المقدمة
الدراسة الأولى
الدراسة الثانية
الدراسة الثالثة
الدراسة الرابعة
الدراسة الخامسة
المقدمة
الدراسة الأولى
الدراسة الثانية
الدراسة الثالثة
الدراسة الرابعة
الدراسة الخامسة
التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر
التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر
تأليف
محمود محمد علي
المقدمة
ما زلت أومن، بل ربما أكثر من أي وقت مضى، بأن التفكير العلمي هو كما قال أستاذنا الدكتور فؤاد زكريا ليس هو تفكير العلماء بالضرورة؛ فالعالم يفكر في مشكلة متخصصة، هي في أغلب الأحيان منتمية إلى ميدان لا يستطيع غير المتخصص أن يخوضه، بل قد لا يعرف في بعض الحالات أنه موجود أصلا، وهو يستخدم في تفكيره وفي التعبير عنه لغة متخصصة يستطيع أن يتداولها مع غيره من العلماء، هي لغة اصطلاحات ورموز متعارف عليها بينهم، وإن تكن مختلفة كل الاختلاف عن تلك اللغة التي يستخدمها الناس في حديثهم ومعاملاتهم المألوفة. وتفكير العالم يرتكز على حصيلة ضخمة من المعلومات، بل إنه يفترض مقدما كل ما توصلت إليه البشرية طوال تاريخها الماضي في ذلك الميدان المعين من ميادين العلم.
1
أما التفكير العلمي الذي نقصده فلا ينصب على مشكلة متخصصة بعينها، أو حتى على مجموعة المشكلات المحددة التي يعالجها العلماء، ولا يفترض معرفة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة، ولا يقتضي أن يكون ذهن المرء محتشدا بالمعلومات العلمية أو مدربا على البحث المؤدي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو الإنساني، بل إن ما نود أن نتحدث عنه إنما هو ذلك النوع من التفكير المنظم، الذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا. وكل ما يشترط في هذا التفكير هو أن يكون منظما، وأن يبنى على مجموعة من المبادئ التي نطبقها في كل لحظة دون أن نشعر بها شعورا واعيا، مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد، والمبدأ القائل إن لكل حادث سببا وإن من المحال أن يحدث شيء من لا شيء.
2
والتفكير العلمي يعتمد على منهجية أساسها الموضوعية التي تعني تجرد الباحث عن أهوائه وميوله الذاتية وأغراضه الشخصية، والإذعان للحق والحقيقة، وإسلامنا الحنيف يدعو صراحة إلى هذا البعد الأساسي المنهجي، من حيث ينهى عن اتباع الأهواء والميول والظنون التي لا تغني من الحق شيئا، بل إنه ينعى على من يخضع لهذه المؤثرات جميعا، ويتبدى لنا ذلك في قوله تعالى:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا (43) أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا (الفرقان: 43، 44)، ويقول سبحانه:
إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس (النجم: 23)، ويقول عز وجل:
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا (يونس: 36)، فهذه الآيات وغيرها كثير، صريحة الدلالة على دعوة الإسلام إلى ضرورة الالتزام بالحق والتثبت باليقين، والتجرد من الميول والأهواء والنزعات الشخصية سواء في مجال الاعتقاد أو الفكر أو السلوك الفردي.
3
وإذ يضع القرآن هذه القواعد والضوابط، فإنه يحث ويؤكد على طلب العلم والمعرفة والسعي الجاد في تحصيلها بكل ما أوتي الإنسان من وسائل وقدرات. ويظهر ذلك في قوله تعالى:
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (يونس: 50)، وأظهر من ذلك قوله:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (النحل: 3). والمقصود بأهل الذكر كل متخصص في مجاله أيا ما كان هذا المجال، بل إن أول آية نزلت في القرآن تتضمن أمرا بالتعلم، وهي قوله تعالى:
اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (العلق: 1-4). ويدعو إلى الاستزادة، لا من المال أو الجاه أو إشباع الشهوات والغرائز، وإنما الاستزادة من العلم، في قوله تعالى:
وقل رب زدني علما (طه: 114).
4
وعلاوة على ذلك فإن القرآن يصرح بأن العالم أرفع درجة وأعلى منزلة من الجاهل الذي يصفه بالعمى، وهو يثير القضية في استفهام إنكاري له مغزاه؛ حيث يقول تعالى:
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر: 9)، طبعا لا يستويان. ثم يعلن حقيقة الأمر في قوله تعالى:
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (المجادلة: 11). ويظهر الفرق بين العالم والجاهل؛ حيث يقول سبحانه:
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب (الرعد: 19)، وكذلك في قوله تعالى:
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط (آل عمران: 18)، وفي هذه الآية قرن الله تعالى العلماء به وبملائكته في شهادة التوحيد، فوضعهم في أسمى مكانة إيمانية.
هذا وقد قد بلغت عناية القرآن بالعلم إلى حد أن قرر أن الإنسان المؤمن الحق، الذي يخشى الله حق الخشية، ويقدر جلال الألوهية حق قدرها، إنما هو العالم الحق، وذلك في قوله تعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء (فاطر: 28)، وقوله:
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون (العنكبوت: 43). وإلى جانب ذلك، هناك آيات كثيرة تشير إلى العلماء. وإن الآيات القرآنية، والآيات الكونية التي يمتلئ بها الكون في آفاقه وظواهره، إنما يفهمها أو يطالب العلماء والباحثين بفهمها والعلم بحقائقها ودلالاتها.
موضوعنا إذن هو التفكير العلمي وهو يمثل موضوع الساعة في العالم العربي؛ ولذلك فقد انتقينا بعض القضايا والإشكاليات، والتي تدخل في صميم إطار التفكير العلمي، وتدور الدراسة الأولى حول «الدراسة الأولى: التفكير العلمي عند العرب في ضوء الرؤية الاستشراقية». في حين جاءت الدراسة الثانية بعنوان «التفكير وإشكالية التجارب الحاسمة بين التأييد والتفنيد (دراسة تحليلية-نقدية في فلسفة العلم المعاصرة)». أما الدراسة الثالثة فتدور حول «التفكير العلمي في ضوء إشكالية الفروض المساعدة ومكانتها في ميثودولوجيا برامج الأبحاث عند إمري لاكاتوش». وأما الدراسة الرابعة «التفكير العلمي وإشكالية حروب العلم في ضوء خدعة آلان سوكال». وأخيرا جاءت الدراسة الخامسة بعنوان «التفكير العلمي وميكانيكا الكوانتم في ضوء مبدأ اللايقين عند هيزنبرج».
والله ولي التوفيق.
أ. د. محمود محمد علي محمد
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة
كلية الآداب، جامعة أسيوط
الدراسة الأولى
التفكير العلمي عند العرب في ضوء الرؤية الاستشراقية
تمهيد
تعد قضية الاستشراق ظاهرة علمية وثقافية غربية ذات تاريخ طويل، يرجع لدى بعض الدارسين إلى ألف سنة؛ فهو من حيث الزمان نتاج امتداد زمني قديم، ثم هو من حيث المكان الجغرافي ذو جذور ممتدة في بلاد غربية كثيرة، بحيث يمكن القول بأن كل الدول الغربية - تقريبا - قد أسهمت فيه، وإن تكن بريطانيا وفرنسا ثم أمريكا وألمانيا في العصر الحديث هي صاحبة الجهد الأكبر فيه، سواء على مستوى المحتوى الحضاري والثقافي للشرق الذي اهتم به المستشرقون، أو على مستوى تنوع الجهود العلمية النظرية والعملية التي بذلها هؤلاء لتحقيق غايات متعددة. على أن قسما كبيرا من هذه الجهود قد انصب لأسباب متنوعة على دراسة الشرق العربي الإسلامي في علومه وديانته وآدابه وفلسفاته. وهو ما يجعلنا مطالبين - أكثر من غيرنا - بدراسة الحركة الاستشراقية وتقويمها، والتركيز على بيان إيجابياتها وسلبياتها حتى نسهم في تنوير وتوعية عقول شبابنا من الباحثين والدارسين، ومعاونتهم في فهم محتوى وتوجهات هذه الحركة، ليفيدوا من إيجابياتها ويكونوا على دراية وإحاطة بسلبياتها؛ ومن ثم يكونوا في مأمن من التأثر بهذه السلبيات علما وثقافة ومنهجا وسلوكا.
1
لقد تناول المستشرقون التراث العربي والإسلامي بالكشف والجمع والصون، والتقويم والفهرسة، لكنهم لم يقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزوه إلى حيث دراسة هذا التراث وتحقيقه ونشره وترجمته والتنظير له والتصنيف فيه، في منشئه ومصادره وتأثره وتطوره وأثره ومقارنته بغيره، مستعينين في ذلك كله بما أنشئوه من المعاهد والمراكز البحثية والمؤسسات العلمية الجامعية والمطابع والمجلات ودوائر المعارف والمؤتمرات، حتى بلغوا فيه منذ مئات السنين، وفي شتى البلدان وبسائر اللغات، مبلغا عظيما من العمق والشمول والطرافة. وأصبح إنتاجهم العلمي يكون أحد الروافد الرئيسية لوعينا القومي، وأحد مصادر المعرفة المباشرة لتراثنا وثقافتنا العلمية والفلسفية والقومية.
2
وكان للعلم العربي نصيب وافر من هذه الجهود الاستشراقية على تنوعها سواء فيما يختص بالكشف عن كنوز تراثه وصيانته وطبعه ونشره وترجمته، أو فيما يتعلق بدراسته وتقييمه ونقده ومعالجة قضاياه ومشكلاته والترجمة لأعلامه. ولم تقصر هذه الجهود على مجال واحد من مجالات العلم العربي، وإنما شملت جميع مجالاته تقريبا؛ الطب، والفلك، والميكانيكا، والرياضيات، والزراعة، والملاحة والبيطرة ... إلخ. ولولا هذه الجهود الاستشراقية - على ما فيها من سلبيات - لظلت معرفتنا بتراثنا العلمي محدودة في أضيق نطاق.
ولهذا السبب حظي الاستشراق والمستشرقون باهتمام كبير من علمائنا ومفكرينا المعاصرين، ولكن اهتماماتهم انصبت إما على تفنيد آراء المستشرقين في تحقيق هذا التراث وفهرسته ونشره، ولكن بحثنا هذا يركز على جانب واحد من آراء المستشرقين في الفكر العربي، وهو «الرؤية الاستشراقية للعلم العربي بين الأصالة والتبعية».
وطريقتنا في هذا البحث نقوم باستعراض بعض الآراء الأساسية للمستشرقين فيما يتصل بظاهرة العلم العربي، ثم نعقب على ذلك بما نستخلصه من المواقف الاستشراقية إزاء العلم العربي.
ونحن بادئ ذي بدء لا ندخل على المستشرقين هنا دخول المنكر المعاند الباحث عن المثالب، وإنما ندخل عليهم دخول الباحث الذي يتوخى الوصول إلى الحقيقة، وهذا سيجعلنا نتعرف على ما للمستشرقين من إيجابيات تذكر لهم وما لهم من سلبيات تسجل عليهم.
والمحاور الأساسية لهذا البحث تدور على النحو التالي: (1)
موقف المستشرقين من إشكالية وجود علم عربي. (2)
تفنيد رأي المستشرقين القائلين بأن العلم العربي مجرد نقل واقتباس عن علوم اليونان. (3)
موقف العلماء العرب المعاصرين من الرؤية الاستشراقية لظاهرة العلم العربي.
وسوف نعالج هذه المحاور بشيء من التفصيل فيما يلي:
أولا: موقف المستشرقين من وجود علم عربي
لا شك في أن التقدم العلمي الذي عرفته الحضارة العربية-الإسلامية في عصر ازدهارها يعد بحق مثلا رائعا من أمثلة التفاعل الخصب بين الحضارات؛ فنقطة البداية في هذا العلم كان ذلك التفتح الفكري الذي ألهم علماء العرب - تحت رعاية الخلفاء المسلمين في العصر العباسي بوجه خاص - أن ينقلوا كل ما أتيح لهم من علوم القدماء وفلسفاتهم في ترجمات أمينة تعد من أروع الأعمال التي تحققت حتى ذلك الحين.
وهكذا عرف العرب والمسلمون علوم اليونان والفرس والهنود، ولم يترددوا في استخدام كل الذخيرة الضخمة من المعلومات العلمية التي كدستها البشرية حتى ذلك الحين من أجل تلبية حاجات المجتمع الذي كان ينمو ويزداد تعقدا يوما بعد يوم.
ولقد أسهم في هذه الحركة العلمية النشطة علماء من أصل عربي، وآخرون ينتمون إلى مختلف البلاد التي أصبحت تدين بالإسلام، ولكن الجميع كانوا يكتبون ويفكرون بالعربية، وكان الجو الذي يشيع في كتاباتهم إسلاميا بحتا، وكانوا ينظرون إلى أنفسهم مهما بعدت بلادهم في أقصى أطراف آسيا الوسطى أو الأندلس على أنهم ينتمون قلبا وروحا إلى تلك الحضارة التي انبعثت إشعاعاتها الأولى في قلب الجزيرة العربية.
3
ولقد خلف لنا العلماء العرب تراثا علميا لا حصر له، فلما أن ظهرت حركة الاستشراق وقويت منذ مطلع القرن التاسع عشر متوجهة بتياراتها ورجالها نحو هذا التراث العربي-الإسلامي، فقد قال المستشرقون ما وجدوا في هذا التراث من ثراء وتنوع، فانكبوا عليه يدرسونه ويحللونه ويشرحونه ويصنفونه ويكشفون غوامضه، ويجلون واضحه وينشرون مخطوطاته.
وإذا كان معظم المستشرقين قد عنوا بنشر تراثنا العلمي العربي وتحقيقه وفهرسته، فلا شك أنهم بهذا قدموا لنا خدمة جليلة؛ حيث قدموا هذا التراث العلمي الخصيب، والذي لولاهم ما كان لنا أن نقف عليه بمثل هذه الصورة، دون ذلك الجهد. يقول أستاذنا المرحوم الدكتور إبراهيم مدكور: «ولولا قيض الله لفلاسفة الإسلام جماعة من المستشرقين وقفوا عليه بعض بحوثهم ودراساتهم لأصبحنا اليوم ونحن لا نعلم من أمرهم شيئا يذكر».
4
ولم تقف جهود المستشرقين عند حد الطبع والنشر، بل حاولوا أن يكشفوا معالم الحياة العلمية والعقلية في الإسلام، وأرخوا لها جملة وتفصيلا، فكتبوا عن العلم والعلماء يشرحون الآراء والمذاهب أو يترجمون للأشخاص والمدارس، وقد يقصرون بحثهم على بعض الأشخاص والنظريات والألفاظ والمصطلحات.
5
ولقد وصل بهم التخصص درجة أضحى معها كل مستشرق معروفا بالناحية التي تفرغ لها، ومن ذا الذي يذكر مثلا «روسكا»
6
ولا يذكر معه الكيمياء العربية، أو «نلينو»
7
ولا يذكر معه الفلك، أو «ماكس مايرهوف»
8
ولا يذكر معه الطب، أو «فرانز روزنتال».
9
ولا يذكر معه مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي؟
ويطول بنا السرد لو تتبعنا هؤلاء المستشرقين على اختلاف اختصاصاتهم وتعدد جنسياتهم. ونكتفي بما قرره أحد أساتذتنا المعاصرين: «بأن الربع الأول من القرن العشرين شهد حركة استشراق نشيطة كل النشاط، وكان للدراسات العقلية والعلمية فيها نصيب ملحوظ».
10
بيد أن حركة الاستشراق هذه بتياراتها المتلاحقة، قد أفرزت أحكاما تجنت فيها على العرب والمسلمين تجنيا موغلا، وأثمرت تعصبا ليس له مدى، من حيث شاء بعض المستشرقين أن يبخسوا العرب والمسلمين حقهم في السبق والتقدم والابتكار في شتى مجالات العلم العربي، مع أنهم - أي المستشرقين - كانوا أول الناس وأحراهم بالاعتراف بهذا الفضل، وذلك بما صار لهم من صلة وثيقة بهذا التراث فهما وتمثلا واستيعابا في إطار دراساتهم العلمية التحليلية المقارنة.
لكن قليل القليل من رجال الاستشراق كانوا أمناء مع أنفسهم ومع الحقيقة والتاريخ، فقالوا بما أملته عليهم ضمائرهم الحية وروحهم العلمية الموضوعية؛ ومن ثم قرروا لعلماء العرب ما هم جديرون به ويستحقونه من فضل وعرفان.
إننا هنا نود أن نشير إلى موقف المستشرقين من ظاهرة ما يسمى ب «العلم العربي»، وفي هذا نقول: لقد انقسم المستشرقون بإزاء هذه الظاهرة إلى فريقين رئيسين: (أ) أما الفريق الأول
فقد رأى أن ما يسمى بالعلم العربي ما هو إلا مجرد نقل واقتباس عن اليونان والهند وغيرهما من الأمم، فإذا ما عثر على أمر طريف في هذا العلم، فلا بد أن يكون له في العلوم القديمة أصل.
وأصحاب هذا الرأي يمثله كثير من المستشرقين من أمثال: «رينان»، «سيرسل ألقود»، «دي بور»، وغيرهم.
فنجد المستشرق الفرنسي «رينان» يقول: «كثيرا ما يردد القول عن العلم العربي والفلسفة العربية، وفعلا أن العرب كانوا أساتذتنا فيهما طيلة قرن أو قرنين من العصر الوسيط، ولكننا ما لجأنا إلى ذلك، إلا ريثما نحصل على الأصل اليوناني، فهذا العلم العربي، وهذه الفلسفة العربية لم يكونا إلا نقلا حقيرا للعلم والفلسفة اليونانية. ومتى تركزت اليونانية الحقة أصبحت هذه النقول الداهشة عديمة الجدوى، ولأمر ما شن عليها علماء اللغة في عصر النهضة حربا صليبية شعواء ... هذا إلى أننا إذا تمعنا في كل هذه الآثار، نجد أن العلم العربي لا شيء فيه، وأن صفحة من روجر بيكون لتحوي من التفكير العلمي الحق أضعاف ما في هذا العلم غير الأصيل بأكمله، فهو دون شك حلقة محترمة من حلقات التراث، إلا أنه لا يشتمل على شيء وافر من الطرافة».
11
وفي نفس هذا الاتجاه يسير المستشرق الألماني «دي بور»، حيث يقول: «أخذ العرب عناصر فلسفتهم الطبيعية من مؤلفات إقليدس وبطليموس وأبقراط وجالينوس، ومن بعض كتب أرسطو؛ أخذوها إلى جانب هذا من كتب كثيرة ترجع إلى المذهبين الفيثاغوري الجديد والأفلاطوني الجديد ...» وينتهي «دي بور» إلى أن «العلم العربي» غير أصيل في حد ذاته.
12
إلا أن هناك مستشرقين آخرين، يرون أن العلم العربي ليس مأخوذا فقط عن اليونان، بل هو من إنتاج الفرس. ومن هؤلاء المستشرق الفرنسي «سيريل ألقود» الذي يقول: «إن ما عرف بالعلم العربي ما هو إلا إنتاج الفرس.» وسيستشهد «ألقود» على ذلك ب «براون»
Brown
في كتابه عن «تاريخ الفرس» الذي يقول فيه: «إذا حذفنا من علوم العرب ما كان من إنتاج الفرس حذفنا منها أجل ما حوت من مادة.»
13
صدرت هذه الأحكام القاسية على تراثنا العلمي العربي، والغريب أن هؤلاء المستشرقين، قد اعتمدوا في آرائهم تلك، كما يذكر المستشرق «مارتن بلسنر»، على ما أكده ابن خلدون من أن العرب الخلص لعبوا دورا صغيرا فحسب في التطور الأساسي للعلوم عند المسلمين، وأن معظم الفضل في ذلك ينبغي أن ينسب إلى الفرس والنصارى واليهود. وهذا ما ورد في مقدمة ابن خلدون: الفصل الحادي والعشرون «في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع»، وأيضا في قوله: «من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم.»
14
كما يتبنى المستشرق الفرنسي (أ. ف. قويتي) آراء ابن خلدون ويجعل منه عبقرية غربية فيقول: «ومما يلوح للأعين من أول ذلك ينبغي أن ينسب إلى الفرس والنصارى واليهود.» ويستشهد على صحة رأيه في نظره بأن ابن خلدون كان له اهتمام كبير بروح النقد؛ أي إن هذا الشرقي كان يتصور التاريخ تصورا غربيا: «أليس في الإمكان أن نوقن أنه قد بلغت نفحة من نهضتنا الغربية إلى روح ابن خلدون الشرقية؟»
15
وإذا كان بعض هؤلاء المستشرقين قد تمكنوا أن يتبنوا رأيا لرجل فكر عربي مسلم مثل «ابن خلدون»، وأن يؤولوا ظاهرة بما يتلاءم مع نزعتهم العنصرية المستهجنة للجنس العربي، فقد أخطئوا خطأ فادحا؛ فابن خلدون ليس مستهجنا للجنس العربي مستخفا بقدرته على الإنتاج العلمي، وما كان يقصده ابن خلدون بلفظ العرب هم طائفة «الأعراب» أهل البدو الرحل، الظعن ل «ارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم»، المتقلبون في الأرض، فيقول بالحرف الواحد: «وهؤلاء هم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتركمان والترك بالمشرق.»
16
وإلى هذا المعنى تفطن المستشرق الفرنسي «دي روسلان»؛ إذ درس بدقة معجم المصطلحات التي استخدمها «ابن خلدون»، وضبط مدلولات ألفاظها، فذكر أن ابن خلدون إنما قصد بالبدو والرحل «الأعراب من سكان البادية، الذين يقيمون في الخيام».
17
وهذا يعتبر وضعا اجتماعيا ظرفيا فرضته الحياة البدوية في زمن الأزمة، وهذا الوضع لا يفيد أن أفراده بفطرتهم الأولى، قاصرون علما وعملا، بل إن ابن خلدون يصرح بكل وضوح، ردا على من يعتقد ذلك الذي «ظن أن البدو قاصرة بفطرتها وجبلتها عن فطرته وليس كذلك؛ فإنا نجد في أهل البدو من هو أعلى رتبة في الفهم والكمال في عقله وفطرته».
18
كما يرد على من «يظن من رحالة أهل المغرب أن أهل المشرق أشد نباهة وأعظم كيسا بفطرتهم الأولى، وأن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب، ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية، يتشيعون لذلك، ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع وليس كذلك».
19
ومن هنا يتضح لنا أن ابن خلدون كان يحارب الجمود والتخلف، وأنه لا وجود لعرق متفوق ولا لعرق وضيع ف «الكل له مزية، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالسعي والعمل الصالح.»
20 (ب) وأما الفريق الثاني
وقد كانوا أكثر إنصافا؛ حيث أقروا بأن هناك علما عربيا، وإن ظل في إطاره العام يونانيا، فإنه قد أعاد النظر إلى العلم اليوناني من جديد، وبحث فيه بروح تقديمه وفيه قدر لا بأس به من الاستقلال والإبداع والابتكار. وخير من يمثل هذا الفريق من المستشرقين هو المستشرق الإيطالي «ألدو مييلي
Aldo Mieli » في كتابة «العلم عند العرب وأثره في تطوير العلم العالمي»، حيث أكد بأن القسم الأكبر من العلماء العرب كانوا من الوثنيين والمسيحيين واليهود والفرس، وهذا العلم العربي وإن كان قد تأثر إلى حد كبير بالعلم اليوناني والهندي والإيراني، إلا أن فيه جانبا عظيما من الابتكار والإبداع، وفي هذا يقول: «ولكن ينبغي ألا تظن أن العرب لم يضيفوا شيئا جديدا إلى العلم الذي كانوا أوصياء عليه، بل على النقيض من ذلك، وإذا كانت خطوات التنمية والإنضاج التي خطوها في هذا السبيل كثيرا ما ضاعت وتفرقت في الحشد الكبير من الكتب التي تركوها، فليست تلك الخطوات أقل أصالة وأبعد عن الواقع من أجل ذلك. وليس لأحد أن يقول - كما يقرر ذلك بعض المؤلفين - إن دور العرب ينحصر ببساطة في المزج والنقل لمعارف الأقدمين التي لولاهم لذهبت أدراج الرياح؛ الأمر الذي هو في ذاته عنوان فخر عظيم وشرف لا يستهان به.»
21
وينتهي ألدو مييلي إلى أن هناك علما عربيا، وإن كانت التسمية بالعلم العربي، مع كونها ليست دقيقة على الإطلاق، هي برغم ذلك أحسن العناوين التي يمكن إطلاقها على العلم الذي ازدهر من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر الميلادي، في البلدان التي سادها الإسلام، والذي ظهر في الآثار العلمية وأنواع الإنتاج العلمي والأدبي.
22
ثم يناقش ألدو مييلي قضية أثارها كثير من زملائه المستشرقين حول هل هناك علم عربي أم علم إسلامي؟
ويرى ألدو مييلي أن التسمية بالعلم الإسلامي غير دقيقة على الإطلاق، وحجته في هذا أن كثيرا من المسيحيين واليهود والزرادشتيين والوثنيين قد قاموا بقسط وافر في إنضاج ذلك العلم. ثم يستطرد فيقول بأنه ليس من العدالة بحال أن نفصل الكتب التي ألفت في نفس المحيط بالسريانية أو الفارسية أو العبرية؛ فهي جميعا تؤلف وحدة من حيث روحها - ومن حيث التأثير المتبادل بينها بوجه عام - هذا التقسيم الصناعي المحض في كتب الآداب العربية والفارسية والعبرية ... إلخ.
23
كما يذكر أن بعض سميه من المستشرقين يريد أن يفهم هذا التقسيم، بمعنى أن مؤلفي تلك التواريخ يعنون بقوالب الكتب التي يدرسونها في اللغات المختلفة أكثر من عنايتهم بالروح والجو الحقيقيين لهذه الكتب. بيد أنه حتى في هذا المجال يجد القارئ الحصيف مثل هذا التقسيم متعنتا وغير طبيعي.
24
ويوضح ألدو مييلي هذا بوضوح فيقول: «إننا إذا رغبنا الدقة في استعماله ينبغي أن نقتصر على العلم الذي يتعلق فقط بالشعوب التابعة للدين الإسلامي. وعلى ذلك نستطيع أن نتحدث عن قانون إسلامي؛ لأن هذا يعترف بالقرآن والحديث أساسا له، كما يطبق فقط على المؤمنين الحقيقيين، على حين أن الأشخاص التابعين لعقائد أخرى يخضعون لقوانينهم الخاصة (الدينية بوجه عام)، بل نستطيع أيضا أن نتحدث عن علم إسلامي، ولكن بمعنى يختلف عن المعتاد، حين نفهم من لفظ «علم» ذلك المعنى الواسع المدى له عند العرب، ناظرين إلى العلوم الإسلامية بوجه خاص؛ أي الفقه وعلم الكلام الإسلامي ... إلخ. وعلى نقيض ذلك ينبغي أن يخرج من هذا المعنى تماما ما نسميه اليوم علما بوجه خاص؛ أي الرياضيات والطبيعة وعلم الأحياء ... إلخ.»
25
وعن سبب اختياره تسمية «العلم العربي» بدلا من «العلم الإسلامي»، يعطينا ألدو مييلي ثلاثة مبررات على ذلك:
المبرر الأول:
أن القسم الأعظم من الآثار المتعلقة بالعلم العربي مكتوب باللغة العربية؛ فإن الإيرانيين بعد سقوط الدولة الساسانية اتخذوا العربية لغة لهم - دون استثناء تقريبا - في جميع كتاباتهم العلمية والأدبية، ولا نرى كثرة استعمال الفارسية إلا بعد ذلك منذ نشأت اللغة الفارسية الحديثة ونظم الفردوسي شعره العظيم. بيد أن استعمال الفارسية الحديثة ظهر أيضا بادئ ذي بدء في الآثار الشعرية والأدبية الخاصة فحسب. أما الموضوعات الدينية والفلسفية والعلمية فقد احتفظت العربية فيها بسلطانها الكامل على وجه التقريب إلى زمن متأخر جدا، ولم يتخذ الإيرانيون عادة استعمال الفارسية في كتبهم العلمية إلا نحو نهاية العصر الذي ندرسه.
المبرر الثاني:
كان المسيحيون السريان - مع كثرة استعمالهم اللغة العربية - يستخدمون اللغة السريانية في كتبهم أيضا في جميع الأزمنة، ولكن من الواضح الجلي أننا لا نستطيع أن ننظر في شخص واحد كابن العبري، أو إلى شخصين اثنين، بأن نبحث كتبه العربية في مكان وكتبه السريانية في مكان آخر.
المبرر الثالث:
ومثل ذلك يمكن أن يقال إلى اليهود في استعمالهم العبرية؛ فإن العلماء العظام منهم، مثل إسحاق الإسرائيلي وموسى بن ميمون كتبوا جميع كتبهم تقريبا بالعربية، ولكن كتبهم هذه سرعان ما ترجمت إلى العبرية. وهناك آخرون كتبوا باللغتين على التناوب، وفي نهاية العصر الذي نحن بصدده نلاحظ عند يهود الأندلس غلبة ظاهرة اللغة العبرية، بل نشاهد أيضا عندهم الميل إلى تعريف شعوب غربي أوروبا بالكتب العلمية العظيمة المؤلفة باللغة العربية، وذلك بواسطة ترجماتها العبرية، فمن الجلي أن جميع هذه الكتب التي كتبت بالعبرية يمكن عدها منفصلة عن جملة العلم العربي في دراسة تاريخية جادة.
26
ويختم ألدو مييلي كلامه في ذلك فيقول: «ومفهوم أننا نتحدث في هذا الكتاب عن العلم العربي بوجه خاص»؛ أي بالمعنى الذي ذكرناه أخيرا «ولكن تجنبا لكل التباس ينبغي أن نوضح بصراحة أنه في كل موضع نستعمل فيه لفظ «عربي» دون تحديد خاص (مهما كان المعنى المقصود مبهما أو مختلفا فيه) فنحن نفهم من لفظ «عربي» وحده كل ما كان خاضعا للتأثير المباشر أو غير المباشر للمحيط الذي أوجده الفتح الإسلامي، وما حققه الخلفاء في الدول العربية، أو حققته الدول التي بقيت إسلامية بعد استقلالها.»
27
من هنا يتضح لنا أن حديث ألدو مييلي عن العلم العربي يعني تلك الجهود التي بذلها الباحثون في العالم الإسلامي في مجال الدراسات العلمية (سواء كانت دراسات طبيعية أو رياضية) وما تمخضت عنه تلك الجهود من أعمال في هذا المجال سواء كانت هذه الأعمال في صورة مؤلفات أو مترجمات أو شروح أو هوامش تدور حول مسائل علمية، والباحثون في العالم الإسلامي هنا هم كل من ساهم في حقل العلم أيا كانت صورة هذه المساهمة.
وقد ساير كثير من المستشرقين والباحثين ألدو مييلي في تسمية العلم الذي ساد البلدان الإسلامية من القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر الميلادي ب «العلم العربي»، فنجد مثلا «نلينو» يعرف العلم العربي بأنه يطلق على «جميع الأمم والشعوب القاطنة في الممالك الإسلامية والمستخدمة للغة العربية في أكثر تآليفها العلمية».
28
ويذكر «مارتن بلسنر» أن المستشرق الألماني «برجشتريسر».
29
يعتبر أن اللغة العربية أداة العلم الرئيسية، وقد قامت في المشرق بالدور الذي قامت به اللغة اللاتينية في المغرب. وقد قام بإنجاز مقنع أن اللغة العربية قدمت منذ البداية الأداة الكافية للتعبير العلمي الدقيق. ولم تحتل العربية هذه المكانة الرفيعة بذاتها، ولكن الموقع المركزي للعربية بوصفها لغة الدين الإسلامي والإرادة، هو الذي أدى إلى تطويعها لتلائم المتطلبات العلمية. وهذا النجاح الذي حققته عملية تطويع اللغة العربية، إنما كان إلى حد كبير نتيجة لجهد متعمد مقصود لذاته، والدليل على ذلك أن الأعمال العلمية العربية يمكن أن تفهم جيدا دون الحاجة إلى معرفة عميقة بالشعر القديم أو النثر (أي دون حاجة إلى معرفة تامة عميقة باللغة العربية)، ناهيك عن أعمال النثر الفني التي كتبت في العصور المتأخرة، على الرغم من أن النحو والصرف وقدرا كبيرا من المقررات في اللغة العربية لم يطرأ عليها سوى تغير طفيف منذ أقدم العصور.
30
ويحلل الدكتور «جلال موسى» نظرة المستشرقين للعلم العربي فيذكر بأنها نظرة تدخل في تسمية العرب أمما أخرى من المشاركين في لغة كتب العلم وفي كونهم تبعة الدولة الإسلامية، فكان الاصطلاح «عربي» نسبة إلى لغة الكتب لا إلى الأمة التي هي إسلامية، فانتسب إلى اللغة.
ثم يستطرد فيقول: «فإن قيل: استعمال لفظ المسلمين أصح وأصوب من لفظة العرب، وبذلك يكون العلم إسلاميا لا عربيا. قلنا: إن ذلك غير صحيح لسببين:
الأول:
أن لفظ المسلمين يخرج النصارى واليهود والصابئة وغيرهم ممن كان لهم نصيب غير يسير في العلوم والتصانيف العربية.
الثاني:
أن لفظ المسلمين يستلزم البحث عما صنفه أهل الإسلام بلغات غير العربية.
31
ونحن نؤيد هذا الرأي ونوافق عليه؛ لأن العلم العربي هو العلم الذي كتبت مادته باللغة العربية وأسهم في تقديمه أقوام عاشوا في البلاد العربية أو تدين لسلطان العرب (سواء كانوا عربا أو عجما أو مسلمين أو مسيحيين أو يهودا أو صابئة) ارتبطوا بمصير واحد وجمعوا تراثا مشتركا وتذوق جميعهم العربية، حتى قال قائلهم: «لأن أهجى بالعربية أحب إلي من أن أمدح بالفارسية.»
32
إنني مع المؤمنين القائلين بأن العلم لا ينتسب لجنس من الأجناس، بل للغة التي بها حرر وبواسطتها نشر. إن العلم العربي نتاج مجتمع ظهر للعيان بعد الفتح الإسلامي كانت له دار الإسلام وطنا مشتركا، والعربية لغة، وامتزجت فيه الثقافات وانصهر على اليونان بحكمة فارس والهند بتعاليم الإسلام، فأنجب أمة وسطا جمعت بين النظر والعمل - بين العلم والتطبيق - فقال قائلهم: «إذا أضاف المرء إلى العلم والعمل، فقد نال الأمل، ورحل إلى زحل، وسما إلى السماء، ولحق بالملأ الأعلى.»
33
ومن ناحية أخرى يجب أن نعترف بأن هناك «علما عربيا» له منهجه وموضوعه، واشتهر بآراء ونظريات، وقام على أمره كثير من المتكلمين والفلاسفة والعلماء، ووضعت فيه بحوث ومؤلفات تعد من بين المؤلفات العلمية الهامة في تاريخ العلم قديمه وحديثه، واعتبرت ثروة بشرية أفادت منها ثقافات مختلفة، أخذ هذا العلم وأعطى، وأخذ عن العلم الإغريقي وعن بعض البحوث العلمية في فارس والهند، وأضاف إليها ما أضاف وأضحى علما عربيا خالصا، أعطى الثقافات المعاصرة له من سريانية وعبرية ولاتينية، وهو جدير بأن يجند كثير من المستشرقين حياتهم لدراسة هذا العلم في أصوله ومصادره، في نشأته ومراحل نموه، في مدارسه وكبار رجاله، وأن يتابعوا أثره، وكيف أفاد الغرب منه في دفع عجلة التقدم والتطور الذي هو عليه الآن.
ويكفينا ما قالته المستشرقة الألمانية «زيغريد هونكه»، في مقدمة كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب»: ولهذا صممت على كتابة المؤلف، وأردت أن أكرم العبقرية العربية، وأن أتيح لمواطني فرصة العودة إلى تكريمها، كما أردت أن أقدم للعرب الشكر على فضلهم الذي حرمهم من سماعه تعصب ديني أعمى أو جهل أحمق.»
34
ثم تشيد زيغريد هونكه بفضل العرب في تطوير علم الفلك، وتفسر اهتمام المسلمين بهذا العلم فتقول: «والواقع أنه لا الرومان ولا الهنود هم الذين ساهموا في تطوير علم الفلك، وإنما كان من دواعي فخر العرب أن يفعلوا ذلك وحدهم ... وكان لعلم الفلك عند المسلمين معنى «ديني» عميق؛ فالنجوم ومدارها، والشمس وعظمتها، والقمر وسيره لبرهان ساطع على عظمة الله وقدرته، الخالق الذي جاء باسمه النبي العربي مبشرا بأنه خالق السموات والأرض، وجاعل الظلمات والنور؛ لذلك وكما قال أبو عبد الله محمد بن جابر البتاني، فإن «علم النجوم هو علم يتوجب على كل أمرئ أن يعلمه، كما يجب على المؤمن أن يسلم بأمور الدين وقوانينه؛ لأن علم الفلك يوصل إلى برهان وحدانية الله، وإلى معرفة عظمته الهائلة وحكمته السامية وقوته الكبرى».»
35
وفي الكيمياء، تشيد هونكه باكتشافات العرب العلمية في هذا المجال وبمنهجيتهم في البحث، وسبقهم إلى وضع طرق التجربة والمراقبة المنظمة وأثر ذلك في علم الكيمياء الحديث. وفي ذلك تقول: «كان الفكر الإغريقي يهتم بتفسير المعرفة الحسية بواسطة التأمل الفلسفي، فأوجد الكيمياء النظرية والفلسفة الطبيعية. أما العرب فكانوا أول من أوجد طرق المراقبة والتجربة المنظمة في ضوء الشروط التي كان بإمكانهم في كل حين أن يعيدوها وينوعوها ويراقبوها، فخلقوا بذلك علم الكيمياء التجريبي في مفهومه العلمي، وأوصلوه إلى قمة رفيعة أصبحت بموجبها اكتشافات علمي الكيمياء العضوية والكيمياء غير العضوية الحديثين من الضرورات الماسة لإرجاع الكيمياء التجريبية إلى المستوى الذي أوصلها إليه العرب».
36
ثانيا: تفنيد رأي المستشرقين القائلين بأن العلم العربي مجرد نقل واقتباس عن علوم اليونان
إذا كان بعض المستشرقين قد رأى أن العالم العربي هو مجرد امتداد للعلم اليوناني، فلم يكتفوا بهذا، بل أكدوا أن ما قام به العرب في مجال العلم كان يدور في ذلك الإطار الذي حدده اليونانيون قبل ذلك بفترة لا تقل عن ألف عام، بل لقد تجاوزت حدود الموضوعية حين ذهبوا بأن المرحلة الإسلامية من العلم، إنما كانت همزة الوصل بين الحضارة اليونانية والحضارة الأوروبية الحديثة، وأن فضل العرب والمسلمين ينحصر على التراث العلمي اليوناني ونقله بأمانة إلى أوروبا لتبدأ به نهضتها الحديثة.
