إذا كان دوهيم قد أنكر التجربة الحاسمة واعتبرها مستحيلة في علم الفيزياء، فذلك لأنه يريد أن يستبدل بدلا منها نوعا جديدا من التجربة العلمية المرنة التي تواكب التقدم العلمي المعاصر، الذي ينفي كل تأييد وتفنيد للقانون والنظرية العلمية. (8)
إن النقد الذي وجهه بوبر لدوهيم والذي يقول فيه إن التجارب الحاسمة لا يمكن بحال أن تؤسس النظرية؛ ومن ثم فقد أخفق دوهيم في توضيح أنها لا يمكن أن ترفض النظرية إن لم يكن نقدا قويا؛ وذلك لأن الحجة الأساسية التي يستند إليها «دوهيم» تقوم على أن التجربة الحاسمة لم توضع لتحقيق فرض نظري واحد، بل لاختبار مجموعة من الفروض، هذا من جهة. كما أن «دوهيم» كان معنيا في المقام الأول بتوضيح أنه لا يمكن أن نبطل فرضا نظريا واحدا عن طريق الملاحظات، هذا من الجهة الثانية. وأخيرا فإن «دوهيم» اهتم في الجزء الثاني من كتابه هدف وبنية النظرية الفيزيائية ببيان أنه يمكن عن طريق التجربة إبطال الفروض النظرية؛ ومن ثم فإن حديث «دوهيم» عن التجارب الحاسمة يعني أنه بالإمكان رفض النظرية والفروض النظرية كلها عن طريق التجربة. (9)
إن لاكاتوش نجح في أن يقنع المجتمع العلمي بأنه لا يوجد في حاضر أو ماضي المعرفة العلمية، تجربة معيارية، تخضع لقواعد الميثودولوجيا، ويمكن لها أن تفصل بين نظريتين متنافستين. ودليله على ذلك عدم وجود تلك التجارب فعلا في ماضي العلم؛ أي إن بعض التجارب العلمية في ماضي العلم، والتي يزعم بعض فلاسفة العلم أنها شكلت تجارب فاصلة، لم تكن تجارب فاصلة على الإطلاق في حينها، بل هي كذلك فقط عن طريق استردادها بمناهج الميثودولوجيا، على أرضية حاضر المعرفة العلمية. وينتج عن هذا الرأي إنكار وجود معيار فوري في الماضي أو المستقبل قادر على تقديم معايير لرفض أو قبول النظريات العلمية في الحال، ولكن النتيجة الأكثر أهمية هي عدم شرعية الجانب الإرشادي في الميثودولوجيا على الرغم من استبقاء الجانب القيمي لها. (10)
إن لاكاتوش حين ميز المعرفة العلمية وفقا لكشفيات برامج الأبحاث العلمية، أكد على أنه في داخل برنامج البحث ليس هناك صوت واحد هو صوت التكذيب أو التحقيق (الجدليين) هما أحد تلك الأصوات، ولكن حين يتم تقديم صوت واحد على بقية الأصوات، فهذا يكون بواسطة عملية انتقائية من قبل التجريبيين المناطقة والتكذيبيين، يقومون بها بعد انتهاء الأحداث، وليس العكس. (11)
إذا كان لاكاتوش قد أنكر وجود التجارب الحاسمة، فقد أنكرها كحقيقة فعلية في مسيرة تقدم المعرفة العلمية، وكذلك حين قبلها، فهو يقبلها فقط كحقيقة استردادية زائفة - مثلها مثل الوقائع الاستردادية للأساطير - تطرحها المنهجيات الاستقرائية والتكذيبية بطريقة أيديولوجية، من خلال تدعيم منطقهما التبريري والكشفي.
المراجع (أ) قائمة المصادر والمراجع العربية (1)
أسامة عرابي: كارل بوبر مدخل إلى العقلانية النقدية، بيروت، 1994م. (2)
إمري لاكاتوش: برامج الأبحاث العلمية، ترجمة الدكتور ماهر عبد القادر، الجزء السادس من فلسفة العلوم، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1997م. (3)
بدوي عبد الفتاح: الاصطلاحية وسأم العقل، بحث منشور ضمن الكتاب التذكاري للمرحوم الدكتور توفيق الطويل، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1995م. (4)
جورج جاموف: قصة الفيزياء، ترجمة وتقديم د. محمد جمال الدين الفندي، دار المعارف، القاهرة، 1964م. (5)
صفحة غير معروفة