ومن الممكن القول: إن شعور الإنسان بالعجز كان يتخذ في العصور القديمة شكل العجز عن الفهم، والقصور في معرفة العالم المحيط به؛ ولذا كان يعلل الظواهر التي لا يفهمها تعليلات خرافية. أما في العصر الحديث - بعد أن توصل الإنسان إلى معرفة تتيح له إجابات علمية عن الأسئلة الأساسية التي كان يعجز من قبل عن فهمها - فإن المسألة لم تعد تتعلق بالعجز عن الفهم أو المعرفة، بل أصبح العجز يتمثل في عدم القدرة على التحكم الواعي في مسار المجتمع، وفي القوى التي تسيطر عليه؛ أي إنه أصبح عجزا اجتماعيا، وهذا ما يعلل استمرار ظهور الفكر الخرافي في مجتمعات لا يمكن القول إن الجهل مخيم عليها، أو إن الفقر يطمس عقول الناس فيها. ففي كثير من البلاد الأوروبية - وفي الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص - تنتشر مظاهر واضحة للتفكير الخرافي، تتمثل في «قراءة الطالع» التي تحدث أحيانا عن طريق أجهزة إلكترونية معقدة (وهو مظهر واضح لتعايش العلم والخرافة معا: الجهاز علمي متقدم، والهدف من استخدامه خرافي متخلف). كما تتمثل في وجود جماعات تمارس أنواعا من السحر (السحر الأسود) والطقوس الغريبة في قلب أغنى المجتمعات الصناعية. والتعليل المعقول لذلك هو أن الناس - برغم ما توافر لهم من معرفة وعلم وما يتمتعون به من مستوى عال للمعيشة - يعجزون عن فهم القوى التي تتحكم في مسار حياتهم، وينظرون إلى المستقبل نظرة قاتمة، ويتصورون أن العالم تشيع فيه قوى شريرة وحتمية كئيبة تفرض على الناس أن يعيشوا في توتر وخوف دائم من المصير المجهول، وهي قوى لا يمكن محاربتها إلا بقوى أخرى من نفس نوعها.
على أن الأمر الذي ينبغي أن نؤكده - في هذا الصدد - هو أن ظاهرة استمرار الفكر الخرافي بأشكال مختلفة - في المجتمعات الصناعية المتقدمة - لا تشكل مع ذلك خطرا داهما على المسار العام لهذه المجتمعات، بل إنها تظل على الدوام ظاهرة هامشية؛ فنوع الحياة التي تسود المجتمع الصناعي، حيث يحسب كل شيء وينظم بدقة وانضباط، وحيث لا يسمح أسلوب الإنتاج السائد بأن تظل هناك عناصر غير محسوبة أو غير متوقعة، وحيث تخضع الحياة اليومية ذاتها لنظام محدد لا مجال فيه للاستثناءات أو الانحرافات. أقول: إن نوع الحياة هذا يشكل ضمانا مؤكدا يعصم المجتمع - في مجموعه - من أضرار التفكير الخرافي مهما كانت درجة انتشاره على مستوى الأفراد أو الجماعات المنعزلة؛ ففي مثل هذه المجتمعات يظل المجرى العام بحياة خاضعا للعقلانية والترشيد والتخطيط المدروس، أما الميول الخرافية فتتخذ شكلا فرديا لا يؤثر على هذا المسار العام.
