ولكن التجارب أثبتت أن المرء قد يتبع أدق القواعد المنهجية دون أن يصبح لهذا السبب عالما؛ ذلك لأن العلم يحتاج إلى أمور منها التحصيل وحدة الذكاء - وهو استعداد طبيعي - وتلك الموهبة التي تجعل العالم أشبه بالفنان، بل تجعله قادرا على تجاوز القواعد المنهجية المتعارف عليها في ميدانه ووضع قواعده الخاصة به إذا اقتضى الأمر ذلك، ومع ذلك فقد كان لديكارت كل العذر في إلحاحه على أهمية معرفة القواعد المنهجية في البحث العلمي، وفي تأكيده أن أية مشكلة لن تستعصي على العقل الذي يهتدي بهذه القواعد؛ إذ إنه ظهر في مطلع العصر الحديث، وفي الوقت الذي كان لا بد فيه للمفكر من أن يقدم للباحثين صورة للعمل العلمي تعطي الجميع أملا في بلوغ الحقيقة، ولا شك أن تأكيد القواعد المنهجية، ورفض الرأي القائل بأن الاستعدادات والقدرات العقلية تختلف من شخص لآخر، يفسح أمام الجميع مجال البحث، ويقضي على أرستقراطية الفكر التي كانت سائدة في العصور الوسطى؛ لتحل محلها ديمقراطية فكرية كانت ضرورية في المرحلة التاريخية التي ظهر فيها ديكارت.
وإذا كنا حتى الآن قد اقتصرنا على الكلام عن المنهج العلمي بوصفه المظهر الرئيسي لسمة التنظيم في العلم، فمن الواجب أن نشير - قبل أن ننتقل إلى سمة أخرى - إلى مظهر آخر للتنظيم العلمي، هو الترابط الذي تتصف به القضايا العلمية؛ فالعلم لا يكتفي بحقائق مفككة، وإنما يحرص على أن يكون من قضاياه نسقا محكما، يؤدي فهم كل قضية فيه إلى فهم الأخريات، وكل حقيقة علمية جديدة لا تضاف إلى الحقائق الموجودة إضافة خارجية، بل تدمج فيها بحيث تكون معها كلا موحدا، وربما اقتضت عملية الإدماج هذه التخلي عن بعض العناصر القديمة التي تتنافر مع الحقيقة الجديدة، أما إذا ظهرت حقيقة جديدة ولم نعرف كيف ندمجها في نسق الحقائق الموجودة بالفعل، فإن ذلك يقتضي إعادة النظر في النسق بأكمله من أجل تكوين نسق جديد قادر على استيعاب الحقيقة الجديدة، وهذا بالفعل ما حدث عندما أعاد أينشتين النظر في نسق الفيزياء الذي كونه نيوتن، والذي ظل يعد حقيقة نهائية طوال مائتي عام، نتيجة لتجارب «ميكلسون ومورلي» في الضوء، وهي التجارب التي لم يكن من الممكن إدماجها في النسق القديم. وقد أسفرت إعادة النظر هذه عن تكوين نسق جديد أرحب، يستوعب النسق القديم في داخله بوصفه حالة من حالاته، ويتجاوزه بحيث يقدم تفسيرا أوسع منه بكثير، وهذا النسق الجديد هو نظرية النسبية.
وهكذا يمكن القول إن صفة التنظيم تحتل مكانها عند نقطة بداية البحث العلمي؛ حيث تتمثل في اتباع العالم لمنهج منظم، وكذلك عند نقطة نهاية هذا البحث، عندما يكون العالم من النتائج التي يتوصل إليها نسقا مترابطا يستبعد أي نوع من التنافر في داخله. (3) البحث عن الأسباب
لا يكون النشاط العقلي للإنسان علما - بالمعنى الصحيح - إلا إذا استهدف فهم الظواهر وتعليلها، ولا تكون الظاهرة مفهومة - بالمعنى العلمي لهذه الكلمة - إلا إذا توصلنا إلى معرفة أسبابها، وهذا البحث عن الأسباب له هدفان: (أ)
الهدف الأول هو إرضاء الميل النظري لدى الإنسان، أو ذلك النزوع الذي يدفعه إلى البحث عن تعليل لكل شيء، ولنلاحظ أن هذا الميل - الذي نصفه بأنه نظري - لا يوجد في جميع الحالات بدرجة متساوية؛ فهناك حضارات بأكملها كانت تعتمد على الخبرة والتجربة المتوارثة، وتكتفي بالبحث عن الفائدة العملية أو التصرف الناجح، دون سعي إلى إرضاء حب الاستطلاع الهادف إلى معرفة أسباب الظواهر. وهكذا كانت هذه الحضارات تشيد مباني ضخمة، أو تقوم في تجارتها بحسابات دقيقة، دون أن تحاول معرفة «النظريات» الكامنة من وراء عملية البناء أو الحساب، وحسبها أنها حققت الهدف العلمي المطلوب فحسب، بل إن في وسعنا أن نرى من حولنا أشخاصا لا يهتمون إلا «ببلوغ النتيجة»، ولا يكترثون بأن يسألوا: «لماذا» كانت النتيجة على هذا النحو، وربما رأوا في هذا السؤال حذلقة لا تستحق إضاعة الوقت، ما دامت الإجابة عنه لن تقدم ولن تؤخر في بلوغ النتيجة المطلوبة. (ب)
