وأعظم الأخطار التي يجلبها التعصب على العلم هو أنه يجعل الحقيقة ذاتية ومتعددة ومتناقضة، وهو ما يتعارض كلية وطبيعة الحقيقة العلمية، فكل متعصب يؤمن بحقيقته هو، ويؤكد - بلا مناقشة - خطأ الآخرين، ومنك حين تنتقل إلى هؤلاء الآخرين تجدهم يؤكدون هذا الشيء نفسه عن «حقيقتهم» الخاصة، ويؤكدون خطأ الأول. وهكذا تضيع الحقيقة - بالمعنى العقلي والعلمي - في هذا التشتت والتناقض، ولو كان العقل هو الحكم بين الناس لما تعددت «حقائقهم» أو تناقضت.
وعلى الرغم من وضوح هذه الفكرة فإن الإنسانية عاشت على ما تعتقد أنه «حقائق» ذاتية - تتعصب لها بلا تفكير - فترة أطول بكثير مما عاشت على حقائق موضوعية تتناقش فيها بالحجة والبرهان. بل إن عدد أولئك الذين يقتنعون بآراء ومواقف يتعصبون لها دون نقد أو اختيار - في عالمنا المعاصر - يفوق بكثير عدد أولئك الذين لا يقبلون الرأي إلا بعد اختياره بالعقل. ومن هنا فإن المعركة الطويلة من أجل مبدأ التسامح في الفكر والعقيدة مستمرة. وصحيح أنه يبدو - ظاهريا - أن التسامح قد تغلب على التعصب منذ أن أحرز العلم انتصاراته الكبرى في العصر الحديث، ولكن الحقيقة - للأسف - غير ذلك، فما زال التعصب كامنا في النفوس، حتى في تلك البيئات التي يبدو فيها أنه قد اقتلع من جذوره، وتكفي أية هزة قومية أو اجتماعية عنيفة لإيقاظه من سباته وتجديد قوته الطاغية، كما حدث أيام ألمانيا النازية في النصف الأول من هذا القرن، وكما يحدث بيننا في لبنان. وهذا وحده دليل على أن معركة العقل ضد التعصب لم تنته بعد، وعلى أن الإنسانية ما زالت في حاجة إلى «قرابين» كثيرة قبل استئصال آفة التعصب من النفوس.
على أن هذه معركة لا بد من خوضها؛ ذلك لأن التعصب هو - في واقع الأمر - عقبة متعددة الأطراف، تقضي قضاء تاما على كل إمكان للتفكير العلمي إذا ترك لها المجال لكي تنتشر وتسيطر. فبقدر ما يعد التعصب في ذاته شيئا بغيضا ذا ضرر فادح للعلم؛ نجد ضرره هذا لا يقتصر على ما تؤدي إليه روح التعصب وحدها، بل إنه يجمع في داخله كل العقبات التي تحدثنا عنها من قبل، والتي حالت - وما زالت تحول - دون انطلاق التفكير العلمي بلا قيود. فالتعصب ينطوي على خضوع تام لسلطة المبدأ الذي نتعصب له. وكل متعصب ينظر إلى طريقة تفكيره الخاص - أو على الأصح طريقة تفكير الجماعة التي ينتمي إليها - على أنها سلطة لا تقبل المناقشة، كما ينطوي التعصب على تفكير أسطوري؛ إذ إن الموضوع الذي نتحيز له - في حالة التعصب - يتحول إلى أسطورة، فيختفي طابعه الحقيقي ويحل محله طابع وهمي مختلق، فضلا عن أن المتعصب يتمسك برأسه بطريقة خلت من كل منطق. وهو بطبيعته يشجع التفكير اللاعقلي؛ لأنه هو الدعامة الوحيدة لموقفه. ومن هنا كان أساس النازية هو «أسطورة» الجنس الآري المتفوق، وكان أساس التفرقة العنصرية هو «أسطورة» الجنس الزنجي المنحط، إلى غير ذلك من الأساطير التي يستند إليها كل شكل من أشكال التعصب.
ومجمل القول: إن التعصب «عقبة مركبة» تعترض طريق التفكير العلمي، ومن هنا كانت المعركة التي ينبغي أن يشنها عليه هذا التفكير حاسمة؛ إذ إن العقل البشري لا يستطيع أن يجد حلا وسطا بين الاثنين، فإما العلم وإما التعصب، ولا بد من القضاء على أحدهما لكي يبقى الآخر. (5) الإعلام المضلل
الإعلام هو نقل المعلومات أو توصيلها، وهو يختلف عن التعليم في أن هذا الأخير يتخذ طابعا منتظما، ويتعلق بفئة هي في الغالب في مقتبل العمر، يعدها المجتمع لمواجهة الحياة ويلقنها قيمه المعنوية ومعارفه العلمية. أما الإعلام فليس له مثل هذا الطابع المنتظم، ولا يقتصر على فئة معينة من الناس، ولا يحتاج - في كثير من جوانبه - إلى استعداد للإفادة منه؛ فعلى حين أن الإعلام عن طريق الصحافة - وهو الشكل الوحيد للإعلام حتى القرن الماضي - كان يفترض معرفة بالقراءة، ومن ثم كان الجمهور الذي ينتفع به محدودا، فإن الإعلام عن طريق الوسائل المسموعة والمرئية (كالراديو والتليفزيون والسينما ) لا يحتاج من ناحية جمهوره إلى إعداد سابق؛ ومن ثم فمن الممكن أن يتأثر به أكبر عدد من الناس.