وأصحاب هذا الرأي هم بعض المستشرقين أمثال رينان ودي بور وجولد وماكس هورتن ومن تابعهم في هذه المقالة، ورغم اختلاف بعضهم عن بعض فيما يسوقه من مبررات تؤيد رأيه، فإنهم جميعا ينكرون أن يكون للعلم العربي شيء من الجدة والأصالة، وأن يكون لعلماء العرب شيء من التجديد والإضافة والابتكار، بل إن بعضهم قد بلغ حدا من التطرف فقال: «إن ما يدعى بالحضارة العربية لا وجود له ألبتة كظاهرة مبررة للعبقرية العربية، فهذه الحضارة إنما أنشأتها شعوب أخرى كانت لهم مدنيات قائمة قبل أن تستبعد قهرا من قبل الإسلام، فاستمرت خصالها القومية في نمو برغم ما صب عليها الفاتح من ألوان الاضطهاد، ولم يسهم العنصر العربي إلا بمقدار هزيل لا يذكر؛ فالكندي مثلا، وقد كان له صيت عظيم في القرون الوسطى ولقب بالفيلسوف، لم يكن سوى يهودي من الشام اعتنق الإسلام. وما كتبه العلماء العرب في مجال الرياضيات والهندسة والطب والفلسفة وغيرها، ليس إلا مجرد نقل واقتباس من أرسطو وشراحه، وكثيرا ما نسب استنباط علم الجبر إليهم، والواقع أنهم لم يكونوا إلا نسخة عملوا على نقل رسائل «ديوفانطس» الإسكندراني الذي كان حيا في القرن الرابع للميلاد، وفي الطب أيضا لا نجد طرافة ولا ابتكارا، ورسائل أبي القاسم (الزهراوي) وابن زهر وابن البيطار - وثلاثتهم من أصل إسباني - نسخ مطابقة بعض المطابقة للأصل؛ أعني لمؤلفات جالينوس وأطباء الإسكندرية، وقد تم نقلها عن طريق السريانية.»
37
ويمكن أن نفند رأي هؤلاء المستشرقين فنقول: نحن لا ننكر أن العلم العربي قد تأثر بالعلم اليوناني، وأن معظم العلماء والفلاسفة العرب أخذوا عن أرسطو معظم آرائه، وأنهم أعجبوا بإقليدس وجالينوس وأرشميدس، وتابعوهم في نواح عدة. ولو لم يكرر الكلام لنفد. ومن ذا الذي لم يتتلمذ على من سبقه ويقتفي أثر من تقدموه؟
إننا نعترف بأن ظاهرة التأثير والتأثر بين الحضارات المتعاقبة، بحيث تؤثر الحضارة السابقة في الحضارة اللاحقة حقيقة لا شك فيها، إلا أنه يجب أن نميز بأن هذا التأثير تتعدد إبعاده وتختلف مجالاته؛ فتارة يكون التأثير من جانب السابق في اللاحق تأثيرا قويا عميقا، وعلى درجة من الشمول تكاد تذهب باستقلالية المتأثر وهويته العلمية؛ ومن ثم تظهر العلاقة بين الطرفين في صورة علاقة تابع بمتبوع ومقلد بمبدع. وتارة يكون التأثير ضعيفا في درجته محدودا في مجاله بحيث يظل كل من الطرفين، المؤثر والمتأثر، محتفظا بفردانيته واستقلال نظرته وفكره؛ ومن ثم تتوارى معدلات التأثير فلا تكاد تظهر.
38
ولا يختفي على أحد أن العلم اليوناني قد تأسس أصلا وأساسا على ما أخذه علماء اليونان من علوم الشرق القديم في مصر وبابل وآشور. ويبدو هذا التأثير واضحا لدى طاليس وفيثاغورس وأفلاطون وجالينوس بصفة خاصة. ولا يستطيع أحد أن يدعي أن هؤلاء اليونان رغم تأثرهم بالعلم الشرقي كانوا مجرد نقلة ومقلدين لما كان لدى الشرقيين القدماء من هذه العلوم.
ثم إننا نتساءل إذا كان العلماء العرب قد استقوا معظم مادتهم العلمية من التراث اليوناني، فهل وقفوا عند حد التأثر؟ أم تجاوزوه إلى حيث قدموا بعض عناصر الابتكار والإضافة والتجديد؟
للإجابة على هذا السؤال، نقول: إننا نجد مؤشرات علمية واضحة عند العلماء العرب تدل على الأصالة والإبداع والجدة والابتكار، فهناك مؤشرات نجدها عند ابن سيناء وأبي بكر الرازي في مجال الطب، وأبو القاسم الزهراوي وابن زهر وابن النفيس في مجال علم الجراحة، وابن الهيثم في مجال علم المناظر، وجابر بن حيان في مجال علم الكيمياء، وابن يونس في مجال علم الفلك، وابن بيطار في مجال علم الصيدلية، وثابت بن قرة في مجال على التفاضل والتكامل، والخوارزمي في مجال علم الجبر ... وهلم جرا.
إلا أن هذه المؤشرات رغم أصالتها فلم تبلغ الحد الذي بلغته على يد العلماء اليونانيين، بل هي دونها مستوى؛ لأنها تمخضت عن ذا الينبوع فأخرجت منه الجديد الذي لم يكن من قبل، فكان عملها جديدا بهذه الدلالة؛ لأنه سينتهي فيما بعد إلى أن يكون هذا الجديد مصدرا لبعض نزعات العلم الأوروبي الحديث. وتلك هبة تغافل عنها المستشرقون وانحسرت أفكارهم دونها ناقصة من اعتراف بجميل أو إنصاف لحق.
ونحن لا نتنكر في هذا السبيل لتأثيرات العلم اليوناني في العلم العربي، ولكننا نجد في العلم العربي جوانب جديدة يتميز ابتكارها بالكيف لا بالكم، والإضافة الحقة تمثلت في عمليتين متتاليتين؛ تحليلية من جهة، وتركيبية من جهة أخرى، تعتمد على عناصر قبلية للتجربة الجديدة في الفكر؛ ففي التحليل نتوصل إلى العناصر الأساسية في الموقف أو التجربة، فنقدم شيئا جديدا في الرؤية التي نريد والصورة التي نقصد. وفي التركيب حال أخرى تعتمد على التدرج من البسيط إلى ما هو أكثر، ومن الأحكام النسبية إلى أحكام أشد عموما وأبعد ضرورة.
وقد تختلف هذه التجربة حدة وشدة باختلاف صانعيها، ولكنها في صميم طبيعتها لا تخرج عن صفة الإبداعية
Creative
التي قصدنا، أو بمعنى آخر أن الأصالة؛ أية أصالة تتفق في مدلولها نوعا وتختلف كيفا، بمعنى أن الأصالة هي تحقيق نحو من التجريد في عملية التأثير الفكري، من حيث إنها في صدرها الأخير تجديد جاء على غير مثال.
39
ولا ندعي في حديثنا هذا أن العلم العربي جاء على غير مثال؛ ففي ذلك مبالغة لا نريدها له ولا نضيفها إليه؛ لأنها تفتقر في صدقها إلى معايير التحقيق العلمي الدقيق، بل نعني الجانب النقدي لهذا العلم فيما أضافوه أو حذفوه من العلم اليوناني.
إن أحد الأمثلة المهمة للتدليل على بروز الجانب النقدي في العلم هو انتشار ما يمكن أن نطلق عليه حركة الشك أو كتب الشكوك؛ فكثير من علماء العرب نقدوا العلم اليوناني وشككوا بنتائجه بشكل علمي. وكانت هذه خطوة مهمة للانطلاق نحو معرفة جديدة؛ فلقد كان تقديس علوم السابقين هو أحد معوقات التطور العلمي، سواء في الحضارة العربية الإسلامية أم في أوروبا في العصر الوسيط؛ حيث سيطر أرسطو على حركة الفكر والعلم. وكانت مرحلة إزالة التقديس عن المنهج الأرسطي القديم فاتحة لتطوير المعرفة الجديدة وتقدمها.
40
فهذا ثابت بن قرة الحراني يكتب كتابا في إصلاح المقالة الأولى من كتاب أبلوينوس في قطع النسب المحدودة،
41
والكندي يكتب كتبا عديدة في هذا المجال مثل رسالة في إصلاح كتب إقليدس، رسالة في إصلاح المقالة الرابعة عشرة والخامسة عشرة في كتاب إقليدس، رسالة في تصحيح قول أبسقلاس في المطالع،
42
ويكتب محمد بن زكريا الرازي كتاب الشكوك على جالينوس، كتاب في الشكوك على برقليس.
43
وهذا ابن مفلح في الأندلس يكتب كتابا بعنوان «كتاب الهيئة»: إصلاح المجسطي يحاول فيه إصلاح نظام بطليموس، ثم يأتي بعده البتروجي فيكتب كتابا بالعنوان نفسه وبالموضوع عينه، ويكتب ابن الهيثم في كتابه الموسوم «الشكوك على «بطليموس» قائلا: «إن حسن الظن بالعلماء السابقين مغروس في طبائع البشر، وإنه كثيرا ما يقود الباحث إلى الضلال، ويعوق قدراته على كشف مغالطتهم، وانطلاقه إلى معرفة الجديد من الحقائق، وما عصم الله العلماء في شيء من العلوم ولا تفرقت آراؤهم في شيء من حقائق من الأمور.» فطالب الحق عند ابن الهيثم ليس من يستقي حقائقه من المتقدمين، ويسترسل مع طبعه في حسن الظن بتراثهم، بل عليه أن يشك في إعجابه بهم، ويتوقف عن الأخذ عنهم، مستندا إلى الحجة والبرهان، وليس معتمدا على إنسان تتسم طبيعته بالخلل والنقصان، وعليه أن يخاصم من يقرأ لهم، ويمعن النظر فيما قالوه، حتى تتكشف له أخطاؤهم، ويتوصل إلى حقائق الأمور.
ومن دلالات هذا عند «ابن الهيثم» أنه يقول عن «بطليموس» إنه «الرجل المشهور بالفضيلة، والمتقن في المعاني الرياضية، المشار إليه في العلوم الحقيقية»، وإنه وجد في كتبه «علوما كثيرة ومعاني غريزة، كثيرة الفوائد عظيمة المنافع» ومع ذلك فإن «ابن الهيثم» حين وقف منها موقف من يخاصم صاحبها مع إنصاف الحق منه، وجد فيها مواضع متشابهة، وألفاظا، ومعاني متناقضة».
ويمضي قائلا: «فرأينا في الإمساك عليه هضما للحق وتعديا عليه، وظلما لمن ينظر بعدنا في كتبه في سترنا ذلك عنه، ووجدنا أولى الأمور ذكر هذه المواضع، وإظهارها لمن يجتهد من بعد ذلك في سد خللها، وتصحيح معانيها، بكل وجه يمكن أن يؤدي إلى حقائقها.»
44
أما العالم عبد اللطيف البغدادي (ت629ه) فإنه يؤكد على أن عظمة جالينوس وتمكنه من الطب لا يعنيان علينا تكذيب حواسنا وعقولنا عندما تتناقض مع ما يقوله جالينوس؛ ولذلك فإن علينا ألا نسلم بما يقوله الأقدمون تسليما أعمى مهما بلغ هؤلاء من رجاجة العقل ومن تمكن؛ فإن جالينوس «وإن كان في الدرجة العليا من التحفيظ فيما يباشره ويحكيه إلا أن الحس أصدق منه».
ويسوق البغدادي مثالا أثبتت فيه مشاهدته كذب جالينوس في مسألة «عظم الفك الأسفل» فيقول: «... إن الكل قد أطبقوا (أجمعوا) على أنه (عظم الفك الأسفل) عظمان بمفصل وثيق عند الحنك. وقولنا الكل نعني به هنا جالينوس وحده (وشراحه)؛ فإنه هو من باشر التشريح بنفسه، وجعله دأبه ونصب عينيه، وصنف فيه عدة كتب معظمها موجود لدينا، والباقي لم يخرج إلى لسان العرب. والذي شاهدناه، من هذا العضو أنه عظم واحد، ليس فيه مفصل ولا درز أصلا، واعتبرناه (فحصناه) ما شاء الله من المرات في أشخاص كثيرة تزيد على ألفي جمجمة بأصناف من الاعتبارات، فلم نجده إلا عظما واحدا من كل وجه، ثم إننا استعنا بجماعة متفرقة اعتبروه (فحصوه) بحضرتنا، فلم يزيدوا على ما شاهدناه منه وحكيناه، وكذلك في أشياء أخرى غير هذه. ولئن مكنتنا المقادير بالمساعدة وضعناه مقالة في ذلك نحكي بها ما شاهدناه وما علمناه من كتب جالينوس، ثم إني اعتبرت العظم أيضا بمقابر بوصير القديمة (في مصر) فوجدته على ما حكيت، ليس فيه مفصل ولا درز، ومن شأن الدروز الخفيفة والمفاصل الوثيقة إذا تقادم الزمان أن تظهر وتتفرق. وهذا الفك الأسفل لا يوجد في جميع أحواله إلا قطعة واحدة.»
45
أما «البيروني» والذي يسميه المستشرقون العرب، فهو الآخر يشكك في معارف السابقين، ومن قوله في مقدمة «القانون المسعودي»: «ولم أسلك فيه مسلك من تقدمني من أفاضل المجتهدين ... وإنما فعلت ما هو واجب على كل إنسان أن يعمله في صناعته من تقبل اجتهاد من تقدم بالمنة، وتصحيح خلل إن عثر عليه بلا حشمة، وخاصة فيما يمتنع إدراك صميم الحقيقة فيه من مقادير الحركات، وتخليد ما يلوح له فيها تذكرة لمن تأخر عنه بالزمان وأتى بعده، وقرنت بكل عمل في كل باب من علله، وذكرت ما توليت من عمله، ما يبعد به المتأمل عن تفكيري فيه، ويفتح له باب الاستصواب لما أصبحت فيه، أو الإصلاح لما زللت عنه أو سهوت في حسابه.»
وهكذا أبان البيروني في هذا النص أنه لم يقلد أحدا من سابقيه، وأنه صحح ما وقع فيه أسلافه من أخطاء، ودعا قراءه إلى مناقشة ما أورد، وتصحيح ما يحتمل أن يكون قد أخطأ فيه.
46
ويكتب ابن البيطار، أشهر صيادلة مصر، مؤكدا ضرورة تغليب منهج البحث العلمي والحسي على أخبار القدماء ونظرياتهم، فيقول في كتابه «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية»: «فما صح عندي بالمشاهدة والنظر، وثبت عندي بالخبر لا بالخبر ادخرته كنزا سريا، وعددت نفسي عن الاستعانة بغيري فيه - سوى الله - غنيا، وما كان مخالفا ... نبذته ظهريا، وهجرته مليا، وقلت لناقله أو قائله لقد جئت شيئا فريا ...»
47
وهكذا، فإن العلماء العرب لم يكونوا مجرد شارحين ناقلين مكررين لعلوم اليونان، بل إنهم ترجموا هذه الكتب ودرسوها وتمثلوا ونقدوا نتائجها وأصلحوا ما يمكن إصلاحه، وأقاموا معرفة جديدة بما يتفق مع إمكانيتهم وحاجتهم ومستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي لعصرهم الذي عاشوا فيه.
ولقد عبر المستشرق «جون برنال»
Ghon Bernal
عن هذه الحقيقة بالقول: «إن العلم الإسلامي لم ينقل العلم الإغريقي نقلا حرفيا، بل أعاده إلى الحياة من جديد بعد هضمه ومزجه بالثقافة الإسلامية؛ أي إنه مر بنفس العملية التي مر بها تراث الشرق القديم عندما هضمه وتمثله الفلاسفة اليونانيون الأوائل.»
48
وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة نود فيها تفنيد بعض آراء المستشرقين في مسألة انعدام الجانب الحسي التجريبي في العلم العربي، فهذا هو المستشرق الألماني «فرانز روزنتال» يذكر بأن هناك مستشرقين عللوا تأخر البحث العلمي عند المسلمين نتيجة انعدام الجانب الحسي التجريبي، وفي هذا يقول: «إن المرء لا يتمالك أن يرى التناقض الظاهر في الآراء السالفة التي استشهدنا بها. وليس من العسير أيضا أن نجد باحثا يأخذ بوجهات نظر معاكسة تماما لتلك، فيبرهن لك بيسر أن أروع إبداع قام به الباحثون المسلمون كان في حقل التفكير النظري، وأن الباحث المسلم لم يأبه بالملاحظة والتجربة، بل اعتبرهما أمورا ثانوية، وأنهما أحيانا تفقدان فقدانا يثير العجب. كذلك يستطيع المرء أن يدلل لك أن الباحث المسلم لم يكن رجلا نفعيا ماديا، بل كان كثيرا ما يمعن في المغامرات الفكرية دون أن يكون في ذهنه غاية معينة يسعى إليها، أو رغبة في نفع أو كسب.»
49
وأعتقد أن هؤلاء المستشرقين الذين ذكرهم «روزنتال» لهم بعض العذر في زعمهم بأن علماء العرب لم يأبهوا بالملاحظة والتجربة في أبحاثهم العلمية، خاصة وأنهم يؤمنون بوجود تقارب بين العلم العربي وتراث اليونانيين؛ إذ إن الأسماء اليونانية، مثل أرسطو وأبقراط وجالينوس، كانت تتردد في المؤلفات العلمية العربية، كما أن الإطار الفكري لهذه المؤلفات كان يحتفظ بقدر غير قليل من مفهوم العلم عند اليونانيين؛ إذ نجد عند فلاسفة العرب نظرة متدرجة إلى العلوم، تعلي من قدر العلم النظري البحت، وتقلل من شأن العلم التطبيقي، وتجعل مكانة أي علم مرتبطة بمكانة الموضوع الذي يبحث فيه. ولكن كتابات الفلاسفة كانت تسير في طريق وممارسة العلماء كانت تسير في طريق آخر مختلف كل الاختلاف؛ إذ إن الاهتمام بالعلم التجريبي وباستخدام البحث العلمي من أجل فهم قوانين الطبيعة المحيطة بنا، كان هو الهدف الرئيسي من أعمال علماء مشهورين مثل جابر بن حيان في الكيمياء، والحسن بن الهيثم في البصريات (علم الضوء)، والبيروني في الفلك والرياضيات، والرازي وابن سيناء وابن النفيس في الطب.
50
والشواهد على ذلك كثيرة، نقتطف منها ما يلي:
كان «جابر بن حيان» (ت198ه/813م) الذي قيل إنه يحتل من علماء الكيمياء مكان أرسطو من علم المنطق، يقول في المقالة الأولى من كتاب الخواص الكبير: «ويجب أن نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط - دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه - بعد أن امتحناه وجربناه، فما صح عندنا بالملاحظة الحسية أوردناه، وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضا قايسناه على أقوال هؤلاء القوم.»
51
ومعنى هذا أن الملاحظة الحسية وحدها هي وسيلة لكسب الحقائق، ومصدر المعرفة الصحيحة، وأن شهادة الغير مرفوضة ما لم تؤيدها مشاهدات الباحث.
ولم يكتف جابر بهذا، بل يرى أن أول واجب على الكيميائي، هو أن يعمل ويجري التجارب، وفي هذا يقول: «من كان دربا، كان عالما حقا، ومن لم يكن دربا، لم يكن عالما، وحسبك بالدربة في جميع الصنائع، أن الصانع الدرب يحذق وغير الدرب يعطل».
52
وقد كان جابر يقول أيضا: «وملاك كمال هذه الصنعة العمل بالتجربة؛ فمن لم يعمل ولم يجرب لم يظفر بشيء أبدا.»
53
من هنا يتضح لنا أن جابر بن حيان كان من المهتمين بالمنهج التجريبي؛ فهو يحتفي بالملاحظة والتجربة، ويدعو إلى تطهير الكيمياء من شوائب الجدل ومظاهر السحر والتعمية، وقد شهد له بهذا بعض المستشرقين المنصفين، فهذا هو المستشرق «هولميارد» يقول: «لقد أسس جابر الكيمياء على الجانب العملي محاولا تفسير ظواهرها بالنظريات الفلسفية المتفق عليها في عصره، وكان بفعله هذا يؤكد العلاقة الوثيقة بين «النظرية» و«التطبيق» وبين «الفرض» و«التجربة الواقعية».»
ثم يستطرد هولميارد فيؤكد بأن جابر بن حيان يستحق لقب مؤسس علم الكيمياء؛ وذلك لاعتماده البالغ على التجريب والتقنية إلى ضرورة الفعل والمران وفي هذا يقول: «إن التأمل غير المفيد والبعد عن الملاحظة أمران لم نشهدهما في عبقرية جابر الذي كان يفضل العمل تاركا مجال الخيال. لقد كانت وجهات نظرة واضحة متقنة، وبسبب أبحاثه الدقيقة الشاملة استحق لقب المؤسس الأول للكيمياء على قواعد راسخة وأسس سليمة.»
54
وقد ساير كثير من العلماء العرب منهج جابر بن حيان في أبحاثهم العلمية، فهذا هو الحسن بن الهيثم (ت420ه/1029م) يعرض في مقدمة كتابه «المناظر» لمراحل المنهج التجريبي فيقول: «ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، وتميز خواص الجزيئات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نرتقي في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاء المقدمات والفحص في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننقده، طلب الحق الذي به يثلج الصدر، ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف، وتنسجم بها مواد الشبهات .»
55
من هذا النص يتضح لنا أن ابن الهيثم ينصح الباحث أو العالم بملاحظة الظواهر الجزئية وتحديد صفاتها ثم يندرج في بحثه مع التمحيص والحذر من الوقوع في الخطأ حتى يبلغ اليقين.
ولم يكتف ابن الهيثم بهذا بل يرى أنه لا بد للعالم من مزاولة التجربة العلمية على أساس أنها مكملة للملاحظة الحسية وهو يسمي التجربة بالاعتبار «وقد قام هو نفسه في كتابه المناظر بالكثير من التجارب التي مكنته من التوصل إلى كشوفه العلمية. فمن ذلك أنه توصل إلى تحليل العلاقة بين الهواء الجوي وكثافته وأبان عن أثرها في أوزان الأجسام، ودرس بقوانين رياضية فعل الضوء في المرايا الكرية وأثناء مروره في العدسات الزجاجية الحارقة، ولاحظ شكل الشمس الذي يشبه صورة نصف القمر أثناء الخسوف مستخدما جدارا يقوم أمام ثقب صغير في مصارع نافذة فكان هذا أول ما عرف من الغرفة المظلمة التي تستخدم في كل صنوف التصوير الشمس».
56
وفي هذا يقول الدكتور «مصطفى نظيف»: «إن ابن الهيثم قد استطاع أن يعرف أن امتداد الأضواء على سمت الخطوط المستقيمة يؤدي رأسا إلى أن الضوء المشرق من جسم مبصر، إذا نفذ من ثقب ضيق في حاجز، واستقبل على حاجز أبيض من خلفه، تكونت على هذا الحاجز صورة منكوسة الجسم، ويمكن الحصول عليها عن طريق جهاز يسمى في كتب الضوء الابتدائية بالخزانة المظلمة ذات الثقب.
ثم يستطرد فيقول: «وهو بهذا قلب الأوضاع القديمة وأبطل علم الناظر اليوناني وإنشاء علم الضوء بالمعنى والحدود التي نريدها اليوم».
57
هذه نماذج تدل على أن العلماء العرب لديهم منهج تجريبي بالمعنى الحديث وبالتالي فليس حقيقة ما يدعيه بعض المستشرقين بأن كتابات علماء العرب تخلو من الجانب التجريبي ويكفينا لتفنيد رأي هؤلاء المستشرقين ما ذكره المستشرق المنصف بريفولت
Briffault
في كتابه «تراث الإنسانية»
making of humanity
بقوله: «إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس هو ما قدموه لنا من اكتشافهم لنظريات مبتكرة غير ساكنة. إن العلم يدين للثقافة العربية بأكثر من هذا ... إنه يدين لها بوجوده، وقد كان العالم - كما رأينا - عالم ما قيل العلم، إن علم النجوم ورياضيات اليونان كانت عناصر أجنبية لم تجد لها مكانا ملائما في الثقافة اليونانية. وقد أبدع اليونان المذاهب وعمموا الأحكام. ولكن طرق البحث وجمع المعرفة الوضعية وتركيزها ومناهج العلم الدقيقة والملاحظة المفصلة العميقة، والبحث التجريبي كلها كانت غربية عن المزاج اليوناني ... أن ندعوه بالعلم في أوروبا كنتيجة لروح جديدة في البحث ولطرق جديدة في الاستقصاء ... طريق التجربة وتلك الملاحظة والقياس ولتطوير الرياضيات في صورة لم يعرفها اليونان. وهذه الروح وتلك المناهج أدخلها العرب إلى العالم الأوربي.»
58
وثمة نقطة هامة نأخذها على الكثير من المستشرقين، تتمثل في وضعهم لمقاييس صارمة يحكمون بموجبها على نشأة العلم العربي.
إن أحد الأمثلة المهمة لمثل هذه المقاييس نجده عند المستشرق ألدو مييلي؛ حيث يعتقد أن سبب ترجمة الكتب العلمية والفلسفية ونقلها من اللغات الأخرى وبخاصة اليونانية يعود إلى تشجيع الخلفاء والأوامر، وفي هذا: وطبيعي أن هذا النشاط العظيم للمترجمين وجماع العلوم، كانت تساعده وتشد من أزره حماية الخلفاء الرسمية. ولكن كل أسرة من أسر حماة الآداب والعلوم كانت تتنافس أيضا في هذا المضمار مع أمير المؤمنين، وهنا ينبغي أن نذكر ذلك النشاط الخير الذي أبداه - في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي - بنو موسى، وهم الأبناء الثلاثة لموسى بن شاكر، الذين كانوا هم أنفسهم رياضيين فلكيين، ولكنهم كانوا على الأخص حماة العلوم «والمترجمين الذين جعلوهم في خدمتهم».
59
أما المستشرق «مارتن بلسنر» فيفسر أن تقدم علم الجغرافيا وتطوره على أيدي الجغرافيين العرب راجع إلى الاهتمام الشخصي لهؤلاء العلماء في معرفة أحوال البلاد والعباد».
60
وهناك أمثلة كثيرة لوجود هذه التفسيرات في كتابات المستشرقين، وهذه التفسيرات يغلب عليها طابع حل المشكلات التاريخية المعقدة بالاعتماد على قاعدة السبب والنتيجة (
Cause-Effect ) معتقدين بإمكانية الإجابة عن أسئلة حضارية معقدة كظاهرة نشوء العلم وتطوره، وهي بلا شك إجابات أحادية الجانب.
إن مثل هذه التفسيرات الساذجة وغيرها كثير تتجاهل الجذور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لنشأة العلم العربي، وتتناسى أن سبب نشوء هذا العلم هو أعقد بكثير من التفسيرات الساذجة أو أحادية الجانب التي طرحها العديد من المستشرقين، فالعلم العربي هو نتاج مباشر لحاجات اقتصادية واجتماعية، تستمد جذورها من طبيعة التطور الذي شهدته الحضارة العربية الصاعدة في عصر النهضة الإسلامي أبان القرنين التاسع والعاشر الميلادي.
وبالتالي يمكن أن نفسر سبب ترجمة الكتب العلمية والفلسفية بأنه كان نتيجة لاحتياجات اجتماعية واقتصادية وسياسية نتيجة حاجة فردية أو ثمرة هوى شخص أو مصادفة عرضية، وإنما كانت الدولة لعربية الجديدة التي كونتها العقيدة الإسلامية، وخرجت بها من حدود العلاقات القبلية في شبه الجزيرة العربية إلى رقعة واسعة من الأرض تضم أجناسا وشعوبا مختلفة، وهذه الدولية الجديدة التي كانت تمثل علاقات إنسانية واسعة ومصالح تجارية جديدة متطورة، وقيما فكرية ودينية وأخلاقية متصارعة ومشكلات إدارية واقتصادية وفنية، تتعقد يوما بعد يوم مع تعقد المجتمع واتساع رقعة الدولة، وهذه الدولية كانت في حاجة إلى خبرة الأمم الأخرى إلى جانب خبرتها الذاتية لتواجه بها كل هذه الشئون والمشكلات، وكان لنقل علوم اليونان وغيرها من علوم الهند وفارس صدى لحاجة هذه الدولة الجديدة إلى فلسفة شاملة تطل منها على الكون العريض وتتيح لها خدمة مصالحها وتطويرها.
61
ومن ناحية أخرى يجب أن نعترف بأن العلم هو نتاج ثقافي لحضارة معينة، وأن العلم لا يظهر ولا يتطور إلا في مجتمع وصل إلى مرحلة متقدمة من التطور الاقتصادي والاجتماعي تجعل انبثاق العلم في هذا المجتمع في لحظة تاريخية معينة حاجة موضوعية وليس اختيارا ذاتيا، وتعبيرا عن الحاجة إلى معرفة علمية تؤدي إلى فهم أكبر لظواهر الطبيعة والحياة والإنسان.
إن علما متطورا كعلم الجغرافيا مثلا لا يمكن أن يكون تطوره وتقدمه على يد الجغرافيين راجعا إلى الاهتمام الشخصي لهؤلاء العلماء في معرفة أحوال البلاد والعباد أو إلى ترجمة كتب بطليموس الجغرافية أو غير ذلك من الأسباب الأحادية الجانب، فرغم أهمية ترجمة الكتب وأهمية حب الاستطلاع والبحث لدى هؤلاء العلماء، فإن المسألة كانت أبعد بكثير من المسائل الجزئية.
62
فالدولة العربية-الإسلامية التي امتدت حدودها وشملت أكثر من قارة، أقامت الجيوش وتوسعت بشكل كبير، إن مثل هذه الدولة كان لا بد لها من تطوير المعرفة الجغرافية وما يستتبعها من علوم أخرى كالحساب والمقاييس والأبعاد والأوزان، ومعرفة المناخ والتضاريس والممرات المائية والبحرية؛ فإن جهل حدود الدولة وتضاريسها وأحوال سكانها وطبيعة نشاطهم الاقتصادية وعاداتهم وتقاليدهم، يجعل من المستحيل على الدولة المركزية أن تقوم بعملية جبي الضرائب والمكوس والخراج والجزية والزكاة، ودون رسم الخرائط يكون من الصعب على الجيوش أن تتحرك دون معرفة طبيعة التضاريس والممرات المائية، ويتأخر تطور التجارة الداخلية بين أجزاء الإمبراطورية نفسها ومع العالم الخارجي، سواء أكانت تعتمد على القوافل البرية، أم السفن البحرية لعدم معرفة عواصم هذه البلدان وثغورها ومناخاتها وحركة الرياح والمواسم الزراعية والتجارية.
63
ومن الأمثلة على أهمية جغرافية المدن أن «قتيبة بن مسلم الباهلي» عند غزو مدينة بخارى واجهته مشكلة عدم معرفته بهذه البلاد وتضاريسها وعاداتها فأرسل إلى «الحجاج بن يوسف» الذي كتب لقتيبة يطلب منه أن يرسم صورة أو خريطة لمدينة بخارى والمدن المحيطة بها ليسهل عليه دخولها.
64
ونجد في كتب الجغرافيين العرب عشرات الأمثلة على ارتباط علم الجغرافيا بالحاجات الاقتصادية والسياسية والعسكرية للدولة الناشئة، فهذا هو الإمام القدسي، الجغرافي الكبير يذكر أنه لقي «علي بن حازم» بساحل عدن وكان الرجل من أعلم الناس بالبحر الصيني لأنه إمام التجار، ومراكبه دائما تسافر إلى أقاصيه فسأله عن صفة البحر فمسح الرمل بكفه ورسم صور البحر أمام المقدس وبين له معارجه وشعبه وخلجانه.
65
ولا نريد الاسترسال في الأمثلة، لكن ما نود تأكيده هو أن علم الجغرافيا بدأ بدراسة كتب بطليموس وغيرها، ودراسة الخرائط التي وضعها اليونان، ولكن العرب الذين كانوا بحاجة إلى علم الجغرافيا للأسباب التي ذكرتها آنفا فاقوا اليونان وطوروا هذا العلم بحسب حاجتهم على يد خرداذبه والإصطخري وابن حوقل والمقدسي وابن فضلان وأحمد بن سهل البلخي والمسعودي والهمذاني وغيرهم، وسار تطور علم الجغرافيا بخط متواز مع تطور علوم الفلك والحساب والهندسة وصناعة الإسطرلابات والبوصلات والسفن البحرية وإقامة المراصد الفلكية.
إن ما ينطبق على الجغرافيا ينطبق هو الآخر على العلوم الرياضية برمتها من فلك وجبر وهندسة، وعلى الجغرافيا ينطبق هو الآخر على العلوم الطبيعة برمتها من كيمياء وفيزياء وطب وغيرها، فلقد تطورت تلك العلوم على أيدي العلماء العرب نتيجة حاجات التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي فرضته الحضارة العربية الناشئة آنذاك.
66
وبهذا يتضح لنا مدى تهافت التفسيرات الساذجة التي يفسر بها بعض المستشرقين ظاهرة نشوء العلم العربي. إن هؤلاء لا شك في أنهم يتسمون بروح كسولة لا تكلف نفسها عناء البحث الموضوعي. ويلاحظ هذا عن كتب المستشرقين الألماني المنصف «فرانز روزنتال» فيقول: ومن المزالق التي يندر أن يتحاماها الباحثون الغربيون عند تقديرهم البحث العلمي عند المسلمين، أنهم يضعون مقاييس صارمة يحكمون بموجبها على ما أنتجه الفكر الإسلامي، مقاييس أشد صرامة من تلك التي نطبقها على ذواتنا نحن الغربيين؛ فإن العدل والإنصاف يقتضيان أن نميز بين مختلف أنواع النشاط الأدبي ومراتبه التي من شأنها أن تترك أثرا بعيد الغور في طبيعة النتاج العلمي الرفيع. على أننا قلما نرى عالما غربيا يراعي هذا التمييز عندما يكتب ويؤلف قصد استمالة أتباع يلتفون حول فكرته التي يبشر بها، ولا ننتظر منه أن يدعم كل قول من أقواله بمستندات وكل جملة بإثباتات، فلماذا إذن نتطلب ذلك من المسلم الذي يكتب في إحياء الدين مثلا (يقصد الإمام أبو حامد الغزالي) أن يدلل على صحة كل قول بإثبات وإسناد، حتى وإن كان هذا الكاتب المسلم يتصف بالدقة العلمية والقدرة الفكرية الممتازة؟ ومن جهة ثانية لماذا نبدي سخطنا على كاتب يجمع أسانيد تبعث على الضجر، أسانيد لا حصر لها تتعلق بسيرة رجل، أو براوية من رواة الحديث الذين عاشوا في دمشق، أو مروا بها لماما، بينما نحن إذا قرأنا مثيل هذا في كتاب من كتب الغرب قلنا صوابا إنه عمل علمي، وإن صاحبه قام بخدمات علمية جليلة؟
67
ثالثا: موقف العلماء العرب المعاصرين من الرؤية الاستشراقية لظاهرة العلم العربي:
يقف كثير من علمائنا ومفكرينا المعاصرين بإزاء الرؤية الاستشراقية لظاهرة العلم العربي إلى فريقين رئيسيين: أحدهما يؤكد هذه الرؤية، وسوف نرى على أي أساس قام تأييدهم هذا، ثم نناقشه لنرى مدى أحقيته، وأما الفريق الثاني فيرفضون تلك الرؤية، وسوف نعرض آراءهم أيضا. (أ) أما الفريق الأول
فيتعامل مع ظاهرة العلم العربي وما حققه العرب والمسلمون في مجال العلوم الرياضية والطبيعية بروح المكابرة والتكبر، منكرين أي دور ريادي للعلماء العرب في تاريخ العلم الإنساني. كما أن هذا الفريق ينكر كل التطور الفكري والعلمي والفلسفي ويطرح حله الجاهز، وهو إعلان الطلاق مع كل التراث العلمي العربي، ويطرح مسألة الارتباط بالفكر الغربي المعاصر كمخرج من الأزمة، ويدعو إلى قطع الجذور مع ماضي الأمة وتراثها.
ولقد صدرت مثل هذه الأحكام للأسف من قبل أناس من أعلى الأساتذة قدرا وأرفع المفكرين شأوا، والدليل على هذا الدكتور «محمد عابد الجابري» وما ذكره في كتابة «مدخل إلى فلسفة العلوم»؛ حيث يقول: «إن تاريخ العلوم السائد الآن تاريخ أوروبي النزعة تتجه أنظاره من اينشتين وماكس بلانك إلى نيوتن وجاليليو، ومنها إلى إقليدس وأرسطو. أما العلم العربي فهو لا يحظى في أحسن الأحوال إلا بإشارات عامة عابرة، أما المسار العام فلا يتخذ منه سوى قنطرة مر عليها التراث الإغريقي إلى العالم الغربي. ومن هنا كان القديم - في هذا المنظور التاريخي الأوروبي - يعني العلم الأرسطي.»
68
ثم يصادر الدكتور الجابري على أن العقل العلمي الغربي هو المعاصرة وأن العقل العلمي العربي هو الأصالة، وعلينا الجمع بينهما، وفي هذا يقول: «ولكننا نحن العرب في العصر الحاضر سجناء رؤيتين؛ الأوروبية التي فتحنا عليها أعيننا منذ بدء يقظتنا الحديثة، وهي تكيف - بل تهيمن على - جانب المعاصرة في شخصيتنا العلمية والحضارية، والرؤية الغزالية-الشهرزورية- العثمانية (نسبة إلى أبي حامد الغزالي وابن الصلاح الشهرزوري والدولة العثمانية) التي تشوش جانب الأصالة في تفكيرنا، وتقف حاجزا بيننا وبين ربط ماضينا بحاضرنا في اتجاه المستقبل المنشود.»
ثم يستطرد فيقول: «إننا نعتقد أن الانكباب على دراسة جاليليو وديكارت وهويجنز وأينشتين دراسة تاريخية واعية ستسلحنا بالأدوات الفكرية التي تمكننا من اكتشاف علمي لا خطابي - موضوعي لا ذاتي - لمختلف الوجوه المشرقة في تراثنا ويا ما أكثرها! هناك طريق واحد يقودنا نحو العلم العربي في الماضي والعلم العربي في المستقبل. إنه الانكباب على دراسة الفكر العلمي الحديث وتطوره والاجتهاد في هضمه وتمثيله.»
69
ولم يكتف الدكتور الجابري بهذا، بل نراه يطرح لنا فكرة البداية من الصفر فيما يتعلق بتراث الأمة وماضيها، وذلك على أكتاف العلم الحديث. يقول الدكتور الجابري: «إن الماضي كالمستقبل لا يكتشف ولا يبين أو يعاد بناؤه إلا على أساس الحاضر وانطلاقا منه وحاضرنا العلمي هو العلم الحديث، فلنجعل من دراسة هذا العلم موضوعا ومنهاجا، روحا ومناخا، وسيلة لبناء حاضرنا وبعث ماضينا والانطلاق نحو مستقبلنا، لنتسلح إذن بهذه الرؤية الجدلية التي تجعل الحاضر منطلقا لبعث الماضي وبناء المستقبل».
70
ونحن نخالف هذه النظرية الجابرية، وذلك لأنها تتعامل مع تراثنا العلمي العربي بروح استعلائية فلا نجد في هذا التراث ما ينتمي للتقدم ولا تكلف نفسها إعمال الفكر في البحث والتنقيب والدراسة الموضوعية للتراث.
ومن ناحية أخرى نتساءل مع الدكتور رشدي راشد: «عما إذا كان قد حان الأوان كي يتمسك مؤرخ العلوم بالموضوعات التي تقتضيها مهنته، وكي يكف عن استيراد مختلس ل «أيديولوجيات» بغير ضابط ولا رادع عن ترويجها بدون شعور، وكي يتجنب كل المحاولات التي تبرر أوجه الشبه على حساب التباين. كالمعجزة العلمية الحديثة عند السواد الأعظم. ألم يحن الأوان لكتابة التاريخ دون اللجوء إلى البديهيات الكاذبة التي تدعو إلى اصطناعها دواع قومية تكاد لا تخفى؟»
71
إذ تطرح هذا التساؤل تهدف إلى إزاحة خرافة المعجزة العلمية الغربية الحديثة؛ فالمعجزة عنصر إلهي ديني أولا وأخيرا، أو لا شأن للبشر ما دامت هي ما يعجز عنه البشر، فلا بد وأن ننأى عن محاولات تفهم أي واقع إنساني - سواء الواقع العلمي أو سواه - إذا أردنا لهذه المحاولات انضباطا.
