معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي
محقق
حققه وخرج أحاديثه محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية - سليمان مسلم الحرش
الناشر
دار طيبة للنشر والتوزيع
رقم الإصدار
الرابعة
سنة النشر
١٤١٧ هـ - ١٩٩٧ م
يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا" (٢٣-الْفُرْقَانِ) .
وَأَصْلُ السَّبَبِ مَا يُوصَلُ بِهِ إِلَى الشَّيْءِ مِنْ ذَرِيعَةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ مَوَدَّةٍ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْحَبْلِ سَبَبٌ وَلِلطَّرِيقِ سَبَبٌ
﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ يَعْنِي الْأَتْبَاعَ ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ أَيْ رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ أَيْ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ ﴿كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾ الْيَوْمَ ﴿كَذَلِكَ﴾ أَيْ كَمَا أَرَاهُمُ الْعَذَابَ كَذَلِكَ ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ﴾ وقيل كتبرئ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ يُرِيهِمُ اللَّهُ ﴿أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ﴾ نَدَامَاتٍ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ جَمْعُ حَسْرَةٍ قِيلَ يُرِيهِمُ اللَّهُ مَا ارْتَكَبُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ فَيَتَحَسَّرُونَ لِمَ عَمِلُوا، وَقِيلَ يُرِيهِمْ مَا تَرَكُوا مِنَ الْحَسَنَاتِ فَيَنْدَمُونَ عَلَى تَضْيِيعِهَا وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ رَجَاءَ أَنْ تُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ ﷿، فَلَمَّا عُذِّبُوا عَلَى مَا كَانُوا يَرْجُونَ ثَوَابَهُ تَحَسَّرُوا وَنَدِمُوا. قَالَ السُّدِّيُّ: تُرْفَعُ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَإِلَى بُيُوتِهِمْ فِيهَا لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ فَيُقَالُ لَهُمْ تِلْكَ مَسَاكِنُكُمْ لَوْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ، ثُمَّ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَذَلِكَ حِينَ يندمون (١) ويتحسرون ﴿وَمَاهُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (١٦٩)﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ نَزَلَتْ فِي ثَقِيفٍ وَخُزَاعَةَ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ فِيمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ الشَّرْعُ طَيِّبًا، قِيلَ: مَا يُسْتَطَابُ وَيُسْتَلَذُّ، وَالْمُسْلِمُ يَسْتَطِيبُ الْحَلَالَ وَيَعَافُ الْحَرَامَ، وَقِيلَ الطَّيِّبُ الطَّاهِرُ ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ الطَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا وَخُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ آثَارُهُ وَزَلَّاتُهُ، وَقِيلَ هِيَ النُّذُرُ فِي الْمَعَاصِي. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الْمُحَقَّرَاتُ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: طُرُقُهُ ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ وَقِيلَ مُظْهِرُ الْعَدَاوَةِ، وَقَدْ أَظْهَرَ عَدَاوَتَهُ بِإِبَائِهِ السُّجُودَ لِآدَمَ وَغُرُورِهِ إِيَّاهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ.
وَأَبَانَ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا ثُمَّ ذَكَرَ عَدَاوَتَهُ
فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ﴾ أَيْ بِالْإِثْمِ وَأَصْلُ السُّوءِ مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ وَهُوَ مَصْدَرُ سَاءَ يَسُوءُ سوأ وَمَسَاءَةً أَيْ أَحْزَنَهُ، وَسَوَّأْتُهُ فَسَاءَ أَيْ حَزَّنْتُهُ فَحَزِنَ ﴿وَالْفَحْشَاءِ﴾ الْمَعَاصِي وَمَا قَبُحَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. رَوَى بَاذَانُ عَنِ ابْنِ
(١) انظر الطبري ٣ / ٢٩٦.
1 / 180