بل إن من الممكن القول - بمعنى معين - أن الحياة الصناعية المخططة الدقيقة هي ذاتها التي تفرض على مجتمعاتها - من آن لآخر - اللجوء إلى ألوان من التفكير الخرافي. فانتشار الخرافات في هذه البلاد هو في أساسه «رد فعل» على العلم المتغلغل في صميم كيان المجتمع، ومحاولة للتخلص من قبضة تلك العقلانية المحكمة التي تمسك بجميع جوانب حياة الناس، عن طريق بعث عناصر لا عقلية من مكمنها اللاشعوري. إنه تعبير عن تمرد الشعوب الخاضعة للعقل على هذا العقل نفسه، ورغبتها في الخروج عنه، وإن كان ذلك لا يتم إلا بصورة مؤقتة؛ لأنها في النهاية تعود إليه، ولا تستطيع أن تتخلص منه بعد أن أصبحت كل جوانب حياتها تنظم وفقا له. إنها قفزة مؤقتة إلى الماضي البعيد عبر الحاضر، وربما كانت هذه العودة تساعدهم على تحمل الضغط والتوتر الذي تجلبه لهم الحياة الصناعية بإيقاعها السريع ونظمها الحتمية الصارمة. وهكذا يكون التفكير الخرافي - في هذه الحالة - منبثقا من قلب التفكير العلمي والعقلي، ولا يفهم إلا في إطاره. بل إن العودة إلى الماضي السحيق هي في هذه الحالة نتاج للمجتمع الصناعي ذاته؛ إذ إنها تعبير عن الرغبة في «التغيير»، وعدم القدرة على الاستقرار طويلا على حالة واحدة. وهذه الرغبة في التغيير هي ذاتها جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة في المجتمعات الصناعية المتقدمة؛ فمن سمات هذه الحياة أنها تغير إيقاعها بسرعة، وتجدد نفسها باستمرار وترفض الجمود والاستقرار، بل إن الرغبة في التغيير تمتد عندها حتى إلى القيم الأخلاقية والاجتماعية ذاتها؛ ولذلك كان الابتعاد عن العقل والعلم - في ظاهرة الفكر الخرافي - يتم في حالة المجتمعات الصناعية المتقدمة في إطار عصر العقل والعلم واستجابة لمقتضياته. وهو وضع تبدو فيه مفارقة واضحة، ولكنه يعبر بالفعل عن وضع الفكر الخرافي في المجتمعات المعاصرة المتقدمة.
ولقد حرصنا على تأكيد هذه الحقيقة لكي نوضح - بصورة قاطعة - الاختلاف الأساسي بين وضع العالم الشرقي عموما والعربي بوجه خاص، ووضع العالم الصناعي المتقدم بالنسبة إلى موضوع التفكير الخرافي؛ ذلك لأن هناك كثيرين في بلادنا العربية يحاولون التخفيف من تأثير هذه الظاهرة - أعني ظاهرة انتشار التفكير الخرافي في بلادنا - عن طريق الإشارة إلى وجود ظواهر مماثلة في البلاد المتقدمة. ومثل هذه المحاولة للتهوين من شأن الفكر الخرافي والتخفيف من خطره على مجتمعاتنا يعيبها أنها تقف عند حدود السطح الخارجي للظواهر ولا تتغلغل في أعماقها؛ إذ يبدو ظاهريا أن الوضع متشابه في الحالتين (وإن كان مقدار انتشار الخرافات عندنا أعظم بمراحل منه في البلاد المتقدمة)، ولكن الحقيقة أن دلالة الظاهرة مختلفة في الحالتين تمام الاختلاف.
ففي حالة مجتمعاتنا يتخذ التفكير الخرافي شكل العداء الأصيل للعلم والعقل، ويمثل هذا العداء امتدادا واستمرارا لتاريخ طويل كان العلم يحارب فيه معركة شاقة لكي يثبت أقدامه في المجتمع، وإذا كان قد بدا خلال فترة قصيرة أن العلم تمكن من تأكيد ذاته في مجتمعنا العربي، فمن المؤكد أن ذلك لم يحدث على مستوى المجتمع كله، وأن العداء للعلم كان هو الغالب في بقية الفترات في تاريخنا. وهكذا فإن انتشار الخرافة يمثل - في حالتنا - تعبيرا عن جمود المجتمع وتوقفه عند أوضاع قديمة ومقاومته للتطور السريع المحيط به من كل جانب. والفرق واضح بين هذا الأسلوب في الفكر الخرافي وبين أسلوب تلك المجتمعات التي مرت بتجربة التفكير العقلي حتى أعلى مراتبها، والتي يحاول بعض أفرادها أن يرتدوا عن هذه التجربة «من موقع الاندماج فيها» لا من موقع الجهل بها أو الخوف منها أو العجز عن تحقيقها؛ أي إن الفرق واضح بين الفكر الخرافي حين يكون تعبيرا عن جمود متأصل وتحجر على أوضاع ظلت سائدة طوال ألوف السنين دون أن يرغب المجتمع في تغييرها أو يجرؤ عليه، وبين هذا الفكر ذاته حين يكون تعبيرا - محدود النطاق - عن رغبة في التغيير يشعر بها مجتمع لا يستطيع أن يظل أمدا طويلا على حالة واحدة، حتى لو كانت هذه الحالة هي التفكير العقلي الرشيد.