72
وثمة نقطة هامة نود مناقشتها بالنسبة لهذا الفريق وهي مسألة «حداثة العلم»، فهذا الفريق يعتقد أن العلم لم يبدأ شوطه بمعناه الحقيقي إلا في عصر النهضة الأوروبية في القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين، والقائلون بهذا من علمائنا ومفكرينا المعاصرين كثيرون.
ومن أهمهم الدكتور «زكي نجيب محمود» وذلك في كتابة «المنطق الوضعي» حيث يقول: «إن العلم لم يبدأ شوطه في حياتنا الإنسانية بصفة جدية إلا منذ عصر النهضة. على أن ظهور الروح العلمية أيام عصر النهضة، لم يكن ظهورها مصادفة عمياء جاءت عرضا في سير التاريخ، بل جاءت نتيجة مباشرة لبذور المنهج العلمي على يد فرنسيس بيكون.»
73
وقد برر بعض الباحثين ما ذكره الدكتور «زكي نجيب محمود» في هذا النص، بأنه يضع هو وأمثاله من القائلين بحداثة العلم نصب أعينهم الآثار العلمية الهائلة التي ترتبت على ظهور العلم الحديث؛
74
فلو نظرنا في الفترة من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين، نجد أنه قد حدثت ثورة كمية وكيفية هائلة في المجال العلمي، بمعنى أن نطاق العلم قد اتسع إلى حد هائل، كما أن إنجازاته قد اكتسبت صفات جديدة، وأصبحت أهميتها تفوق بكثير كل ما كان العلم يحققه في أي عصر سابق، بل إن هذا التعبير جعل العلم هو الحقيقة الأساسية في عالم اليوم، وهو المحور الذي تدور حوله كل المظاهر الأخرى لحياة البشر.
يقول أستاذنا الدكتور فؤاد زكريا: «... لو نظرنا إلى الأمر من الزاوية الكمية الخالصة ليتبين لنا أن نمو معدل نمو العلم، قد تسارع بصورة مذهلة خلال القرن العشرين؛ إذ تقول الإحصاءات إن كمية المعرفة البشرية تتضاعف في وقتنا الحالي خلال الفترة بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة، وهو ما كان يستغرق في العصور الماضية مئات السنين.»
75
ونحن نعترف بهذا، ولكن كل هذا لا يمنع من القول بحداثة العلم، وأنه وليد القرن السابع الميلاد على يد فرنسيس بيكون، فهذا قول يتنافى مع الحقيقة الموضوعية؛ فليس من اليسير أن نحدد نقطة الصفر التي انطلق منها العلم؛ لأن العلم شأنه شأن صور الفاعليات الإنسانية كائن متطور نام، لم يولد كاملا راشدا، بل لا بد أن يكون قد مر بمراحل طويلة من الصقل والتهذيب لكي يبلغ مرتبته الراهنة من النضج.
إن القائلين بحداثة العلم لا بد أن يضعوا في اعتبارها بأنه من الصعب أن نفسر سرعة التقدم الذي طرأ على العلم الأوروبي في القرن السابع عشر، والذي نقل أوروبا من التفكير في عالم أرسطو الذي لا يتحرك إلا أنه يعشق «المحرك الأول» إلى عالم نيوتن الذي يسوده قانون طبيعي هو قانون الجاذبية الكونية. من الصعب أن نفسر ذلك إلا إذا قلنا بأن عوامل أخرى قد مهدت له بالرغم من أن تأثيرها لم يكن في البداية ظاهرا.
على أن هذه العوامل المتراكمة لم تكن مجرد تطور داخلي للمعرفة العلمية في أوروبا خلال العصر الوسيط؛ فهذه المعرفة مهما تطورت لم تكن تبشر بنتائج ذات قيمة كبيرة، وإن كان هؤلاء العلماء في حاجة إلى دفعة قوية تأتيهم من مصدر خارجي لكي تنير الطريق، وتكشف لهم عن أفضل السبل المتاحة للبحث العلمي في ذلك الحين. وقد تحقق ذلك بفضل تأثر العلم الأوروبي بالعلم العربي الذي كان يحتل المرتبة العليا في ذلك العصر.
76
ونحن هنا نخالف القائلين بأن العلم الحديث قد خضع في نشأته وتطوره لمجموعة من العوامل الداخلية فقط، هذه العوامل تنمو بقدراتنا الذاتية بقوة دفعها الخاصة، وتخضع لمنطقها البحت، بل لا بد من عوامل خارجية خصوصا وأن العلم ليس ظاهرة منعزلة، بل إن أشد علمائنا المعاصرين ميلا للتفسير الفردي لتطور العلم لا يستطيعون أن ينكروا وجود تأثير متبادل بين العلم وأوضاع المجتمع الذي يظهر فيه، يقول أستاذنا الدكتور حسن عبد الحميد: «يخضع العلم في نشأته وتطوره لمجموعة من العوامل الخارجية والداخلية التي يؤدي تفاعلها معا إلى نشأة العلم نفسه.»
77 (ب) أما الفريق الثاني
وهذا الفريق يقف على نقيض الفريق الأول، ولكنها يصب في نفس المصب نفسه ويصل إلى النتيجة نفسها. وهو فريق يغلب عليه طابع الحماس الشعري والخطابي في تعاطيه مع ظاهرة العلم العربي؛ فهو يتعامل مع هذه الظاهرة بروح التقديس والمبالغة والأساليب الانفعالية.
إن هذا الفريق يحاول إثبات أن العلماء العرب مارسوا كل منهج، وأنشئوا كل علم، وأسسوا كل بحث، وعرفوا كل كشف، وألفوا أصول كل نظرية، وراعوا كل مفهوم، وتلمسوا الطريق إلى كل تقانة . ونسوق مثلا على ذلك ما ذكره صاحب كتاب «تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه» بقوله: «... وإذا اعتز العصر الحاضر بنفر من العلماء فتتوا الذرة وشطروا النواة، وغزوا الفضاء، وأرسلوا الصواريخ والأقمار، وأطلقوا الكواكب الصناعية، تدور في فلك الشمس أو غيرها من النجوم والكواكب، وإذا اعتز عصر النهضة العلمية في أوروبا بأمثال نيوتن وداروين وجاليليو وكوبرنيقوس ودا فنشي وكانط وديكارت وباستير وهلم جرا، فلا ينبغي أن نغمط علماءنا الذين نقل عنهم الغرب في سالف الأيام. وإنه لدين يؤديه العصر الحاضر للعصور العربية الإسلامية الذاهبة. وإنها لأمانة في أعناقنا نحن العرب، أن نحمل المشعل مرة أخرى لنضيء الطريق، ونقود الإنسانية كما فعل أسلافنا أول مرة.»
78
ونسوق مثالا آخر لصاحب نفس الكتاب بقوله: «لقد طنطن العالم الغربي في عصر النهضة الأخيرة لآراء كانط وديكارت ونيوتن في الطبيعة والضوء والانكسار والإبصار وما إلى ذلك، وقد ثبت أن أغلبها مأخوذ من ابن الهيثم المصري ... وطنطن العالم مرة أخرى لهارفي قال إنه مكتشف الدورة الدموية، مع أن مكتشفها هو ابن النفيس، واهتز العالم بآراء داروين ولامارك في التطور وها هي ذي قديمة، ذكرها إخوان الصفا وابن خلدون والجاحظ.»
79
ولا نريد الاسترسال في الأمثلة، لكن ما يمكن أن نقوله هو أن هذا الفريق يتميز بالتعالي والادعاء الحضاري، ويجهل مجرد تطور الحضارة والتراث العلمي العربي. إن دعاة هذا الفريق لا يترددون في تقديس كل شيء في التراث، منطلقين من مقولتهم التبسيطية بأن كل المسائل قد حلها الأجداد، وليس أمامنا سوى أن نغرف من بحيرة الماضي السحرية لنحل مشكلات الحاضر على حد تعبير الدكتور أحمد الربيعي.
80
وهذا الفريق يربط بشكل ميكانيكي وتعسفي بين الحاضر والماضي؛ فأزمة الحاضر هي العقاب التاريخي للتخلي عن الماضي، والماضي لديه هو الحاضر، ولا جديد تحت الشمس، مع إغفال كل التغييرات الهائلة في أساليب الحياة ونمطها وتطوراتها الفكرية والتكنولوجية.
إن الماضي بالنسبة لهذا الفريق، كما يقول أحمد الربيعي، هو مخدة الريش المريحة التي نضع فوقها رءوسنا المتعبة، وإن أي «تشكيك في ماضينا هو من فعل أعداء المسلمين وبخاصة المستشرقون ، وهم لا يترددون في أن يضعوا مستشرقين مثل بيكر وأرنست رينان وسانتلانا في السلة نفسها مع هاملتون جب وبروكلمان وماسينيون ومايرهوف وبليياييف.»
81
إن دعاة هذا الفريق وإن انتقدوا وبحياء نظرية المركزية الأوروبية لدى بعض المستشرقين، فإنهم يضعون مركزيتهم الشرقية في مواجهة غربية. المسألة وكأنها أسلحة فاسدة تقاتل أسلحة فاسدة تأخذ من التراث ما يحلو لها وتترك ما ينسجم مع أطروحاتها الفوقية.
82
وخاتمة القول أتمنى أن نكون في هذا البحث قد نجحنا في اختراق صفوف هؤلاء المستشرقين ومن تابعهم من علمائنا العرب، وتقديم وجهة نظر تتعدى مزاعمهم ومنهجيتهم.
تعقيب
من خلال دراستنا الاستطلاعية للرؤية الاستشراقية تولد لدينا اقتناع بأن المستشرقين الذين اهتموا بالعلم العربي وقدموا بخصوصه - من خلال دراساتهم - تنظيرات ورؤى مختلفة في هذا العلم كانوا فريقين؛ أحدهما ويمثله قلة قليلة منهم التزم في بحوثه ودراساته الاستشراقية العلمية بدرجات كبيرة من الموضوعية والنزاهة، وتحرروا إلى حد ما غير كاف، من أهوائهم وميولهم الشخصية، وابتعدوا قدر استطاعتهم عن الزيف والضلال، وطرحوا جانبا، بقدر ما وسعه من الجهد، صنوف التعصب الجنسي والديني والثقافي، فكانوا بذلك منصفين بدرجات مقبولة للحق والحقيقة، فيما يتعلق بآرائهم وأحكامهم ورؤاهم تجاه التراث الفلسفي والعربي.
أما الفريق الآخر، وهم الأكثرية، فكانوا على عكس الأول من حيث قصدوا بوعي وإرادة إلى أن يبخسوا العرب والمسلمين حقهم في السبق والإبداع والابتكار في شتى مجالات العلم والمعرفة. ولما أن كان الفكر الفلسفي في أية حضارة يعد من أهم الميادين التي يظهر فيها العمل الإبداعي المبتكر من جانب أصحابه، فقد ظهر تجني هذا الفريق على العلم العربي وعلمائه، فوصموهم بوصمة التبعية والتقليد والمحاكاة لنظرائهم السابقين من علماء وفلاسفة اليونان، وسلبوهم ما هم جديرون به من إبداع وابتكار، بل إن هذا الفريق من المستشرقين شاء أن يهدم الأساس الذي تقوم عليه كل فلسفة في كل زمان ومكان، وهو العقل فيما يختص بالعقلية العربية والإسلامية، فاتهموا هذه العقلية بالعجز والجمود والتخلف، لكي يقيموا على هذه الأنقاض دعواهم في عدم وجود ما يسمى بالعلم العربي على الحقيقة، فبنوا هذا على انعدام ذاك. وكان الأجدر والأولى بهؤلاء المستشرقين أن يعترفوا بأحقية العقلية العربية في الإبداع، ثم الاعتراف بوجود علم عربي له موضوعه ومناهجه ونظرياته الخاصة، وذلك بما صار لهم من صلة وثيقة بالتراث الفلسفي العربي الإسلامي، فهما وتمثلا واستيعابا في إطار دراساتهم العلمية التحليلية المقارنة، ولكن غلبت عليهم مقاصدهم فكانوا من الظالمين لأنفسهم بالمقام الأول، ولعلماء العرب والإسلام في المقام الثاني.
وأيضا فإنه لو أن العقلية العربية عاجزة حقا عن التفكير العلمي، كما زعم الكثير من المستشرقين وغيرهم، لما أنتجت هذه العقلية ذلك الكم الهائل المتنوع من الأفكار والآراء والنظريات والمناهج في مجال العلوم المختلفة، كالجغرافيا والتاريخ والرياضة والفلك والطبيعة والطب والكيمياء والصيدلة والجراحة والنبات والحيوان؛ ذلك لأن العلم هو من صنع العقل الذي يرينا ضروب انفعالنا وتأثرنا بالنسبة للعالم الخارجي، ولا يحد هذه الانفعالات مجرد الظواهر التي تمثل لحواسنا بطريق مباشر أو غير مباشر، بل يحدها بوجه خاص موقفنا الذي أخذناه تجاهها من قبل، ويحدها كل موقف أخذه العقل الإنساني منذ القدم تجاه الظواهر المذكورة.
ولو أن العقلية العربية قاصرة عن النظر العلمي الدقيق والتأمل الفلسفي العميق، لما ظهرت الحضارة الإسلامية وازدهرت وتحقق لها التمايز والسيادة خلال ما يزيد على سبعة قرون.
قائمة المصادر والمراجع العربية (1)
إبراهيم مدكور: في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1983م. (2)
أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي للحضارة الإسلامية ومكانته في تاريخ العلم والحضارة، دار المعارف، 1984م، ص31. (3)
أحمد الربيعي: محاولة تفسير اجتماعي لنشأة العلم العربي الإسلامي وتطوره، بحيث ألقي في المؤتمر الفلسفي الثاني الذي نظمته الجامعة الأردنية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988م. (4)
______ : أحمد الربيعي: محاولة تفسير اجتماعي لنشأة العلم العربي الإسلامي وتطوره، بحيث منشور ضمن بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الثاني الذي نظمته الجامعات الأردنية، والذي وكان عنوانه الفلسفة العربية المعاصرة (مواقف ودراسات)، طبعة مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988م. (5)
ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، طبعة مصر، بدون تاريخ. (6)
ابن خلدون : المقدمة، دار ابن خلدون، الإسكندرية، بدون تاريخ. (7)
ابن النديم: الفهرست: مكتبة دار المعرفة، القاهرة، بدون تاريخ. (8)
أبو عبد الله محمد بن أحمد المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، مطبعة بريل، ليدن، 1967م. (9)
أبو سعدة (د. محمد حسيني): الاستشراق والفلسفة الإسلامية، دار أبو حريبة، ط5، 1995م. (10)
أبو سعدة (د. محمد حسيني): الآثار السينوية في مذهب الغزالي في النفس الإنسانية، دار أبو حريبة للطباعة، القاهرة، 1991م. (11)
أبو علي محمد بن الحسين بن الهيثم: الشكوك على بطليموس، تحقيق د. عبد الحميد صبرة ونبيل الشهابي، مطبعة دار الكتب، 1971م. (12)
توفيق الطويل: في تراثنا العربي الإسلامي، عالم المعرفة، عدد مارس 1985م. (13)
جابر بن حيان: كتاب الخواص الكبير، ضمن مختارات رسائل جابر بن حيان، صححها ونشرها بول كراوس، القاهرة، 1935م. (14)
______ : كتاب السبعين، ضمن مختارات رسائل جابر التي حققها ونشرها بول كراوس. (15)
______ : كتاب التجريد، ضمن مجموعة حققها ونشرها هولميارد، طبعة القاهرة. (16)
ج «د» برنال: موجز تاريخ العلم في التاريخ، بيروت، دار الفارابي، 1982م. (17)
جلال محمد موسى: منهج البحث العلمي عند العرب في مجال العلوم الطبيعية والكونية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1972م. (18)
جعفر آل ياسين: المنطق السينوي، عرض ودراسة للنظرية المنطقية عند ابن سينا، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط1، 1983م. (19)
الحسن بن الهيثم: المناظر، تحقيق د. عبد الحميد صبرة، طبعة الكويت، 1983م. (20)
ألدو مييلي: العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي، ترجمة د. عبد الحليم النجار ومحمد يوسف موسى، دار القلم، القاهرة، (1381ه/1962م). (21)
زكي نجيب محمود: المنطق الوضعي (الجزء الثاني)، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1980م. (22)
محمد مهران وحسن عبد الحميد: في فلسفة العلوم ومناهج البحث، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، 1980م. (23)
زيغريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون وكمال دسوقي، منشورات دار الآفاق الجديدة، ط6، 1981م، بيروت. (24)
القفطي: إخبار العلماء بأخبار الحكماء، مكتبة المتنبي، القاهرة، بدون تاريخ. (25)
موفق الدين عبد اللطيف البغدادي: الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر، القاهرة، مطبعة وادي النيل، 1286ه. (26)
عبد الله بن أحمد البيطار: الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، طبعة بولاق، القاهرة، 1875م. (27)
عبد الحليم منتصر: تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه، دار المعارف، 1966م. (28)
حسن عبد الحميد: التفسير الإبستمولوجي لنشأة العلم، ملحق ضمن دراسات في الإبستمولوجيا، المطبعة الفنية الحديثة، القاهرة، 1992م. (29)
علي سامي النشار: مناهج البحث عند مفكري الإسلام، دار المعارف، ط4، 1978م، ص277. (30)
فؤاد زكريا: التفكير العلمي، طبعة الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1996م. (31)
فرانز روزنتال: مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي، ترجمة د. أنيس فريحة، الدار العربية للكتاب، بيروت، ط4، 1983م. (32)
صلاح قنصوه: فلسفة العلم، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1981م. (33)
مصطفى نظيف: الحسن بن الهيثم، بحوثه وكشوفه البصرية، المجلد الأول، طبعة القاهرة، 1942م. (34)
مارتن بلستر: العلوم الطبيعية والطبية، ضمن تراث الإسلام، تصنيف شاخت وبوزورث، القسم الثالث، ترجمة د. حسين مؤنس وإحسان صدقي العمد، سلسلة «عالم المعرفة»، ديسمبر 1978 م.
رشدي راشد: مفهوم العلم كظاهرة غربية وتاريخ العلم العربي، ترجمة أحمد حسنواتي، ملحق لتاريخ الرياضيات العربية بين الجبر والحساب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989م. (35)
محمد السويسي: آراء بعض المستشرقين حول التراث العلمي العربي والرد عليها، بحث نشر ضمن مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، الجزء الثاني، تونس، 1985م. (36)
دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار النهضة العربية، ط5، 1948م. (37)
محمد عابد الجابري: مدخل إلى فلسفة العلوم (العقلانية المعاصرة) وتطور الفكر العلمي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط3، 1994م. (38)
محمود أمين العالم: معارك فكرية، طبعة دار الهلال، القاهرة، بدون تاريخ، ص114. (39)
يمنى طريف الخولي: مقدمة لكتاب الرياضيات وفلسفتها عند العرب للدكتور رشدي راشد، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1994م، القاهرة.
المراجع الأجنبية (1)
E. J. Holmyard: Chemistry to the Time of Daltonm, Oxford, 1925, p. 17-18. (2)
Sharif (M. M): A History of Muslim Philosophy, London, 1963. (3)
Wat (M): The Influence of Islam on Medieval Europe, Edinburgh, 1972.
الدراسة الثانية
التفكير العلمي وإشكالية التجارب الحاسمة بين التأييد والتفنيد (دراسة تحليلية-نقدية في فلسفة العلم المعاصرة)
تقديم
يرجع مفهوم «التجارب الحاسمة» إلى الأصل اللاتيني
Experimentum Crucis ؛ حيث
Experimentum
تعني «تجربة»،
Crucis
وتعني «حاسمة» أو فاصلة أو قاطعة، ومنهما اشتقت الكلمة الإنجليزية
Crucial Experiments ، وتعني أنه عندما يكون لدينا فرضان أخضعا للاختبار عن طريق التجربة، فإن التجربة وحدها تنفي أحدهما وتثبت الآخر؛ عندئذ يقال إنها «تجربة حاسمة»؛ فحيثما توجد تجربة من هذا النوع، فذلك يفهم منه أن «أحدا يمكن له التحقق من فرض نظري، وذلك بحذف حاسم لكل المنافسين له؛ أي الفروض»،
1
وبهذا فإن التجربة الحاسمة هي التي يمكن أن تحسم في لحظة بين عدة نظريات متنافسة، ووضع بدلا من ذلك نظرية لفحص وفرز نتائج سابقة لنظريات متنافسة، ليرى ما إذا كانت فاسدة أو متقدمة.
ويمكن توضيح ذلك بهذا المثال الذي ذكره الفيلسوف الوضعي «كارل همبل
Karl Hemple »؛ حيث يقول: «إذا افترضنا أن ق1، ق2 فرضان متنافسان بخصوص موضوع معين، وأنهما صمدا إلى حد بعيد وبقدر متساو في الاختبارات الإمبريقية لدرجة أن البينة التي في متناول أيدينا لا تفصل أحدهما عن الآخر. ويمكن التوصل إلى اتخاذ قرار بشأنهما، إذا أمكن تحديد اختبار للفرضين عن طريق التنبؤ بنتائج متضاربة؛ أي إذا كان بالنسبة لنوع معين من شروط الاختبار «ط» أنتج الفرض الأول اللزوم الاختباري القائل «إذا كان ط إذن ه1» حيث ه1، ه2 نتيجتان استبعاديتان بالتبادل. هنا إجراء الاختبار الحاسم من المفترض أن يدحض أحد الفرضين ويؤيد الآخر.»
2
ويمكن تطبيق ذلك على تلك التجربة الحاسمة التي أجراها فوكولت
Foucault (1819-1868م) لاتخاذ قرار بصدد تصورين متنافسين عن طبيعة الضوء. أحد التصورين قدمه العالم الهولندي «هويجينز
Huyghens » (1629-1695م) وطوره فيما بعد كل من العالم الفرنسي «فريزنيل
Fresnel » (1788-1827م) والطبيب الإنجليزي «يونج
Yong » (1773-1829م) اللذين قالا بأن الضوء يتألف من موجات عرضية منتشرة في وسط أثيري، وكان التصور الثاني لطبيعة الضوء، هو تصور «إسحاق نيوتن
Isaac Newton » (1642-1727م)، القائل بأن الضوء يتألف من جزيئات صغيرة للغاية متطايرة بسرعة عالية؛ فقد ترتب على كلا الفرضين أنه أصبح بالإمكان استخلاص النتيجة القائلة بأن أشعة الضوء تتطابق مع قوانين الانتشار للأشعة الضوئية في خطوط مستقيمة من جانب، وتتطابق أيضا مع قوانين الانعكاس والانكسار الضوئية. ولكن التصور الموجي أدى إلى اللزوم الاختباري القائل بأن الضوء يسير في الهواء أسرع منه في الماء، بينما التصور الجسيمي يؤدي إلى نتيجة مضادة. وفي سنة 1850م نجح فوكولت في إجراء تجربة قارن فيها بين سرعة الضوء في الهواء مباشرة، فأنتجت صورتين لنقطتين ضوئيتين منبعثتين بواسطة أشعة الضوء المارة عبر الهواء والماء على التوالي، ثم تعكسان في مرآه تدور بسرعة فائقة، واعتمادا على أن سرعة الضوء في الهواء أعظم أو أقل منها في الماء تظهر صورة المصدر الضوئي الثاني؛ ولذلك أمكن أن توضع بإيجاز اللزومات الاختبارية المتضاربة التي تضبطها هذه التجربة على النحو التالي : إذا أجريت تجربة فوكولت تظهر الصورة الأولى إلى يسار الصورة الثانية. وقد أبانت التجربة عن أن اللزوم الاختباري الأول كان صادقا. واعتبرت هذه النتيجة دحضا وعلى نطاق واسع للتصور الجسيمي للضوء، وانتصارا حاسما للتصور الموجي.
3
وقد ظهرت فكرة التجربة الحاسمة في القرن السابع عشر، وذلك من خلال «فرنسيس بيكون
Francis Bacon (1561-1626م)» في كتابه «الأورجانون الجديد
Novum Organum »؛ حيث استخدم فكرة الشواهد الحاسمة
Instantiae Crucis ، وهي التي تبين لنا عندما نتردد بين صورتين لتفسير طبيعة معينة أن اتحاد إحدى هاتين الصورتين بهذه الطبيعة اتحاد ثابت غير منفك، وأن اتحاد الأخرى متغير؛ هذه الشواهد يمكن إدراج الصورة المتغيرة منها في قائمة الغياب.
4
ومن الشواهد التي استخدمها بيكون ليعبر بها عن التجربة الحاسمة هو مثال «الإشارة بالأصابع
Instance of the Fingerposts » ليعبر به عن مفترق الطرق؛ حيث يذكر أن هناك نظريتين للمد والجزر؛ النظرية الأولى تقول إن المد والجزر يرجع إلى حركة المياه جيئة وذهابا على شواطئ الأرض. بينما النظرية الثانية تثبت أن المد والجزر يرجع إلى حركة الصعود والهبوط الدوري للمياه، وهنا يتساءل بيكون: «أي من هاتين النظريتين صادق وأيهما كاذب؟» وهنا يجيب بيكون بأنه اكتشف من خلال ملاحظاته أن شخصا ما ممن يجيدون السباحة إذا ألقى نفسه من مكان عال ليسقط على حمام السباحة، فإن المياه تندفع في الجزء المقابل للحمام، فيحدث هبوط للمياه أثناء لحظة السقوط وصعود في الجزء المقابل؛ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى يذكر بيكون أن أحد الباحثين اكتشف أنه في حالة وجود فيضان على شواطئ فلوريدا هناك ارتفاع وانخفاض وقتي للمياه، وفي نفس الوقت واللحظة لا يكون هناك ارتفاع وانخفاض للمياه على شواطئ إسبانيا وأفريقيا . ونفس الشيء كذلك أنه في حالة وجود فيضان على شواطئ بيرو فإن هناك ارتفاعا وانخفاضا وقتيا للمياه، وفي نفس الوقت واللحظة فإن المياه على شواطئ الصين لا يكون هناك فيها ارتفاع وانخفاض للمياه. وهنا توصل بيكون إلى أن النظرية الثانية أصدق من النظرية الأولى؛ فقد كشفت النظرية الثانية أن المد والجزر ظاهرتان طبيعيتان تحدثان لمياه المحيطات والبحار بتأثير من القمر؛ فالمد هو الارتفاع الوقتي التدريجي في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر، والجزر هو انخفاض وقتي تدريجي في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر.
5
وفي القرن الثامن عشر استخدم «نيوتن» لأول مرة لفظ
Experimentum Crucis
في سنة 1672م، وذلك من خلال الخطاب الذي أرسله للجمعية الملكية للعلوم يخبرها عن اكتشافه الجديد في الضوء واللون، وهذا الاكتشاف يرد فيه «نيوتن» على التفسير الميكانيكي-الديكارتي للألوان، والذي يعول فيه «ديكارت
Descartes (1596-1650م)» أن «الألوان ميكانيكية، وأن المنشور هو الذي يحول الضوء الأبيض إلى ألوان». لكن هذه النظرية في نظر «نيوتن» لم تكن كافية، بل غامضة أيضا. وهنا قام بإجراء تجربة حاسمة للكشف عما يحدث عندما يمر ضوء الشمس الأبيض خلال منشور. وقد عمد نيوتن إلى عمل ثقب صغير في النافذة حصل بوساطته على حزمة ضيقة من ضوء الشمس، فاعترض سبيلها بمنشور قبل أن تسقط على ستارة بيضاء أو حاجز خلفه على قرب منه؛ فبدلا من أن يشاهد صورة مستديرة (كالتي يحصل عليها من آلة التصوير ذات ثقب الدبوس) للشمس على الحاجز، كما هي في الحالة من غير المنشور، رأى صورة مستطيلة ذات لون خفيف من الزرقة في قمتها، ولونا خفيفا من الحمرة في القاعدة. ولقد ألهمته هذه النتيجة وقادته إلى فكرة أن ضوء الشمس الأبيض يمكن أن يتكون من أشعة مختلفة الألوان؛ من الأشعة الزرقاء الأكثر قابلية للانكسار، إلى أقلها قابلية للانكسار، وهي الأشعة الحمراء. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من أن تتكون الصورة المستطيلة التي على الحاجز من عدة صور متداخلة للشمس لها ألوان مختلفة، فلا يبقى غير أحد طرفيها النهائيين أزرق خالصا ، كما يبقى الطرف الآخر أحمر نقيا، ولكن لكي يتخلص من تداخل صور الشمس على الحاجز أدخل نيوتن على حزمة الضوء عدسة تعمل على تجميع صورة الثقب الصغير الذي بالنافذة على الحاجز. وعند ذلك قنع برؤية حزمة رأسية ذات ألوان ناصعة؛ الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق، والبنفسجي، مع جميع الظلال المتخللة أو المتوسطة بين كل زوج منها. وكان هذا أول جهاز من أجهزة المطياف أو «سبكتروسكوب»، وأول برهان حاسم على الحقيقة القائلة إن الضوء الأبيض يتكون من أشعة ذات ألوان مختلفة وتتباين قابليتها للانكسار.
6
وفي هذه التجربة تمكن «نيوتن» من أن يوجد برهانا حاسما يثبت أن رواية «ديكارت» حول أصل اللون محض كذب وهراء؛ فقد اعتمد على سؤال هو: هل أصل الضوء الأبيض صاف، وهل المنشور يصنع الألوان بأن يعدلها كما ادعى ديكارت؟ اختبر «نيوتن» هذا التوكيد بأن حفر ثقبا في شاشة مجيزا لجزء الطيف الأحمر فقط من المرور من خلاله، وقد شكل ذلك لحظة الحقيقة؛ بمعنى إذا كان «ديكارت» محقا، فإن المنشور ثانيا قد يتسبب بتعديل الضوء الأحمر، وينتج عن ذلك ألوان جديدة؟ أما إذا كان «نيوتن» محقا فإن الضوء الأحمر يبقى كما هو ولا يتبدل؟ ولأن الضوء الأحمر مر عبر المنشور الثاني من دون أي تعديل، فإن اختبار «نيوتن» الحاسم برهن على أن المنشور لا يعدل الألوان، وأثبت أن الألوان كالأحمر على سبيل المثال هو لون أساسي، وأن الضوء الأبيض قد تشكل نتيجة دمج الألوان المختلفة لأنه يحتوي على كل ألوان قوس قزح. كما كان نيوتن أول من أثبت من خلال تلك التجربة الحاسمة أن الضوء الملون يمكن تركيبه ليكون ضوءا أبيض. كما أدرك نيوتن أن الأشعة الضوئية ذاتها ليست ملونة، ولكن الإحساس باللون ينتج في الدماغ. باستنتاجه هذا تمكن نيوتن من اختراع التلسكوب العاكس ليتغلب على مشكلة الألوان التي تظهر في التلسكوبات المعتمدة على الضوء المنكسر.
7
ومن هذا المنطلق دخلت فكرة التجربة الحاسمة أدبيات فلسفة العلم، حيث استقبلها فلاسفة العلم المعاصرون ما بين مؤيد ومعارض؛ فالمؤيدون ويمثلهم «التجريبيون المناطقة»، قد أكدوا على أهمية ودور التجارب الحاسمة في تاريخ العلم، وهي لديهم نتيجة لإمبريقية المعرفة العلمية؛ لذا قد تظهر في صورة صاحبة الدور العبقري الذي يقدم معايير لتأييد أو تفنيد النظريات العلمية في الحال.
ومن المؤيدين أيضا الفيلسوف النمساوي «كارل بوبر»
Karl
(1902-1994م)، والذي يرى أن التجربة الحاسمة عليها عامل كبير في التكذيب، وبالتالي نمو المعرفة العلمية؛ فهي ضرورية من أجل تكذيب النظريات العلمية أو تعزيزها، فالنظريات التي تم تكذيبها بتجربة حاسمة، يجب نبذها واستبدالها بأخرى في الحال، يطلق عليها فرضية تكذيب؛ فالعلم لا ينمو إلا بواسطة التكذيب القائم على التجارب الحاسمة؛ وبالتالي فإن الرؤية العلمية الصحيحة في العلم، كما يرى بوبر، هي أن تتخذ النمط النقدي صوب قوانينه ونظرياته؛ أي إنه على العالم أن ينظر إلى القانون والنظرية من زاوية تقبل النقد، مما يجعل كل الاختبارات الحقيقة محاولات لتفنيدها، وإذا تجاوزت بنجاح هذه التفنيدات، فإنها تصبح معززة عن طريق التجربة الحاسمة.
8
وأما المفندون والمعارضون للتجارب الحاسمة وهم كثر، فقد أداروا ظهورهم لمنطق اليقين التجريبي، واستحدثوا معايير أخرى غير المعايير التي اعتادوا عليها، في ظل فيزياء نيوتن التي سيطرت على العقل العلمي، بسبب اكتشاف زيف فرض الأثير، وأنه فرض ميتافيزيقي، ولا يمكن أن يبنى منطق التحقق المعاصر على ردود الأفعال، بل على الفهم الصحيح لمنطق العلم؛ إذ كيف أتحقق مما لا أراه. إذن في ظل التطورات العلمية المعاصرة ليس هناك تجارب حاسمة فورية ذات واقع تجريبي في تاريخ العلم، فهل عندما نادى ديراك بنظريته عن الوجود السالب (البوزيترون
) كان يتكلم عن الواقع التجريبي، أو بالأحرى عن عالم ما وراء الخبرة، فلنقارن مثلا بين تجربة «جاليليو
Galileo » (1564-1642م) من فوق برج «بيزا» عن السقوط الحر للأجسام، وبين تجربة المصعد عند «أينشتين
Einstein » (1879-1955م)، نجد أن الفرق شاسع؛ لأنه فرق بين عصرين؛ عصر كان يعاني من أزمة قديمة، فألقى بكل ثقله على التجربة الحسية الحاسمة المباشرة، ورأى فيها القول الفصل في صدق أية قضية علمية، وعصر آخر لا يرى بأسا من الاعتماد على التجربة التخيلية بعد أن أفلت الواقع من مصداقية الخبرة.
9
لكل ما سبق قصدت إلى إنجاز بحث عن «التجارب الحاسمة بين التأييد والتفنيد»، وقد اخترنا أهم ممثلي التأييد: التجريبية المنطقية، وكارل بوبر، كما اخترنا أهم ممثلي التفنيد: العالم والفيلسوف الفرنسي «بيير دوهيم»
(1861-1916م) والعالم والفيلسوف المجري «إمري لاكاتوش»
Imre Lakatos (1922-1974م). ويمكن توضيح ذلك بشيء من التفصيل وذلك على النحو التالي:
أولا: المؤيدون للتجارب الحاسمة (أ) التجريبية المنطقية
تعد التجريبية المنطقية من أهم تيارات فلسفة العلم المعاصرة؛ فقد تسيدت إلى حد ما المسرح الفلسفي في الربع الثاني من القرن العشرين. ويمكننا القول إنه حتى عام 1960م كانت التجريبية المنطقية هي فلسفة العلم الأنجلو-أمريكية، وبدون منافس يمثل خطرا حقيقيا. فقد قدمت المشكلات الأساسية التي ينبغي على فلسفة العلم أن تعالجها، والمناهج الملائمة لحلها، والأهداف التي ترمي الوصول إليها. وكانت مبادئها من القوة والوضوح بحيث أثرت على كل دارس لفلسفة العلم.
10
إن موقف التجريبية المنطقية المؤيد للتجارب الحاسمة يقوم على أساس عدة مفاهيم جوهرية، أهمها «معيار التحقيق»، وهذا المعيار الهدف منه هو وضع حد فاصل بين القضايا التي لها علاقة بالوقائع، والتي ليست لها علاقة بها؛ وبالتالي لا بد من الربط بين المعنى الواقعي للعبارات، وبين الخبرة - أي محاولة تثبيت حكم ما حول صحتها وكذبها عن طريق اختبارها بالملاحظة.
11
ويعد «مورتس شليك»
Murtiz Schlick (1882-1936م) أول من قام بصياغة هذا المبدأ صياغة محددة في عبارته المشهورة التي يقول فيها إنه حتى نفهم قضية ما ينبغي أن نكون قادرين على أن نشير بدقة للحالات الفردية التي تجعل القضية صادقة، وكذلك الحالات التي تجعلها كاذبة، وهذه الحالات هي وقائع الخبرة؛ فالخبرة هي التي تقرر صدق القضايا أو كذبها؛ فالقضية توصف بالصدق أو الكذب عن طريق إحالتها للخبرة مباشرة، لنرى هل هناك في الواقع الخارجي واقعة تشير إلى ما تقوله القضية أم لا.
12
أما «نيراث»
Neurath (1882-1945م) فله رأي مختلف في معيار التحقيق عن رأي شليك؛ فهو يرى أن القضايا تقارن بقضايا مثلها، لا بالخبرة أو الوقائع، أو بأي شيء آخر فالخبرة أو الوقائع أمور بلا معنى وتنتمي للميتافيزيقيا؛ وبالتالي لا بد من رفضها، والبحث عن الأصل الذي يخلو من الميتافيزيقيا؛ ومن ثم فإنه يرى أن القضايا لا بد وأن تجيء صياغتها متفقة مع نوع من القضايا التي يطلق عليها قضايا البروتوكول
، وقضية البروتوكول تحتوي على اسم علم أو وصف معين لشخص ما يلاحظ شيئا محددا، أو تحتوي على كلمات تشير إلى فعل الملاحظة. وفي قضايا البروتوكول نشير إذن إلى أن الشخص فلان يدرك كذا وكذا من المعطيات في زمان محدد تحديدا تاما.
13
والواقع أن معيار التحقق قد أثار جدلا واسع النطاق؛ فقد كان قد أوقف علمية القضية على التحقق فعلا، سواء عن طريق الخبرة كما قال شليك أو بمقارنة قضايا البروتوكول بقضايا مثلها كما قال نيراث، فماذا يرى بشأن قضية لا تقبل التحقق الآن لأسباب فنية ربما قد ترجع إلى قصور أو قلة الإمكانيات أو لأسباب أخرى؟
ولا شك في أن هذه هي الأزمة التي واجهت التجريبية المنطقية بعد ظهور علم الفيزياء النظري وضرورة تطوير الموقف، فهل تغلبت على الأزمة؟
الحقيقة لم تتغلب عليها تماما، لكن حاول كبار التجريبيين المناطقة وضع مسكنات لتفادي الأزمة؛ فقد نزع «أير» إلى استبدال مصطلح «مبدأ التحقيق» ب «مبدأ إمكانية التحقيق»، وهو يستند إلى افتراض مسبق يقرر «أنه بالنسبة لكل قضية ينبغي أن يكون ممكنا، حتى إن لم يكن عمليا، إقرار ما إذا كانت القضية صادقة أو كاذبة».
14
وقد اتفق «أير
Ayer » (1910-1989م) مع «هيوم
Hume » (1711-1776م) في أنه يمكننا تصنيف القضايا التي لدينا إلى مقولتين أساسيتين؛ الأولى تنطوي على القضايا التي لها معنى، وتشمل القضايا القبلية مثل قضايا الرياضيات والمنطق، التي لا يتوقف صدقها على إجراء تحقيق تجريبي؛ لأنها لا تتعلق بعالم الخبرة ولا تقدم أخبارا عنها؛ ومن ثم فإنها صادقة صدقا مطلقا. والثانية تتضمن القضايا التجريبية التي تتصل بالواقع التجريبي، ويتوقف صدقها بالتالي على عالم الخبرة. والقضايا التي لا تندرج تحت أي من المقولتين وتتسم بكونها قضايا ميتافيزيقية فارغة من المعنى.
