التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر

محمود محمد علي ت. 1450 هجري
91

التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر

تصانيف

60

فيقول: «طبقا لأطروحة دوهيم-كواين، يمكن لأي نظرية (سواء كانت مكونة من افتراض واحد أو عدد محدود من الروابط لكثير منها) أن تنقذ بصفة دائمة من التفنيد، إذا أعطيت بعض الخيال، بواسطة تعديل مناسب في خلفية المعلومات المرتبطة بها. وكما ذكرها كواين «يمكن أن يعتقد أن أي قضية حقيقية مهما كانت النتيجة» إذا ما أحدثنا تعديلات قوية كافية في مكان آخر من النظام ... وبالعكس، لا يوجد أن النظام ليس شيئا أقل من «كل العلم». يمكن ملاءمة أي تجربة متمردة بأي إعادات للتقييم البديلة المتنوعة في أجزاء مختارة متنوعة من النظام الكلي (بما في ذلك إمكانية إعادة تقييم التجربة المتمردة نفسها). هذه الأطروحة لها تفسيران مختلفان جدا. في تفسيرها الضعيف تؤكد فقط استحالة ضربة معملية مباشرة على هدف نظري محدد بدقة، والإمكانية المنطقية لتشكيل العلم بطرق مختلفة كثيرة ليس لها حدود، والتفسير الضعيف يضرب فقط التكذيب الدجماطيقي وليس المنهجي وهو الذي ينكر إمكانية دحض أي إمكانية، دحض أي مكون منفصل للنظام النظري. وفي تفسيرها القوي تبعد أطروحة دوهيم-كواين أي قاعدة للاختيار العقلاني بين البدائل، هذه الصيغة لا تتلاءم مع كل أشكال التكذيب المنهجي. والتفسيران لا ينفصلان بوضوح عن بعضهما على الرغم من أن الاختلاف حيوي منهاجي. ويبدو أن دوهيم كان مقتنعا بالتفسير الضعيف؛ فبالنسبة إليه، فإن الاختيار هو مسألة «بصيرة» يجب دائما أن نختار الصحيح لكي نقترب من التصنيف الطبيعي.»

61

ولكي نفهم فكرة لاكاتوش عن برامج البحث، فمن الملائم أن نناقش الكيفية التي تعدل من خلالها النظريات المكذبة، سواء أكانت هذه النظريات يجب استبعادها تماما أم يتم تغييرها سطحيا فقط؛ حيث نجد أن دوهيم وكون يؤكدان، أن النظرية المكذبة أحيانا لا تستبعد تماما، ولكي نفسر ذلك، افترض لاكاتوش أن برنامج البحث يتوقف على جزأين؛ النواة الصلبة للفروض الرئيسية، والحزام الواقي للفروض المساعدة.

62

والنواة الصلبة هي التي تتيح لبرنامج بحث خصائصه المميزة أفضل، وتتكون هذه النواة من بعض الفرضيات العامة جدا، والتي تشكل القاعدة التي ينبغي للبرنامج أن ينمو ويتطور انطلاقا منها. هذه بعض الأمثلة على ذلك. تشكل النواة الصلبة في علم الفلك لدى كوبرنيق من فرضيتين، وهما: أن الأرض تدور حول الأمثلة على ذلك. تشكل النواة الصلبة من قوانين الحركة ومن الجاذبية الكونية كما تصورها نيوتن. والنواة الصلبة في المادية التاريخية لدى ماركس هي فرضية أن التغير الاجتماعي يجد تفسيره في صراع الطبقات، وهذه الطبقات تتحدد طبيعتها وتفاصيل الصراع بينها، في نهاية التحليل، بالبنية التحتية الاقتصادية. وفيما يتعلق ب «الحزام الواقي» فإن أي عدم تطابق بين برنامج من برامج البحث، وبين معطيات الملاحظة، ينبغي أن ينسب، لا إلى الفرضيات التي تشكل نواته الأصلية، بل إلى أي جزء آخر من أجزاء البنية النظرية. وإن تشابك الفرضيات الذي يشكل هذا الجزء الآخر من البنية لهو ما يسميه لاكاتوش «الحزام الواقي». وهو لا يقوم فقط في فرضيات مساعدة صريحة تكمل النواة الصلبة، بل يقوم أيضا في الفرضيات الضمنية أو المتضمنة في وصف الشروط الابتدائية، وفي منطوقات الملاحظة. ولقد لاحظ لاكاتوش أن الفرضيات أو النظريات التي تؤلف برنامج بحث ليست جميعا متساوية المكانة إذ تعامل بعضها على أنها مقدسة إلى أبعد حد، أو بلغة بوانكاريه أنها «مصطلح» عليها. وتقبل الأخريات لكونها عرضة للتعديل والتغيير، وعندما تعدل تصبح محكمة نتيجة لتطورات برنامج البحث. ويطلق على الأولى اسم «النواة الصلبة» وقد تحدثنا عنها من قبل، وعلى الثانية اسم «الحزام الواقي».

