ويطول بنا السرد لو تتبعنا هؤلاء المستشرقين على اختلاف اختصاصاتهم وتعدد جنسياتهم. ونكتفي بما قرره أحد أساتذتنا المعاصرين: «بأن الربع الأول من القرن العشرين شهد حركة استشراق نشيطة كل النشاط، وكان للدراسات العقلية والعلمية فيها نصيب ملحوظ».
10
بيد أن حركة الاستشراق هذه بتياراتها المتلاحقة، قد أفرزت أحكاما تجنت فيها على العرب والمسلمين تجنيا موغلا، وأثمرت تعصبا ليس له مدى، من حيث شاء بعض المستشرقين أن يبخسوا العرب والمسلمين حقهم في السبق والتقدم والابتكار في شتى مجالات العلم العربي، مع أنهم - أي المستشرقين - كانوا أول الناس وأحراهم بالاعتراف بهذا الفضل، وذلك بما صار لهم من صلة وثيقة بهذا التراث فهما وتمثلا واستيعابا في إطار دراساتهم العلمية التحليلية المقارنة.
لكن قليل القليل من رجال الاستشراق كانوا أمناء مع أنفسهم ومع الحقيقة والتاريخ، فقالوا بما أملته عليهم ضمائرهم الحية وروحهم العلمية الموضوعية؛ ومن ثم قرروا لعلماء العرب ما هم جديرون به ويستحقونه من فضل وعرفان.
إننا هنا نود أن نشير إلى موقف المستشرقين من ظاهرة ما يسمى ب «العلم العربي»، وفي هذا نقول: لقد انقسم المستشرقون بإزاء هذه الظاهرة إلى فريقين رئيسين: (أ) أما الفريق الأول
فقد رأى أن ما يسمى بالعلم العربي ما هو إلا مجرد نقل واقتباس عن اليونان والهند وغيرهما من الأمم، فإذا ما عثر على أمر طريف في هذا العلم، فلا بد أن يكون له في العلوم القديمة أصل.
وأصحاب هذا الرأي يمثله كثير من المستشرقين من أمثال: «رينان»، «سيرسل ألقود»، «دي بور»، وغيرهم.
فنجد المستشرق الفرنسي «رينان» يقول: «كثيرا ما يردد القول عن العلم العربي والفلسفة العربية، وفعلا أن العرب كانوا أساتذتنا فيهما طيلة قرن أو قرنين من العصر الوسيط، ولكننا ما لجأنا إلى ذلك، إلا ريثما نحصل على الأصل اليوناني، فهذا العلم العربي، وهذه الفلسفة العربية لم يكونا إلا نقلا حقيرا للعلم والفلسفة اليونانية. ومتى تركزت اليونانية الحقة أصبحت هذه النقول الداهشة عديمة الجدوى، ولأمر ما شن عليها علماء اللغة في عصر النهضة حربا صليبية شعواء ... هذا إلى أننا إذا تمعنا في كل هذه الآثار، نجد أن العلم العربي لا شيء فيه، وأن صفحة من روجر بيكون لتحوي من التفكير العلمي الحق أضعاف ما في هذا العلم غير الأصيل بأكمله، فهو دون شك حلقة محترمة من حلقات التراث، إلا أنه لا يشتمل على شيء وافر من الطرافة».
11
وفي نفس هذا الاتجاه يسير المستشرق الألماني «دي بور»، حيث يقول: «أخذ العرب عناصر فلسفتهم الطبيعية من مؤلفات إقليدس وبطليموس وأبقراط وجالينوس، ومن بعض كتب أرسطو؛ أخذوها إلى جانب هذا من كتب كثيرة ترجع إلى المذهبين الفيثاغوري الجديد والأفلاطوني الجديد ...» وينتهي «دي بور» إلى أن «العلم العربي» غير أصيل في حد ذاته.
صفحة غير معروفة