ويرى بوبر أن النظرية التي تجتاز هذه الاختبارات القاسية يمكن القول بأنه تم تعزيزها. لكن التعزيز لا يثبت صدق النظرية، بل يعني فحسب قبولها بصورة مؤقتة ثم القيام بمحاولات أخرى لنقدها وتكذيبها. وعلى هذا لا يوجد شيء يقيني في العلم؛ إذ إن كل النظريات تقبل المراجعة المستمرة. لكن الفكرة الأساسية التي تكمن وراء التعزيز هي أن النظرية الجديدة لا بد أن تتجاوز نطاق النظريات القديمة وتتنبأ بوقائع جديدة، أو أن الاكتشافات الجديدة تؤيد النظرية الجديدة في حين تكذب وتفند النظرية القديمة؛ ولذا يستشهد بوبر ببعض الاكتشافات، مثل اكتشاف كوكب نبتون
Neptune
أو الموجات الكهرومغناطيسية
Electromagnetic ، ثم يقول: كل هذه الاكتشافات تمثل تعزيزات أدت إليها الاختبارات القاسية؛ أي تنبؤات كانت غير محتملة في ضوء معرفتنا السابقة؛ أي تلك المعرفة السابقة على النظرية التي تم اختبارها وتعزيزها.
38
ويطور بوبر تلك الفكرة من خلال فكرة التجارب الحاسمة التي نستخدمها عندما نقارن بين نظريتين علميتين متنافستين؛ فهو يلاحظ أن بعض النظريات العلمية لم يتم تفنيدها قبل ابتكار النظرية الجديدة؛ فلم يتم تفنيد نظرية كبلر أو جاليليو قبل ظهور نظرية نيوتن، ولم يتم تفنيد نظرية بطليموس قبل ظهور نظرية كوبرنيقوس؛ وبناء على هذا يقول بوبر: «في حالات مماثلة لهذه تصبح التجارب الحاسمة مهمة على نحو قاطع أو فاصل؛ فليس ثمة ما يدعونا لاعتبار النظرية الجديدة أفضل من النظرية القديمة ... حتى نشتق من النظرية الجديدة تنبؤات جديدة لم يكن من الممكن الوصول إليها عن طريق النظرية القديمة ... وهذا النجاح وحده هو الذي يبين أن النظرية الجديدة لها لزوميات صادقة؛ أي محتوى صادق، في حين أن النظريات القديمة لها لزوميات كاذبة؛ أي محتوى كاذب.»
39
ونستطيع انطلاقا من مفهوم التعزيز والتجارب الحاسمة، أن نعيد بناء تصور بوبر لتقدم العلم. فيبدو أننا نستطيع أن نميز بين حالتين يمكن أن تظهرا النظرية الجديدة أو على وجه أدق تحدث بهما الثورات العلمية. ونبدأ في الحالة الأولى من نظرية واحدة، ثم نخضعها للاختبارات التجريبية، ونحاول نقدها ورفضها في نهاية الأمر. ويرغم التفنيد التجريبي العلماء على أن يبحثوا عن نظرية أخرى أفضل. ونبدأ في الحالة الثانية من فرضين - متنافسين أو أكثر - موجودين في ذات الوقت؛ أي في فترة زمنية قصيرة جدا. وأثناء سياق النقاش النقدي الذي ينتج عن ذلك مباشرة، يتصور العلماء تجربة تقوم بتفنيد أحد الفرضين المقترحين. وهذه التجربة، كما يقول بوبر، هي التجربة الحاسمة.
40
وهنا على العالم أن يجري تجارب حاسمة تساعد على تكذيب واستبعاد بعض هذه النظريات. على أننا قد نجد أنفسنا في مواجهة نظريات متكافئة؛ بمعنى أنها تقدم حلولا لبعض المشكلات الفرعية لمشكلة أساسية واحدة، بحيث لا تشارك كل نظرية النظرية الأخرى في هذه الحلول الفرعية. وهنا يقترح علينا بوبر بأن نختار النظرية التي تتميز بأنها تحل المشكلة الأساسية، وتعطي أكبر قدر ممكن من حلول المشكلات الفرعية، والتي تفشل بقية النظريات المنافسة في تقديم حلول مماثلة لها.
صفحة غير معروفة