15
ويقدم لنا «أير» تمييزا بين نوعين من التحقيق في إطار تصنيفه للقضايا إلى قبلية وتجريبية، حيث يميز بين التحقيق بمعناه القوي والتحقيق بمعناه الضعيف. التحقيق بمعناه القوي توصف به القضية إذا كان من الممكن إثبات صدقها إثباتا حاسما. وهذا المعنى للتحقيق تتمتع به القضايا القبلية؛ أي قضايا المنطق والرياضيات والقضايا الأولية، وهي القضايا الوجدانية والقضايا التي تعبر عن الإحساسات والانفعالات الشخصية، ويكون تحقيقها بالرجوع إلى الوقائع مباشرة من حيث تمثل الخبرة الراهنة. أما القضية التي تتصف بأنها ممكنة التحقيق بالمعنى الضعيف؛ فهي تلك التي إذا كان من الممكن للخبرة أن تجعل لتلك القضية صدقا احتماليا، بمعنى الميل للتصديق، وهذا المعنى ينسحب على قضايا العلوم التجريبية مثل الفيزياء.
16
وأما كارناب (1891-1970م) فقد استعاض عن مبدأ إمكانية التحقيق بمبدأ القابلية للتأييد أو الاختبار
Confirmability or Testability ؛ حيث ميز كارناب بين نوعين من القضايا القابلة للتأييد بواسطة الملاحظات؛ أما النوع الأول فيتمثل في القضايا القابلة للتأييد والاختبار مباشرة. وأما النوع الثاني فيتمثل في القضايا القابلة للتأييد والاختبار بصورة غير مباشرة. بالنسبة للنوع الأول، ويتمثل عندما تكون الظروف متاحة بحيث تجعلنا بكل سهولة نقول إنها مؤيدة أو غير مؤيدة بناء على عدد قليل من الملاحظات التي تفصل الموافقة أو الرفض؛ فعندما أقول مثلا: «هناك مفتاح في درج مكتبي.» هنا لكي تكون العبارة مؤيدة، أن تتوافر الشروط اللازمة للاختبار، أن أقف قريبا من درج المكتب، أن تكون الإضاءة متوافرة بحيث تتيح الفرصة للرؤية. أما شرط التوافق فهو أن أرى بنفسي المفتاح في درج مكتبي. النوع الثاني يكمن في اختبار وتأييد قضايا مستنتجة من القضايا الكلية موضع التساؤل، ولما كانت القوانين العلمية قضايا كلية، كان من الممكن أن تؤيد بدرجة أعلى أو أقل في ذلك من خلال توافق القضايا المشتقة من هذه القوانين؛ ومن ثم يمكن قبولها.
17
إن فهم القضية العامة أو القانون العلمي يتطلب في واقع الأمر أن لدينا القدرة على أن نشير إلى الحالات الجزئية التي تجعل هذه القضايا صادقة، وكذلك الحالات التي تجعلها كاذبة، وهذا لا يكون إلا من خلال وقائع الخبرة؛ فالخبرة هي التي تقرر صدق القضايا وكذبها،
18
وفيما يتعلق بصدق القضايا وكذبها، فقد حرص كارناب على أن يميز بين الصادق والمؤيد، والصادق هو الذي يستخدم دون تقيد بالتحديد الزمني، في حين أن المؤيد يستند إلى عنصر الزمن؛ فعندما يقول شخص ما إن هذه العبارة أو تلك مؤيدة بدرجة أعلى، وذلك عن طريق الملاحظات، فإنه من الضروري أن نضيف إلى هذه العبارة «في هذا الوقت أو ذاك».
19
وهنا يحاول كارناب أن يبرز فكرة أن الخبرة أساس قوي للاختبار في تأييد القانون العلمي، كما أنه ليس هناك اختلاف نوعي بين القضايا الكلية والقضايا الجزئية، بل كل ما هنالك اختلاف في الدرجة وحسب، فإذا أخذنا القضية «هذا المعدن يتمدد بالحرارة»، فإنه يمكننا التثبت منه بواسطة بعض الملاحظات. أما في حالة القضية العامة الكلية «كل المعادن تتمدد بالحرارة»، فإننا نختبر القضايا التي نشتقها منها على أساس أن القانون العلمي أو العبارة العامة تقدم استنتاجات أو تنبؤات. ولما كان عدد هذه التنبؤات أو الحالات التي يمكن اشتقاقها منه هو عدد غير محدود ولا نهائي؛ لذلك لا يمكن التحقق منه بصورة تامة وقاطعة. ومن الناحية العملية لن نستطيع الوصول إلى يقين كاف بعد إجراء عدد قليل من التجارب؛ ومن ثم يمكننا أن نقف بعملية التجريب عند بعض الأمثلة الإيجابية، فليس هنالك تحقق كامل وتام، بل كل ما هنالك هو تأييد متزايد وباستمرار.
20
ومن جهة أخرى فقد حاول كارناب ربط الفهم الوظيفي للقانون من وصف وتفسير وتنبؤ بالقابلية للتأييد للقانون موضع التساؤل؛ فعندما حاول وضع الطريقة التي يتأيد بها القانون في ضوء البينة المتوفرة لدينا، كان في واقع الأمر، لا يريد سوى تحديد أو معرفة الأسس التي يمكن الاعتماد عليها للتنبؤ بوقوع أحداث مستقبلية أو أحداث لم يتم معاينتها بعد؛ الأمر الذي يجعل القانون العلمي يقوم بمهامه.
ننتقل إلى نقطة أخرى وهي: كيف يمكن التحقق من النظرية في ضوء ملاحظات التجربة؟
كانت البداية التي انطلق منها كارناب بشأن التأييد أو عدم التأييد هو أن «العلم يبدأ بملاحظات مباشرة لوقائع مفردة، ولا شيء آخر يمكن ملاحظته. بالتأكيد لا يمكن ملاحظة الانتظام بشكل مباشر، وإنما يتم اكتشاف الانتظامات عندما نقوم بمقارنة العديد من الملاحظات الواحدة بالأخرى. يتم التعبير عن مثل هذه الانتظامات بقضايا تسمى «قوانين»؛
21
ومجموع القوانين يشكل النظرية، والنظرية بحسب مفهوم كارناب لها تتألف من حساب مجرد مقترن بتأويل تجريبي»؛
22
أي تتألف من قوانين نظرية وقواعد للتطابق مهمتها «ربط النظريات بالوقائع أو معطيات الملاحظة».
23
وعندئذ تكون «النظريات أنساقا ذات محتوى تجريبي»،
24
مما يجعل أمر اختبارها سهلا يسيرا، وذلك عن طريق الملاحظات والوقائع التجريبية.
25
وإذا كانت هذه القاعدة عند كارناب تجعل اشتقاقات النظرية قابلة للاختبار تجريبيا من خلال ربطها بأقوال الملاحظة والتجربة، فإن أي اشتقاق منها لا يكون، في واقع الأمر، ذا أهمية ما لم يكن قابلا للاختبار التجريبي ولو مبدئيا؛ وبالتالي فإن أي نظرية لا تكون مثمرة لتنبؤات أو استنتاجات أو اشتقاقات غير قابلة بدورها للاختبار لا تقبل التأييد أو عدم التأييد تجريبيا.
26
وبعبارة أخرى تتلقى النظريات التأييد عندما تمتلك الإمكانية في أن تنتج تنبؤات أو نتائج دقيقة. والتنبؤ يشير دائما إلى حادثة ممكنة. لكن لكي يكون هذا التنبؤ سليما بغض النظر عن كونه صادقا أو كاذبا فينبغي أن يكون محسوبا بدقة.
في هذا الضوء يكون هذا التنبؤ كافيا للعالم أو لفيلسوف العلم لأن يقول بصدده: إنه - أي التنبؤ - ممكن استنباطه. وهنا يظهر دور الملاحظات والتجربة في تأييد النظرية أو فشلها. هذا معناه أنه في ضوء التجربة يمكن مواجهة التنبؤات الخاصة بالنظرية بحالات الملاحظة ... فإذا نجحت التنبؤات هذه كانت النظرية مبررة، وإذا كذبت كانت مفندة أو كاذبة أو غير مبررة؛ أي إن اختبارات الملاحظة للنظرية العلمية موضع التساؤل تمدنا بإشارة نعم أو لا لتنبؤاتها - أي تنبؤات النظرية.
27
لكن نتساءل: كيف يمكن لنا أن نختبر نظرية علمية في ضوء فلسفة كارناب؟
لا بد أن يكون لدينا نظرية قابلة للاختبار التجريبي.
أن نستخدم المنهج الفرضي الاستنباطي؛ حيث يتم اشتقاق نتائج النظرية أو تنبؤاتها.
إعداد إجراء تجريبي أو الملاحظات الخاصة بهذه النظرية، وذلك لتأييدها أو رفضها.
وبعد التوصل إلى تأييد النتائج التجريبية المستنبطة منها يمكن للشخص الحكم على النظرية وصحتها، كما يمكنه أيضا معرفة أن حالات التأييد الكثيرة والمتنوعة لا شك في أنها ترفع من قبول النظريات، والعكس صحيح.
وينتهي كارناب إلى القول بأن التطور العلمي إنما يتم عن طريق «تأييد» المشاهدة المستقاة من التجربة للنظرية المقترحة من العقل، وكلما ظهرت نتائج جديدة لتجارب مختلفة حول نظرية ما تأيدت صدقية هذه النظرية؛ وعلى ذلك فالتقدم إنما يتم بتراكم المعرفة شيئا فشئيا؛ الأمر الذي يستشهد فيه عادة بمقولة إسحاق نيوتن الشهيرة: «إنني لم أستطع أن أرى أبعد من الآخرين إلا عندما صعدت على أكتاف من سبقوني.» ورغم الجهد الذي بذله كارناب في تنقيح وتعديل «التجريبية المنطقية» لإنقاذها من النقد الشديد الذي وجه إليها، إلا أنها لم تستطع أن تحافظ على بريقها القديم، فنشأت بعدها تيارات فلسفية أخرى، كان من أشدها عليها المنهج التكذيبي الذي تبناه كارل بوبر.
وخاتمة القول فإن التجريبية المنطقية برغم اختلاف أصحابها حول معيار التحقيق، إلا أنهم أجمعوا جميعا على ضرورة الأخذ بالتجربة الحاسمة للمفاضلة بين النظريات، وذلك لأنها بالنسبة لهم تمثل نتيجة لإمبريقية المعرفة العلمية؛ لذا قد تظهر في صورة صاحبة الدور العبقري الذي يقدم معايير لتأييد أو تفنيد النظريات العلمية في الحال. (ب) كارل بوبر
يعد بوبر واحدا من أهم فلاسفة العلم المعاصرين؛ فقد أثرت مؤلفاته على غالبية الدارسين للفلسفة وما زالت تؤثر عليهم حتى اليوم. ومن المعروف أن بوبر كان من أوائل الفلاسفة الذين انتقدوا حركة التجريبية المنطقية منذ بدايتها، واتسمت انتقاداته بالقوة والتأثير إلى درجة أنها مهدت في نهاية الأمر إلى ثورة شاملة على التجريبية المنطقية. ولم يكتف بوبر بنقد هذه الحركة، بل قدم نظرية جديدة عن العلم تتفادى الصعوبات التي واجهتها؛ ولذا شكلت نظريته المنافس الرئيسي لحركة التجريبية المنطقية، كما أنها المدرسة - إن جاز هذا التعبير - التي تخرج فيها معظم فلاسفة العلم المعاصرين.
28
إن مفهوم بوبر للتجارب الحاسمة يقوم على أساس مبدأ التكذيب، وليس مبدأ التحقيق والتأييد؛ بمعنى أنه إذا كان دور التجربة أو الخبرة عند التجريبيين المناطقة قائما على فكرة أن العلم يبدأ بمشاهدات أو ملاحظات ويشتق عنها قوانينه ونظرياته بطريقة استقرائية، وأن دورها - بالإضافة إلى ذلك - يؤيد القوانين والنظريات، فإن بوبر يرى أن منهج العلم عكس ذلك؛ فهو قائم على التخمينات والمحاولات المتكررة بوصفها صيغة ل «منهج المحاولة واستبعاد الخطأ»
Method of Trial and Error ؛ ومن ثم فإن نمو المعرفة يتقدم ابتداء من حذف الخطأ
Elimination of Error ، ويمكن الإشارة إلى هذه العملية بصيغة بوبر الآتية:
---
TT ---
EE ---
حيث نبدأ بمشكلة ما، ونصوغ حلا مؤقتا، أو نظرية مؤقتة، ثم نعرضها بعد ذلك لكل الاختبارات الشاقة الممكنة في إطار عملية حذف الخطأ الذي يقودنا لصياغة مشكلات جديدة، وهذه المشكلات تنشأ من نشاطنا الخاص المبدع،
29
يقول بوبر: «يستند التقدم في العلم أو في الكشف العلمي إلى الاستخدام الثوري لعملية المحاولة النقدية وحذف الخطأ، التي تتضمن بدورها البحث عن اختبارات تجريبية عديدة أو محاولات ممكنة لضعف النظريات العلمية أو تفنيدها.»
30
والموقف الذي اتخذه بوبر هنا من العلم قائم على أن هناك سمة أساسية في ضوئها تميز بين ما هو علمي وما هو غير علمي. هذه السمة هي «القابلية للتكذيب
Falsifiability »؛ حيث إن ما يشغل خيالنا بل ويشده فيما يرى بوبر هو تفنيد نظريته المبكرة؛ عندئذ يكتسب العلم دلالته، وخصوصا عندما يكون واحدا من المغامرات الفكرية التي يسعى إلى ممارستها الإنسان. وبوبر هنا يرى أن مبدأ القابلية للتكذيب يقرر ما إذا كانت النظرية تعطينا محتوى إخباريا أم لا، وذلك في ضوء حجج تجريبية وملاحظات ... فمهمة العلماء هي أن يحكموا النظريات في ضوء اختبارات قاسية.
31
إذا ما تم لنا اختبار النظريات، فإننا نقبل النظرية الأكثر قابلية للتكذيب، والأكثر قابلية للاختبار، والأكثر في المحتوى (سواء المحتوى التجريبي أو المحتوى المنطقي). وعندما نتعرض للعلاقة بين القابلية للتكذيب وبين المحتوى المعرفي للقوانين والنظريات، نجدها علاقة وطيدة؛ إذ إن المستهدف من وراء ذلك هو محاولة تكذيب أو تفنيد المحتوى المعرفي لأي قانون أو نظرية. والواقع أن سبب هذه العلاقة القوية بينهما هو أن التحليل الدقيق لنظرية القابلية للتكذيب يظهر لنا أنه من الضروري أن نبحث عن النظريات الأكثر في محتواها المعرفي، النظريات الجسورة أو الجريئة، متذكرين دائما أن النظرية الأفضل هي التي تخبرنا أكثر، أو ذات محتوى معرفي أكثر؛ وهي بالتالي الأكثر قابلية للتكذيب. في ضوء هذه العلاقة، يمكننا تفضيل نظرية أينشتين - مثلا - عن نظرية نيوتن. والسبب هو أن دلالة النظرية الأولى - النسبية - فيما يرى بوبر دائما ما تظهر في اعتمادها على السياقات الأكثر شمولا.
32
والمحتوى المعرفي يتضمن الحديث عن المحتوى التجريبي
Empirical Content
والمحتوى المنطقي
Logical Content . والمحتوى التجريبي يعول على أن النظرية التي تخبرنا بالكثير عن الوقائع المشاهدة هي التي تمنع الكثير أيضا من الوقائع وتحرم حدوثها، بحيث إذا صدقت من هذه الوقائع المحرمة والمناهضة للنظرية تم تكذيب النظرية على الفور. ولا يعني ذلك أن «بوبر» يطالبنا بأن نتفرغ لتكذيب كل النظريات العلمية القائمة، وإنما يطالبنا بالبحث الدءوب عن الأمثلة السالبة للنظرية القائمة. ونجد عند «كارناب» قضايا من نفس النوع وإن اختلفت مشاربه عن «بوبر»؛ حيث يذكر «كارناب» أن القوة الحقيقية للقضية تتمثل في استبعادها بعض الحالات الممكنة. ويؤكد «بوبر» قائلا: إن ما يشير إليه «كارناب»، بالحالات الممكنة يعني طبقا لتصوره عن العلم نظريات أو فروضا ذات درجة عالية أو ذات درجة منخفضة من العمومية.
33
وإذا كان المحتوى التجريبي هو فئة المكذبات المحتملة التي تجعل النظرية قابلة للتكذيب، فإن محتواها المنطقي هو فئة النتائج التي يمكن أن تستنتج من القضية العلمية سواء كانت قانونا أو نظرية. في ضوء ذلك، فإن ما يميز هذه النظرية عن تلك أو هذا القانون عن ذاك إنما هو القابلية للاشتقاق، بحيث نتأكد أنه كلما أمكن اشتقاق أكبر عدد من القضايا منها كانت أكثر قابلية للتكذيب، وكانت بالتالي النظرية علمية أكثر من غيرها.
34
والسؤال الآن: ماذا نفعل إذا وجدنا أنفسنا بمواجهة أكثر من نظرية تتوافر فيها شروط القابلية للتكذيب، القابلية للاختبار والمحتوى المعرفي؟ كيف نفاضل بين النظريات ونختار؟
يذهب بوبر إلى أننا نختار من بين النظريات المتكافئة أو المتنافسة، تلك التي تقدم حلولا عدة لمشكلة واحدة، نختار أكثرها قابلية للتعزيز، ويتسنى لنا هذا باختبار النظرية في المواضع التي تتعارض فيها مع بقية النظريات المتنافسة، ونسترسل في إجراء الاختبارات بين هذه النظريات حتى نضع أيدينا على أكثرها موجبة في التعزيز
Corroboration .
35
ودرجات التعزيز عند بوبر هي تقرير موجز لبيان حالة البحث النقدي لنظرية ما في زمن معين، في ضوء طريقة النظرية في حل المشكلات، ودرجة قابليتها للاختبار، وصرامة الاختبارات التي تمر بها النظرية وطريقتها في مواجهة تلك الاختبارات.
36
لكن التعزيز هو فقط بالنسبة للقضايا المختبرة، هي مرة أخرى، اختبارية، وموضع بحث دائما وما أن تنتهي عملية اختبار القوانين أو النظريات إلا ونجد نتيجتين مختلفتين. هاتان النتيجتان من المحتمل وقوعهما، لكن ليس معا، وهما أن تكون النظرية كاذبة أو معززة؛ فالأولى تحدث عندما تناقض التنبؤات المستنبطة مع الواقع التجريبي أو العبارات الأساسية. أما إذا تعرضت النظرية أو القانون إلى اختبار القابلية للتكذيب واستنبطنا منها تنبؤات جديدة، وكانت هذه الأخيرة متوافقة مع الواقع؛ أي مع العبارات الأساسية، فقد تم تعزيز النظرية أو القانون والتعزيز هنا يعني أن القانون خضع لاختبار قاس، وقد اجتازه.
37
ويرى بوبر أن النظرية التي تجتاز هذه الاختبارات القاسية يمكن القول بأنه تم تعزيزها. لكن التعزيز لا يثبت صدق النظرية، بل يعني فحسب قبولها بصورة مؤقتة ثم القيام بمحاولات أخرى لنقدها وتكذيبها. وعلى هذا لا يوجد شيء يقيني في العلم؛ إذ إن كل النظريات تقبل المراجعة المستمرة. لكن الفكرة الأساسية التي تكمن وراء التعزيز هي أن النظرية الجديدة لا بد أن تتجاوز نطاق النظريات القديمة وتتنبأ بوقائع جديدة، أو أن الاكتشافات الجديدة تؤيد النظرية الجديدة في حين تكذب وتفند النظرية القديمة؛ ولذا يستشهد بوبر ببعض الاكتشافات، مثل اكتشاف كوكب نبتون
Neptune
أو الموجات الكهرومغناطيسية
Electromagnetic ، ثم يقول: كل هذه الاكتشافات تمثل تعزيزات أدت إليها الاختبارات القاسية؛ أي تنبؤات كانت غير محتملة في ضوء معرفتنا السابقة؛ أي تلك المعرفة السابقة على النظرية التي تم اختبارها وتعزيزها.
38
ويطور بوبر تلك الفكرة من خلال فكرة التجارب الحاسمة التي نستخدمها عندما نقارن بين نظريتين علميتين متنافستين؛ فهو يلاحظ أن بعض النظريات العلمية لم يتم تفنيدها قبل ابتكار النظرية الجديدة؛ فلم يتم تفنيد نظرية كبلر أو جاليليو قبل ظهور نظرية نيوتن، ولم يتم تفنيد نظرية بطليموس قبل ظهور نظرية كوبرنيقوس؛ وبناء على هذا يقول بوبر: «في حالات مماثلة لهذه تصبح التجارب الحاسمة مهمة على نحو قاطع أو فاصل؛ فليس ثمة ما يدعونا لاعتبار النظرية الجديدة أفضل من النظرية القديمة ... حتى نشتق من النظرية الجديدة تنبؤات جديدة لم يكن من الممكن الوصول إليها عن طريق النظرية القديمة ... وهذا النجاح وحده هو الذي يبين أن النظرية الجديدة لها لزوميات صادقة؛ أي محتوى صادق، في حين أن النظريات القديمة لها لزوميات كاذبة؛ أي محتوى كاذب.»
39
ونستطيع انطلاقا من مفهوم التعزيز والتجارب الحاسمة، أن نعيد بناء تصور بوبر لتقدم العلم. فيبدو أننا نستطيع أن نميز بين حالتين يمكن أن تظهرا النظرية الجديدة أو على وجه أدق تحدث بهما الثورات العلمية. ونبدأ في الحالة الأولى من نظرية واحدة، ثم نخضعها للاختبارات التجريبية، ونحاول نقدها ورفضها في نهاية الأمر. ويرغم التفنيد التجريبي العلماء على أن يبحثوا عن نظرية أخرى أفضل. ونبدأ في الحالة الثانية من فرضين - متنافسين أو أكثر - موجودين في ذات الوقت؛ أي في فترة زمنية قصيرة جدا. وأثناء سياق النقاش النقدي الذي ينتج عن ذلك مباشرة، يتصور العلماء تجربة تقوم بتفنيد أحد الفرضين المقترحين. وهذه التجربة، كما يقول بوبر، هي التجربة الحاسمة.
40
وهنا على العالم أن يجري تجارب حاسمة تساعد على تكذيب واستبعاد بعض هذه النظريات. على أننا قد نجد أنفسنا في مواجهة نظريات متكافئة؛ بمعنى أنها تقدم حلولا لبعض المشكلات الفرعية لمشكلة أساسية واحدة، بحيث لا تشارك كل نظرية النظرية الأخرى في هذه الحلول الفرعية. وهنا يقترح علينا بوبر بأن نختار النظرية التي تتميز بأنها تحل المشكلة الأساسية، وتعطي أكبر قدر ممكن من حلول المشكلات الفرعية، والتي تفشل بقية النظريات المنافسة في تقديم حلول مماثلة لها.
41
ووصولنا إلى هذه النظرية لا يعني نهاية المطاف؛ فالبحث النقدي لا يتوقف، وإنما على الباحث أن يخضع النظرية في أي وقت لاختبارات جديدة، وكلما تخطت النظرية من هذا النوع ظلت هي الأعظم في المحتوى المعرفي، ومن حيث قوة تفسير، وأبقينا عليها مؤقتا؛ فهي أفضل ما لدينا من نظريات حتى الآن.
42
ومن ناحية أخرى فلم تعد التجربة الحاسمة بمثابة تأييد لأحد الفروض كما كان متبعا، وإنما أصبحت التجارب بمثابة اختبارات للنظريات القائمة ومحاولات من جانبنا للبحث عن الخطأ في النظريات، ومن ثم استبعادها. وإذا كان «التجريبيون المناطقة» قد اعتقدوا أنه يمكن الأخذ بالتجربة الحاسمة وذلك عن طريق التحقق من صدقها، فإنها عند بوبر يؤخذ بها لكونها ترفض النظرية بتكذيبها.
لكن ألا تؤدي التجربة أي دور إيجابي للنظرية؟ إن هذا الدور الإيجابي يتمثل في نجاح النظرية وفشل التجربة؛ بمعنى أنه إذا لم تنجح التجربة في رفض نظرية معينة، فإن النجاح يكون من حظ النظرية، وعندها نقول إن النظرية أصبحت معززة عن طريق التجارب. وكلما تخطت النظرية تجارب جديدة زادت درجة تعزيزها. ودور التجربة هنا وثيق الصلة بتصور بوبر للمعرفة؛ فكلما نجحت تجربة واستبعدنا نظرية كان علينا أن نبحث عن نظرية بديلة أكثر سعة وشمولا طبقا للمنهج البوبري.
43
إننا نستطيع أخيرا أن نعترض على فكرة التجارب الحاسمة على أساس أن تلك الفكرة تفترض ثبات معنى الحدود العلمية المتعاقبة. لكن إذا كانت تلك الحدود نظرية فما الذي يضمن لنا أن تقرير ملاحظة لإحدى التجارب الحاسمة سيمكننا بالفعل من الفصل بين النظريتين؟ فلو سلمنا بأن الحدود تتغير معانيها تبعا لتغير النظريات العلمية، فسينتج عن ذلك أن عبارات الملاحظات المستخدمة في التجارب الحاسمة لا تستطيع أن تعزز نظرية أو أن تكذب أخرى.
44
إننا نعتقد مع بعض الباحثين أن فكرة التعزيز لا تتجاوز كثيرا فكرة التأييد عند كارناب؛ ذلك لأن كلتا الفكرتين تقوم على أساس تحليل النظريات العلمية في إطار النسق الفرضي-الاستنباطي؛ فالتأييد يقوم على أساس أن النظرية تستلزم تنبؤات أو عبارات ملاحظة. وإذا كان التنبؤ كاذبا، فإن النظرية تكذب، أما إذا كانت هناك تنبؤات عديدة صادقة، فإن النظرية يتم تأييدها.
45
يقول هيلاري بوتنام: «ورغم كل الهجوم الذي شنه بوبر على المذهب الاستقرائي، فالشكل الذي يقدمه لا يختلف اختلافا كبيرا. وآية هذا أن النظرية تستلزم تنبؤات؛ أي عبارات أساسية. وإذا كان التنبؤ كاذبا فإن النظرية تكذب. أما إذا كانت هناك تنبؤات عديدة صادقة بدرجة كافية، مع استيفاء شروط إضافية معينة، فإن النظرية يتم تعزيزها بدرجة كبيرة.»
46
ثانيا: المفندون للتجارب الحاسمة (أ) بيير دوهيم
شهد القرن العشرون في فلسفة العلم ظهور مجموعة من الفلاسفة والعلماء أطلق عليهم دعاة المذهب «الأداتي-الاصطلاحي»؛ فقد نظروا إلى القوانين والنظريات والأنساق العلمية بوصفها أدوات أو اصطلاحات للربط بين الظواهر والتنبؤ بها والسيطرة عليها، توصف بالصلاحية أو عدم الصلاحية، وليست تعميمات استقرائية أو قضايا إخبارية ذات محتوى معرفي عن العالم التجريبي لتوصف بالصدق أو الكذب، فتقاس قيمة النظرية العلمية بقدرتها على أداء وظائف العلم، وليس بقدرتها على التعبير عن الواقع بصدق.
47
بمعنى أن القوانين العلمية والنظريات والأنساق العلمية ليست صورة عقلية طبق الأصل من الطبيعة، بل الأمر في مجمله أشبه بصياد رمى بشبكة في بقعة ما من البحر يريد صيدا، فهل ما تخرج به الشبكة يعبر عن حقيقة ما يوجد في أعماق البحر، أم أن ذلك يتوقف على المكان الذي اختاره الصياد للصيد ونوع الشباك واتساع فتحاتها وغير ذلك، ولو تغير أحد هذه الأشياء لتغير لذلك الصيد كما وكيفا؟ وهكذا فمفاهيم وقوانين العلم عندهم كشبكة الصياد؛ أي اصطلاحات متعارف على معانيها بين العلماء. إنها مجرد وسائل مفيدة لفهم الطبيعة، فإذا صادفنا ما هو أفضل منها «وظيفيا» بادرنا بالتخلص منها كأي شيء استهلاكي عادي. بيد أن هذا لا يعني أن قوانين الطبيعة هي قرارات عشوائية يتفق عليها العلماء اليوم ليختلفوا غدا، بل لها بالتأكيد مضمون واقعي.
48
كما أصر الأداتيون-الاصطلاحيون على أنه لا يمكن اعتبار القانون العلمي مشتقا من الاختبارات التجريبية؛ لأن القانون عام والتجربة جزئية، والقانون محدد بدقة والتجربة تقريبية تحتوي على كثير من التعقيدات يستبعدها القانون، والتجربة منتهية والقانون قابل دائما للتطور والتقدم، فكيف تكون النظرية العلمية نتاجا للواقع التجريبي؟! إنها نتاج العقلية العلمية المبدعة، وتكشف عن عمليات منطقية أكثر مما تكشف عن وقائع تجريبية؛ فقد تتكيف النظرية وفقا لمقتضيات التجربة التي لا تمثل أكثر من مرشد؛ فدورها استشاري فقط لتحديد أنسب الفروض العلمية والأكثر ملاءمة؛ أي الأدق في التنبؤ والأوسع في العمومية، من دون الزعم أن القانون حقيقة متمثلة في الواقع التجريبي.
49
وقد جاء بيير دوهيم ليسحب التفسير الأداتي-الاصطلاحي على العلم بأسره، وذلك في كتابه «هدف وبنية النظرية الفيزيائية»، رأى أن النظرية العلمية تمدنا بنظام صوري عام لضم عدد كبير من القوانين الجزئية، وهي بهذا بنية من كيانات مجردة، ليست وصفا ولا تفسيرا لوقائع العالم التجريبي، بل هي مجرد أدوات اصطلحنا عليها للتنبؤ، صيغت لتكون أكفأ وتنبؤاتها أدق. كل ما يبدو وصفا هو مجرد تعيين لعلاقات تجعل التنبؤ أسهل وأدق. أما التفسير فليس له قيمة ولا دور، مهمة العلم تنحصر في تحديد العلاقات بين الظواهر.
50
كما يعتقد دوهيم، إضافة لما سبق، أن الفكرة الاصطلاحية في العلم قد أتت من تحليله لاستحالة التأييد العلمي. وهذا بالطبع، هو ما جعله يفكر في كون هذا الفرض صادقا أو كاذبا. والسبب هو أن العالم منشغل - وبحرية - في أن يغير أي الفروض الماثلة في مقدمات النظرية. وهنا يأتي اصطلاح الفرض؛ أي إن عملية الصدق والكذب ليست واردة هنا.
51
وبناء عليه فإن دوهيم قال إن التجربة الحاسمة تبدو مستحيلة في الفيزياء.
A “Crucial Experiment” is Impossible in Physics.
52
وقد برهن على ذلك من خلال عدة توجهات:
التوجه الأول:
ويتمثل في التحفظات الخاصة بالتجربة الحاسمة التي أجراها فوكولت عام 1850م، والتي حسم بها النظريتين الجسيمية والموجية؛ حيث تبين له أن سرعة الضوء أقل سرعة في الماء عنها في الهواء؛ ومن ثم تأيدت النظرية الموجية وأهملت الجسمية. لم تكن تجربة حاسمة بالمعنى الدقيق، وإنما كانت إجراء فوريا. وهذا الإجراء لم يثبت على طول الخط؛ فقد جاء العالم الألماني «ماكس بلانك
Max Plank » (1858-1947م) ليعلن أن النظرية الجسيمية للضوء لم تكن بالنظرية الفاشلة في تاريخ العلم؛ فلقد أثبت بلانك أن الضوء يتألف من جسيمات هي الفوتونات، وهذه الفوتونات تتكون من طبيعة جسيمية لا موجية. لقد اكتشف بلانك أن الفوتون يسافر عبر الخلاء في خطوط مستقيمة. استدل على ذلك بتجربة بسيطة؛ حين يمر إشعاع في غاز ما فإن عددا قليلا من جزيئات هذا الغاز تتبعثر، بينما لا يتأثر عدد كبير من الجزيئات بمرور الإشعاع، فإذا كان الإشعاع مؤلفا من موجات تسير عبر الأثير كنا نرى كل جزيئات الغاز تبعثرت؛ ومن ثم أيد بلانك نظرية نيوتن في النظرية الجسيمية في الضوء. وكان «أينشتين» متابعا لنتائج أبحاث بلانك في «الفوتونات
»؛ فقد أعلن سنة 1905م أن الإشعاع يتألف من وحدات جسيمية منفصل بعضها عن بعض، وهذه الوحدات تسمى بالفوتونات.
وهنا يعقب دوهيم بأنه إذا كان نيوتن قد قال إن الذرات والضوء من طبيعة جسيمية. وإذا كان هويجنز قد قال إن الذرات والضوء من طبيعة موجية. وظل الخلاف حاسما حتى جاء فوكولت بالتجربة الحاسمة في صف النظرية مؤيدا لهويجنز. لكن لما جاء القرن العشرون عاد بلانك، وأيده ألبرت أينشتين، إلى النظرية الجسيمية للضوء. وظل الأمر كذلك حتى جاء العالم الفرنسي «لويس دي بروي
Louis de Broglie » المولود عام 1892م، والعالم النمساوي «إيرفين شرودنجر
Erwin Schrodinger » (1887-1961م) وعادا إلى النظرية الموجية للضوء والمادة، وعاد الخلاف الحاسم بين النظريتين من جديد. لكن الأمر الآن استقر على موقف تبناه العالم الألماني «فيرنر هيزنبرج
V. Heisenberg » والعالم «بورن
Born »، وهو أن الذرة والضوء يمكن أن يفسرا بالتصور الموجي والجسيمي معا، لكن ليس في لحظة واحدة. المادة والضوء يفسران تفسيرا جسيميا في السرعات المحدودة لحركة المادة، ويفسران تفسيرا موجيا حين تصل سرعة المادة إلى سرعة الضوء.
53
وأخيرا يختم دوهيم حديثه بأنه لا توجد ثمة تجربة حاسمة حقيقية في علم الفيزياء. قد تكون هناك تجارب حاسمة في علوم أخرى مثل علم الفسيولوجيا. أما في الفيزياء فإن التجربة الحاسمة تكون مستحيلة؛ ذلك لأنها - أي التجربة - بدلا من ذلك تبدو رحبة، بحيث تقبل الأنساق النظرية (فروضا ونظريات) لنفس الظاهرة موضع التساؤل ، فإذا كنا قد ركزنا اهتمامنا على فرضين بصدد الضوء، فإن هذا ليس معناه أنه إذا وجد أكثر من ذلك فتكون غير مقبولة، بل على العكس فإن الاصطلاحية تعلمنا كيف يمكننا طرح أكثر من فرضين متباينين ليغطي ذات الظاهرة، وليس لنا الحق في الحكم على أحد من هذه الفروض بأنه هو الصادق دون الآخر طالما أن التجربة المرنة قد رحبت وأقرته باعتباره مرشدا فقط.
54
التوجه الثاني:
ويتمثل في التحفظات التي أبداها دوهيم في مسألة الفروض المساعدة، حيث طرح دوهيم هذا السؤال: ماذا نفعل عندما تتمثل أمامنا صعوبة تحول دون إتمام الاختبار الحاسم؟ هل يتطلب الأمر دخول فروض جديدة تحل هذه الصعوبة أو تلك؟ وإذا كان ذلك كذلك فما هي الفروض الجديدة، هل هي فروض مساعدة تخل بمعيار التكذيب وتبطل التجربة الحاسمة؟
يرى دوهيم أن الفيزيائي حين يقوم بإجراء تجاربه لا بد له أن يخضع في عملية التجريب لقاعدة الفروض المتعددة
Multiple hypotheses ؛ أي إن العالم لا بد أن يضع أكبر عدد من الفروض، تظل كلها ماثلة أمام الذهن أثناء التجربة، ونتائج التجربة وحدها هي التي تقرر الفرض في النهاية، على حين تكذب نتائج التجربة الفروض الأخرى؛ ومن ثم نستبعدها. ويتضح لنا هذا المعنى من نص «دوهيم» القائل: «إن الفيزيائي لا يمكنه أن يخضع فرضا واحدا بمفرده للاختيار التجريبي، بل مجموعة كاملة من الفروض.»
55
وهذا يعني أن التجارب الفيزيائية هي ملاحظة للظواهر مصحوبة بتأويل لها في ضوء النسق المعمول به؛ لذلك فإن الفيزيائي لا يخضع فرضا منفردا للتجريب، بل مجموعة فروض معا.
ومن ناحية أخرى يرى دوهيم أنه عندما تكون التجربة على عدم وفاق مع تنبؤاتهم أو نتائج النظرية تخبرنا بأنه على الأقل، واحد من هذه الفروض المؤلفة لهذه المجموعة خطأ، أو تحتاج إلى تعديل، ولكنها - وهذه هي المشكلة - لا تخبرهم بالفرض تحديدا الذي هو موضع الخطأ الذي يجب تغييره. ويستطرد دوهيم قائلا: «كلا، الفيزياء لم تكن آلة تضع نفسها في فوضى وتفكك ... الفيزياء يجب أن تكون كائنا عضويا قائما، في قطعة واحدة، يستحيل على أي عضو في هذا الكائن أن يقوم بوظيفة دون الإجراءات الأخرى؛
56
وبالتالي فإن ثوب أي نظرية فيزيائية يشكل كلا غير قابل للتجزئة ... كما أنه لو افترضنا أن تأييدا تجريبيا لتنبؤ أو نتيجة من نتائج هذه النظرية أو تلك، فإن هذا التأييد لهذا التنبؤ أو ذلك لا يكون ألبتة برهانا حاسما للنظرية ... ولا يكون ذلك بمثابة تأكيد على أن النتائج الأخرى لهذه النظرية غير متناقضة عن طريق التجربة.»
57
وعندما يقول دوهيم إن ثوب النظرية كل متكامل، فهذا معناه أنه لم يكن ممكنا أن تخضع أجزاء النظرية على انفصال لاختبار التجربة؛ ومن ثم نبعد التحقيق التجريبي المهلهل عن اختبار النظرية؛
58
وبالتالي لا يمكن أن يعد الدليل التجريبي في حد ذاته تكذيبا حاسما للفرض، وليس هناك تجربة حاسمة بصورة قاطعة.
خلاصة القول فإنه في هذا التوجه يتمسك دوهيم بضرورة أن تكون جميع فروض النظرية ماثلة أمام الذهن (وهو ما كان يفعله العلماء قبله) حين يقوم العالم بإجراء عملية حذف أو إسقاط بعض الفروض. بيد أن حذف فرض ما يعني الانتقال من هذا الفرض إلى الآخر، إلى أن يتم حذفها جميعا. وهذا إن أدى إلى شيء، فإنما يؤدي إلى فشل التجارب تماما؛ ومن ثم لا تنتهي إلى نتيجة ما في حينها، بل الأمر يتطلب تمثل الفروض جميعا أمام الذهن، مما يتيح لهذا العالم الفرصة في الكشف عن تفسير الظاهرة موضع التساؤل.
59
التوجه الثالث:
ويتمثل في التحفظات التي أبدها دوهيم في مسألة صدق وكذب النظريات العلمية؛ حيث يتساءل: كيف نبني النظرية العلمية؟
وهنا يرى دوهيم أن النظرية العلمية تتألف من نسق من القضايا الرياضية المستنبطة من عدد قليل من المبادئ التي تفضي بنا في النهاية إلى مجموعة من القوانين التجريبية؛ ومن ثم فإنه يميز لنا أربع خطوات تتركب بمقتضاها النظرية العلمية:
60
انتخاب الخصائص الفيزيائية التي نجد أنها تمثل مجموعة المبادئ البسيطة، التي تتحكم في اختيار ما يليها من مبادئ. وعن طريق «القياس»
measurement
يمكن أن نرمز لهذه المبادئ برموز رياضية
Mathematical Symbols
ليست بينها وبين الخصائص الفيزيائية «علاقات داخلية»
Internal Relation ، بل تستخدم كدلالات.
