الموعد المعين مع ملئه وسحرته.

وبعدما حضروا الموعد { قال لهم } أي: للسحرة { موسى } على مقضتى شفقة النبوة أو بإلقاء الله إياه بطريق الإلهام كلاما خاليا عن الميل إلى الخصومة إمحاضا للنصح: { ويلكم } أي: ويل لكم ايها العقلاء التاركومن طريق العقل بمتابعة هذا الطاغي { لا تفتروا على الله كذبا } بأن أفعاله مما يعارض بالسحر والشعوذة؛ لأن ما جئت به من الآيات مما آتاني الله من فضله، وإن افتريتم على الله { فيسحتكم } أي: يهلككم ويستأصلكم { بعذاب } نازل من قهره { وقد } تحقق عندكم أيها العقلاء أنه { خاب } خيبة أبدية { من افترى } [طه: 61] على الله بما لا يليق بذاته من إبطال قدرته أو دعوى المعارضة معه.

فإذا سمع السحرة من موسى قوله هذا، وتأملوا فيه تأملا صادقا، وجدوه صادرا عن محض الحكمة والفطانة، فلذلك تأثروا من قوله تأثرا عظيما { فتنازعوا } وتشاوروا { أمرهم بينهم } بأن أمثال هذا الكلام لا يصدر إلا من المؤيد من عند الله، المستظهر به سبحانه، ما يشبه كلام السحرة المعارضين، فمآل كل منهم في نفسه إلى تصديقه { وأسروا النجوى } [طه: 62] أي: مناجاتهم في أنفسهم من فرعون وملئه، فتمكن فرعون وملئه في معرض المعارضة وقابلوا السحرة لممانعتهما.

{ قالوا } أي: فرعون وأشرافهم للسحرة تقوية لهم في أمرهم: { إن هذان } الرجلان الحقيران { لساحران } يدعيان الرسالة من ربهما الموهوم ترويجا لسحرهما، وبعد الترويج { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم } المألوفة { بسحرهما } أي: بمجرد سحرهما لا من أمر سماوي كما زعمان، وبعد إخراجكم من أرضكم يريدان الاستقرار والاستيلاء على عموم ملك العمالقة { ويذهبا } بعد التقرر والتمكن { بطريقتكم المثلى } [طه: 63] أي: عادتكم العظمى ومرتبتكم العليا.

وبالجملة: يريدان أن يجعلا أمرنا وأمر بني إسرائيل بالعكس؛ ليكون لهم الكبرياء ولنا المذلة والهوان، بعكس ما كان من سالف الزمان.

وإذا سمعتم نبذا من مقاصدهما { فأجمعوا كيدكم } أي: هيئوا جميع أسباب سحركم؛ بحيث لا تحتاجون لدى الحاجة إلى شيء من أدواته { ثم ائتوا } عليها { صفا } أي: صافين مجتمعين بمقابلتهما؛ لأنه أدخل في المهابة { و } اعلموا أنه { قد أفلح اليوم } أي: فاز ووصل بانواع العطاء والمواهب { من استعلى } [طه: 64] وغلب عليهما.

صفحة غير معروفة