على أن هذا التمييز بين الإعلام والتعليم ظاهرة حديثة، بدأت عندما ظهرت وسائل للإعلام مستقلة عن نظم التعليم وأجهزتها، أما قبل ذلك فكان الحد الفاصل بين الإعلام والتعليم لا يكاد يكون ملحوظا؛ فلم تكن هناك وسائل للإعلام - غير التعليم المنظم - سوى التلقين الشفوي المباشر من شخص إلى آخر، كالحوار في الأسواق أو الخطابة في دور العبادة أو الساحات العامة، أو إلقاء الشعر على الجمهور بقصد التوجيه.
هذا النوع من الإعلام المباشر كان يؤدي - في العصور الغابرة - وظيفة مزدوجة؛ فمن الممكن - إذا ساده مبدأ الحوار - أن تنجم عنه نهضة عقلية عظيمة، وهو ما حدث بالفعل عند اليونانيين؛ حيث اقترن الإعلام عن طريق الحوار، وعن طريق الخطابة السياسية المقترنة هي الأخرى بالمناقشة والحوار بنظام ديمقراطي فريد من نوعه ساد حياة اليونانيين طوال فترة غير قصيرة من تاريخهم القديم. أما إذا ساده مبدأ التلقين من طرف واحد، والخضوع التام من الطرف الآخر، فإنه يؤدي إلى تقوية السلطة الفكرية عند القلة ذات الشأن من أهل العلم، ومن ثم يكون عائقا في وجه أية نهضة علمية حقيقية، وهذا ما حدث في العصور الوسطى، حين كانت وسيلة نقل المعرفة والمعلومات هي التلقين المباشر من رجال الدين لأتباعهم الذين لا يملكون إلا أن يسمعوا ويطيعوا، أو حين كان القادرون على إعلام الآخرين فئة ضئيلة يحج إليها طلاب المعرفة من كل أرجاء الأرض؛ لكي يتتلمذوا على أيديها، ويتشكلوا بطابعها وقالبها.
على أن ظهور الطباعة قد افتتح عهدا جديدا في نشر المعلومات، يمكن أن يوصف بأنه كان في اتجاهه العام أكثر «ديمقراطية» من أي عهد سابق؛ فعن طريق الطباعة أمكن المعرفة إلى أعداد أكبر بكثير وبنفقات أقل، وأتيحت للراغبين في العلم فرصة الاطلاع على كميات من الكتب تزيد بمراحل عما كان يتاح لطالب المعرفة في عصر المخطوطات. والأهم من ذلك كله أن المعلومات لم تعد مرتبطة بمركز معين يحتكر تقديمها ويفرض طابعه الخاص على من ينضمون إليه، بل إنها أصبحت متاحة للناس في بيوتهم وعلى نطاق واسع، وأصبح في الإمكان لأول مرة أن ينظر المرء إلى الكتاب على أنه حافز للتفكير المستقل، لا على أنه قيد على استقلال قارئه؛ إذ لم يعد الكتاب مرتبطا حتما بشخصية كاتبه، ولم يعد الناس مضطرين إلى تلقي التفسيرات من المؤلف نفسه، بل إن المعلومات المتضمنة أصبحت متوافرة بصورة موضوعية مستقلة عن الكاتب، بحيث يستطيع كل إنسان أن يتخذها منطلقا لتفكره الخاص. وهكذا كان عصر الطباعة يعني - من الناحية العملية - هدم مبدأ السلطة بوصفه أساسا للمعرفة، وبداية عهد جديد من الإعلام الواسع النطاق، المتحرر من قيود السلطة.
ولسنا في حاجة إلى سرد بقية القصة التي بدأت منذ عهد انتحار الطباعة حتى اليوم؛ فقد كان استخدام المطبعة في إخراج صحف تقدم إلى الناس - على أوسع نطاق - إعلاما أسهل فهما وأقرب إلى حياة الناس اليومية مما تقدمه الكتب، كانت تلك خطوة كبرى في طريق التقدم الإعلامي، وعندما ظهرت أولى وسائل الاتصال عن بعد - كالتلغراف ثم التليفون - ازداد الترابط الإعلامي بين الناس، واكتسب الإعلام مزيدا من الجماهيرية حين ارتبط بفن السينما، وبدأت تلوح في الأفق إمكانية جديدة، هي ربط العالم كله بشبكة من المعلومات التي تصل إلى أبعد أطرافه في أسرع وقت.
وقد تحققت هذه الإمكانية - إلى حد بعيد - بعد اختراع الإذاعة اللاسلكية والإذاعة المرئية، أي الراديو والتلفزيون، وسرعان ما أصبحت هذه الوسائل الجديدة أقوى وسائل الإعلام كلها، واكتسبت بالفعل طابعا عالميا متزايدا، يتمثل في وصول الإذاعات إلى أبعد أطراف الأرض، وإمكانيات البث التليفزيوني في مختلف أرجاء العالم عن طريق الأقمار الصناعية، وأصبح للتلفزيون - على وجه التحديد - دور إعلامي يفوق دور جميع الوسائط الأخرى؛ وذلك أولا لأن «الصورة» لغة عالمية تتخطى حواجز اللغات المحلية المستخدمة في الصحافة أو الإذاعة. وثانيا لأنه يدخل كل بيت، ولأن المتفرج يشاهده وهو في حالة استرخاء لا يبذل فيها مجهودا ذهنيا؛ ومن ثم يكون التأثير الإيحائي أيسر وأعمق.
صفحة غير معروفة