Relation ، بل تستخدم كدلالات.
إيجاد عملية الربط بين مجموعة في قليل من القضايا، التي نستخدمها كمبادئ أساسية في استنباطنا، وهذه المبادئ لا تمثل بدورها علاقات حقيقية بين الخصائص الأساسية للأجسام، بل إننا نتفق أوليا على صحتها، والاتفاق المنطقي يحكمها، وهذه المبادئ هي ما يسميه «دوهيم» بالفروض.
التأليف بين هذه الفروض، وفق قواعد التحليل الرياضي
Mathematical Analysis
وهنا يتدخل المنطق والرياضيات، وتصبح عملياتها الأساسية هي التي يسير وفقا للتحليل الرياضي.
والنتائج التي نستخلصها من الفروض يتم ترجمتها إلى قضايا، تعبر عن الخصائص الفيزيائية للأجسام. وعن طريق مقارنتها بالنتائج التي نحصل عليها من التجربة، يمكن لنا أن نتبين ما إذا كانت صادقة - إذا ما جاءت مطابقة للنظرية - أو كاذبة - إذا لم تتفق معها.
من خلال هذه الخطوات التي يحددها دوهيم، نجد أن الفرصة الحقيقية تقدم لنا بطريقة مقنعة، مجموعة من القوانين التجريبية. والاتفاق مع التجربة يعد بمثابة «المعيار الوحيد»
Sole Criterion
للصدق بالنسبة للنظرية.
61
لكن إذا افترضنا أن هدف العلماء يكمن في الاكتشاف في ضوء الوقائع المطردة في الجزء الملاحظ من العالم، فإن هذا يحتاج بالطبع إلى التجريب. بيد أن هذه الاطردات كثيرا ما نجدها معقدة. وهذا ما يجعل التصميم التجريبي في غاية الصعوبة والغموض. وهنا تأتي الحاجة إلى بناء نظريات ترشد البحث التجريبي؛ فالمعرفة مفترضة، فيما يرى دوهيم، بحيث تكون الملاحظة العلمية نظرية محملة
Theory Loaded ، مثل القياسات، وقرارات الخبرة في أول فهم الشيء، على العكس من الفكرة المطروحة عند التجريبية المنطقية وغيرها، التي تؤكد على أن الملاحظة - بدلا من ذلك - تبدو كافية للبرهان على صدق أو كذب النظرية، أو بعبارة أخرى، حل لمشكلة وليس إثارة. لكن المطلوب منها أن تكون السبب لمشكلات لا لحلولها. ومن منطلق أن نظرياتنا العلمية يستحيل أن نبرهن عليها بكونها صادقة أو كاذبة؛ ذلك لأنها غير مستنبطة من النتائج التجريبية. من هذا المنطق فإنه من غير الممكن أن يكون هناك تجربة تحكم على الفرض من فروض النظرية أو النتائج منفصلا. والسبب أنه من الصعوبة بمكان أن نجد فرضا بذاته يمتلك حيثياته من نتائج تجريبية، فإذا رمزنا إلى فرض نظري بصدد نظرية ب «ك» فإنه من غير الممكن أن يكون هذا الفرض أو ذاك قابلا للتكذيب مثلا، وذلك عن طريق فصله عن كل الفروض الأخرى للنظرية بغرض اختياره. الفروض النظرية ينبغي ألا تكون منفصلة لغرض الاختيار.
62
هذه أهم التوجهات والدواعي والتي جعلت دوهيم يصر على أن التجربة الحاسمة مستحيلة في الفيزياء. ولا شك أن هذا الموقف قد كانت له ردود فعل واسعة النطاق، من قبل كثير من فلاسفة العلم، لنذكر منهم، موقف كارل بوبر؛ حيث رفض فكرة تجنب التفنيدات التجريبية والتملص من التكذيب، وذلك بأن نضيف للنظرية فروضا مساعدة تتلافى في ضوئها مواطن الكذب، أو بأن ننكر التجارب المفندة. وفي هذا يقول: «أما بالنسبة للفروض المساعدة، فإننا نقترح أن نضع القاعدة القائلة: إننا نقبل الفروض المساعدة التي لا يكون إدخالها مفضيا إلى تقليل درجة قابلية التكذيب، أو قابلية اختبار النسق موضع التساؤل، وإنما على العكس من ذلك نقبل الفروض المساعدة التي تزيد من قابلية التكذيب أو قابلية الاختبار ... وإذا زادت درجة قابلية التكذيب، فقد أثر إدخال الفروض في النظرية فعلا. لقد كان النسق الآن محكما أكثر مما كان، ويمكن أن نوضح ذلك كما يلي: إن إدخال فرض مساعد يجب أن ينظر إليه دائما على أنه محاولة لبناء نسق جديد. وهذا النسق يجب الحكم عليه دائما في ضوء الاتجاه بأنه يؤلف تقدما حقيقيا في معرفتنا عن العالم.»
63
وفي موضع آخر يصب جام غضبه على المذهب الاصطلاحي ورواده بمن فيهم دوهيم، فيقول: «لقد أدرك كل من بوانكاريه ودوهيم استحالة تصور نظريات علم الطبيعة على أنها قضايا استقرائية. وقد تحقق لهما أن المشاهدات القياسية التي قيل إن التعميمات تبدأ منها، هي على العكس من ذلك، تأويلات في ضوء نظريات ... ومن ثم فالنظرية العلمية لا تحوي معرفة صادقة أو كاذبة، فهي ليست إلا أدوات لنا أن نقول عنها فقط إنها ملائمة أو غير ملائمة، مقتصدة أو غير مقتصدة، مرنة، دقيقة أو جامدة؛ لذلك نجد دوهيم يقول إنه لا توجد أسباب منطقية تمنعنا من أن نقبل في وقت واحد نظريتين متناقضتين أو أكثر ... وعلى الرغم من أنني أوافقهما على ذلك، إلا أنني أختلف معهما عندما اعتقدا باستحالة وضع الأنساق النظرية موضع الاختبار التجريبي، فلا بد أن تكون قابلة للاختبار - أي قابلة للتفنيد من حيث المبدأ وليست أدوات.»
64
ومن ناحية أخرى يؤكد بوبر في كتابه براهين وتفنيدات أنه: «إذا كان فرنسيس بيكون قد أعتقد أن التجربة الحاسمة يمكن أن تؤسس أو تثبت النظرية»، أما نحن فنقول بأنها يمكن أن تفند أو تكذب النظرية، ثم يعلق بوبر بأن «دوهيم في نقده المشهور للتجارب الحاسمة نجح في توضيح أن التجارب الحاسمة لا يمكن بحال أن تؤسس النظرية؛ ومن ثم فقد أخفق في توضيح أنها لا يمكن أن ترفض النظرية»
65
ومن جانب آخر، يرى «وارتوفسكي أن التجارب الحاسمة في رأي «دوهيم» ليست ممكنة، وهذا ما جعل «دوهيم» يشبه الفيزيائي النظري بالطبيب بدلا من «صانع الساعات»».
66
إلا أن فليب كواين يفند دعوى «بوبر» في ثلاثة أدلة متصلة توضح فساد رأيه في نقد «دوهيم»؛ فالحجة الأساسية التي يستند إليها «دوهيم» تقوم على أن التجربة الحاسمة لم توضع لتحقيق فرض نظري واحد، بل لاختبار مجموعة من الفروض، هذا من جهة. كما أن «دوهيم» كان معنيا في المقام الأول بتوضيح أنه لا يمكن أن نبطل فرضا نظريا واحدا عن طريق الملاحظات، هذا من الجهة الثانية. وأخيرا فإن «دوهيم» اهتم في الجزء الثاني من كتابه هدف وبنية النظرية الفيزيائية ببيان أنه يمكن عن طريق التجربة إبطال الفروض النظرية؛ ومن ثم فإن حديث «دوهيم» عن التجارب الحاسمة يعني أنه بالإمكان رفض النظرية والفروض كلها عن طريق التجربة.
67 (ب) إمري لاكاتوش
في الوقت الذي جاءت فيه أطروحة بيير دوهيم القائلة بأنه لا يجب اختبار الفرض على حدة وبصورة منفصلة بل النسق ككل، كان إمري لاكاتوش يصمم نوعا فريدا من العقلانية. وهذه العقلانية تتمثل في نقد وتغيير برامج البحث أو المعرفة العلمية (من مفاهيم وقوانين ونظريات علمية) عبر تاريخ العلم؛ فلقد رفض لاكاتوش فكرة تبرير المعرفة التي تشكل النمو العقلاني للمعرفة العلمية، وتسعى إلى أن تحول التاريخ الداخلي للعلم مجرد وقائع تجريبية وعبارات صلبة تعقبها تعميمات استقرائية أو قوانين علمية، كما هو واضح عند التجريبية المنطقية أو التيار الاستقرائي بشكل عام، الذي ينصرف إلى صدق القضايا الواقعية والأولية وصحة الاستدلالات الاستقرائية؛ أي إنهم انشغلوا بالمشكلات المعرفية والمنطقية إلى الدرجة التي صرفتهم عن الاهتمام المناسب بالتاريخ الواقعي.
68
وبالتالي لم تعد فلسفة العلم عند لاكاتوش مجرد تبرير المعرفة العلمية من خلال التأييد وعدم التأييد أو الصدق والكذب بعيدا عن تاريخ العلم. وهذا ما جعله يرفض النزعة الاستقرائية عموما والتجريبية المنطقية على وجه الخصوص.
ومن ناحية أخرى، اعترض لاكاتوش على بوبر بشأن التقدم العلمي؛ فقد أكد بوبر على اختبار الفرض على حدة وبصورة منفصلة. وعد ذلك مسألة جوهرية لتقدم العلم وقياس ما يضاف إليه حقيقة؛ فالذي لا شك فيه أنه لا يمكن أن يقرر أحد إذا كانت نظرية جسورة مهما كانت، وذلك عن طريق اختيارها على انفصال، لكن فقط عن طريق اختبارها في ضوء سياقها المنهجي التاريخي.
69
وهذا معناه أنه إذا كان بوبر في محاولته للتقدم العلمي يؤكد عمومية النظرية العلمية، مع وضع في الاعتبار تكذيب النظرية اللاحقة للنظرية السابقة عند تناقضها، فإن لاكاتوش يؤكد على أن أي نظرية تتمثل وتولد في خضم هائل من التناقضات؛ ومن ثم يمكن عمل تعديل في النسق النظري العلمي. وطبقا لذلك رأى لاكاتوش أن أي برنامج بحث يتألف من قواعد منهجية؛ حيث إن البعض منها يخبرنا بطرق البحث تجنبا للموقف السلبي، والبعض الآخر يوضح لنا طرق تبني الموجه المساعد على الكشف السلبي أو الإيجابي. بيد أن الموجه السلبي لبرنامج البحث دائما ما يعزل النواة الصلبة للقضايا التي لا تعرض للتكذيب، وهذه القضايا يتم التوافق عليها اصطلاحا؛ ومن ثم فهي غير قابلة للتفنيد عن طريق برنامج البحث. أما الموجه الإيجابي فيعد بمثابة استراتيجية لبناء سلسلة من النظريات والاقتراحات الإجرائية للتعامل مع الشواذ المتوقعة. وبينما يتضح برنامج البحث، نجد أن حزاما واقيا من الفروض المساعدة يلتف حول النواة الصلبة.
70
ويعطينا «لاكاتوش» مثالا على ذلك من برنامج البحث النيوتوني؛ حيث يلاحظ أن النواة الصلبة لهذا البرنامج تتمثل في الجاذبية، وأنه لا شك في أن بين النواة والظواهر الحزام الواقي من الفروض المساعدة التي تحتك بالاختبار والتكذيب. ومن هنا قبل الحزام الواقي التعديل والتطوير ليحمي النواة، وهذا التطوير يتم بناء على الموجه الإيجابي المساعد على الكشف؛ أي إننا حين اكتشفنا أن كوكب أورانوس لا يتفق مع التنبؤات الخاصة بنظرية نيوتن لم نستنتج من هذا أن النظرية كاذبة، بل على العكس، فالنظرية أو برنامج البحث النيوتوني عامة لا يزال تقدميا. وبعد فترة من الزمن أصبح هذا البرنامج متفسخا ومتدهورا لظهور برنامج آخر، وهو لأينشتين الذي فسر حركة الكوكب عطارد التي لم يستطع برنامج نيوتن حلها. هذا فضلا عن أن برنامج أينشتين قد تنبأ بانحراف الأشعة الآتية من النجوم تحت تأثير مجال الجاذبية.
71
فاختبار أي برنامج يعول مباشرة على الحزام الواقي للفروض المساعدة. ومن هنا أكد «لاكاتوش» أن أي نتيجة اختبار سالبة مفردة لا تفند برنامج البحث ككل؛ الأمر الذي جعله ينتقد «بوبر» عندما عول على أهمية النتائج السلبية؛ حيث إن وجود أي نتيجة اختبار سلبية، إنما هي استراتيجية مثمرة لتعديل الحزام الواقي للفروض المساعدة ليعدل أو يسوي الشاذ.
72
وعلى هذا رفض «لاكاتوش» أن يكون نمو العلم مجرد واقعة نافية أو بينة تجريبية معارضة تكذب نظرية على حدة بصورة مستقلة، ليتم رفضها هي فقط في حد ذاتها ويستبدل أخرى تعرض بدورها على محكمة التجريب! وهنا يؤيد لاكاتوش بيير دوهيم، لا سيما عندما رأى أن المعقبات أو النواتج التي تلزم الفرض العلمي الجديد، والتي تكون محكمة للتجريب لا تخص الجديد وحده، بل تخص النسق المعرفي بأسره الذي انتمى إليه الفرض.
73
وهنا يمكننا أن ندلف إلى موقف لاكاتوش من التجارب الحاسمة، حيث ينكر أهمية ودور التجارب الحاسمة في برامج البحث العلمي؛ فهو يقرر أن التجارب الحاسمة ليس لها قوة كي تنحي برنامج بحث؛ حيث يؤكد التسامح المنهجي، فلا وجود للبت القاطع؛ إذ إن إلغاء برنامج يستغرق زمنا، كما أن قبول برنامج جديد يستغرق زمنا أيضا؛
74
وفي هذا يقول لاكاتوش: «لا يوجد هناك تجارب حاسمة إذا عنينا بذلك تجارب تؤدي مباشرة إلى القضاء على برنامج معرفي معين. وفي الحقيقة فإنه في حال انهزام برنامج بحث معرفي واستبداله ببرنامج معرفي آخر، يمكننا مستفيدين من مرور فترة طويلة من الزمن «تسمية تجربة حاسمة إذا ظهرت جليا أنها كانت مؤيدة للبرنامج المنتصر وداحضة للبرنامج المهزوم»، وبعبارة أخرى لا يعير العلماء آذانهم بسهولة إلى نتائج التجارب السلبية بادئ الأمر، ولا بد من مرور فترة طويلة من الأبحاث والاختبارات كي يقبل سوادهم بفشل النظام المعرفي الذي دحضته التجربة، فلا تصبح هذه الأخيرة حاسمة في انهزامه إلا بعد أن تكون قد ترسخت النظرية الجديدة في الأوساط العلمية، فيمكننا فقط عندها القول بأنها تجربة حاسمة.»
75
وقد تأخذ الأمور منحى أكثر تعقيدا حسب لاكاتوش: «فإذا وضع عالم من أنصار المعسكر المهزوم بعد بضع سنوات تفسيرا علميا لما دعي ب «التجربة الحاسمة» يجعلها متفقة مع البرنامج المهزوم، فإن صفة الشرف يمكن نزعها عن تلك التجربة وتتحول بذلك «التجربة الحاسمة» من هزيمة إلى نصر للبرنامج القديم.»
76
وهكذا قد تستمر نظرية ما في مقاومة التغيير لفترات طويلة، وقد تصبح عائقا أمام أي محاولات جدية لدحضها فتسد آذان العلماء عن صوت البنى الطبيعية المناقض لها، وتخلق انقطاعا مرحليا في المسار العلمي نحو الحقيقة. وقد يطول هذا الانقطاع أو يقصر جاعلا من مفهوم التقدم نحو البنى الموضوعية مفهوما تاريخيا لا تندرج فيه أية حقبة منعزلة من تطور المعرفة، بل المسار التاريخي برمته.
77
ومن ناحية أخرى يؤكد لاكاتوش أن هناك علاقة حميمة بين التجربة الحاسمة من جهة والعقلانية الفورية
Instant Rathionality ؛ فالإيمان بالتجربة الحاسمة هو إيمان بالعقلانية الفورية والعكس صحيح كذلك؛ ذلك أن مفهوم التجربة الحاسمة يقوم على تمكين العالم من الاختبار الفوري بين النظريات والبرامج العلمية المتنافسة، لجأ إليها بصورة يوتوبية كل من التجريبيين المناطقة وكارل بوبر ، وفي هذ يقول لاكاتوش: «إن فكرة العقلانية الفورية يمكن أن تكون مثل المدينة الفاضلة «يوتوبيا» لكن هذه الفكرة التي يحلم بها هي خاتم دامغ لكل أنواع نظرية المعرفة. التبريريون يريدون إثبات النظريات حتى قبل نشرها. والاحتماليون يأملون في وجود آلة تستطيع أن تعطي في لمحة قيمة النظرية (درجة التحقيق) التي أعطيت البرهان. والمكذبون السذج يأملون أن يكون الاستبعاد هو النتيجة العاجلة لتحقيق التجربة على الأقل.»
78
وهذا النص يوضح أن لاكاتوش ليس استقرائيا ولا تكذيبيا. إن لاكاتوش يميز المعرفة العلمية وفقا لكشفيات برامج الأبحاث العلمية؛ ففي داخل برنامج البحث ليس هناك صوت واحد هو صوت التكذيب أو التحقيق (الجدليين) هما أحد تلك الأصوات، ولكن حين يتم تقديم صوت واحد على بقية الأصوات، فهذا يكون بواسطة عملية انتقائية من قبل التجريبين المناطقة والتبريريين وكذلك التكذيبيين، يقومون بها بعد انتهاء الأحداث، وليس العكس؛ ومن ثم لاكاتوش يرفض التجربة الحاسمة، والعقلانية الفورية في آن واحد، وذلك بصورة عقلانية، دون نفي إمبريقية المعرفة العلمية.
ونجده من أجل هذا، يخصص مساحات من أبحاثه ودراساته لمناقشة التجربة الحاسمة؛ فهو قد كتب مقالتين مستقلتين بذاتهما بخصوص «التجارب الحاسمة»؛ الأولى بعنوان «دور التجارب الحاسمة في العلم». أما الثانية والأهم لأنها تشمل ردودا لأطروحته عن التجارب الحاسمة، بعنوان «الشواذ في مقابل التجارب الحاسمة».
ويرفض لاكاتوش، في العملين المذكورين سلفا، سواء في حاضر أو ماضي المعرفة العلمية، وجود تجربة معيارية، تخضع لقواعد الميثودولوجيا، ويمكن لها أن تفصل بين نظريتين متنافستين. ودليله على ذلك عدم وجود تلك التجارب فعلا في ماضي العلم. أي إن بعض التجارب العلمية في ماضي العلم، والتي يزعم بعض فلاسفة العلم أنها شكلت تجارب حاسمة، لم تكن تجارب حاسمة على الإطلاق في حينها، بل هي كذلك فقط عن طريق استردادها بمناهج الميثودولوجيا، على أرضية حاضر المعرفة العلمية. وينتج عن هذا الرأي إنكار وجود معيار فوري في الماضي أو المستقبل قادر على تقديم معايير لرفض أو قبول النظريات العلمية في الحال، ولكن النتيجة الأكثر أهمية هي عدم شرعية الجانب الإرشادي في الميثودولوجيا على الرغم من استبقاء الجانب القيمي لها.
79
ومن أجل البرهنة على رفضه للتجارب الحاسمة، يقسم لاكاتوش التجارب الحاسمة إلى نوعين من التجارب:
التجارب الحاسمة الصغرى “minor crucial experiments” .
التجارب الحاسمة الكبرى “major crucial experiments” .
التجارب الحاسمة الصغرى هي تجارب علمية تحدث في إطار برنامج بحث محدد، وهي التي ربما تفصل بين نسختين مقترحتين لبرنامج البحث ذاته، ولا يصفها لاكاتوش بأنها «عمل روتيني» يحدث بصورة دورية داخل برنامج البحث العلمي، وهي بالتأكيد التجارب التي تؤكد الطابع الأمبيريقي للمعرفة العلمية، ومع ذلك يصف لاكاتوش ذلك العمل الروتيني بأنه نسبي، بمعنى أنه من السهولة بمكان الهروب من التكذيب لتلك التجارب لصالح إحدى نسخ البرنامج. ولعل هذه الإشارة تعني وضع لاكاتوش للتجارب الصغرى كحقيقة موضوعية بين قوسين، والتشكك في مدى تعبيرها عن حقائق العالم الثالث. ولعله لم يتعمق في دراستها لأنها ليست هي التجارب الحاسمة التي يدور حولها النزاع بينه وبين الوضعيين.
80
إن الهروب من التكذيب سوف يؤدي في نهاية الأمر إلى «التصادم بين برامج الأبحاث وبعضها مع البعض الآخر». وإذا وصل مستوى البحث العلمي إلى هذه الدرجة، تبدأ الحاجة إلى التجارب الحاسمة الكبرى، وهي التي يدور حولها النزاع بين لاكاتوش والوضعيين. وتلك التجارب الحاسمة الكبرى من وجهة نظر لاكاتوش، هي التي يفترض أن تحكم أو تفصل بين برامج الأبحاث المتنافسة.
81
ويعطينا لاكاتوش مثالا على ذلك من خلال تفسيره للنظرية الجسيمية والنظرية الموجية في الضوء، فيقول: «إن التجارب الحاسمة المشهورة لن تكون لها قوة إلغاء برنامج بحث أو أي شيء يفيد ... فمن خلال منهج البحث للتجارب الحاسمة الصغرى بين الصياغات المتتالية نجد أن التجارب تقرر بسهولة بين
bth ، (n+)th
الصيغة العلمية، بما أن (n+)th
ليس فقط متناقضة مع
bth
لكنها أيضا تحل محلها، إذن (n+)th
كان لها محتوى متحقق أكثر ضوءا في نفس البرنامج، وفي ضوء نفس نظريات الملاحظة الثابتة جدا، فإن الاستبعاد يكون علمية روتينية نسبيا. وإجراءات الاستئناف أيضا غالبا ما تكون سهلة؛ ففي حالات كثيرة نجد أن النظرية الملاحظة المتحداة، بعيدا عن أن تكون ثابتة جيدا، فهي في الحقيقة افتراض مختلف ساذج غير مصاغ، والتحدي هو الوحيد الذي يكشف وجود هذا الافتراض المختفي، ويسبب صياغته واختباره وسقوطه؛ فإن الزمن وأيضا النظريات الملاحظة تكون راسخة في أحد برامج البحث. وفي مثل هذه الحالات يمكننا أن نحتاج إلى تجربة حاسمة كبرى.»
82
ويستطرد لاكاتوش فيقول: «وعندما يتنافس برنامجان للبحث، فإن نماذجهما العليا الأولى عادة تعالج مظاهر مختلفة من الميدان. خذ مثلا، المثال الأول للمرئيات شبه الكروية عند نيوتن وصفت على أنها انكسار ضوئي، والمثال الثاني للمرئيات الموجية عند هويجنز وصفت على أنها تداخل ضوئي. وأثناء توسع البرنامجين للبحث، نجد أنهما بالتدرج يتجاوزان كل منهما حدود الآخر. وصيغة
nth (النظرية الجسيمية) للأول نجدها متناقضة بكل وضوح وبطريقة مثيرة مع
mth (النظرية الموجية) الثانية. وأجريت تجربة عدة مرات، وكنتيجة لذلك هزمت الأولى في المعركة، بينما انتصرت الثانية. لكن الحرب لم تنته؛ فأي برنامج بحث مسموح له ببعض الهزائم. وكل ما يحتاجه لكي يعود هو أن يقدم صيغة (n1)th
أو (n+)th
وإثبات لبعض محتوياته الجديدة.»
83
ويختم لاكاتوش حديثه فيقول: «لكن إذا لم تكن هذه العودة متوقعة الحدوث، بعد الجهد المعلن، فإن الحرب تكون خاسرة، وترى التجربة الأصلية بتفهم للماضي على أنها تجربة «حاسمة». لكن بصفة خاصة، إذا كان البرنامج الخاسر ناضجا، وكان سريع التطور، وإذا قررنا أن نسلم بصحة نجاحاته العلمية السابقة، ونعترف بفضله العلمي، فإن التجارب الحاسمة المزعومة تتلاشى واحدة بعد الأخرى في صحوة الاندفاع نحو الأمام بثورة هائلة.»
84
والسؤال الآن: ما هي مبررات لاكاتوش في رفض التجارب الحاسمة؟
يمكن أن نحدد السبب الرئيسي لهذا الرفض من تاريخ العلم نفسه؛ فقد سرد لاكاتوش بصورة مجملة، العديد من التجارب العلمية التي لم تؤخذ على أنها حاسمة، إلا بعد عقود من إجرائها. ومن هذه التجارب تجربة «ميكلسون-مورلي
Michelson-Morley Experiment »، والتي يزعم التكذيبيون أنها كانت حاسمة بين برنامج بحث نيوتن من جهة، وبرنامج بحث أينشتين من جهة أخرى. ويرى لاكاتوش أن التجربة سوف تكون كذلك فقط، إذا نظرنا إليها من وجهة نظر الوضعية؛ فلقد مرت تلك التجربة بمراحل عديدة من التمحيص والنقد والتعديل ، ربما لا يجعلها تستقر على نتيجة ثابتة وفاصلة. بالإضافة إلى هذا لم تكن الملهم الرئيسي لأينشتين؛ فهو لم يبدأ منها، بل كانت مجرد نتيجة بعدية من نتائج نظريته.
85
لقد كان الهدف الرئيسي والمعلن من تجربة ميكلسون هو اختبار كل من نظريتي «فرينيل»
Fresnel
من جهة و«ستوك»
Stock
من جهة أخرى، وهما النظريتان المتنافستان بخصوص حركة الأرض نسبة للأثير؛ فقد ذهب فرينيل في نظريته إلى أن تلك الحركة إيجابية، سواء قرب سطح الأرض، أو على بعد ملايين الأميال. أما ستوك فقد ذهب إلى التأكيد أن تلك الحركة تساوي صفرا قرب سطح الأرض؛ لأن الأثير يتحرك تبعا لحركة الأرض؛ لذا فهو ثابت كما هو الحال بالنسبة للأجسام الثابتة على سطح الأرض؛ لذلك فليس هناك ضرورة لافتراض وجود الريح الأثيرية التي افترضها فرينيل.
86
وتزعم الاستقرائية والتكذيبية أن النتائج السلبية الفورية التي انتهت إليها تجربة ميكلسون، قد أدت إلى نبذ برنامج البحث النيوتوني، ومحاولة استبداله ببرنامج أينشتين، مما يجعل تجربة «ميكلسون-مورلي» تجربة فاصلة في وقتها، لدرجة أن نتائجها المكذبة لنظرية الأثير تعد الأساس الذي انطلقت منه نظرية النسبية.
87
لقد قدم لاكاتوش تحليلا تاريخيا لتلك التجربة، جعلته يبين أن اعتبارها تجربة فاصلة، هو أمر استردادي قائم على إسقاط تلك الفكرة نفسها من تاريخ العلم؛ فالعلم لم ينم فعلا بسبب التجارب الحاسمة، ولكنه سيبدو وكأنه نما هكذا بسبب استرداد تاريخ العلم على هذا النحو، وهو استرداد لا يؤيده تاريخ؛ فلقد أكد لاكاتوش حقيقة المراجعة المستمرة والتنقيح، بل والبلبلة المستمرة التي مرت بها تجربة «ميكلسون-مورلي» مما يجعلها تجربة ذات نتائج إشكالية، أكثر منها نتائج دوجماطيقية؛ فلاكاتوش يؤكد أن ميكلسون قد أجرى تجربته ثلاث مرات قبل سيادة برنامج أينشتين، وهو أجراها فيما بعد من جديد بعد السيادة العلمية لهذا البرنامج، وفي كل مرة كان يخرج بنتيجة مختلفة؛ فلقد ذهب ميكلسون في تجربته الأولى - لعام 1881م - إلى تأكيد أنها قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك نظرية ستوك، ودحضت نظرية فرينيل بصورة قاطعة، وهو الأمر الذي تخلى عنه في تجربته الثالثة. والحق أن الاختلاف الموضوعي لنتائج تجربة ميكلسون، لا يدع مجالا للشك في سخف الرأي الذي يؤكد أن تخلي العلماء عن نظرية الأثير، وفقا لنتائج تجربة «ميكلسون-مورلي» هو الذي أدى إلى ظهور نظرية النسبية؛ فالمشكلة بالنسبة لميكلسون ليست نفي أو تأكيد الأثير الذي ترتكز عليه نظرية البصريات النيوتونية، بل توكيد نسخة معينة من برنامج الأثير.
88
لقد ذهب ميكلسون في إحدى كتاباته «إلى أن يصف تجربته بأنها فاشلة، وأن النتائج الصفرية أو التي تأكد منها تقترب من الصفر لتلك التجربة مناقضة لكل التوقعات. ولعل هذا الرأي لميكلسون، هو الذي أضعف موقف الوضعيين، وجعلهم يعتبرون أن تجربة ميكلسون قد أدت إلى الفشل في إدراك الأثير الذي هو خطوة ضرورية للنسبية، ولكن عبارة ميكلسون تعبر عن موقف إشكالي، أكثر من كونه موقفا باتا وقطعيا في صالح نظرية ضد أخرى. وآية ذلك أن أينشتين نفسه فكر؛ أي تأثير لتجربة ميكلسون عليه؛ بناء عليه، فإن لاكاتوش ينتهي إلى حقيقة أن التجارب الحاسمة هي اختراع سيكولوجي بعدي، من ابتكار أصحاب العقلانية الفورية».
89
وهناك تجارب أخرى على غرار تجربة ميكلسون-مورلي، يشرحها لاكاتوش بتفصيل دقيق، ليثبت أنها لم تؤخذ على أنها تجارب حاسمة، إلا بعد عقود من إجرائها، منها تجارب العالمين الألمانيين «أوتو لومر
Otto Lummer » و«إرنست برنجشايم
Ernst
» التي فندت بصورة دامغة النظرية الكلاسيكية للإشعاع، وأدت إلى نظرية الكم؛
90
وتجربة «بيتا» التي ظن كثير من العلماء أنه سيصل بها الأمر إلى أن تقف ضد قوانين البقاء والحفاظ، لكنها في الحقيقة انتهت إلى كونها أكبر دليل دامغ لانتصارها.
91
ومن جهة أخرى لقد أثار رأي لاكاتوش في التجارب الحاسمة حفيظة كثير من فلاسفة العلم، وعلى رأسهم «أدولف جرونباوم
A. Grunbaum »؛ فهو على الرغم من كونه فيلسوفا غير تكذيبي، فإنه شعر بوطأة نفي نمو العلم بواسطة التكذيب الصريح والمباشر، مما جعله يقول عن موقف لاكاتوش بخصوص التجارب الحاسمة إنه «سيؤدي إلى نفي إمبريقية المعرفة العلمية، خصوصا وأن لاكاتوش فيلسوف غير توكيدي». لقد بين لاكاتوش أنه لا يرفض التكذيب كمفهوم منطقي ، ولكنه يرفضه كمفهوم مفسر لنمو المعرفة العلمية. إن التكذيب المنطقي للمعرفة العلمية يتم عبر تاريخ طويل لبرنامج البحث، وتلعب فيه التجارب الدرامية دورا كبيرا دون أن تكون تجارب حاسمة، ولهذا فإن لاكاتوش يضع مفهوما للتكذيب التاريخي للنظريات العلمية، وهذا المفهوم هو مفهوم «التآكل الاحتكاكي
Attrition » للنظريات العلمية.
92
والمقصود بالتآكل الاحتكاكي للنظريات العلمية أثناء تطور المعرفة العلمية هو نمو العلم من خلال الصراع الحاد والعنيف، وكذا الحوار والنقاش بين مختلف النظريات العلمية. ولعل هذا التآكل الاحتكاكي للنظريات العلمية يشابه من وجوه كثيرة الأنموذج الذي قدمه لاكاتوش لتطور الرياضيات، من خلال تقديم الفروض، ثم نقدها ومحاولة تفنيدها، ثم الدفاع عنها باستخراج الفروض المستترة منها، وتوجيه سهام التكذيب إلى تلك الفروض المستترة أو الحالات المعاكسة المحلية. وإذا كان هذا الرأي صحيحا، فهو من ثم متسق مع القول بأن لاكاتوش لا يفهم الإنجاز النيوتوني، إلا من خلال فهمه للتطور الكشفي للمعرفة الرياضية لمفهوم التآكل الاحتكاكي - الذي لم يجد للأسف الشديد عناية فكرية من قبل لاكاتوش أو حتى من قبل تلاميذه - هو المعادل الكشفي للمنطق الجدلي والكشفي لشروط تطور المعرفة الرياضية؛ ولذلك يقول لاكاتوش: «إنه حين يرى التكذيبيون تجارب سلبية حاسمة، أرى أنا وأتنبأ خلف أية مبارزة ضاربة بين النظرية والتجربة ب: «حرب معقدة بين برنامجي بحث متنافسين بواسطة التآكل».»
In the war of attrition between two
93
وهنا يستبدل لاكاتوش مفهوم التجربة المعيارية الفورية الحاسمة بين النظريات العلمية أو برامج الأبحاث، بمفهوم التآكل الاحتكاكي الذي يؤكد تاريخية نمو المعرفة العلمية، وتشبث العلماء بقضاياهم. هذا بالإضافة إلى تأكيده صعوبة التكذيب السريع لقضايا المعرفة العلمية، وذلك دون أن يذكر استبعاد العلم لبرامج الأبحاث ومن ثم للقضايا والنظريات العلمية؛ فقبول برنامج بحث معين ليس نتيجة للتكذيب الفوري لمنافسه أو التوكيد الفوري لنواته الصلبة، بل هو «نتيجة تاريخية يتخذها العلماء، بعد فترة طويلة من دراسة المعطيات المتاحة من بينات تجريبية وقوى تفسيرية للبرنامج ... إلخ.»
94
نخلص مما سبق أن لاكاتوش ينكر وجود التجارب الحاسمة، كحقيقة فعلية في مسيرة تقدم المعرفة العلمية. وهو حين يقبل التجارب الحاسمة، فهو يقبلها فقط كحقيقة استردادية زائفة - مثلها مثل الوقائع الاستردادية للأساطير - تطرحها المنهجيات الاستقرائية والتكذيبية بطريقة أيديولوجية، من خلال تدعيم منطقهما الكشفي؛ وبالتالي فهو كما يرى بعض الباحثين يرفض اعتبار التجارب الحاسمة كبناء عقلي قويم للمعرفة العلمية. وعلى هذا، يمكننا النظر إلى عمل لاكاتوش كإعادة بناء كشفية في مقابل إعادة البناء التي قدمتها كل من الاستقرائية والتكذيبية للتجارب الحاسمة.
95
نتائج البحث
بعد هذه الجولة السريعة من عرض «التجارب الحاسمة بين التأييد والتفنيد»، فإنه يمكننا أن نخلص إلى أهم النتائج، وذلك على النحو التالي: (1)
إن التجريبيين المناطقة بداية من مورتس شليك حتى رودلف كارناب وهمبل يضعون آمالا موضوعية كبيرة على التجارب الحاسمة؛ فتلك التجارب هي حجر الزاوية في بنائهم الفلسفي، إذا ما لم يتم خلعه من مكانه فقدت تلك المذاهب موضوعيتها؛ ولذلك سعوا بكل ما استطاعوا من قوة من خلال مبدئهم في التحقيق التأييد على أهمية ودور التجارب الحاسمة في تاريخ العلم، وهي لديهم نتيجة لإمبريقية المعرفة العلمية؛ لذلك فالتجربة الحاسمة تظهر بوضوح صاحبة الدور العبقري الذي يقدم معايير لتأييد أو تفنيد النظريات العلمية في الحال. (2)
إن التجربة الحاسمة عند كارل بوبر عليها عامل كبير في التكذيب؛ وبالتالي نمو المعرفة العلمية؛ فهي ضرورية من أجل تكذيب النظريات العلمية أو تعزيزها؛ فالنظريات التي تم تكذيبها بتجربة حاسمة، يجب نبذها واستبدالها بأخرى في الحال، يطلق عليها فرضية تكذيب؛ فالعلم لا ينمو إلا بواسطة التكذيب القائم على التجارب الحاسمة. (3)
إذا كان «التجريبيون المناطقة» قد اعتقدوا أنه يمكن للتجربة الحاسمة بالتحقق من صدقها، فإنها عند بوبر ترفض النظرية بتكذيبها. (4)
فكرة التعزيز عند بوبر لا تتجاوز كثيرا فكرة التأييد عند كارناب؛ ذلك لأن كلتا الفكرتين تقوم على أساس تحليل النظريات العلمية في إطار النسق الفرضي-الاستنباطي؛ فالتأييد يقوم على أساس أن النظرية تستلزم تنبؤات أو عبارات ملاحظة. وإذا كان التنبؤ كاذبا، فإن النظرية تكذب، أما إذا كانت هناك تنبؤات عديدة صادقة، فإن النظرية يتم تأييدها. (5)
إن بيير دوهيم كان ذكيا عندما أخذ بالفروض المساعدة من بوبر التي تحصن بها ضد التكذيب، ثم حاول تطويرها عن صورتها الماثلة عند بوبر في النظام الفردي للنظريات، وأصبحت مرتبطة بالنسق ككل؛ لذلك فإن الفيزيائي لا يخضع فرضا منفردا للتجريب بل مجموعة فروض معا. (6)
حين أعلن دوهيم بأن التجربة الحاسمة مستحيلة في علم الفيزياء عنه في أي علم آخر؛ فذلك لأنه كان مؤمنا بأن ثوب أي نظرية فيزيائية يشكل كلا غير قابل للتجزئة. كما أنه لو افترضنا أن تأييدا تجريبيا لتنبؤ أو نتيجة من نتائج هذه النظرية أو تلك، فإن هذا التأييد لهذا التنبؤ أو ذلك لا يكون ألبتة برهانا حاسما للنظرية؛ وبالتالي لا يمكن أن يعد الدليل التجريبي في حد ذاته تكذيبا حاسما للفرض، إذن ليس هناك تجربة حاسمة بصورة قاطعة. (7)
إذا كان دوهيم قد أنكر التجربة الحاسمة واعتبرها مستحيلة في علم الفيزياء، فذلك لأنه يريد أن يستبدل بدلا منها نوعا جديدا من التجربة العلمية المرنة التي تواكب التقدم العلمي المعاصر، الذي ينفي كل تأييد وتفنيد للقانون والنظرية العلمية. (8)
إن النقد الذي وجهه بوبر لدوهيم والذي يقول فيه إن التجارب الحاسمة لا يمكن بحال أن تؤسس النظرية؛ ومن ثم فقد أخفق دوهيم في توضيح أنها لا يمكن أن ترفض النظرية إن لم يكن نقدا قويا؛ وذلك لأن الحجة الأساسية التي يستند إليها «دوهيم» تقوم على أن التجربة الحاسمة لم توضع لتحقيق فرض نظري واحد، بل لاختبار مجموعة من الفروض، هذا من جهة. كما أن «دوهيم» كان معنيا في المقام الأول بتوضيح أنه لا يمكن أن نبطل فرضا نظريا واحدا عن طريق الملاحظات، هذا من الجهة الثانية. وأخيرا فإن «دوهيم» اهتم في الجزء الثاني من كتابه هدف وبنية النظرية الفيزيائية ببيان أنه يمكن عن طريق التجربة إبطال الفروض النظرية؛ ومن ثم فإن حديث «دوهيم» عن التجارب الحاسمة يعني أنه بالإمكان رفض النظرية والفروض النظرية كلها عن طريق التجربة. (9)
إن لاكاتوش نجح في أن يقنع المجتمع العلمي بأنه لا يوجد في حاضر أو ماضي المعرفة العلمية، تجربة معيارية، تخضع لقواعد الميثودولوجيا، ويمكن لها أن تفصل بين نظريتين متنافستين. ودليله على ذلك عدم وجود تلك التجارب فعلا في ماضي العلم؛ أي إن بعض التجارب العلمية في ماضي العلم، والتي يزعم بعض فلاسفة العلم أنها شكلت تجارب فاصلة، لم تكن تجارب فاصلة على الإطلاق في حينها، بل هي كذلك فقط عن طريق استردادها بمناهج الميثودولوجيا، على أرضية حاضر المعرفة العلمية. وينتج عن هذا الرأي إنكار وجود معيار فوري في الماضي أو المستقبل قادر على تقديم معايير لرفض أو قبول النظريات العلمية في الحال، ولكن النتيجة الأكثر أهمية هي عدم شرعية الجانب الإرشادي في الميثودولوجيا على الرغم من استبقاء الجانب القيمي لها. (10)
إن لاكاتوش حين ميز المعرفة العلمية وفقا لكشفيات برامج الأبحاث العلمية، أكد على أنه في داخل برنامج البحث ليس هناك صوت واحد هو صوت التكذيب أو التحقيق (الجدليين) هما أحد تلك الأصوات، ولكن حين يتم تقديم صوت واحد على بقية الأصوات، فهذا يكون بواسطة عملية انتقائية من قبل التجريبيين المناطقة والتكذيبيين، يقومون بها بعد انتهاء الأحداث، وليس العكس. (11)
إذا كان لاكاتوش قد أنكر وجود التجارب الحاسمة، فقد أنكرها كحقيقة فعلية في مسيرة تقدم المعرفة العلمية، وكذلك حين قبلها، فهو يقبلها فقط كحقيقة استردادية زائفة - مثلها مثل الوقائع الاستردادية للأساطير - تطرحها المنهجيات الاستقرائية والتكذيبية بطريقة أيديولوجية، من خلال تدعيم منطقهما التبريري والكشفي.