ولكن هذا الاعتقاد بأن معرفة الأسباب ليس لها تأثير عملي هو اعتقاد واهم؛ ذلك لأن معرفة أسباب الظواهر هي التي تمكننا من أن نتحكم فيها على نحو أفضل، ونصل إلى نتائج عملية أنجح بكثير من تلك التي نصل إليها بالخبرة والممارسة؛ فمن الدراسة الدقيقة لطبيعة الموجات الصوتية وكيفية انتقالها أمكن ظهور سلسلة طويلة من المخترعات كالتليفون ولاقط الأسطوانات («البيك أب»، أو ما كان يسمى في تعريب قديم باسم «الحاكي») والراديو ومسجل الشرائط ... إلخ. وكلها وسائل لنقل الصوت أدت وظائف عملية رائعة، وكان من المستحيل بلوغها لولا الدراسة المعتمدة على معرفة أسباب الظواهر. ومعرفة أسباب الأمراض يمكن من معالجتها، كما أن المعرفة النظرية للعناصر الفعالة في مدة معينة يمكن من استخراج هذه العناصر بطريقة صناعية وإنقاذ ملايين الأرواح (كالأنسولين المستخدم في علاج مرض السكر مثلا). وهكذا تؤدي المعرفة السببية ليس فقط إلى إرضاء نزوعنا النظري إلى فهم حقائق الأشياء، بل إلى مزيد من النجاح في الميدان العملي ذاته، وتتيح لنا تحوير الظواهر وتغيير طبيعتها على النحو الذي يضمن تسخيرها لخدمة أهدافنا العملية.
من أجل هذين العاملين كانت المعرفة العلمية الحقيقية مرتبطة بالبحث عن أسباب الظواهر، وإذا كان كثير من المؤرخين يتخذون من آراء الفلاسفة اليونانيين القدماء نقطة بداية للعلم، فما ذلك إلا لأن هؤلاء الفلاسفة قد تفوقوا على غيرهم في التساؤل، وفي البحث عن الأسباب، صحيح أنهم لم يجدوا إجابات إلا عن قليل من الأسئلة التي طرحوها، وأن كثيرا من إجاباتهم كانت ساذجة أو قاصرة، ولكن المهم أن يطرح السؤال، وهذا الطرح هو في ذاته الخطوة الأولى في طريق العلم. بل إن هذا التساؤل عن الأسباب هو أول مراحل المعرفة في حياة الفرد نفسه؛ ففي السنوات الأولى من عمر الطفل تحكم تصرفاته الدوافع الطبيعية والاستجابات المباشرة، ويسودها مبدأ الفعل ورد الفعل، ولكن في مرحلة معينة - تحدد بحوالي سن السابعة وربما قبل ذلك - يبدأ الطفل في السؤال عن أسباب كل ما يراه حوله، وتصبح كلمة «لماذا» أكثر الكلمات ترددا على لسانه، وربما أضجر المحيطين به بتكرارها، وباستخدامها في السؤال عن أسباب ظواهر لا تحتاج إلى تعليل (كأن يسألك: «لماذا» عندما تقول له إنك شبعت). وفي هذه المرحلة بالذات تبدأ حصيلة المعرفة تتراكم في ذهن الطفل، ويكون ترديد هذا السؤال إيذانا بدخوله مرحلة استخدام التفكير العقلي، وإذن فالعلم مرتبط ارتباطا وثيقا بالبحث عن أسباب الظواهر، ومع ذلك فإن طبيعة هذا البحث عن الأسباب، ومعنى كلمة «السبب» ذاتها، لم تكن واضحة كل الوضوح في أذهان الناس، على الرغم من أنهم لا يكفون عن استخدامها في تفكيرهم العلمي، وربما في تفكيرهم اليومي أيضا.
فعند اليونانيين ظهر مفهوم معقد لفكرة «السبب» و«السببية»، على الرغم من اهتمامهم الشديد بهذا الموضوع وريادتهم له، وقد لخص فيلسوفهم الكبير «أرسطو» آراء اليونانيين السابقين عليه بالإضافة إلى آرائه الخاصة حول الموضوع، فذكر أن هناك أنواعا أربعة من الأسباب: (أ)
السبب المادي؛ كأن نقول عن الخشب الذي يصنع منه السرير إنه سبب له. (ب)
السبب الصوري؛ أي إن الهيئة أو الشكل الذي يتخذه السرير والذي يعطيه إياه صانعه هو أيضا سبب له. (ج)
صفحة غير معروفة