أدق تعبير عن تلك المرحلة التي أعلن فيها انتصار النظرة الآلية إلى العالم انتصارا مطلقا بتطبيقها على ظاهرة الحياة، لا على الظواهر الطبيعية غير الحية فحسب؛ وذلك في نص مشهور يقول فيه: «هناك بديهية تجريبية ينبغي التسليم بها؛ هي أن شروط وجود أية ظاهرة يمكن تحديدها بطريقة قاطعة، وأن هذا يسري على مجال الكائنات الحية مثلما يسري على الأجسام الجامدة. على أن هناك أناسا ينادون بمذهب يطلقون عليه اسم النزعة الحيوية، وباسم هذا المذهب يقولون بأفكار شديدة البطلان في هذا الموضوع؛ إذ يعتقدون أن دراسة ظواهر المادة الحية لا يمكن أن تكون لها أدنى صلة بدراسة ظواهر المادة غير الحية. وهم يتصورون أن للحياة تأثيرا غامضا خارقا للطبيعة، يمارس فاعليته بطريقة عشوائية، متحررا من كل حتمية. أما أولئك الذين يبذلون جهودهم من أجل تفسير الظواهر الحيوية عن طريق عوامل كيميائية وفيزيائية محددة، فإنهم يصفونهم بأنهم ماديون ... وتلك كلها أفكار باطلة ...»
1
وظل هذا الاتجاه العلمي الآلي في صعود خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل لقد بلغ في تلك الفترة قمة نجاحه عندما تلاحقت النظرية والتطبيقات العملية التي غيرت وجه الحياة في العالم؛ كاختراع التليفون والتلغراف والتصوير الفوتوغرافي والسينما والسيارة والطائرة، وكانت نتيجة ذلك هي سيادة نوع من الإيمان المتطرف بالعلم، وصل إلى حد الاعتقاد بأن العلم الدقيق هو الشكل الوحيد الذي ينبغي للإنسان أن يعترف به من بين سائر أشكال المعرفة، وبأن الحقيقة في جميع مجالاتها - يستوي في ذلك أعماق الإنسان الباطنة وأطراف الكون الخارجية - لا تتكشف إلا عن طريق منهج تجريبي، وأن المعرفة العلمية الدقيقة بأسباب الظواهر هي وحدها القادرة على أن تأخذ بيد البشرية في الطريق الموصل إلى السعادة والكمال، وإذا لم تكن هذه النزعة العلمية المتطرفة قد تجاهلت أنواع المعرفة التي يقدمها إلينا الفن أو الشعر أو الأدب أو الاستبصار الأخلاقي، فإنها كانت تدعو إلى قيام هذه الأنواع كلها على أسس تجريبية، وبنائها على وقائع تخضع للملاحظة والتحقيق التجريبي.
على أنه في نفس الوقت الذي بلغ فيه هذا الاتجاه الآلي في العلم أوج النجاح في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت الصورة تتغير بسرعة، وظهرت عوامل متعددة أدت إلى تزعزع هذا الاعتقاد بأن المعرفة التجريبية - المرتكزة على وقائع يمكن ملاحظتها وحسابها بدقة كاملة - هي النمط النموذجي لكل أنواع المعرفة الأخرى، أو هي وحدها التي تصلح منهجا للبحث العلمي؛ فقد ظهرت في علم الفيزياء كشوف شككت العلماء في أن يكون عالم الجزئيات المادية الدقيقة - أعني عالم ما دون الذرة - خاضعا لمسار حتمي دقيق يمكن التنبؤ به مقدما، وتبين أن المادة تتبدد على شكل طاقة، وكان معنى ذلك التشكيك في مبدأ أساسي من مبادئ النظرية الآلية في العلم؛ وأعني به الاعتقاد بأنه لا شيء يتحول إلى العدم أو يظهر من العدم. ويمكن القول إن الصورة الجديدة للعالم - كما تتضح من خلال الكشوف العلمية الحاسمة في فترة الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين - أصبحت بعيدة كل البعد عن ذلك العالم الذي هو أشبه بآلة ضخمة تتحرك كل أجزائها وفقا لقوانين ميكانيكية بحيث يمكن التنبؤ بمسارها وتغيراتها بدقة كاملة، ومخالفة للاعتقاد القديم بأن أساس العالم مادة ملموسة تتخذ أشكالا متباينة من خلال حركتها. فالعالم - كما كشفت عنه الفيزياء الحديثة - هو عالم من القوى والطاقات التي تتبادل التأثير، وهو في أدق جزيئاته مجموعة من الشحنات التي يستحيل التنبؤ بمسارها مقدما.