المراجع (أ) قائمة المصادر والمراجع العربية (1)
أسامة عرابي: كارل بوبر مدخل إلى العقلانية النقدية، بيروت، 1994م. (2)
إمري لاكاتوش: برامج الأبحاث العلمية، ترجمة الدكتور ماهر عبد القادر، الجزء السادس من فلسفة العلوم، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1997م. (3)
بدوي عبد الفتاح: الاصطلاحية وسأم العقل، بحث منشور ضمن الكتاب التذكاري للمرحوم الدكتور توفيق الطويل، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1995م. (4)
جورج جاموف: قصة الفيزياء، ترجمة وتقديم د. محمد جمال الدين الفندي، دار المعارف، القاهرة، 1964م. (5)
د. حبيب الشاروني: فلسفة فرنسيس بيكون، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، 1981م، ص83. (6)
رودلف كارناب: الأسس الفلسفية للفيزياء، ترجمة د. السيد نفادي، دار الثقافة الجديدة. (7)
سهام النويهي: تطور المعرفة العلمية، مقال في فلسفة العلم، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1988م. (8)
د. سيد نفادي: معيار الصدق والمعنى في العلوم الطبيعية والإنسانية «مبدأ التحقق عند الوضعية المنطقية»، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1991م. (9)
عبد النور عبد المنعم عبد اللطيف: التفسير الأداتي للقانون العلمي، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 2000-2001م. (10)
______ : عقلانية التقدم العلمي عند إ. لاكاتوش، بحث منشور بمجلة كلية الآداب، جامعة سوهاج، العدد الثامن والعشرون، الجزء الأول، مارس، 2005م، ص159. (11)
عصام محمود بيومي مصطفى: إبستمولوجيا التقدم العلمي عند توماس كون، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة عين شمس، القاهرة، 1996م. (12)
كارل بوبر، أسطورة الإطار، ترجمة يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، ع292، يناير 2003م، الكويت، ص7. (13)
______ : منطق الكشف العلمي، ترجمة د. ماهر عبد القادر، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1986م. (14)
______ : عقم المذهب التاريخي، ترجمة عبد الحميد صبرة، الإسكندرية، منشأة المعارف، 1959م، ص129. (15)
كارل همبل: فلسفة العلوم الطبيعية، ترجمة وتعليق د. جلال موسى، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، القاهرة-بيروت، القاهرة-بيروت، 1976م. (16)
د. ماهر عبد القادر: نظرية المعرفة العلمية، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1985م. (17)
______ : فلسفة العلوم «المنطق الاستقرائي»، الجزء الأول، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1984م. (18)
د. محمد محمد قاسم: كارل بوبر «نظرية المنهج العلمي في ضوء المنهج العلمي»، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1986م، ص170-171. (19)
هاني مبارز حسن: إبستمولوجيا تقييم العلم وتأريخه، دراسة تحليلية-نقدية في ميثودولوجية برامج الأبحاث، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة عين شمس، 2003م. (20)
هيربرت فايجل: التجريبية المنطقية في فلسفة القرن العشرين، ترجمة عثمان نويه، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1963م. (21)
هيلاري بوتنام: تعزيز النظريات، مقال منشور ضمن كتاب الثورات العلمية، تحرير إيان هاكينج، ترجمة وتقديم الدكتور السيد نفادي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1996م. (22)
د. يمنى طريف الخولي: فلسفة العلم في القرن العشرين (الأصول - الحصاد - الآفاق المستقبلية)، عالم المعرفة، عدد 264، ديسمبر (كانون الأول)، 2000م، الكويت، ص298. (ب) قائمة المصادر والمراجع الأجنبية (1)
Bacon, F., Advancement of Learning and Novum Organum: With Special Introduction by James Edward Creighton: The World’s Great. Classics The Colonial Press. New York, London, 1900. (2)
Carnap, R.: Truth and Confirmation, In; Feigl. H. and Sellars (Eds): Reading of Philosophical, New York, Apploton-Century-Crofts, 1949. (3)
Carnap, P.: The Interpretation of Physics, In; Feigl. H. and Brodbeck (Eds): Reading in Philosophy of Science, New York, Apploton-Century-Crofts, 1953. (4)
Carnap, P.: Formal and Factual Science, In; Feigl. H. and Brodbeck (Eds): Reading in Philosophy of Science, New York, Apploton-Century-Crofts, 1953. (5)
Fetzer, J. H. and Almeder, R. F.: Glossary of Epistemology, Philosophy of Science, Paragan House, New York, 1993. (6)
Giere, N.: Testing Theoretical Hypothesis, In Earman, J., (Ed), Testing Scientific Theories, Un. of Minnessota, USA, 1988. (7)
Imre Lakatos: Changes in The Problem of Inductive Logic, Amsterdam, North Holland, 1968. (8)
Imre Lakatos: The Role of Crucial Experiments in Science, In Studies in History and Philosphy of Science,
1974. (9)
Imre Lakatos: Anomalies Versus Crucial Experiments, (Rejoinder to Professor Grunbaum), In: Imre Lakatos: Philosophical Papers Mathematics, Science and Epistemolgy, Edited By John Worrall and Gregory Currie, Cambridge, Cambridge University, 1993. (10)
Karl R. Popper: Realism and the Aim of Science, Great Britain, Gwild Ford and King’s Lynn, 1983. (11)
______ :
Objective Knowledge-An Evolutionary Approach, Oxford, At The Clarendon Press, 1972. (12)
______ :
Conjectures and Refutations-The Growth of Scientific Knowledge, London, Routledge and Kegan Paul, 1963. (13)
Wiener, Princeton, New Jersey, Perceton University Press, 1954. (14)
Cambridge, Hackett Publishing Company, 1996. (15)
Quine, P. I., What Duhem Really Meant, in Methodological and Historical Essays in The Natural and Social Sciences, Edited by Robert S. Cohen Marx W. Wartofsky, D., Reidel Publishing Company, Dordrecht-Holland/Boston-U.S.A., 1964.
الدراسة الثالثة
التفكير العلمي في ضوء إشكالية الفروض المساعدة ومكانتها في ميثودولوجيا برامج الأبحاث عند إمري لاكاتوش
تقديم
إن الثورة العلمية التي أحدثها «إسحاق نيوتن»
Isaac Newton (1642-1727م)، قبل القرن التاسع عشر، وبالذات في مجال الرياضيات والبصريات، وما استتبعها من نتائج عملية في مجال الرياضيات التطبيقية، وعلى وجه الدقة في الميكانيكا والفيزياء العملية، أفضت إلى استخدام التجريب بصورة تكاد تكون شبه دقيقة إلى حد ما في مجالات العلم المختلفة. ومع ازدياد التجريب أصبحت النتائج التي أمكن الحصول عليها من التجارب بمثابة محصول نظري جديد يسمح لنا بتنبؤات وتجارب أخرى. وعلى هذا الأساس نتجه إلى مزيد من التجريب إذا ما أيدت هذه التنبؤات مشاهدات ووقائع جديدة تتفق مع المعطيات النظرية؛ أي إنه بصورة أو بأخرى يمكن لنا القول بأن حصيلة البحث في الاتجاه الاستقرائي ازدادت بصورة ملحوظة بعد عصر نيوتن، مما جعل الباحثين يتصدون لتفسير الوقائع على أسس منهجية.
1
ومن هذا المنطلق كان الاهتمام الرئيسي لأصحاب الاتجاه الاستقرائي ينصب حول الطريق المؤدي إلى الكشف عن القوانين. واعتقدوا أنه من الممكن رسم منهج لتحقيق ذلك، فنجد أن كلا من «فرنسيس بيكون»
Francis Bacon (1561-1626م)، و«جون ستيوارت مل»
J. S. Mill (1806-1873م)، قد حاولا تشييد منطق للكشف موازيا لمنطق البرهان، وقاما بصياغة المناهج التي من وجهة نظرهما، تمكن من اكتشاف قوانين الظواهر كنتيجة لتحليل وقائع الملاحظة والتجربة. كما وضع كل منهما منطقا منهجيا على غرار المنطق الأرسطي من أجل الوقوف على الحقائق الكونية؛ ومن ثم ادعت بأن قواعد الاستقراء تفسر العملية المنطقية للكشف عن القوانين.
2
ولذلك نشأ تصور للاستقراء باعتباره وسائل منطقية لصياغة العمليات الخاصة بتكوين واكتشاف المعرفة العامة للارتباطات القائمة بين الظواهر على أساس معرفة الوقائع الجزئية. وبصفة عامة رد الاستقراء إلى ما يسمى بالمنهج الاستقرائي للبحث، والذي تمثل في الخطوات التالية:
3
الخطوة الأولى:
الملاحظة التجريبية؛ فلا بد أن يقوم العالم بملاحظة أمثلة عدة للظاهرة موضوع الدراسة، ملاحظة دقيقة مقصودة منتقاة وهادفة، مرتبة ومتواترة، تتصف بالنزاهة والموضوعية والدقة التي توجب استخدام الأجهزة المعملية إلى أقصى حد ممكن للتعميم الدقيق. وما التجربة المعملية إلا اصطناع الظروف المطلوب ملاحظتها.
الخطوة الثانية:
هي التعميم الاستقرائي للوقائع التي لوحظت، فإذا اشتعل الخشب كلما تعرض للهب في سائر الوقائع التي لوحظت، أمكن الخروج بالتعميم الاستقرائي: الخشب قابل للاشتعال.
الخطوة الثالثة:
هي افتراض فرض يعلل أو يفسر هذا التعميم، كافتراض أن الخشب قابل للاشتعال لأنه يتحد بالأكسجين.
الخطوة الرابعة:
هي التحقق من صحة الفرض عن طريق اختباره تجريبيا. ويكون قبول الفرض أو تعديله، أو رفضه والبحث عن فرض آخر إذا دحض كل هذا وفقا لنتائج محكمة التجريب، تنفيذ حكمها يعني الخطوة الأخيرة للمنهج، وهي بلوغ معرفة جديدة، والإضافة إلى بنيان العلم.
وقد أشار «بيفردج» إلى كل ذلك (خاصة فيما يتعلق بالخطوة الرابعة)، وإلى ضرورة عدم التشبث بالأفكار التي لا تثبت صلاحيتها «فينبغي أن نكون على استعداد للتخلي عن فروضنا أو تعديلها طالما يتضح أنها لا تتمشى مع الوقائع. وليس هذا بالأمر الهين كما يبدو للوهلة الأولى؛ فعندما يبتهج المرء أن يرى إحدى بنات أفكاره الجميلات تبدو قادرة على تفسير كثير من الحقائق التي لولاها لكانت متنافرة. وعندما يجد هذه الفكرة مبشرة بالمزيد من التقدم، فقد يغريه هذا بالتغاضي عن أية مشاهدة لا تتفق مع الصورة التي نسجها، أو على التخلص منها بأي تفسير؛ فليس من النادر أبدا أن يتمسك الباحثون بفروضهم المهلهلة، متغافلين عن الأدلة المعارضة لها، وأن يتعمدوا إخفاء النتائج المخالفة لفروضهم؛ أي المكذبة لها. بل وحل بيفردج هذا بقاعدة شبيهة بقاعدة بوبر، لكن طبعا ليس في دقتها إذ قال: إذا فشلت نتائج التجربة أو المشاهدة الأولى في دعم الفرض، فمن الممكن أحيانا بدلا من نبذه كليا في أن نوفق بينه وبين الحقائق المعارضة له بواسطة فرض إيضاحي ثانوي؛ أي مساعد، المهم دائما هو قبول النقد.»
4
ومعني هذا أنه عندما يضع العالم فرضا لتفسير ظاهرة ما، فإنه يقوم بالاستنتاج من هذا الفرض بعض النتائج التي تمثل اختيارا لهذا الفرض. والحقيقة أن عملية الاستنتاج لا تكون من الفرض وحده؛ ذلك أن العالم يقوم بالاستنتاج من الفرض مقترنا مع مجموعة إضافية من الفروض، وهي ما يطلق عليها الفروض المساعدة
Auxiliary Hypotheses (الفرض المساعد هو الذي يمكن اختياره في حد ذاته، وتؤيده أمور أخرى غير التي وضع لتفسيرها فتزيد من مضمون النظرية وقوتها). وقد تكون هذه الفروض المساعدة غير مذكورة صراحة مع الفرض الأساسي. ولكن أحيانا ما يكون الفرض الأساسي متضمنا لها.
5
ويعطينا كارل همبل مثالا قائلا: «ولنأخذ على سبيل المثال فرض سيملويز القائل بأن حمى النفاس يحدثها التلوث بالمادة المعدية. لنفحص اللزوم الاختباري القائل بأنه إذا كان على الأشخاص القائمين على رعاية المرضى أن يغسلوا أيديهم بمحلول الجير المنقى بالكلور فإن نسبة الوفاة حينئذ من حمى النفاس تقل. هذه القضية لا تنتج استنباطا من الفرض وحده؛ فاشتقاقها يفترض مسبقا المقدمة الإضافية القائلة بأنه بخلاف الصابون والماء وحدهما سيقضي محلول الجير المنقى بالكلور على المادة المعدية. هذه المقدمة التي يسلم بها ضمنا في البرهان تلعب دورا فيما نطلق عليه الفرض المساعد في اشتقاق القضية الاختبارية من فرض سيملويز؛ ومن ثم لا يجوز لنا أن نقرر أنه إذا كان الفرض «ف» صادقا كان اللزوم الاختباري «ل» كذلك، ولكن إذا كان كل من ف والفرض المساعد صادقين كان اللزوم الاختباري «ل» كذلك. الاعتماد على الفروض المساعدة هو القاعدة أكثر منه الاستثناء في اختبار الفروض العلمية، وله نتائج هامة لمسألة ما إذا كانت نتيجة من نتائج الاختبار غير موافقة لواحدة من النتائج التي تبين أن «ل» كاذبة. فقط يمكن التمسك بها لدحض الفرض موضع الاختبار.»
6
وغالبا ما يتم تغيير وتعديل في الفروض المساعدة بغرض المحافظة على الفرض.
7
ويختلف فلاسفة العلم بشأن عملية التعديل والتنقيح التي تتم للفروض المساعدة، فنجد أن البعض مثل «توماس كون
T. Kuhn » (1922-1996م)، يذهب إلى أنه يمكن أن تعدل كل النظريات بدون أن تفقد خطوطها الرئيسية بواسطة التعديل في الفروض المساعدة. بينما يعتقد البعض الآخر مثل «كارل بوبر»
Karl
(1902-1994م) أن التعديل في الفروض المساعدة يمكن أي فرض من أن يكون متفقا مع الظواهر، وهذا مما قد يسعد الخيال، لكن لن يساعد على تقدم المعرفة. ويرى «بوبر» أن إدخال الفروض المساعدة يكون مقبولا إذا كانت تزيد من قابلية الفرض للاختبار. والحقيقة أن عملية إدخال الفروض المساعدة أو تعديلها أو تنقيحها قد تؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه ب «الفروض الغرضية»، كما أن قبول أو رفض هذا النوع من الفروض يتوقف على الغرض منها.
8
ويجب أن نميز بين الفروض المساعدة والفروض العينية على أساس أن الفروض العينية مغرضة، وهي التي تعني (في نظر كارل بوبر وأتباعه)، التملص من التكذيب. والفرض العيني هو الفرض الذي يوضع لتفسير ظاهرة بعينها أو حدث بعينة، وليس له ما يؤيده غير هذه الظاهرة أو هذا الحدث. ويقابله الفرض الذي تقوم على صدقه بينة مستقلة؛ أي الذي تؤيده أمور أخرى غير التي وضع أصلا لتفسيرها، وهذا هو الفرض المساعد حقيقة. والفرض العيني لا يمكن اختباره مستقلا عن النسق ككل، بعكس الفرض المساعد. ويمكن دائما وضع فرض عيني يغطي موضع الكذب الذي نكشفه في النظرية مما يحمي النظرية من التفنيد؛ ومن ثم يجعل محاولة التكذيب مستحيلة الوصول إلى نهاية معينة. وحل هذه المشكلة كما يثيرها الاصطلاحيون - أو أي سواهم - يكون بالتمييز بين الفروض المساعدة والفروض العينية، فنقبل الأولى ونرفض الثانية. والتمييز بين الفرض العلمي والفرض المساعد، مثل أي تمييز ميثودولوجي، أمر مبهم يكون فقط على وجه التقريب. مثلا قدم فولفجانج باولي فرض (لنيوترينو) تماما فرض عيني ولم يأمل في إمكانية التوصل يوما إلى دليل مستقل له، بل وكان مثل هذا الدليل مستحيلا في وقته، لكن مع تطور المعرفة عن جسيمات الذرة أصبح فرضا مساعدا وأمكن اختباره مستقلا؛ لذلك لا يجب أن نتحامل بقسوة على الفروض العينية؛ فقد تصبح يوما ما قابلة للاختبار المستقل، وقد يكون اختباره مفندا فيؤدي بنا إلى التخلي عن الفرض، والتوصل إلى فرض عيني جديد، قد يصبح مع الأيام فرضا مساعدا، وهكذا.
9
لكل ما سبق قصدت إلى إنجاز بحث عن «الفروض المساعدة ومكانتها في ميثودولوجيا برامج الأبحاث عند إمري لاكاتوش»
Imre Lakatos (1922-1974م)، ساعيا من خلالها للتعرف على مفهوم الفرض المساعد ووظائفه وأهميته، وهل نجح لاكاتوش في الوصول إلى تفسير إبستمولوجي لبرامج الأبحاث أم لا؟ كل هذه الأمور سوف نكشف عنها من خلال إلقاء الضوء على فلسفة لاكاتوش في تفسير الفروض المساعدة ودورها في ميثودولوجيا برامج الأبحاث العلمية، ثم إعادة بنائها في ضوء المناقشات التي أحاطت بها، والانتقادات التي تعرضت لها. وعلى هذا فإن هذا البحث يرمي إلى فهم وتأويل فلسفة لاكاتوش في الفروض المساعدة، برؤية تحليلية نقدية.
وقد اعتمدنا في هذه المهمة على منهجين، وهما: المنهج التاريخي والمنهج النقدي. وقد استخدمنا المنهج التاريخي بمعنيين؛ أولا بمعنى الرجوع إلى الوقائع التاريخية التي يعتمد عليها لاكاتوش. وثانيا بمعنى تطور فكر لاكاتوش عبر مراحله الزمنية. واستخدمنا كذلك المنهج النقدي بمعنيين؛ قصدنا بالمعنى الأول فحص وتحليل النتائج التي انتهى إليها لاكاتوش، على أساس الأهداف التي حددها لفلسفته في الفرض العلمي. وقصدنا بالمعنى الثاني محاولة تقييم أفكار لاكاتوش في الفروض المساعدة في ضوء الانتقادات الفلسفية التي تعرضت لها، وفي ضوء إمكان تطوير هذه الأفكار وحدود هذا التطوير.
وبهذا تتجسد محاور البحث على النحو التالي:
أولا:
موقف كارل بوبر من الفروض المساعدة.
ثانيا:
الفروض المساعدة وأطروحة دوهيم كواين.
ثالثا:
موقف لاكاتوش من توجهات بوبر إزاء الفروض المساعدة.
رابعا:
دور الفروض المساعدة في قبول أو رفض برنامج بحث.
خامسا:
الفروض المساعدة ودورها في برنامج البحث النيوتوني.
أولا: موقف كارل بوبر من الفروض المساعدة
ذهب «كارل بوبر» إلى أن منهج العلم قائم على التخمينات والمحاولات المتكررة بوصفها صيغة ل «منهج المحاولة واستبعاد الخطأ»
Method of Trial and or ؛ ومن ثم فإن نمو المعرفة يتقدم ابتداء من حذف الخطأ
Elimination of Error
ويمكن الإشارة إلى هذه العملية بصيغة بوبر الآتية:
---
TT ---
EE ---
حيث نبدأ بمشكلة ما، ونصوغ حلا مؤقتا، أو نظرية مؤقتة، ثم نعرضها بعد ذلك لكل الاختبارات الشاقة الممكنة في إطار عملية حذف الخطأ الذي يقودنا لصياغة مشكلات جديدة، وهذه المشكلات تنشأ من نشاطنا الخاص المبدع؛ يقول بوبر: «يستند التقدم في العلم أو في الكشف العلمي إلى الاستخدام الثوري لعملية المحاولة النقدية وحذف الخطأ، التي تتضمن بدورها البحث عن اختبارات تجريبية عديدة أو محاولات ممكنة لضعف النظريات العلمية أو تفنيدها.»
10
بيد أن الموقف الذي اتخذه بوبر هنا من العلم قائم على أن هناك سمة أساسية في ضوئها تميز بين ما هو علمي وما هو غير علمي. هذه السمة هي «القابلية للتكذيب
Falsifiability »؛ حيث إن ما يشغل خيالنا بل ويشده، فيما يرى بوبر، هو تفنيد نظريته المبكرة؛ عندئذ يكتسب العلم دلالته، وخصوصا عندما يكون واحدا من المغامرات الفكرية التي يسعى إلى ممارستها الإنسان. وبوبر هنا يرى أن مبدأ القابلية للتكذيب يقرر ما إذا كانت النظرية تعطينا محتوى إخباريا أم لا، وذلك في ضوء حجج تجريبية وملاحظات؛ فمهمة العلماء هي أن يحكموا النظريات في ضوء اختبارات قاسية.
11
ولذلك إذا ما تم لنا اختبار النظريات، فإننا نقبل النظرية الأكثر قابلية للتكذيب، والأكثر قابلية للاختبار، والأكثر في المحتوى (سواء المحتوى التجريبي أو المحتوى المنطقي). وعندما نتعرض للعلاقة بين القابلية للتكذيب وبين المحتوى المعرفي للقوانين والنظريات، نجدها علاقة وطيدة؛ إذ إن المستهدف من وراء ذلك هو محاولة تكذيب أو تفنيد المحتوى المعرفي لأي قانون أو نظرية. والواقع أن سبب هذه العلاقة القوية بينهما هو أن التحليل الدقيق لنظرية القابلية للتكذيب يظهر لنا أنه من الضروري أن نبحث عن النظريات الأكثر في محتواها المعرفي، النظريات الجسورة أو الجريئة، متذكرين دائما أن النظرية الأفضل هي التي تخبرنا أكثر، أو ذات محتوى معرفي أكثر، وهي بالتالي الأكثر قابلية للتكذيب.
12
والسؤال الآن: ماذا نفعل إذا وجدنا أنفسنا بمواجهة أكثر من نظرية تتوافر فيها شروط القابلية للتكذيب، القابلية للاختبار والمحتوى المعرفي؟ كيف نفاضل بين النظريات ونختار؟
وفي نظر بوبر إذا تعرضت النظرية لاختبار القابلية للتكذيب، واستنبطنا منها عبارات أساسية جديدة، وكانت هذه العبارات متوافقة مع الواقع، بعبارة أخرى لم نجد فئة عبارات أساسية تناقضها، فأثبتت مادتها، فلا بد من قبولها فقط لأننا ليس لدينا داع لرفضها؛ فالتعزيز - الذي هو جواز مرور الفرض إلى عالم العلم - هو مدى صمود الفرض أمام اختبارات منهج العلم القياسية. وكلما كانت الاختبارات أقسى حازت النظرية التي تجتازها على درجة تعزيز أعلى. وكلما كانت النظرية أعظم ؛ أي أغزر في المحتوى المعرفي، وأجرأ في القوة السارحة، وأكثر اقترابا من الصدق - أي أكثر قابلية للتكذيب - تمكنت من الصمود أمام اختبارات أكثر قسوة؛ وبالتالي كانت درجة تعزيزها أعلى؛ لذلك كان بوبر يؤكد دائما على قسوة الاختبار حتى لا تستطيع النظرية أن تعزز وتعبر إلى نسق العلم بسهولة.
13
ولكن ماذا نفعل عندما تتمثل أمامنا صعوبة تحول دون إتمام الاختبار؟
يجيب «بوبر»: ينبغي أن ندخل فروضا جديدة يمكن أن نطلق عليها الفروض المساعدة لتفسير صعوبة ما عند إجراء عملية الاختبار، أو لمساعدة النظرية على اجتياز الاختبار. وهذه الفروض تختبر بذاتها أو مستقلة، على حين تقابلها الفروض العينية غير القابلة للاختبار مستقلة، ووضعت فقط للتملص من التكذيب. إن الفروض المساعدة هي من أهم أساليب تطور النظرية وإعادة تعديلها. هذا يعني أنه من منطلق الحرص على تقدم المعرفة والاقتناع، بل طرح الفروض القابلة للتكذيب هو أضمن أساليب هذا التقدم؛ لأننا حين نضع يدنا على مواطن الكذب سوف نتمكن من الوصول إلى الفرض الأصوب الذي يتجنبها. وهكذا دواليك.
ومن هنا لا بد وأن نأخذ على خط مستقيم قاعدة منهجية، وهي أن نحكم الفروض المساعدة بحيث تتفادى عملية إبطال عملية التكذيب؛ أي أن نقبل فقط الفروض التي تقلل درجة قابلية التكذيب للنسق المطروح للبحث، بل على العكس تزيدها. وهذا الفرض الجديد الذي سيزيد درجة القابلية للتكذيب، وأن يؤخذ دائما لمحاولة بناء نسق جديد، نسق نحكم عليه على أساس ما إذا كان سيمثل بالفعل تقدما ما في معرفتنا بالعالم الخارجي أم لا. وفي هذا يقول: «... أما بالنسبة للفروض المساعدة، فإننا نقترح أن نضع القاعدة القائلة: إننا نقبل الفروض المساعدة التي لا يكون إدخالها مفضيا إلى تقليل درجة قابلية التكذيب، أو قابلية اختبار النسق موضع التساؤل، وإنما على العكس من ذلك نقبل الفروض المساعدة التي تزيد من قابلية التكذيب أو قابلية الاختبار ... وإذا زادت درجة قابلية التكذيب، فقد أثر إدخال الفروض في النظرية فعلا.»
14
مثال:
عندما لوحظ أن ثمة انحرافات في مدار كوكب أورانوس، افترض لافيري وآدمز ضرورة وجود كوكب آخر كي يفسر هذه الانحرافات البسيطة. وقد انتهى الأمر بمحاولة لهما بمساعدة آخرين إلى اكتشاف كوكب نبتون بالفعل. وهنا نلاحظ أن الفروض المساعدة لا تخل بمعيار القابلية للتكذيب، بل على العكس زادت به.
والنتيجة أن نظرية الجاذبية عند نبتون أعيدت للاختبار من جديد، متمثلا ذلك في الكشف عن هذا الكوكب. وهذا الاكتشاف فيما يرى «بوبر» تجربة حاسمة صارمة أخرى اجتازتها نظرية نيوتن وبنجاح، أو تعزيز عبور نظرية نيوتن من التكذيب هنا عن طريق فرض مساعد ليبقى معناها أنها غير قابلة للتكذيب.
15
ولذلك راح بوبر يعلن أن النظرية (أو الفرض) يمكن إنقاذهما دائما من مأزق التكذيب إذا عززناها بفروض إضافية مساعدة، وطبقا لبوبر يكون هذا مسموحا به فقط لو أن الفرض المساعد الجيد (أو الفروض) تزيد من عدد النتائج الملاحظة؛ ذلك لأنها ينبغي أن تزيد من «المضمون التجريبي» للنظرية. وإن لم تفعل ذلك، ينظر إلى الفرض المساعد بأنه وضع لغرض معين، وهو غير مسموح به طبقا للقواعد المنهجية المفضلة لبوبر.
16
معنى هذا أن «بوبر» يرى أن إدخال الفروض المساعدة يكون مقبولا إذا كانت تزيد من قابلية الفرض للاختبار. والحقيقة أن عملية إدخال الفروض المساعدة أو تعديلها أو تنقيحها قد يؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه ب «الفروض الغرضية»، كما أن قبول أو رفض هذا النوع من الفروض يتوقف على الغرض منها.
17
وهنا يشجب بوبر الفروض المساعدة التي يدعي الاصطلاحيون أنها يمكن أن تبطل دائما عملية التكذيب، ويؤكد أنه يمكن أن نحكمها بقاعدة نتفادى بها هذا، وهي: تقبل فقط الفروض التي لا تقلل درجة قابلية تكذيب - أي اختبار النسق المطروح للبحث - فعلى العكس تزيدها. وهذا الفرض الجديد الذي سيزيد درجة القابلية للتكذيب، من شأنه أن يقوي النظرية، فيجعلها تستبعد أكثر وتمنع أكثر مما كانت تمنعه قبل طرح الفرض. وعلى هذا يصبح تقديم فرض مساعد جديد، يجب أن يؤخذ دائما لمحاولة لبناء نسق جديد، نسق نحكم عليه على أساس ما إذا كان سيمثل بالفعل تقدما في معرفتنا بالعالم الخارجي أم لا. وبهذا نلاحظ أن تقديم الفروض المساعدة لا يشكل عقبة ميثودولوجية في وجه القابلية للتكذيب، بل على العكس سيساهم في تأكيدها؛ إذ سيساعد على نمو العالم. وهذا هو الرد على كل من يتمسك بإمكانية تحصين النظريات ضد التكذيب سواء أكان اصطلاحيا أم غير اصطلاحي.
18
وفي موضع آخر يصب جام غضبه على المذهب الاصطلاحي ورواده، فيقول: «لقد أدرك كل من بوانكاريه ودوهيم استحالة تصور نظريات علم الطبيعة على أنها قضايا استقرائية. وقد تحقق لهما أن المشاهدات القياسية التي قيل إن التعميمات تبدأ منها، هي على العكس من ذلك، تأويلات في ضوء نظريات ... ومن ثم فالنظرية العلمية لا تحوي معرفة صادقة أو كاذبة؛ فهي ليست إلا أدوات لنا أن نقول عنها فقط إنها ملائمة أو غير ملائمة، مقتصدة أو غير مقتصدة، مرنة، دقيقة أو جامدة؛ لذلك نجد دوهيم يقول إنه لا توجد أسباب منطقية تمنعنا من أن نقبل في وقت واحد نظريتين متناقضتين أو أكثر ... وعلى الرغم من أنني أوافقهما على ذلك، إلا أنني أختلف معهما عندما اعتقدنا باستحالة وضع الأنساق النظرية موضع الاختبار التجريبي؛ فلا بد أن تكون قابلة للاختبار - أي قابلة للتفنيد - من حيث المبدأ وليست أدوات.»
19
ثانيا: الفروض المساعدة وأطروحة دوهيم-كواين
إذا كان «كارل بوبر» قدم بناء عقلانيا للعلم يتمثل في أن التقدم العلمي سلسلة من الحدوس والتفنيدات؛ أي إن النظرية الجديدة يجب أن تمر من الاختبارات الجديدة القاسية؛ فلكي تكون النظرية علمية ينبغي أن تكون قابلة للتكذيب بدون زيادة مستمرة تبدو قليلة الأهمية، فإنه على الطرف الآخر طرح «بيير دوهيم»، الفيلسوف الاصطلاحي الفرنسي الشهير، هذا السؤال: ماذا نفعل عندما تتمثل أمامنا صعوبة تحول دون إتمام الاختبار الحاسم؟ هل يتطلب الأمر دخول فروض جديدة تحل هذه الصعوبة أو تلك؟ وإذا كان ذلك كذلك فما هي الفروض الجديدة، هل هي فروض مساعدة تخل بمعيار التكذيب وتبطل التجربة الحاسمة؟
وقد أجاب «بيير دوهيم»
(1861-1916م) أن الفيزيائي حين يقوم بإجراء تجاربه لا بد له أن يخضع في عملية التجريب لقاعدة الفروض المتعددة
Multiple hypotheses ؛ أي إن العالم لا بد أن يضع أكبر عدد من الفروض، تظل كلها ماثلة أمام الذهن أثناء التجربة، ونتائج التجربة وحدها هي التي تقرر الفرض في النهاية، على حين تكذب نتائج التجربة الفروض الأخرى؛ ومن ثم نستبعدها. ويتضح لنا هذا المعنى من نص «دوهيم» القائل: «إن الفيزيائي لا يمكنه أن يخضع فرضا واحدا بمفرده للاختبار التجريبي، بل مجموعة كاملة من الفروض.»
20
وهذا يعني أن التجارب الفيزيائية هي ملاحظة للظواهر مصحوبة بتأويل لها في ضوء النسق المعمول به؛ لذلك فإن الفيزيائي لا يخضع فرضا منفردا للتجريب، بل مجموعة فروض معا.
21
ويوضح ذلك قائلا: «لا يمكن مطلقا لأية تجربة في مجال علم الفيزياء أن تحكم على فرض معزول، لكن يمكنها فقط أن تحكم على مجموعة نظرية من الفروض ككل.»
22
ثم يفسر الأطروحة لاحقا في هذا القسم على النحو التالي: «وخلاصة الأمر أن عالم الفيزياء لا يستطيع مطلقا أن يخضع فرضا معزولا لاختبار تجريبي، لكنه يستطيع أن يخضع مجموعة برمتها من الفروض، وحينما لا تتوافق التجربة مع تنبؤاته، فإن ما يتعلمه هو أن واحدا على الأقل من الفروض المكونة لهذه المجموعة غير مقبول وينبغي تعديله، لكن التجربة لا تحدد أيا من هذه الفروض هو الذي ينبغي إدخال تعديلات عليه.»
23
ولكي نناقش أطروحة «دوهيم»، من المفيد أن نقدم الفكرة المتعلقة ل «قضية الملاحظة». أما الآن فسوف نتناول قضية ملاحظة ولتكن قضية يمكن الاتفاق مؤقتا على أنها إما صادقة أو كاذبة بناء على الملاحظة والتجربة. وفقا لأطروحة دوهيم، لا يمكن قط تكذيب فرض معزول في مجال علم الفيزياء؛ إذ من الأمور المشكوك فيها، وجود تعميم يغطي كل الفروض المتعلقة بعلم الفيزياء؛ لأن هذا العلم يتضمن على ما يبدو، بعض الفروض القابلة للتكذيب.
24
ومن ناحية أخرى يرى دوهيم أنه عندما تكون التجربة على عدم وفاق مع تنبؤاتهم، أو نتائج النظرية تخبرنا بأنه على الأقل، واحد من هذه الفروض المؤلفة لهذه المجموعة خطأ أو تحتاج إلى تعديل، ولكنها - وهذه هي المشكلة - لا تخبرهم بالفرض تحديدا الذي هو موضع الخطأ الذي يجب تغييره. ويستطرد دوهيم قائلا: «كلا، الفيزياء لم تكن آلة تضع نفسها في فوضى وتفكك ... الفيزياء يجب أن تكون كائنا عضويا قائما، في قطعة واحدة يستحيل لأي عضو في هذا الكائن أن يقوم بوظيفة دون الإجراءات الأخرى؛
25
وبالتالي فإن ثوب أي نظرية فيزيائية يشكل كلا غير قابل للتجزئة ... كما أنه لو افترضنا أن تأييدا تجريبيا لتنبؤ أو نتيجة من نتائج هذه النظرية أو تلك، فإن هذا التأييد لهذا التنبؤ أو ذلك لا يكون ألبتة برهانا حاسما للنظرية ... ولا يكون ذلك بمثابة تأكيد على أن النتائج الأخرى لهذه النظرية غير متناقضة عن طريق التجربة.»
26
وعندما يقول دوهيم إن ثوب النظرية كل متكامل، فهذا معناه أنه لم يكن ممكنا أن تخضع أجزاء النظرية على انفصال لاختبار التجربة؛ ومن ثم نبعد التحقيق التجريبي المهلهل عن اختبار النظرية،
27
وبالتالي لا يمكن أن يعد الدليل التجريبي في حد ذاته تكذيبا حاسما للفرض، وليس هناك تجربة حاسمة بصورة قاطعة.
إذن في هذا التوجه يتمسك دوهيم بضرورة أن تكون جميع فروض النظرية ماثلة أمام الذهن (وهو ما كان يفعله العلماء قبله) حين يقوم العالم بإجراء عملية حذف أو إسقاط بعض الفروض. بيد أن حذف فرض ما يعني الانتقال من هذا الفرض إلى الآخر، إلى أن يتم حذفها جميعا. وهذا إن أدى إلى شيء، فإنما يؤدي إلى فشل التجارب تماما؛ ومن ثم لا ننتهي إلى نتيجة ما في حينها، بل الأمر يتطلب تمثل الفروض جميعا أمام الذهن مما يتيح لهذا العالم الفرصة في الكشف عن تفسير الظاهرة موضع التساؤل.
28
ويؤيد «أينشتين» «دوهيم» في هذا الرأي؛ حيث أكد الأول على أنه قد استبدل بنظرية «نيوتن» ككل نظرية جديدة في النسبية العامة، وليس بتغيير فرض أو فروض من النظرية العلمية أو من النسق العلمي ككل. وهذا يؤيد صعوبة اختبار فرض من فروض النظرية منفصلا، ويرفض التجربة الحاسمة؛ لأنه من غير الممكن أن يكون هناك تجربة تحكم على الفرض (من فروض النظرية أو النتائج) منفصلا. والسبب في ذلك كما رأينا يرجع إلى أنه من الصعب أن نجد فرضا بذاته يمتلك حيثياته من نتائج التجربة يكون هذا الفرض أو غيره قابلا للتكذيب، وذلك عن طريق فصله عن كل الفروض الأخرى للنظرية بغرض اختباره. الفروض النظرية ينبغي ألا تكون منفصلة لغرض الاختبار. وفي نفس الوقت الذي رفض فيه «دوهيم» اختبار الفروض منفصلة، رأى ضرورة أن تتجنب هذه الفروض التفنيد، وذلك عن طريق معرفة سابقة أو فروض مساعدة.