63

والحزام الواقي يتألف من محتوى البرنامج بحيث يختلف عن النواة الصلبة والمبادئ الموجهة. يطلق لاكاتوش على هذه المعلومات أو هذا المحتوى الفروض المساعدة التي تبدو - على عكس النواة الصلبة - مادة للتغيير. ومع ذلك يتضمن الحزام الواقي أيضا معلومات تمثل بدورها الشروط الأولية، الشروط التي تحددها سلسلة بارمترية (ثوابت تعسفية تتخذ قيما متباينة وفقا لاختلاف المتغيرات في الحالة موضع التساؤل) بالنسبة لأي نظرية علمية؛ ففي الميكانيكا النيوتونية مثلا، نرى أن الوقت المطلوب لأي جسم لأن يسقط من مسافة يمكن التنبؤ به، وذلك إذا تحددت الشروط الأولية المناسبة، وهي سرعة الجسم والتسارع وقرب الجسم والجاذبية ... إلخ. والواقع أن لاكاتوش قد أطلق على الحزام بأنه الواقي نظرا لأنه يقي النواة الصلبة من التدمير المحتمل للفروض الملاحظة (ولفظ الفرض الملاحظ هنا يستخدم ليقدم معنى مختلفا عما يطلق عليه النتيجة التجريبية أو الملاحظة)؛ فالاستخدام الواضح هنا للفظ فرض يشير إلى نظرية محملة. هذا يعني أن لاكاتوش دائما يلحق النواة الصلبة بالفروض المساعدة أو الحزام الواقي الذي يواجه التعديلات والتصويبات، وقد يتغير ويستبدل به آخر ليحمي النواة الصلبة.

64

مثال يوضح النواة الصلبة والحزام الواقي والفروض المساعدة: برنامج البحث للميكانيكا النيوتونية: هنا تكون النواة الصلبة قوانين نيوتن والجاذبية العامة، ولكي تطبق على ذلك النظام الشمسي فنحن في حاجة إلى معطيات أو عمل فروض متباينة على سبيل المثال، الكتل والشمس والكواكب ومواضعها، كما أننا في حاجة إلى عمل تقديرات رقمية وذلك لتسهيل عملية الحساب؛ فمثل هذه الفروض يمكن أن نطلق عليها الحزام الواقي كما أن هذه الفروض وهذه التقديرات الحسابية من الممكن أن تكون متوافقة أو معدلة وذلك لتلائم الحركات الملاحظة للكواكب؛ لذا يمكن القول، مثلا، إذا قمنا بحساب الحركات المتنبأة متجاهلين تجاذب الكواكب الواحد بالنسبة للآخر في وجود تأثير الشمس، فإننا سوف نلاحظ عدم توافق بين التنبؤات والحركات الفعلية. وقد تحقق هذا في الحركة الشاذة لكوكب أورانوس. وقد تم تفسيرها بوجود كوكب آخر غير ملاحظ مؤثر في مدار أورانوس. وقد كان افتراض هذا الفرض قابلا للاختبار؛ حيث تم حساب مدار الكوكب غير الملاحظ، وفي ضوء ذلك اكتشف نبتون.

صفحة غير معروفة