هذه التطورات الحاسمة لم يكن معناها فقدان الثقة في العلم أو فتح الباب على مصراعيه أمام الاتجاهات المعادية له؛ فمثل هذه النتيجة - التي استخلصها البعض بالفعل في أول عهد النظريات الفيزيائية الجديدة - ليست صحيحة على الإطلاق، بل إن الصحيح هو أن العلم قد اكتسب من تطوراته هذه قوة دافعة أدت به إلى المزيد من التقدم، وكان اكتشاف التعقيد المتزايد لتركيب المادة ولقوانين الطبيعة - بوجه عام - حافزا للعلماء كيما يتوصلوا إلى كشوف تطبيقية أعقد من كل ما عرفته البشرية حتى ذلك الحين، وإذا كنا نفخر في عصرنا الحاضر باكتشاف الطاقة الذرية والحقول الإلكترونية وارتياد الفضاء، فمن المؤكد أن هذه الكشوف كان من المستحيل إنجازها في الوقت الذي كانت تسود فيه النظرة الآلية المباشرة إلى العالم، وهي لم تصبح ممكنة إلا منذ اللحظة التي اكتشفنا فيها التعقد المتزايد للطبيعة والتأثيرات المتبادلة لمكوناتها، فكان هذا الاكتشاف هو الأساس النظري الذي مهد لظهور مخترعات ونواتج علمية تماثل في تعقدها قوانين الطبيعة التي بنيت عليها. (2) الوضع الحالي للعلم
في القرن العشرين حدثت ثورة كمية وكيفية هائلة في المجال العلمي، بمعنى أن نطاق العلم قد اتسع إلى حد هائل، كما أن إنجازاته قد اكتسبت صفات جديدة وأصبحت أهميتها تفوق بكثير كل ما كان الحلم يحققه في أي عصر سابق، بل إن هذا التغير جعل العلم هو الحقيقة الأساسية في عالم اليوم، وهو المحور الذي تدور حوله كل المظاهر الأخرى لحياة البشر.
ولو نظرنا إلى الأمر من الزاوية الكمية الخالصة؛ لتبين لنا أن معدل نمو العلم قد تسارع بصورة مذهلة خلال القرن العشرين؛ إذ تقول الإحصاءات: إن كمية المعرفة البشرية تتضاعف - في وقتنا الحالي - خلال فترة تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة، وهو ما كان يستغرق في العصور الماضية مئات السنين، وسيظل هذا المعدل في ازدياد مستمر، بحيث إن الإنسان سيحتاج من أجل مضاعفة معرفته بالعلم عند نهاية هذا القرن إلى فترة لا تزيد عن خمس سنوات. وبطبيعة الحال فإن تعبير «مضاعفة كمية المعرفة البشرية» قد يبدو تعبيرا مضللا؛ لأن في المعرفة البشرية أمورا لا تقاس بالكم، فضلا عن أن بحثا واحدا قد يكون أعظم أهمية في تقرير مصير العلم من عشرات الأبحاث، ولكن من الممكن - مع ذلك - تحديد مستوى المعرفة في ميدان العلوم الطبيعية - بصورة مجملة - عن طريق عدد الأبحاث التي تجرى فيه.