29
كما يتفق مع «دوهيم» «فرانكلين
A. Franklin » حيث يؤكد الأخير على أن وجود الفرض أو القانون العلمي أو النظرية مع الفروض المساعدة الخاصة به أو بها هو ما يحول دون التفنيد؛ أي يمكننا أن نحمي القوانين والنظريات العلمية من التفنيد، وذلك بتعديل وتغيير الفروض المساعدة أو المعرفة السابقة بشأن هذه الفروض أو القوانين أو النظريات الأصلية موضع التساؤل.
30
ثالثا: موقف لاكاتوش من توجهات بوبر إزاء الفروض المساعدة
إذا كان بوبر قد ذهب إلى أن النظرية (أو الفرض) يمكن إنقاذهما دائما من مأزق التكذيب إذا عززناها بفروض إضافية مساعدة، وأنه إذا كان طبقا لبوبر يكون هذا مسموحا به فقط لو أن الفرض المساعد الجيد (أو الفروض) تزيد من عدد النتائج الملاحظة؛ ذلك لأنها ينبغي أن تزيد من «المضمون التجريبي» للنظرية. وإن لم تفعل ذلك، ينظر إلى الفرض المساعد بأنه وضع لغرض معين، وهو غير مسموح به طبقا للقواعد المنهجية المفضلة لبوبر. وهذه النقطة بالذات هي التي تناولها لاكاتوش لكي يطور على أساسها وصفا ل «ديناميكا» النظريات، فعمل على أن يحلل ليس فقط بنية النظريات العلمية، والطريقة التي بها تكذب، وإنما أيضا العمليات التي بها تفسح نظرية (أو فرض) مجالا لنظرية أخرى (أو فرض آخر) في «برنامج بحث» متطور بصورة تدريجية بهدف تجاوز النزعة التكذيبية البوبرية، والتغلب على الاعتراضات التي وجهت إليها.
31
ولقد قدم لاكاتوش تفسيرا لذلك من خلال الظروف التي يمكن عن طريقها الحكم على أن برنامج بحث ما متقدم على غيره، وذلك في دراسة له تحمل عنوان «التكذيب وميثودولوجيا برامج البحث العلمي»؛ حيث يتناول لاكاتوش في هذه الدراسة مناقشة معيار القابلية للتكذيب وتطوره عند بوبر، وكيف أن هناك نوعين من التكذيب؛ التكذيب الساذج
Naïve Falsifications ، والتكذيب المنهجي
Methodological Falsifications ؛ فبالنسبة للتكذيب الساذج، فإن البرنامج أو النظرية تكون مقبولة، ومن ثم متقدمة قابلة للتكذيب بطريقة تجريبية؛
32
إلا أن لاكاتوش يرفض هذا النوع من التكذيب؛ إذ إن كل قضايا العلم قابلة للخطأ. أما النوع الثاني فهو التكذيب المنهجي، ومن خلاله تكون النظرية مقبولة أو علمية فقط إذا عززت المحتوى الإمبريقي بصورة زائدة عن سابقتها أو منافستها.
33
ولذلك يعطي لنا لاكاتوش تلخيصا لتصوره بقوله: «إن النظرية العلمية «ت» تكذب إذا اقترحت نظرية أخرى «ت» بالمواصفات التالية: «ت» بها محتوى إمبريقي زائد عن «ت». وهذا معناه أنها تتنبأ بوقائع جديدة، وقائع غير محتملة في ضوء «ت » أو حتى محرمة عن طريقها. «ت» تفسر نجاح «ت» السابق؛ أي إن المحتوى غير المرفوض في «ت» يدخل في محتويات «ت» (من خلال الخطأ الملاحظ).
بعض المحتويات الزائدة في «ت» معززة.»
34
ويستطرد لاكاتوش فيقول: «... ولكي نستطيع أن نقيم هذه التعريفات نحتاج إلى أن نفهم الخلفية المشكلة لها ونتائجها. أولا، علينا أن نتذكر الاكتشاف المنهجي للاصطلاحيين من أنه لا توجد أي نتيجة تجريبية تستطيع أن تقتل النظرية، وأن النظرية يمكن أن تنقذ من المناقضة إما بواسطة فرض مساعد أو بإعادة شرح مناسب لألفاظها. وقد حل المكذب الساذج هذه المشكلة بإبعاد الفروض المساعدة إلى مستودع المعرفة الخلفية الخالية من المشاكل - في تعبيرات حاسمة - مستبعدا منها النموذج المستنبط لاختبار الموقف، وبذلك يجبر النظرية المختارة على العزلة المنطقية، التي تصبح فيها هدفا ساكنا لهجوم التجارب الاختبارية. لكن حيث إن هذه الطريقة لم تقدم إرشادا لإعادة البناء العقلاني لتاريخ العلم، فيمكننا أيضا أن نعيد التفكير في طريقتنا كلية.»
35
وإعادة البناء العقلاني للعلم في تصور لاكاتوش قائم على أن النظرية العلمية المتقدمة هي النظرية التي تنتقل فيها نظرية ما إلى الأمام ومعها محتوى معرفي وتجريب منطقي أكبر من نظرية أخرى، مما يؤدي إلى سلسلة من الاكتشافات لوقائع جديدة. إن ما حاول لاكاتوش أن يقوله هنا هو أن النظرية العلمية المتقدمة لم تعد كما كان يؤكد على ذلك أصحاب الوضعية المنطقية، متقدمة باتفاقها مع الوقائع الملاحظة، بل أصبح المعيار التجريبي لتقدمها يكمن في تقديم النظرية العلمية لوقائع جديدة؛
36
يقول لاكاتوش: «إذا قدمنا نظرية لحل تناقض بين نظرية سابقة ومثل مناقض بطريقة تجعل النظرية الجديدة تقدم فقط إعادة تفسير مبني على تناقض المحتويات (لغويا)، بدلا من تقديم تفسير مبني على زيادة في المحتويات (علميا)، فإن التناقض يحل بطريقة لا تتعدى تفسير معاني الكلمات، غير العلمية؛ فواقعة معينة تفسر علميا فقط إذا فسرت واقعة جديدة أخرى معها.»
37
ومن هذا المنطلق نود أن نتساءل: ماذا لو كان لدينا سلسلة من النظريات لديها محتوى معرفي أكبر وتتنبأ بوقائع جديدة، ولكن يوجد في هذه السلسلة بعض النظريات المتناقضة؟ يجيب لاكاتوش بأننا لو كان لدينا هذه السلسلة من النظريات ويوجد بينها عدد قليل من النظريات المتناقضة، فإننا لا بد أن نستبعد الواحدة تلو الأخرى من تلك النظريات المتناقضة، حتى إذا كان لدينا نظريتان في النهاية نفاضل بينهما عن طريق معرفة أيهما تقدم المحتوى الأكبر المعزز الذي يمدنا بشكل التقدم الذي تتخذه النظرية. أما سلسلة النظريات المتبقية فإنها تشكل متصلا يستمر ويلتحم ليشكل برامج للبحث.
38
وهنا يصل لاكاتوش إلى نفس النتيجة التي وصل إليها كل من بوبر وتوماس كون، ولكن لأسباب مختلفة، فنحن نعرف أن بوبر ذهب إلى لاعلمية نظريات التنجيم والتحليل النفسي والماركسية لعدم قابليتها للتكذيب، كما أن كون وصل إلى نفس النتيجة ولكن بسبب عجز هذه الأنساق عن تكوين أسلوب لتكوين وحل الألغاز. أما لاكاتوش فيرى أن هذه الأنساق لم تنجح في التنبؤ بوقائع ناجحة غير مطروقة أو غير متوقعة، فهل نجحت الماركسية في ذلك؟ لم يحدث على الإطلاق، على العكس فللماركسية تنبؤات فاشلة معروفة؛ فقد تنبأ الماركسيون بالفقر المطلق والأكيد للطبقات العاملة، كما تنبئوا بحتمية حدوث الثورة الاشتراكية الأولى في أكثر البلدان الصناعية تقدما، وأن المجتمعات الاشتراكية ستخلو من الثورات والإضرابات العمالية، وبعدم حدوث صراع أو تضارب في المصالح بين الدول الاشتراكية. ونحن لا ننكر بالطبع أن هذه التنبؤات العلمية عند نيوتن وأينشتين، ولكن الفارق الأساسي بينهما هو أن هذه التنبؤات الأخيرة فشلت جميعا. وكلنا يعرف ما حدث للاتحاد السوفييتي السابق عقب تفكك الجمهوريات السابقة وانهيار النظام الشيوعي في معظم البلدان التي أخذت به. ويبدو الموقف لنا وكأن لاكاتوش كان لا يستقرئ فعلا ما سوف يحدث بعد وفاته بثلاثة عقود؛ فقد رفض الماركسيون بعد فشل تنبؤاتهم الاعتراف بهذا الفشل؛ ومن ثم حاولوا تفسير وتبرير هذا الفشل، ففسروا ارتفاع مستوى معيشة الطبقات العاملة في البلدان الصناعية باختراع نظرية الإمبريالية العالمية، وفسروا سبب حدوث الثورة الاشتراكية الأولى في روسيا المتخلفة صناعيا آنذاك بدلا من حدوثها في أحد البلدان المتقدمة. كما فسروا حدوث ثورات شعبية في البلدان الاشتراكية كالتي حدثت في برلين عام 1953م وبودابست عام 1956م وبراج عام 1968م. وأخيرا فسروا الصراع بين البلدان الاشتراكية ذاتها كالصراع بين روسيا والصين. وقد استعانوا في كل هذه التفسيرات بفروض مساعدة إضافية تم تلفيقها بعد وقوع الأحداث وليس قبلها كما يحدث في النظريات العلمية.
39
ومن جهة أخرى اعترض لاكاتوش على بوبر بشأن التقدم العلمي؛ فقد أكد بوبر على اختبار الفرض على حدة وبصورة منفصلة، وعد ذلك مسألة جوهرية لتقدم العلم وقياس ما يضاف إليه حقيقة؛ فالذي لا شك فيه أنه لا يمكن أن يقرر أحد إذا كانت نظرية جسورة مهما كانت، وذلك عن طريق اختبارها على انفصال، لكن فقط عن طريق اختبارها في ضوء سياقها المنهجي التاريخي.
40
وهذا معناه أنه إذا كان بوبر في محاولته للتقدم العلمي يؤكد عمومية النظرية العلمية، مع الوضع في الاعتبار تكذيب النظرية اللاحقة للنظرية السابقة عند تناقضها، فإن لاكاتوش يؤكد على أن أي نظرية تتمثل وتولد في خضم هائل من التناقضات؛ ومن ثم يمكن عمل تعديل في النسق النظري العلمي. وطبقا لذلك رأى لاكاتوش أن أي برنامج بحث يتألف من قواعد منهجية؛ يقول لاكاتوش: «طبقا للمثيودولوجيا التي أدعو إليها، فإن الإنجازات العلمية العظيمة ليست سوى برامج بحث يمكن تقييمها في حدود مشكلة الدورات المتقدمة والمتفسخة؛ حيث تشتمل الثورات العلمية على برنامج بحث واحد (يتخطى في التقدم آخر) ويحل محله. وتسعى هذه الميثودولوجيا إلى إعادة بناء عقلاني جديد للعلم.»
41
ويؤكد لاكاتوش أن هذه الميثودولوجيا تقدم برامج البحث صورة عن لعبة العلم تختلف كثيرا عن الصورة التي تقدمها ميثودولوجيا التكذيبي؛ حيث إن أفضل استهلال افتتاحي ليس افتراضا يمكن تكذيبه (ويكون لذلك متسقا)، وإنما هو برنامج بحث.
42
وهنا يقترح لاكاتوش وحدة جديدة للتقييم؛ فبدلا من النظريات المؤيدة التي قدمها بوبر والنماذج الإرشادية التي قدمها كون، يركز هو على برامج الأبحاث العلمية. ويرفض لاكاتوش السؤال الأساسي للوضعية المنطقية وهو متى تكون النظرية مقبولة؟ أي متى تكون مبررة بالمعنى الذي يوضح أنها صادقة أو على الأقل محتملة الصدق بدرجة ملائمة؟ كما أنه يرفض السؤال الذي طرحه كون وهو: متى يتحتم علينا قبول نموذج إرشادي في العلم؟ حيث تتمثل الإجابة في إجماع العلماء على احترام نموذج إرشادي معين، وحيث يتخلى كون عن معيار الإثبات أو التأييد الاستقرائي التجريبي والذي يعد معيارا موضوعيا، ويتخلى أيضا عن المدى المفاهيمي البوبري للتعزيز بوصفه معيارا عرضة للخطأ، والذي يعد أيضا معيارا موضوعيا، يتخلى كون عن كل ذلك لأجل الاتفاق الذي يتسم بطابع الذاتية. ومثلما فعل كون نجد لاكاتوش أيضا يتخلى عن سائر الأسئلة المطروحة سابقا ويطرح سؤالا جوهريا مؤداه: متى يكون من المعقول أن نقبل أو نرفض برنامج بحث.
43
لم يغفل لاكاتوش الدلالة التاريخية لنمو النسق العلمي أو الأنساق العلمية؛ أي لم ينظر إلى النظرية منفردة، بل برنامج متكامل للبحث، وذلك لأن التقدم العلمي عنده يتم بالانتقال من برنامج متدهور إلى آخر تقدمي، وهذا ما جعله على خلاف مع كثير من فلاسفة العلم المعاصرين، وخصوصا كارل بوبر، على الرغم من أنه أخذ منه الكثير من الأفكار وتطبيقها. ويتألف برنامج البحث العلمي عند لاكاتوش من ثلاثة أشياء: (1)
النواة الصلبة. (2)
الحزام الواقي. (3)
الموجه الإيجابي والسلبي.
أو يتألف من جزأين بنائيين هما:
النواة الصلبة والحزام الواقي في ضوئهما يقدم نظاما من الاستمرارية لأي سلاسل من النظريات العلمية.
قاعدتين منهجيتين رئيسيتين؛ قاعدة الموجه الإيجابي وقاعدة الموجه السلبي.
النواة الصلبة (
Hard Core ): بالنسبة لأي برنامج بحث علمي تبدو ثابتة ومحددة، وتتألف من معتقدات رئيسية للبرنامج، وهي ليست موضع جدال أو تساؤل. وهذا يعني أنه إذا لم يسلم أي باحث بصحة النواة الصلبة بالنسبة لبرنامج البحث، فإنه في حل في أن يترك برنامج البحث؛ أي إن النواة الصلبة بمثابة البديهيات والمصادرات النظرية الأساسية بالنسبة لأي برنامج، كما أنها لا تخضع للتكذيب، ولا تقبل التفنيد فهي فرضيات عامة جدا هي اللب أو الصلب الذي على أساسه ينمو برنامج البحث ويتطور.
44
رابعا: دور الفروض المساعدة في قبول أو رفض برنامج بحث
تتناول منهجية لاكاتوش القرارات التي يتخذها العلماء والاختبارات التي يقومون بها. هذه القرارات والاختبارات التي يتخذونها عن طريق تبنيهم لنواة صلبة ولمساعد على الكشف الإيجابي. والمساعد على الكشف الإيجابي هو سياسة للبحث أو «تصميم أو خطة تم تصورها مسبقا» يختار المشتغلون بالعلم تبنيها. والمشاكل التي يختارها العلماء المشتغلون على برامج للبحث اختيارا عقلانيا، هي المشاكل التي يحددها المساعد على الكشف الإيجابي؛
45
ويقول لاكاتوش: «طبقا للميثودولوجيا التي أدعو إليها، فإن الإنجازات العلمية العظيمة ليست سوى برامج بحث يمكن تقييمها في حدود مشكلة الدورات المتقدمة والمتفسخة، حيث تشتمل الثورات على برنامج بحث واحد (يتخطى في التقدم آخر) ويحل محله.»
46
وهنا يقول إيان هاكينج: «كان لاكاتوش يولي اهتماما كبيرا بتعيين الحدود الفاصلة لما هو علم؛ حيث إن الميثودولوجيا التي يدعو إليها معيارية إلى درجة أنها قد تحكم على بعض الأحداث الماضية في العلم بأنها ما كان ينبغي عليها أن تسير على هذا المنوال. بيد أن فلسفته لا تيسر أي تقييمات متقدمة لنظريات علمية متنافسة في الوقت الحاضر. وإنما توجد على الأكثر مؤشرات قليلة بأنها مشتقة من ميثودولوجيته.» فهو يقول إننا ينبغي أن نكون متواضعين في آمالنا المتعلقة بمشروعاتنا الخاصة؛ لأنه قد يكون للبرامج المتنافسة الكلمة الأخيرة. وعندما لا يسير برنامج أحد منا في الطريق القويم ينفسح المجال أمام العناد، فيضحي تكاثر النظريات، والتساهل في التقييم، والتقييم المشرف عندئذ هي الطرق المتبعة لرؤية أي برنامج هو الذي يثمر نتائج ويواجه تحديات جديدة.
47
والسؤال الآن: متى يتم استبعاد برنامج بحث علمي طبقا لميثودولوجيا لاكاتوش؟ إن استبعاد برنامج بحث علمي يأتي عندما يقدم برنامج البحث العلمي الجديد المنافس تفسيرا لنجاح برنامج البحث العلمي السابق عليه، وتقديم خطوات تجريبية إيجابية، ويتنبأ بوقائع جديدة أكثر من برنامج البحث العلمي السابق، ولكن ليس معنى هذا الاستغناء عن برنامج البحث العلمي السابق؛ يقول لاكاتوش «إن برنامج البحث العلمي الجديد الذي يدخل في منافسة ربما يبدأ بتفسير وقائع قديمة بطريقة جديدة، ولكن ربما يأخذ وقتا طويلا قبل أن يرى ويقدم وقائع جديدة حقيقية.»
48
وفي فقرة أخرى يقول لاكاتوش: «لا يوجد هناك تجارب حاسمة إذا عنينا بذلك تجارب تؤدي مباشرة إلى القضاء على برنامج معرفي معين. وفي الحقيقة فإنه في حال انهزام برنامج بحث معرفي واستبداله ببرنامج معرفي آخر، يمكننا مستفيدين من مرور فترة طويلة من الزمن «تسمية تجربة حاسمة إذا ظهرت جليا أنها كانت مؤيدة للبرنامج المنتصر وداحضة للبرنامج المهزوم»، وبعبارة أخرى لا يعير العلماء آذانهم بسهولة إلى نتائج التجارب السلبية بادئ الأمر، ولا بد من مرور فترة طويلة من الأبحاث والاختبارات كي يقبل سوادهم بفشل النظام المعرفي الذي دحضته التجربة، فلا تصبح هذه الأخيرة حاسمة في انهزامه إلا بعد أن تكون قد ترسخت النظرية الجديدة في الأوساط العلمية، فيمكننا فقط عندها القول بأنها تجربة حاسمة.»
49
وقد تأخذ الأمور منحى أكثر تعقيدا حسب لاكاتوش: «فإذا وضع عالم من أنصار المعسكر المهزوم بعد بضع سنوات تفسيرا علميا لما دعي ب «التجربة الحاسمة» يجعلها متفقة مع البرنامج المهزوم، فإن صفة الشرف يمكن نزعها عن تلك التجربة وتتحول بذلك «التجربة الحاسمة» من هزيمة إلى نصر للبرنامج القديم.»
50
وهكذا قد تستمر نظرية ما في مقاومة التغيير لفترات طويلة، وقد تصبح عائقا أمام أي محاولات جدية لدحضها، فتسد آذان العلماء عن صوت البنى الطبيعية المناقض لها، وتخلق انقطاعا مرحليا في المسار العلمي نحو الحقيقة. وقد يطول هذا الانقطاع أو يقصر جاعلا من مفهوم التقدم نحو البنى الموضوعية مفهوما تاريخيا لا تندرج فيه أية حقبة منعزلة من تطور المعرفة، بل المسار التاريخي برمته.
51
فعلى سبيل المثال، فإن نظرية الحرارة قد بدت متلكئة وراء نتائج النظرية الفينومينولوجية لعشرات السنين قبل أينشتين-سموكوتشوفسكي للحركة البراونية عام 1905م، بعد هذا ما كان قد بدأ على أنه إعادة لتفسير وقائع جديدة عن الحرارة، على سبيل المثال، قد تحول على أنه اكتشاف لوقائع جديدة عن الذرات.
52
وهذا القول يدلنا على أننا لا نستبعد برنامجا للبحث فقط لأنه قد فشل في أن يلحق بمنافسه القوي؛ ذلك لأن هذا البرنامج للبحث يمثل تقدما في غياب منافسه القوي، وأننا لا بد أن نعطي لبرنامج البحث الموجود الفرصة، طالما كانت لديه القدرة على ذلك، لإعادة بناء نفسه من أجل تحقيق التقدم في العلم.
53
فالعلم في نظر لاكاتوش يتقدم عن طريق برامج البحث العلمي المتنافسة؛ فبرنامج البحث المتقدم يكون له نواة صلبة لا تقبل التفنيد، وذلك لوجود حزام واق من الفروض المساعدة؛ حيث تتجه التفنيدات إلى هذا الحزام الواقي المكون من الفروض المساعدة التي تتحمل صدمة الاختبارات، وتتعدل مرة بعد أخرى حتى إنها يمكن أن تستبدل كلية من أجل حماية النواة الصلبة لبرنامج البحث العلمي، فإذا نجح برنامج بحث علمي ما في هذا الاستبعاد للفروض المساعدة وإحلال فروض أخرى تحقق الخطوة الأولى من برنامج بحث متقدم، هي زيادة الفروض المساعدة وزيادة مضمونها التجريبي وقدرته على التنبؤ بوقائع جديدة. وتأتي خطوة ثانية لتحقيق التقدم في برنامج بحث علمي ما، وهي خطوة إيجابية في هذه المرة، والتي تتلخص في «تغيير وتطوير الأشكال المختلفة القابلة للتفنيد لبرنامج البحث، وكذلك كيف تعدل وتطور الحزام الواقي القابل للتفنيد»؛
54
وفي هذا يقول لاكاتوش: «تتميز جميع برامج البحث العلمي ب «جوهرها الصلب». والمحاولة التجريبية السلبية للبحث تمنعنا من توجيه طريقة التفنيد إلى الجوهر الصلب. وبدلا من ذلك، علينا أن نستخدم مهارتنا في صياغة أو ابتكار «افتراضات مساعدة»، تشكل حزام الأمان حول ما هو الجوهر الصلب ويجب أن نعيد توجيه طريقة التفنيد إليها؛ فحزام الأمان من الافتراضات المساعدة هو الذي يجب أن يتحمل حدة صدمة الاختبارات وتتعدل مرة أخرى بعد أخرى، حتى يمكن أن تستبدل كلية لكي تحمي الجوهر الصلب؛ فبرنامج البحث يمكن أن ينجح إذا أدى كل هذا إلى تحول إشكالي تقدمي، ويفشل إذا أدى هذا إلى تحول إشكالي تأخري.»
55
ويعطينا «لاكاتوش» مثالا على ذلك من برنامج البحث النيوتوني؛ حيث يلاحظ أن النواة الصلبة لهذا البرنامج تتمثل في الجاذبية، وأنه لا شك في أن بين النواة والظواهر الحزام الواقي من الفروض المساعدة التي تحتك بالاختبار والتكذيب. ومن هنا قبل الحزام الواقي التعديل والتطوير ليحمي النواة. وهذا التطوير يتم بناء على الموجه الإيجابي المساعد على الكشف؛ أي إننا حين اكتشفنا أن كوكب أورانوس لا يتفق مع التنبؤات الخاصة بنظرية نيوتن لم نستنتج من هذا أن النظرية كاذبة، بل على العكس، فالنظرية أو برنامج البحث النيوتوني عامة لا يزال تقدميا. وبعد فترة من الزمن أصبح هذا البرنامج متفسخا ومتدهورا لظهور برنامج آخر، وهو لأينشتين الذي فسر حركة الكوكب عطارد التي لم يستطع برنامج نيوتن حلها. هذا فضلا عن أن برنامج أينشتين قد تنبأ بانحراف الأشعة الآتية من النجوم تحت تأثير مجال الجاذبية؛
56
يقول لاكاتوش: «والمثل التقليدي لبرنامج البحث الناجح هو نظرية الجاذبية لنيوتن، ربما يكون أنجح برنامج بحث. عندما قدم في بادئ الأمر غرق في محيط من الشواذ (أو الأمثلة المضادة، إذا أردت)، وعارضته نظريات الملاحظة التي تدعم هذه الشواذ. لكن أتباع نيوتن حولوا بذكاء وإصرار واضح الأمثلة المضادة واحدا بعد الآخر إلى أمثلة مثبتة، برفض نظريات الملاحظة الأصلية التي بنيت الأدلة المضادة في ضوئها بصورة رئيسية. وفي أثناء هذا الإجراء قدموا أمثلة مضادة جديدة قاموا أيضا بالرد عليها. ولقد حولوا كل صعوبة جديدة إلى نصر جديد لبرنامجهم. في برنامج نيوتن التجريبية السلبية تطلب منا أن نحول طرق تفنيدنا عن قوانين نيوتن الثلاثة عن الديناميكا وقانونه عن الجاذبية. هذا الجوهر الذي لا يفند عن طريق قرار منهجي من الأنصار. فالشواذ يجب أن تقود التغييرات فقط من أحزمة الأمان المساعدة والافتراضات الملاحظة والظروف الابتدائية. ولقد قدمت مثلا صغيرا جدا مبتكرا للتحول الإشكالي التقدمي لنيوتن. إذا حللناه نجد أن وصلة متتابعة في هذا التمرين تتنبأ بحقيقة جديدة معينة، كل خطوة تمثل زيادة في المحتوى الإمبريقي. والمثل يشكل تحولا نظريا تقدميا مستمرا. وأيضا كل تنبؤ يتحقق في النهاية على الرغم من أنه في ثلاث مناسبات متتالية كان يبدو عليها أنها «مفندة» مؤقتا. بينما التقدم النظري (في المعنى المشروح هنا) يمكن أن يتحقق مباشرة، لا يمكن ذلك بالنسبة للتقدم الإمبريقي، وفي برنامج البحث يمكن أن يصيبنا الإحباط بسبب سلسلة طويلة من «التفنيدات» قبل أن يحول افتراض مساعد متزايد في المحتوى ساذج محظوظ سلسلة من الهزائم - بالبصيرة - إلى قصة نجاح رنانة، إما عن طريق مراجعة بعض الوقائع الخاطئة أو بإضافة افتراض مساعد جديد. ويمكننا أن نقول عند ذلك إننا يجب أن نطلب أن تكون كل خطوة من برنامج البحث تحولا إشكاليا تقدميا بصفة مستمرة. وكل ما نحتاج إليه بالإضافة إلى هذا هو أنه على الأقل من حين لآخر يجب أن يلاحظ أن الزيادة في المحتوى قد تحققت بأثر رجعي، والبرنامج ككل يجب أن يبين تحولا إمبريقيا تقدميا مترددا.»
57
فاختبار أي برنامج يعول مباشرة على الحزام الواقي للفروض المساعدة. ومن هنا أكد «لاكاتوش» أن أي نتيجة اختبار سالبة مفردة لا تفند برنامج البحث ككل؛ الأمر الذي جعله ينتقد «بوبر» عندما عول على أهمية النتائج السلبية؛ حيث إن وجود أي نتيجة اختبار سلبية، إنما هي استراتيجية مثمرة لتعديل الحزام الواقي للفروض المساعدة ليعدل أو يسوي الشاذ؛
58
يقول لاكاتوش متعجبا من بوبر: «هل يستطيع أحد أن يحسن من طريقة دوهيم؟» لقد فعل بوبر ذلك، وحله - صورة واعية للتجزيء المنهجي - أكثر موضوعية وأكثر قوة؛ فبوبر يتفق مع الاصطلاحيين في أن النظريات والفروض المبنية على الوقائع يمكن دائما أن تنسجم مع بعضها عن طريق فروض مساعدة؛ فهو يوافق على أن المشكلة هي كيف نميز بين التعديلات العلمية والعلمية الزائفة وبين التغييرات العقلانية واللاعقلانية في النظرية؛ فطبقا لبوبر، إن إنقاذ النظرية بفضل الفروض المساعدة التي تستوفي ظروفا معينة محددة يمثل التقدم العلمي، لكن إنقاذ النظرية بفضل فروض مساعدة لا تفعل ذلك يمثل التدهور. ويطلق بوبر على هذه الفروض المساعدة مصطلح الفروض العينية «حيل اصطلاحية». لكن بعد ذلك يجب أن نقيم أي نظرية مع فروضها المساعدة والظروف الأولية ... إلخ. وخاصة مع سابقاتها، حتى نرى ما هي التغييرات التي أدت إليها. وبعد ذلك بالطبع نقيم سلسلة من النظريات لا نظريات متفرقة.
59
وعلى هذا رفض «لاكاتوش» أن يكون نمو العلم مجرد واقعة نافية أو بينة تجريبية معارضة تكذب نظرية على حدة بصورة مستقلة، ليتم رفضها هي فقط في حد ذاتها ويستبدل أخرى تعرض بدورها على محكمة التجريب! وهنا يؤيد لاكاتوش «دوهيم-كواين»، لا سيما عندما رأى أن المعقبات أو النواتج التي تلزم الفرض العلمي الجديد، والتي تكون محكمة للتجريب لا تخص الجديد وحده، بل تخص النسق المعرفي بأسره الذي انتمى إليه الفرض؛
60
فيقول: «طبقا لأطروحة دوهيم-كواين، يمكن لأي نظرية (سواء كانت مكونة من افتراض واحد أو عدد محدود من الروابط لكثير منها) أن تنقذ بصفة دائمة من التفنيد، إذا أعطيت بعض الخيال، بواسطة تعديل مناسب في خلفية المعلومات المرتبطة بها. وكما ذكرها كواين «يمكن أن يعتقد أن أي قضية حقيقية مهما كانت النتيجة» إذا ما أحدثنا تعديلات قوية كافية في مكان آخر من النظام ... وبالعكس، لا يوجد أن النظام ليس شيئا أقل من «كل العلم». يمكن ملاءمة أي تجربة متمردة بأي إعادات للتقييم البديلة المتنوعة في أجزاء مختارة متنوعة من النظام الكلي (بما في ذلك إمكانية إعادة تقييم التجربة المتمردة نفسها). هذه الأطروحة لها تفسيران مختلفان جدا. في تفسيرها الضعيف تؤكد فقط استحالة ضربة معملية مباشرة على هدف نظري محدد بدقة، والإمكانية المنطقية لتشكيل العلم بطرق مختلفة كثيرة ليس لها حدود، والتفسير الضعيف يضرب فقط التكذيب الدجماطيقي وليس المنهجي وهو الذي ينكر إمكانية دحض أي إمكانية، دحض أي مكون منفصل للنظام النظري. وفي تفسيرها القوي تبعد أطروحة دوهيم-كواين أي قاعدة للاختيار العقلاني بين البدائل، هذه الصيغة لا تتلاءم مع كل أشكال التكذيب المنهجي. والتفسيران لا ينفصلان بوضوح عن بعضهما على الرغم من أن الاختلاف حيوي منهاجي. ويبدو أن دوهيم كان مقتنعا بالتفسير الضعيف؛ فبالنسبة إليه، فإن الاختيار هو مسألة «بصيرة» يجب دائما أن نختار الصحيح لكي نقترب من التصنيف الطبيعي.»
61
ولكي نفهم فكرة لاكاتوش عن برامج البحث، فمن الملائم أن نناقش الكيفية التي تعدل من خلالها النظريات المكذبة، سواء أكانت هذه النظريات يجب استبعادها تماما أم يتم تغييرها سطحيا فقط؛ حيث نجد أن دوهيم وكون يؤكدان، أن النظرية المكذبة أحيانا لا تستبعد تماما، ولكي نفسر ذلك، افترض لاكاتوش أن برنامج البحث يتوقف على جزأين؛ النواة الصلبة للفروض الرئيسية، والحزام الواقي للفروض المساعدة.
62
والنواة الصلبة هي التي تتيح لبرنامج بحث خصائصه المميزة أفضل، وتتكون هذه النواة من بعض الفرضيات العامة جدا، والتي تشكل القاعدة التي ينبغي للبرنامج أن ينمو ويتطور انطلاقا منها. هذه بعض الأمثلة على ذلك. تشكل النواة الصلبة في علم الفلك لدى كوبرنيق من فرضيتين، وهما: أن الأرض تدور حول الأمثلة على ذلك. تشكل النواة الصلبة من قوانين الحركة ومن الجاذبية الكونية كما تصورها نيوتن. والنواة الصلبة في المادية التاريخية لدى ماركس هي فرضية أن التغير الاجتماعي يجد تفسيره في صراع الطبقات، وهذه الطبقات تتحدد طبيعتها وتفاصيل الصراع بينها، في نهاية التحليل، بالبنية التحتية الاقتصادية. وفيما يتعلق ب «الحزام الواقي» فإن أي عدم تطابق بين برنامج من برامج البحث، وبين معطيات الملاحظة، ينبغي أن ينسب، لا إلى الفرضيات التي تشكل نواته الأصلية، بل إلى أي جزء آخر من أجزاء البنية النظرية. وإن تشابك الفرضيات الذي يشكل هذا الجزء الآخر من البنية لهو ما يسميه لاكاتوش «الحزام الواقي». وهو لا يقوم فقط في فرضيات مساعدة صريحة تكمل النواة الصلبة، بل يقوم أيضا في الفرضيات الضمنية أو المتضمنة في وصف الشروط الابتدائية، وفي منطوقات الملاحظة. ولقد لاحظ لاكاتوش أن الفرضيات أو النظريات التي تؤلف برنامج بحث ليست جميعا متساوية المكانة إذ تعامل بعضها على أنها مقدسة إلى أبعد حد، أو بلغة بوانكاريه أنها «مصطلح» عليها. وتقبل الأخريات لكونها عرضة للتعديل والتغيير، وعندما تعدل تصبح محكمة نتيجة لتطورات برنامج البحث. ويطلق على الأولى اسم «النواة الصلبة» وقد تحدثنا عنها من قبل، وعلى الثانية اسم «الحزام الواقي».
63
والحزام الواقي يتألف من محتوى البرنامج بحيث يختلف عن النواة الصلبة والمبادئ الموجهة. يطلق لاكاتوش على هذه المعلومات أو هذا المحتوى الفروض المساعدة التي تبدو - على عكس النواة الصلبة - مادة للتغيير. ومع ذلك يتضمن الحزام الواقي أيضا معلومات تمثل بدورها الشروط الأولية، الشروط التي تحددها سلسلة بارمترية (ثوابت تعسفية تتخذ قيما متباينة وفقا لاختلاف المتغيرات في الحالة موضع التساؤل) بالنسبة لأي نظرية علمية؛ ففي الميكانيكا النيوتونية مثلا، نرى أن الوقت المطلوب لأي جسم لأن يسقط من مسافة يمكن التنبؤ به، وذلك إذا تحددت الشروط الأولية المناسبة، وهي سرعة الجسم والتسارع وقرب الجسم والجاذبية ... إلخ. والواقع أن لاكاتوش قد أطلق على الحزام بأنه الواقي نظرا لأنه يقي النواة الصلبة من التدمير المحتمل للفروض الملاحظة (ولفظ الفرض الملاحظ هنا يستخدم ليقدم معنى مختلفا عما يطلق عليه النتيجة التجريبية أو الملاحظة)؛ فالاستخدام الواضح هنا للفظ فرض يشير إلى نظرية محملة. هذا يعني أن لاكاتوش دائما يلحق النواة الصلبة بالفروض المساعدة أو الحزام الواقي الذي يواجه التعديلات والتصويبات، وقد يتغير ويستبدل به آخر ليحمي النواة الصلبة.
64
مثال يوضح النواة الصلبة والحزام الواقي والفروض المساعدة: برنامج البحث للميكانيكا النيوتونية: هنا تكون النواة الصلبة قوانين نيوتن والجاذبية العامة، ولكي تطبق على ذلك النظام الشمسي فنحن في حاجة إلى معطيات أو عمل فروض متباينة على سبيل المثال، الكتل والشمس والكواكب ومواضعها، كما أننا في حاجة إلى عمل تقديرات رقمية وذلك لتسهيل عملية الحساب؛ فمثل هذه الفروض يمكن أن نطلق عليها الحزام الواقي كما أن هذه الفروض وهذه التقديرات الحسابية من الممكن أن تكون متوافقة أو معدلة وذلك لتلائم الحركات الملاحظة للكواكب؛ لذا يمكن القول، مثلا، إذا قمنا بحساب الحركات المتنبأة متجاهلين تجاذب الكواكب الواحد بالنسبة للآخر في وجود تأثير الشمس، فإننا سوف نلاحظ عدم توافق بين التنبؤات والحركات الفعلية. وقد تحقق هذا في الحركة الشاذة لكوكب أورانوس. وقد تم تفسيرها بوجود كوكب آخر غير ملاحظ مؤثر في مدار أورانوس. وقد كان افتراض هذا الفرض قابلا للاختبار؛ حيث تم حساب مدار الكوكب غير الملاحظ، وفي ضوء ذلك اكتشف نبتون.
65
والنواة الصلبة والحزام الواقي في ضوئهما يقدم نظام من الاستمرارية لأي سلاسل من النظريات العلمية قاعدتين منهجيتين رئيسيتين؛ قاعدة الموجه السلبي وقاعدة الموجه الإيجابي. وقاعدة الموجه السلبي لبرنامج ما، هو المطلب الذي يقضي بالحفاظ على نواة البرنامج الصلبة ثابتة غير منقوصة خلال نمو هذا البرنامج وتطوره. وكل عالم يجري تعديلات في النواة الصلبة، فإنه يختار الخروج عن برنامج البحث الذي يشتغل فيه؛ فقد اختار «تيكو براهي»، ترك البرنامج الكوبرنيقى والبدء في برنامج آخر، وذلك عندما اقترح التسليم بفرضية أن جميع الكواكب الأخرى - غير الأرض - تدور حول الشمس، وأن الشمس ذاتها تدور حول أرض مستقرة. أما المساعد على الموجه الإيجابي فهو الذي يوجه المشتغلين بالعلم إلى ما ينبغي أن يفعلوه. ولقد سبق أن تحدثنا عن وظائفه عندما تعرضنا إلى منهجية برامج البحث. وتجدر الإشارة إلى أن «قاعدة الموجه السلبي» تشترط للبرنامج ألا تكون الفروض الخاصة ب «النواة الصلبة» متغيرة. فإذا ما تغيرت «النواة الصلبة»، عندئذ قد يهجر المرء برنامج البحث ويتحول إلى آخر، أو بلغة كون يتحول إلى نماذج إرشادية أخرى. ومن ناحية أخرى، فإن «المساعد على الموجه الإيجابي» للبرنامج يمكن أن يضع العديد من الفروض الإضافية لتعديل شواذ قد تظهر في البرنامج. ويقال إن البرنامج يكون متقدما طالما كان نطاق الملاحظات الإمبريقية يسبب النمو في المعرفة، خصوصا بمعنى نجاحه في التنبؤ بوقائع جديدة، ويوصف البرنامج بأنه متفسخ إذا لم يستطع أن يفعل ذلك. وكمثال على برنامج بحث متقدم يتخذ لاكاتوش نظرية وليام براوت الجزيئية (1815م)، التي ترى أن الأوزان الذرية لجميع العناصر ينبغي أن تكون أعدادا صحيحة. وكانت «النواة الصلبة» للبرنامج ترى أن جميع الذرات متحدة بذرات الهيدروجين (وهذا يعطي بالفعل وزنا لها بنسبة «1»). ولقد انتصر برنامج براوت الذي استطاع أن يفسر الشواذ في حدود عدم ملاءمة الحزام الواقي. وعلى الرغم من أن نظريته اعتبرت ميتة لسنوات طويلة، إلا أن أفكارا جديدة في بنية الذرة قد انبثقت في غضون السنوات الأولى من القرن العشرين. وفي خضم الأحداث تأسست ترجمة جديدة لفروض براوت، مدعمة من قبل «مساعد على الكشف الإيجابي» لبرنامج البحث. وكانت الآلية المتبعة في حل المشكلات تستوعب الشواذ أولا بأول. إذن لو استمر برنامج البحث في التحسن، لأدى ذلك إلى اكتشاف ظواهر جديدة تعلل بنجاح في حدود الظواهر المتعددة للبرنامج، فنحصل عندئذ على «تغير مشكلة متقدمة»
aprogressive problem shift
لأن الفروض الجديدة الموضوعة في «الحزام الواقي» تزيد من المضمون الإمبريقي للنظرية (أو البرنامج). ولكن في ظروف مبشرة بنجاح أقل، عندما تنتهي القوة الدافعة للبرنامج، فإن الفروض الجديدة المضافة تتحول إلى «غرض خاص»؛ لأنها تنقذ الفروض المسبقة للنواة الصلبة، بيد أنها لا تسمح بالتنبؤ بظواهر جديدة مختبرة. أو بلغة بوبر، ليس لديها ما تفعله لتحسين المضمون الإمبريقي للنظرية. ويقال في مثل هذه الظروف إن برنامج البحث خاضع لما أسماه لاكاتوش «تغير مشكلة متفسخة»
degenerating problem shift .