وتلك مسألة نجد لزاما علينا أن ننبه إليها؛ لأن بعض كتابنا - الواسعي الانتشار للأسف الشديد - يرددون نفس الحجج التي يقول بها أنصار التفكير اللاعلمي في الغرب؛ لكي يبرروا بها ابتعادنا - نحن الشرقيين - عن التفكير العلمي وعدم ثقتنا في قدرات العقل، وهذا خطأ كبير ومغالطة أكبر؛ إذ إن دوافعنا في الابتعاد عن التفكير العلمي تختلف كل الاختلاف عن دوافع مجتمع مارس هذا التفكير قرونا عديدة، في الوقت الذي لا نزال فيه نحن نكافح من أجل الدخول لأول مرة في عصر العلم الحديث.
على أننا ينبغي أن نعترف بأن أنصار الخرافة - سواء في بلادنا أم في خارجها - لا يقتصرون على تأكيد هذا النوع «المضاد للعلم» من الخرافات؛ فهناك نوع آخر يدعي الانتساب إلى العلم، ويستند على شواهد يزعم أنها علمية، ويتظاهر أنصاره بأنهم يتبعون مناهج علمية في التحقق منه، ومن هذا القبيل الاعتقاد بوجود قوى خارقة لدى بعض البشر، كالاستشفاف عن بعد
telepathy ، أو الأشكال المختلفة لما يسمى بالحاسة السادسة أو غيرها. وربما وصل الحماس بالبعض إلى حد تأكيد قدرة «العلم» على إثبات «تحضير الأرواح»، وهو للأسف أمر ليس بعيدا عن المألوف بين بعض المشتغلين بالعلم، وكأنهم أصبحوا واثقين من أن الروح «شيء»، وأن هذا الشيء يمكن «تحضيره»؛ أي يمكنه أن يذهب ويجيء، وأن هذا الشيء الذي يذهب ويجيء يستطيع أن «يتكلم»، أو يؤثر في أشياء «مادية» كتحريك أكواب أو إسقاط منضدة. وهذا كله يستحيل لو لم تكن الروح بدورها شيئا «ماديا»، مع أن هذا يتناقض أساسا مع تعريف الروح.
والمهم في الأمر أن هؤلاء الذين يتمسحون بالعلم لتأكيد هذه الخرافات يلجئون إلى أساليب لا تتوافر فيها شروط التجربة العلمية على الإطلاق؛ فالملاحظات التي يعتمدون عليها قليلة غير قابلة للتكرار، مع أن من أهم شروط التجربة في العلم أن يكون من الممكن تكرارها أمام أي عدد من المشاهدين وفي مختلف الظروف، وسواء أكان هؤلاء المشاهدون من المقتنعين أم من غير المقتنعين. ومن المعروف أن شهود هذا النوع من التجارب هم في الأغلب من النوع الذي يتوافر لديه مقدما استعداد لتصديق نتائجها. هذا فضلا عن أن التجارب تتم دائما في جو لا يسمح بالرؤية الواضحة؛ إذ إن الضوء دائما خافت، ولونه أحمر (وهو أكثر الألوان تعتيما للبصر)، والجو العام يجعل الإيحاء بأي شيء ممكنا.
أما إذا ووجه أنصار هذه الخرافات ذات المظهر «العلمي» بحجج قوية تثبت ابتعاد الأساليب التي يلجئون إليها عن أصول المنهج العلمي الصحيح؛ فإنهم يلجئون إلى سهم آخر في جعبتهم، وهو أن منهج العلم الحالي محدود، وأن العلم أصبح الآن يتقبل أشياء كثيرة كان يرفضها من قبل، وأنه - بالتالي - يمكن أن يعترف بهذه الظواهر الخارقة للطبيعة في المستقبل، ومثل هذه الطريقة في التفكير تفتح الباب - كما هو واضح - لكل الخزعبلات المخرفة؛ إذ يستطيع أي دجال أن يؤكد أن العلم إذا لم يكن يقبلها الآن فسوف يقبلها في المستقبل. وواقع الأمر أننا لا نملك إلا هذا المنهج الذي أثبت أنه أفضل ما لدينا من أدوات المعرفة، وأنه مهما كان قاصرا عن بلوغ كثير من الحقائق، فإنه هو أضمن الوسائل لبلوغ «الحقيقة» ذاتها. وإلى أن يتوصل العلم ذاته إلى مناهج وأساليب أخرى أدق، فليس من حق أحد أن يتذرع بالتغيرات التي يمكن أن تطرأ عليه في المستقبل؛ لكي يفرض علينا خرافاته ويربطها زورا بعجلة التقدم العلمي.
صفحة غير معروفة