كذلك فإن عدد العلماء يتزايد بمعدل مذهل؛ فأشد الإحصاءات تحفظا تقول: إن عدد العلماء الذين يعيشون الآن يساوي ثلاثة أرباع مجموع العلماء الذين عاشوا على هذه الأرض منذ بدء التاريخ البشري. وهناك إحصاءات تقول إن العددين متساويان. ولو افترضنا - تخيلا - أن الزيادة في عدد العلماء قد استمرت بنفس معدلها الحالي فسيكون معنى ذلك أن كل رجل وامرأة وطفل لا بد أن يصبح عالما في أواسط القرن المقبل. وكذلك يقدر هواة الإحصاءات أنه لو استمرت زيادة الإنتاج في البحوث العلمية بنفس معدلها الحالي، فإن وزن المجلات العلمية الموجودة في العالم سيصبح - بعد مائة سنة - أثقل من الكرة الأرضية ذاتها. ولو استمر الإنفاق على الأبحاث العلمية في الدول المتقدمة يتزايد بمعدله الحالي، فإن هذه الدول ستنفق - بعد فترة لا تزيد عن خمسين سنة - كل دخلها القومي على البحث العلمي والتكنولوجيا، دون أن يتبقى منه شيء للتعليم أو الصحة أو الغذاء أو الجيش.
هذه كلها بطبيعة الحال إحصاءات فرضية؛ لأن حياة البشرية ستصبح مستحيلة لو أصبح كل رجل وامرأة وطفل فيها عالما، ولم يعد هناك صناع أو زراع أو موظفون؛ ومن المستحيل أن تترك المطبوعات العلمية لتتراكم حتى تسد علينا منافذ الحياة، أو أن ننفق على البحث العلمي وحده ونترك سائر القطاعات الحيوية بغير إنفاق. فكل ما تدل عليه هذه الإحصاءات هو أن معدل النمو في العلم يتزايد في القرن العشرين بسرعة مخيفة، وأنه سيكون من المحتم وضع حد لهذه الزيادة، وتخفيف حدتها في المستقبل، حتى تصبح حياة الإنسان ممكنة، وإن كان هذا لا يعني بأي حال إيقاف تقدم العلم؛ لأن العدد الحالي من العلماء - حتى لو استمر دون زيادة - كاف لإحداث تغيرات هائلة في العلم، لا سيما وأن الظروف التي يعمل فيها العلماء والأدوات التي يستخدمونها سوف يرتفع مستواها وتتضاعف قدراتها على الدوام.
ومن جهة أخرى فهذه الإحصاءات تنطبق على البلاد المتقدمة وحدها، وهي وحدها كافية لكي يدرك القارئ إلى أي حد ستظل الهوة بيننا وبين العالم المتقدم تتسع باستمرار، إذا لم يتغير موقفنا من العلم ومن البحث العلمي تغييرا جذريا؛ ففي الوقت الذي أصبحت فيه البلاد المتقدمة تشعر بخوف حقيقي من جراء النمو السريع للبحث العلمي، وتفكر في وسائل إيقاف هذا التسارع المذهل، نعاني نحن من نوع عكسي من الخوف على مستقبلنا في عالم يقرر مصيره العلم الذي لا نبدي به اهتماما كبيرا، وأبسط ما يمكننا أن نلاحظه - في هذا الصدد - هو أن النجاح في العلم (كما هو في ميدان المال) يولد مزيدا من النجاح، وأن الاتساع المتزايد في قاعدة البحث العلمي وازدياد جذورها تعمقا يعطي الجيل القادم فرصا أعظم لمضاعفة الإنجازات العلمية، مما يؤدي في النهاية إلى تقدم يستحيل أن يتنبأ العقل بأبعاده. أما في حالة البلاد المتخلفة علميا فإن الفشل يؤدي إلى مزيد من الفشل؛ لأن العلماء الذين يشعرون بخيبة الأمل والإحباط، والذين يفتقرون إلى وسائل البحث الجاد وإمكاناته، ويمشون في جو لا يشجع عليه، سيتركون من ورائهم جيلا أكثر إحباطا وأقل مقدرة، وسيصبح هذا الجيل الأضعف هو المسئول يوما ما، وهلم جرا.
صفحة غير معروفة