66
خامسا: الفروض المساعدة ودورها في برنامج البحث النيوتوني
كان «لاكاتوش» قد أكد أن النواة الصلبة لبرنامج البحث عند نيوتن تتمثل في الجاذبية، وأنه لا شك في أن بين النواة والظواهر الحزام الواقي من الفروض المساعدة التي تحتك بالاختبار والتكذيب. ومن هنا قبل الحزام الواقي التعديل والتطوير ليحمي النواة، وهذا التطوير يتم بناء على الموجه الإيجابي المساعد على الكشف؛ أي إننا حين اكتشفنا أن كوكب أورانوس لا يتفق مع التنبؤات الخاصة بنظرية نيوتن لم نستنتج من هذا أن النظرية كاذبة، بل على العكس، فالنظرية أو برنامج البحث النيوتوني عامة لا يزال تقدميا. وبعد فترة من الزمن أصبح هذا البرنامج متفسخا ومتدهورا لظهور برنامج آخر، وهو لأينشتين الذي فسر حركة الكوكب عطارد التي لم يستطع برنامج نيوتن حلها. هذا فضلا عن أن برنامج أينشتين قد تنبأ بانحراف الأشعة الآتية من النجوم تحت تأثير مجال الجاذبية.
67
فاختبار أي برنامج يعول مباشرة على الحزام الواقي للفروض المساعدة. ومن هنا أكد «لاكاتوش» أن أي نتيجة اختبار سالبة مفردة لا تفند برنامج البحث ككل؛ الأمر الذي جعله ينتقد «بوبر» عندما عول على أهمية النتائج السلبية؛ حيث إن وجود أي نتيجة اختبار سلبية، إنما هي استراتيجية مثمرة لتعديل الحزام الواقي للفروض المساعدة ليعدل أو يسوي الشاذ.
68
وعلى هذا رفض «لاكاتوش» أن يكون نمو العلم مجرد واقعة نافية أو بينة تجريبية معارضة تكذب نظرية على حدة بصورة مستقلة، ليتم رفضها هي فقط في حد ذاتها ويستبدل أخرى تعرض بدورها على محكمة التجريب! وهنا يؤيد لاكاتوش، بيير دوهيم لا سيما عندما رأى أن المعقبات أو النواتج التي تلزم الفرض العلمي الجديد، والتي تكون محكمة للتجريب لا تخص الجديد وحده، بل تخص النسق المعرفي بأسره الذي انتمى إليه الفرض.
69
وقد اعتبر لاكاتوش أن الفرض الأساسي في النظرية العلمية يمثل جوهرا ثابتا، بينما تمثل الفروض المساعدة نطاقا واقيا حول هذا الجوهر. وإذا أظهرت الاختبارات بعض الحالات السلبية فإن العلماء يدافعون عن الجوهر الثابت بتعديل الفروض المساعدة أو بإضافة فروض مساعدة جديدة.
70
ويشرح لاكاتوش ذلك بأن نظرية الجاذبية لنيوتن تتضمن قانون الجاذبية الذي مؤداه: «أي جسمين يتجاذبان فيما بينهما بقوة تتناسب طردا مع مضروب الكتلتين وعكسا مع مربع المسافة بين الجسمين»، وتتضمن أيضا ثلاثة قوانين للحركة: (1)
كل جسم يحتفظ بحالة السكون في حركة منتظمة في خط مستقيم، إلا إذا أجبر على تغيير تلك الحالة من قبل قوى مؤثرة. (2)
معدل التغيير في الاندفاع (كمية الحركة) يتناسب مع القوة المؤثرة ويكون في اتجاه هذه القوة. (3)
رد الفعل يساوي الفعل في المقدار ويعاكسه في الاتجاه؛ أي إن أثيري جسمين أحدهما على الآخر متساويان دائما ومتعاكسان في الاتجاه.
والحقيقة أنه لا يمكن استدلال مضمون يمكن اختباره من هذه القوانين وحدها. وإنما يمكن الاستدلال من هذه القوانين مقترنة مع بعض الفروض المساعدة، فإذا أردنا استنباط مدار الأرض مثلا علينا أن نفترض بعض الفروض المساعدة كما يلي: (1)
لا توجد أجسام سوى الشمس والقمر. (2)
الشمس والأرض يوجدان في فراغ نفاذ. (3)
لا يخضع كل من الشمس والأرض لقوى الجاذبية التبادلية.
71
ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أنه لا يمكن التنبؤ من النظرية فقط، ولكن من ارتباط النظرية مع الفروض المساعدة، وحقيقة فإنه بالكاد يمكن أن تعد الفروض المساعدة جزءا من النظرية؛ فالنظرية هي مجموعة من القوانين، والقوانين هي العبارات التي نأمل أن تكون صادقة، ويفترض أنها صادقة بواسطة طبيعة الأشياء ولا يكون صدقها عرضيا فقط، ولا يكون للفروض المساعدة مثل هذه السمة؛ فمثلا نحن لا نعتقد فعلا أنه لا يوجد أجسام سوى الشمس والأرض مثلا، كما ورد في الفرض المساعد السالف الذكر، ولكن فقط كل الأجسام الأخرى تمارس قوى ضئيلة بدرجة يمكن إهمالها، فلا يفترض أن تكون الفروض المساعدة قوانين طبيعية، بل هي مجرد عبارات خاصة ب «الشروط الحدية
Boundary Conditions » والتي تعتبر كحقيقة في نسق معين. إن أحد الفروق الهامة بين النظرية والفروض المساعدة هو العناية الفائقة التي يوليها العلماء عد ذكر النظرية، بينما أن الفروض المساعدة هي العرضة للمراجعة والتعديل والتنقيح وليس النظرية. مثال ذلك لقد قبل قانون الجاذبية العامة لأكثر من مائتي عام باعتباره حقيقة لا تقبل المناقشة، واستخدم كمقدمة في مبرهنات علمية لا حصر لها. أما الفروض المساعدة، والتي لم تؤد إلى تنبؤات ناجحة في هذه الأثناء، فإنها هي التي عدلت وليس النظرية؛ فلقد اعتبر أن التنبؤات الخاطئة لم تكن نتيجة خطأ في النظرية ولكن نتيجة خطأ في الفروض المساعدة؛ ومن ثم فإن المتناقضات المصاحبة لنظرية الجاذبية لم تؤد إلى رفضها؛ لأنه من المحتمل أن الخطأ كان في الفروض المساعدة.
72
ومثال ذلك عندما لاحظ الفلكيون وجود بعض الظواهر غير المنتظمة في حركة الكوكب أورانوس
Uranus
ولم يكن من الممكن تفسير هذه الظواهر على أساس نظرية الجاذبية العامة افترض كل من لوفيرييه
Le Verrier
في فرنسا، وآدامز
Adams
في إنجلترا وجود كوكب آخر لم يكتشف بعد هو المتسبب في الحركات غير المنتظمة لأورانوس. ولقد ثبت صحة هذا الافتراض عندما اكتشف الكوكب نبتون فيما بعد.
73
وفيما يلي رسم تخطيطي لدور الفروض المساعدة في برنامج البحث النيوتوني:
الفروض المساعدة ودورها في برنامج البحث النيوتوني. *
النظرية
الفروض المساعدة
نتائج النظرية المطبقة
ت 1
موقع الشمس، الشمس والكوكب كتل
الدوران تقريبي بناء على ما استنبطه من قوانين كبلر.
ت 2
تتحرك الشمس والكوكب حول موقع مشترك من الجاذبية
تحسن الدوران، لكن حركات المشتري وزحل شاذة.
ت 3
اضطراب واضح ويبحث عن حلول
تحسن الدورات أكثر، وقد وصفت الحركات الشاذة للمشتري وزحل عن طريق النظرية رقم 3 وحركة القمر شاذة.
ت 4
تصحيح لتوزيع الكتلة غير المنسجمة
وصفت حركة القمر بدقة أكبر عن طريق النظرية رقم 4، كما أنه لوحظ أن حركة شاذة لأورانوس كانت معلومة ضخمة وأصبحت متوفرة.
ت 5
وجود كوكب أورانوس
اكتشف نبتون بالقرب من مكان كان متنبأ به. *
انظر عبد النور عبد المنعم عبد اللطيف: عقلانية النقد العلمي عند إ. لاكاتوش، ص174.
ويمكن أن نوضح الرسم التخطيطي لدور الفروض المساعدة في برنامج البحث النيوتوني، وذلك على النحو التالي:
إن نظرية نيوتن الكاملة (ولنرمز لها بالرمز ن) تكونت من ثلاثة قوانين في الحركة (ن1، ن2، ن3) بالإضافة إلى قانون الجاذبية ن4. ومع ذلك، فإنه لا يمكن أن نستمد من ن في حد ذاتها أية نتائج قابلة للملاحظة فيما يخص نظام المجموعة الشمسية، ولكي يتسنى لنا ذلك فنحن في حاجة إلى إضافة عدد من الفروض المساعدة إلى ن؛ منها على سبيل المثال أنه لا توجد قوى أخرى تؤثر في الكواكب غير قوى الجاذبية، وأن التجاذب فيما بين الكواكب ضئيل جدا إذا ما قورن بالتجاذب بين الشمس والكواكب، وأن كتلة الشمس أكبر بكثير من كتلة الكواكب، وهكذا.
74
ودعونا نرمز لمجموعة الفروض المساعدة هذه التي تلائم حالة ما، بالرمز أ. ستكون لدينا الآن الصياغة الرمزية الآتية: إذا كانت ن1، ن2، ن3، ن4، أ صادقة فإن ل تكون صادقة، لكن ل كاذبة.
يلزم عن ذلك كذب «ن1، ن2، ن3، ن4، أ» يلزم أن يكون عنصر على الأقل من المجموعة «ن1، ن2، ن3، ن4، أ» كاذبا، لكننا لا نستطيع أن نقول أي منها كذلك.
75
وكما يوضح تاريخ العلم، غالبا ما تكمن مشكلة حقيقية في البحث العلمي عند تحديد فرض ينبغي تغييره من بين مجموعة من الفروض، وأن نتأمل على سبيل المثال كشف كل من آدامز ولوفيرييه لكوكب نبتون عام 1846م؛ فمن خلال نظرية نيوتن «ن»، بالإضافة إلى الفروض المساعدة، تمكن الفلكيون من حساب المدار النظري لكوكب أورانوس (أبعد الكواكب التي عرفت وقتها). لم يتفق هذا المدار النظري مع المدار الذي تم ملاحظته. وهذا كان يعني أنه إما أن تكون ن أو أحد الفروض المساعدة كاذبة. توصل آدامز ولوفيرييه إلى حدس افتراضي مفاده أن الفرض المساعد المتعلق بعدد الكواكب كان خاطئا، وافترضا وجود كوكب جديد أبعد من أورانوس، وهو كوكب نبتون، وحسبا كتلته والموقع الذي يجب أن يكون موجودا فيه حتى يتسبب في الاضطراب الملحوظ في مدار أورانوس. وفي 23 من سبتمبر عام 1846م، تم رصد كوكب نبتون منحرفا 52 درجة فقط بعيدا عن الموقع المتنبأ به.
76
وهذا الجانب من القصة معروف جيدا، لكن ثمة أحداثا تالية ترتبط أيضا بدور الفروض المساعدة في برنامج البحث النيوتوني؛ إذ واجه علماء الفلك في ذلك الوقت صعوبة أخرى، تتعلق بعدم انتظام حركة الحضيض الشمسي لكوكب عطارد، التي وجد أنها تتقدم أسرع قليلا مما ينبغي أن تكون عليه وفقا للنظرية القياسية. حاول لوفيرييه أن ينهج النهج نفسه، الذي اتبعه في تفسير عدم الانتظام الذي كان يعتري حركة كوكب أورانوس، والذي تكلل للنجاح، فافترض وجود كوكب أقرب إلى الشمس من كوكب عطارد، وأطلق عليه اسم فلكان
Vulcan
وله من الكتلة والمدار وإلى غير ذلك ما قد يفسر الزيادة في حركة الحضيض الشمسي لعطارد. ورغم ذلك لم يستدل على وجود مثل هذا الكوكب.
77
إن الفرق هنا يكون ضئيلا للغاية. وفي عام 1898م، قدر نيوكومب قيمته بما يساوي 41024 درجة؛ أي بما يقل عن جزء من ثمانين من الدرجة في كل فرض. ورغم ذلك فإن الانحراف الضئيل للغاية في حركة كوكب عطارد قد تم تفسيره بنجاح بواسطة النظرية النسبية العامة «ن» التي توصل إليها أينشتين عام 1915م، لتحل محل نظرية نيوتن «ن»؛ فقيمة الزيادة في الحركة غير المنتظمة للحضيض الشمسي لكوكب عطارد قد تم تقديرها من خلال النظرية النسبية العامة، كانت 42089 درجة في كل فرض، وهو رقم يقع ضمن النطاقات التي وضعها نيوكومب. ونرى أنه على الرغم من التشابه الشديد الذي يبدو للوهلة الأولى لعدم الانتظام في حركة كل من أورانوس وعطارد، فإن النجاح تحقق في إحدى الحالتين بتعديل أحد الفروض المساعدة، أما في الحالة الأخرى فكان من خلال تعديل النظرية الرئيسية نفسها.
78
هذا هو الدور الخاص بالفروض المساعدة في برنامج البحث النيوتوني، ويمكننا هنا أن نقدم شرحا للمخطط الذي قدمه فيلسوف العلم الشهير «هيلاري بوتنام» لاكتشاف كوكب نبتون في إطار النموذج الاستنباطي الناموسي، وهو في هذا يعضد الموقف الذي اتخذه لاكاتوش إزاء الفروض المساعدة في برنامج البحث النيوتوني:
يبدأ الأستاذ بوتنام لاكتشاف كوكب نبتون من خلال تقديم مخططات للمشكلات العلمية في إطار النموذج الاستنباطي الناموسي، وهذه المخططات هي:
ويعرض المخطط الأول لمشكلات علمية. وفي نمط المشكلة لدينا نظرية ولدينا نظرية ولدينا بعض العبارات المساعدة
AS
وتوصلنا إلى تنبؤ. ومشكلتنا هي أن نعرف ما إذا كان التنبؤ صادقا أو كاذبا، والحالة مؤكدة بمعيار فلسفة العلم. أما المخطط الثاني للمشكلة فهو مختلف تماما؛ ففي هذا المخطط من المشكلة لدينا نظرية ولدينا واقعة مفسرة، بيد أننا نفتقد بعض العبارات المساعدة
AS ، والمشكلة هي أن نعثر على
AS
إن أمكن، وهي صادقة أو صادقة تقريبا (أعني أنها تبسيطات عالية نافعة الصدق)، وقد تلحق بالنظرية لنحصل على تفسير للواقعة. أما المخطط الثالث فيعرض نظرية وبعض العبارات المساعدة، وتصبح مهمتنا هي أن نعرف ما هي النتائج التي يمكننا أن نتوصل إليها. وهذا المخطط الأخير غير مهم لأن المشكلة رياضية بحتة.
79
ويوضح بوتنام بعض الأفكار الأساسية التي تظهر في تلك المخططات، فيشير إلى النظرية العامة - مثل نظرية الجاذبية العامة - لا تستلزم أي عبارات أساسية. ويعود ذلك إلى أن كل حركات الأجسام الطبيعية تتفق معها، ما دامت النظرية لا تقول شيئا عن القوى الموجودة بخلاف قوة الجاذبية التي لا تقبل القياس بصورة مباشرة. وعلى هذا فإذا أردنا استنباط تنبؤات من النظرية - كي نطبقها على موقف فلكي - فلا بد من تقديم بعض الافتراضات المساعدة. وعلى سبيل المثال عندما نطبق هذه النظرية على مدار الأرض سيتعين أن نقدم بعض الافتراضات التقريبية؛ مثل: (1)
لا توجد أجسام باستثناء الشمس والأرض. (2)
الشمس والأرض يوجدان في فراغ تام. (3)
الشمس والأرض لا يخضعان لقوى جاذبة العامة مع العبارات المساعدة أن نستنبط بعض التنبؤات.
لكن العبارات المساعدة ليست صادقة تماما؛ ولذا نجد العلماء يقدمونها بصورة غير حذرة وموقنة على العكس مما يفعلون مع النظرية. وبالتالي تخضع هذه العبارات لمراجعة جذرية دائما. ويضرب بوتنام مثلا على فكرته السابقة بمدار كوكب أورانوس؛ فقد أثبتت ملاحظات العلماء خطأ التنبؤات القائمة على أساس نظرية الجاذبية العامة
UG ، ومع افتراض أن الكواكب المعروفة عندئذ هي كل الكواكب الموجودة. وقد تنبأ العالم لوفيرييه في فرنسا وآدامس في إنجلترا بأنه لا بد من وجود كوكب آخر. وتم اكتشاف ذلك الكوكب بالفعل، وكان هو كوكب نبتون.
80
إن بوتنام يرى أن تلك الحالة التاريخية تضرب مثلا على فكرة كون عن حل المعضلات، كما يرى أن المخطط الثاني يعتبر النموذج المناسب لعرض هذا النشاط؛ فلو سلمنا بصحة الوقائع المعروفة عندئذ عن مدار أورانوس، والوقائع المعروفة قبل عام 1864م، المتعلقة بالأجسام التي تؤلف النظام الشمسي، والمعيار
AS ؛ حيث إن تلك الأجسام تتحرك في فراغ تام، وتخضع فقط لقوى جاذبية متبادلة ... إلخ. ومن الواضح أن مشكلة ما كانت تواجههم؛ إذ لا يمكن حساب محور أورانوس بنجاح إذا افترضنا وجود جميع الكواكب؛ عطارد والزهرة وزحل وجوبيتر وأورانوس، وافترضنا أنها مع الشمس تؤلف النظام الشمسي الكلي، فلنجعل
S1
متجاورة مع
AS
المتعددة، التي سبق أن أشرنا إليها من قبل، ويشتمل ذلك العبارة التي يحتوي فيها النظام الشمسي على الأجسام المشار إليها على الأقل، ولكن من الضروري فقط.
81
وعندئذ تواجهنا المشكلة التالية:
وهذه المشكلة لم تصل إلى قوانين تفسيرية أبعد (برغم أنها قد تصل أحيانا في مشكلة تعبر عنها صورة المخطط 3)، وإنما نصل إلى افتراضات أبعد من الشروط الأولية والحدية المتحكمة في النظام الشمسي، بالإضافة إلى قانون الجاذبية العامة والقوانين الأخرى التي تؤلف
UG (أعني قوانين الميكانيكا النيوتونية) سيتمكن المرء من أن يفسر مدار أورانوس. فإذا لم يفرض المرء أن تكون العبارات المحذوفة صادقة أو صادقة بصورة تقريبية، فسيكون لدينا عندئذ عدد لا نهائي من الحلول المعبر عنها رياضيا إلى حد بعيد. وحتى إذا ضمن المرء في
S1
أنه ليس ثمة قوى جاذبية تؤثر على الكواكب أو الشمس، فسيظل هناك عدد لا نهائي من الحلول. بيد أن المرء يختبر أولا الفرض الأبسط، أعني:
82
وهذه المشكلة تعد مشكلة رياضية ساهم كل من لوفيرييه وآدامس في حلها (مثال للمخطط 3). لكن حل تلك المشكلة طرح مشكلة أخرى هي:
وتعد هذه المشكلة مثالا للمخطط «1»، وهو مثال يفترض المرء عادة لأن إحدى عبارات
AS ؛ أعني العبارة
S2
لا نعرف على الإطلاق أنها صادقة، ويشار في الواقع إلى
S2
على أنها فرض ذو مستوى منخفض نروم اختباره. بيد أن الاختبار لا يعد اختبارا استقرائيا بالمعنى المعتاد؛ لأن تحقيق ل
S2 - أو هو بالأحرى الصدق التقريبي ل
S2 (والتي تعد جميعها ذات أهمية قصوى في هذا السياق) - فلم يكن الكوكب نبتون هو الكوكب الوحيد غير المعروف في عام 1846م، وإنما كان هناك بلوتو الذي اكتشف فيما بعد. والواقع أننا كنا نولي اهتماما بالمشكلة عاليه في العام 1846م؛ لأننا نعرف أنه إذا كان التنبؤ سيثبت في النهاية أنه صحيح، إذن فذلك التنبؤ هو على وجه التحديد العبارة
S3
التي نحتاج إليها للاستنباط الآتي:
83
وتشير العبارة
S3
إلى أن الكوكب المشار إليه في
S2
له على وجه الدقة المدار «صفر»، وتلك العبارة هي حل المشكلة التي بدأنا بها.
84
ويستنتج بوتنام ما يلي: «أريد أن أقترح أن المخطط الثاني يعرض الصورة المنطقية لما يطلق عليه كون اسم معضلة.» ويبحث المرء في هذا النوع من المشكلات العلمية عن شيء ما يسد ثغرة، لكنه لا يحاول استنباط تنبؤات من النظرية؛ فمشكلته بالأحرى تتمثل في إيجاد بعض العبارات المساعدة المناسبة. وبناء على هذا، تصبح النظرية العلمية قابلة للتكذيب أو التأييد؛ ولذا يقول بوتنام: «إن مظاهر الفشل لا تكذب النظرية، نظرا لأن الفشل ليس تنبؤا كاذبا من النظرية عندما نضيف إليها وقائع معروفة موثوقا من صحتها؛ فالفشل هو إخفاقنا في أن نجد شيئا ما؛ أي أن نجد العبارات المساعدة؛ ومن ثم فالنظريات تكون إلى حد ما كبير منيعة من التكذيب أثناء مدة سيطرتها.»
85
نتائج البحث
بعد هذه الجولة السريعة من عرض «الفروض المساعدة ومكانتها في ميثودولوجيا برامج الأبحاث عند إمري لاكاتوش»، فإنه يمكننا أن نخلص إلى أهم النتائج، وذلك على النحو التالي: (1)
إن أوجه اعتراض «لاكاتوش» على «بوبر» بشأن التقدم العلمي، هو أن «بوبر» أكد على اختيار الفرض على حدة وبصورة منفصلة، وعد ذلك مسألة جوهرية لتقدم العلم وقياس ما يضاف إليه حقيقة ؛ فالذي لا شك فيه أنه لا يمكن أن يقرر أحد إذا كانت نظرية جسورة مهما كانت وذلك عن طريق اختبارها على انفصال، لكن فقط عن طريق اختبارها في ضوء سياقها المنهجي التاريخي. (2)
إن بوبر قد ذهب إلى أن النظرية (أو الفرض) يمكن إنقاذهما دائما من مأزق التكذيب إذا عززناها بفروض إضافية مساعدة، وطبقا لبوبر يكون هذا مسموحا به فقط لو أن الفرض المساعد الجيد (أو الفروض) تزيد من عدد النتائج الملاحظة؛ ذلك لأنها ينبغي أن تزيد من «المضمون التجريبي» للنظرية. وإن لم تفعل ذلك، ينظر إلى الفرض المساعد بأنه وضع لغرض معين، وهو غير مسموح به طبقا للقواعد المنهجية المفضلة لبوبر. وهذه النقطة بالذات هي التي تناولها لاكاتوش لكي يطور على أساسها وصفا ل «ديناميكا» النظريات، فعمل على أن يحلل ليس فقط بنية النظريات العلمية، والطريقة التي بها تكذب، وإنما أيضا العمليات التي بها تفسح نظرية (أو فرض) مجالا لنظرية أخرى (أو فرض آخر) في «برنامج بحث» متطور بصورة تدريجية بهدف تجاوز النزعة التكذيبية البوبرية، والتغلب على الاعتراضات التي وجهت إليها. (3)
إن لاكاتوش حين ميز المعرفة العلمية وفقا لكشفيات برامج الأبحاث العلمية، أكد على أنه في داخل برنامج البحث ليس هناك صوت واحد هو صوت التكذيب أو التحقيق (الجدليين). هما أحد تلك الأصوات، ولكن حين يتم تقديم صوت واحد على بقية الأصوات، فهذا يكون بواسطة عملية انتقائية من قبل التجريبيين المناطقة والتكذيبيين، يقومون بها بعد انتهاء الأحداث، وليس العكس. (4)
يرى لاكاتوش أن الفرض الأساسي في النظرية العلمية يمثل جوهرا ثابتا، بينما تمثل الفروض المساعدة نطاقا واقيا حول هذا الجوهر. وإذا أظهرت الاختبارات بعض الحالات السلبية فإن العلماء يدافعون عن الجوهر الثابت بتعديل الفروض المساعدة أو بإضافة فروض مساعدة جديدة. (5)
إن عملية التعديل والتنقيح التي تتم للفروض المساعدة أضحت موضع خلاف؛ فنجد أن البعض مثل كون يذهب إلى أنه يمكن أن تعدل كل النظريات بدون أن تفقد خطوطها الرئيسية بواسطة التعديل في الفروض المساعدة. بينما يعتقد البعض الآخر مثل «بوبر» أن التعديل في الفروض المساعدة يمكن أي فرض من أن يكون متفقا مع الظواهر وهذا مما قد يسعد الخيال لكن لن يساعد على تقدم المعرفة. ويرى «بوبر» أن إدخال الفروض المساعدة يكون مقبولا إذا كانت تزيد من قابلية الفرض للاختبار. والحقيقة أن عملية إدخال الفروض المساعدة أو تعديلها أو تنقيحها قد تؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه «الفروض الغرضية»، كما أن قبول أو رفض هذا النوع من الفروض يتوقف على الغرض منها. (6)
إذا كان بوبر في محاولته للتقدم العلمي يؤكد عمومية النظرية العلمية، مع وضع في الاعتبار تكذيب النظرية اللاحقة للنظرية السابقة عند تناقضها، فإن لاكاتوش يؤكد على أن أي نظرية تتمثل وتولد في خضم هائل من التناقضات؛ ومن ثم يمكن عمل تعديل في النسق النظري العلمي. وطبقا لذلك رأى لاكاتوش أن أي برنامج بحث يتألف من قواعد منهجية؛ حيث إن البعض منها يخبرنا بطرق البحث تجنبا للموقف السلبي، والبعض الآخر يوضح لنا طرق تبني الموجه المساعد على الكشف أو الإيجابي. بيد أن الموجه السلبي لبرنامج البحث دائما ما يعزل النواة الصلبة للقضايا التي لا تعرض للتكذيب، وهذه القضايا يتم التوافق عليها اصطلاحا؛ ومن ثم فهي غير قابلة للتفنيد عن طريق برنامج البحث. أما الموجه الإيجابي فيعد بمثابة استراتيجية لبناء سلسلة من النظريات والاقتراحات الإجرائية للتعامل مع الشواذ المتوقعة. وبينما يتضح برنامج البحث، نجد أن حزاما واقيا من الفروض المساعدة يلتف حول النواة الصلبة. (7)
إن لاكاتوش نجح في أن يقنع المجتمع العلمي بأنه لا يوجد في حاضر أو ماضي المعرفة العلمية، تجربة معيارية، تخضع لقواعد الميثودولوجيا، ويمكن لها أن تفصل بين نظريتين متنافستين. ودليله على ذلك عدم وجود تلك التجارب فعلا في ماضي العلم؛ أي إن بعض التجارب العلمية في ماضي العلم، والتي يزعم بعض فلاسفة العلم أنها شكلت تجارب فاصلة، لم تكن تجارب فاصلة على الإطلاق في حينها، بل هي كذلك فقط عن طريق استردادها بمناهج الميثودولوجيا، على أرضية حاضر المعرفة العلمية. وينتج عن هذا الرأي إنكار وجود معيار فوري في الماضي أو المستقبل قادر على تقديم معايير لرفض أو قبول النظريات العلمية في الحال، ولكن النتيجة الأكثر أهمية هي عدم شرعية الجانب الإرشادي في الميثودولوجيا، على الرغم من استبقاء الجانب القيمي لها. (8)
يتمسك لاكاتوش، شأنه شأن دوهيم، بضرورة أن تكون جميع فروض النظرية ماثلة أمام الذهن (وهو ما كان يفعله العلماء قبله) حين يقوم العالم بإجراء عملية حذف أو إسقاط بعض الفروض. بيد أن حذف فرض ما يعني الانتقال من هذا الفرض إلى الآخر، إلى أن يتم حذفها جميعا. وهذا إن أدى إلى شيء، فإنما يؤدي إلى فشل التجارب تماما؛ ومن ثم لا ننتهي إلى نتيجة ما في حينها، بل الأمر يتطلب تمثل الفروض جميعا أمام الذهن مما يتيح لهذا العالم الفرصة في الكشف عن تفسير الظاهرة موضع التساؤل. (9)
حين أعلن دوهيم بأن التجربة الحاسمة مستحيلة في علم الفيزياء عنه في أي علم آخر، فذلك لأنه كان مؤمنا بأن ثوب أي نظرية فيزيائية يشكل كلا غير قابل للتجزيء. كما أنه لو افترضنا أن تأييدا تجريبيا لتنبؤ أو نتيجة من نتائج هذه النظرية أو تلك، فإن هذا التأييد لهذا التنبؤ أو ذلك لا يكون ألبتة برهانا حاسما للنظرية؛ وبالتالي لا يمكن أن يعد الدليل التجريبي في حد ذاته تكذيبا حاسما للفرض، إذن ليس هناك تجربة حاسمة بصورة قاطعة. (10)
اعترض لاكاتوش على بوبر بشأن التقدم العلمي؛ فقد أكد بوبر على اختبار الفرض على حدة وبصورة منفصلة، وعد ذلك مسألة جوهرية لتقدم العلم وقياس ما يضاف إليه حقيقة، فالذي لا شك فيه أنه لا يمكن أن يقرر أحد إذا كانت نظرية جسورة مهما كانت وذلك عن طريق اختيارها على انفصال، لكن فقط عن طريق اختبارها في ضوء سياقها المنهجي التاريخي. وهذا معناه أنه إذا كان بوبر في محاولته للتقدم العلمي يؤكد عمومية النظرية العلمية، مع وضع في الاعتبار تكذيب النظرية اللاحقة للنظرية السابقة عند تناقضها، فإن لاكاتوش يؤكد على أن أي نظرية تتمثل وتولد في خضم هائل من التناقضات؛ ومن ثم يمكن عمل تعديل في النسق النظري العلمي. (11)
إن التطور الذي حدث مع لاكاتوش، هو تطور نسقي لوجهات نظر بوبر؛ فبوبر نفسه أصبح أكثر وعيا بأن التجربة في الحقيقة لا يمكنها أن تكذب نظرية علمية مرة واحدة وعلى الإطلاق، فإذا كانت المعطيات التجريبية تفسر بالضرورة من خلال النظريات السائدة فإن تكذيب النظرية يكون له معنى فقط في ضوء النظرية المنافسة. ويرى لاكاتوش - على عكس بوبر - أن الشرط الضروري لقبول النظرية ليس هو القابلية للتكذيب فقط، وإنما القابلية للتأييد أيضا. وهذه الحقيقة الإبستمولوجية لها نتائج مهمة بالنسبة للبحث العلمي. (12)
إن «لاكاتوش» كان ذكيا عندما أخذ الفروض المساعدة من «بوبر»، التي تحصن بها ضد التكذيب، ثم حاول تطويرها عن صورتها الممثلة عند «بوبر» في النظام الفردي للنظريات، وأصبحت مرتبطة بالنسق ككل. وهذا هو الذي دفع «لاكاتوش» إلى تأييد «دوهيم» القائل بهذه الرؤية؛ فإنجازات العلم لم تكن النظرية على انفراد بل برنامج متكامل للبحث، مما يعني أن «لاكاتوش» يعمل بأطروحة «دوهيم»-«كواين» عند اختبار برنامج البحث، وتطوير الفروض المساعدة، لتصبح مرتبطة بالنسق ككل، فمن المعلوم لدينا أن أي فرض جديد أو نظرية أو برنامج له نتائج. (13)
إن «بوبر» رفض أطروحة «دوهيم» واختلف مع «لاكاتوش»، على أساس أن اختبار الفرض على هذا الشكل وبصورة منفصلة ينبغي أن تكون مسألة جوهرية لتقدم العلم وقياس ما يضاف إليه حقيقة. والتجربة الحاسمة فيما يرى «بوبر»، واقع ماثل في هذا الصدد. لكن بين «لاكاتوش» قصور التعامل مع النظرية بصورة منفردة، بل هي برنامج متكامل للبحث. (14)
في الوقت الذي جاءت فيه أطروحة بيير دوهيم القائلة بأنه لا يجب اختبار الفرض على حدة وبصورة منفصلة بل النسق ككل، كان إمري لاكاتوش يصمم نوعا فريدا من العقلانية. وهذه العقلانية تتمثل في نقد وتغيير برامج البحث أو المعرفة العلمية (من مفاهيم وقوانين ونظريات علمية) عبر تاريخ العلم؛ فلقد رفض لاكاتوش فكرة تبرير المعرفة التي تشكل النمو العقلاني للمعرفة العلمية، وتسعى إلى أن تحول التاريخ الداخلي للعلم لمجرد وقائع تجريبية وعبارات صلبة تعقبها تعميمات استقرائية أو قوانين علمية، كما هو واضح عند التجريبية المنطقية أو التيار الاستقرائي بشكل عام، الذي ينصرف إلى صدق القضايا الواقعية والأولية وصحة الاستدلالات الاستقرائية؛ أي إنهم انشغلوا بالمشكلات المعرفية والمنطقية إلى الدرجة التي صرفتهم عن الاهتمام المناسب بالتاريخ الواقعي.
قائمة المصادر والمراجع (أ) قائمة المصادر والمراجع العربية والمترجمة (1)
أحمد فؤاد: نظرية المعرفة عند ميشيل بولاني، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة المنيا، 2007م. (2)
إمري لاكاتوش: تاريخ العلم وإعادة بناءاته العقلانية، تحرير إيان هاكينج، ترجمة وتقديم الدكتور السيد نفادي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1996م. (3)
______ : برامج الأبحاث العلمية، ترجمة د. ماهر عبد القادر، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2000م. (4)
إيان هاكينج: فلسفة العلم عند لاكاتوش، مقال منشور ضمن كتاب الثورات العلمية، تحرير إيان هاكينج، ترجمة وتقديم الدكتور السيد نفادي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1996م. (5)
د. السيد نفادي: اتجاهات جديدة في فلسفة العلم، عالم الفكر، المجلد الخامس والعشرون، العدد الثاني، أكتوبر-ديسمبر 1996م. (6)
د. خالد قطب: منطق التقدم العلمي، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2003م. (7)
دونالد جيليز : فلسفة العلم في القرن العشرين «أربعة موضوعات رئيسية، ترجمة ودراسة»، د. حسين علي، مراجعة وتقديم أ. د. إمام عبد الفتاح، أم القرى للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2007م. (8)
د. سهام النويهي: نظرية المنهج العلمي، دار البيان، القاهرة، 1995. (9)
د. عبد النور عبد المنعم عبد اللطيف: التفسير الأداتي للقانون العلمي، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 2000-2001م. (10)
______ : عقلانية التقدم العلمي عند إ. لاكاتوش، بحث منشور بمجلة كلية الآداب، جامعة سوهاج، العدد الثامن والعشرون، الجزء الأول، مارس، 2005م. (11)
عصام محمود بيومي مصطفى: إبستمولوجيا التقدم العلمي عند توماس كون، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة عين شمس، القاهرة، 1996م. (12)
كارل بوبر: أسطورة الإطار، ترجمة يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة 292، يناير 2003م، الكويت. (13)
كارل بوبر: عقم المذهب التاريخي، ترجمة عبد الحميد صبرة، الإسكندرية، منشأة المعارف، 1959م. (14)
كارل همبل: فلسفة العلوم الطبيعية، ترجمة د. جلال محمد موسى، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، القاهرة-بيروت، 1976م. (15)
د. ماهر عبد القادر: مناهج ومشكلات العلوم (الاستقراء والعلوم الطبيعية)، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1979م. (16)
د. محمد أحمد محمد السيد: التمييز بين العلم واللاعلم، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1996م. (17)
هيلاري بوتنام: تعزيز النظريات، مقال منشور ضمن كتاب الثورات العلمية، تحرير إيان هاكينج، ترجمة وتقديم الدكتور السيد نفادي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1996م. (18)
د. يمنى طريف الخولي: فلسفة العلم في القرن العشرين (الأصول - الحصاد - الآفاق المستقبلية)، عالم المعرفة، عدد 264، ديسمبر (كانون الأول)، 2000 م، الكويت. (19)
______ : فلسفة كارل بوبر «منهج العلم ... منطق العلم»، الهيئة المصرية العامة (ب) قائمة المصادر والمراجع الأجنبية (1)
Frank Zenker: Lakatos’s Challenge? Auxiliary Hypotheses and Non-Monotonous Inference, Journal for General
408-410. (2)
Gary Wedekin: Duhem, Quine and Grünbaum on Falsification, Philosophy of Science, Vol. 36, No. 4 (Dec., 1969), pp. 375-376. (3)
Jarrett Leplin: The Assessment of Auxiliary Hypotheses, The British Journal for the Philosophy of Science, Vol. 33, No. 3 (Sep., 1982). (4)
John C. Harsanyi: Popper’s Improbability Criterion for the Choice of Scientific Hypotheses, Philosophy, Vol. 35, No. 135 (Oct., 1960). (5)
Imre Lakatos: Changes in The Problem of Inductive Logic, Inductive Logic, Ed. By Lakatos. (6)
Karl Popper: Realism and the Aim of Science, Great Britain, Gwild Ford and King’s Lynn, 1983. (7)
Wiener, Princeton, New Jersey, Perceton University Press, 1954. (8)
______ :
Essays in The History and
Cambridge, Hackett Publishing Company, 1996. (9)
Roger Ariew: The Duhem Thesis, The British Journal for the Philosophy of Science, Vol. 35, No. 4 (Dec., 1984). (10)
Yuri Balashov: Duhem, Quine, and the Multiplicity of Scientific Tests, Philosophy of Science, Vol. 61, No. 4 (Dec., 1994), pp. 608-609.
الدراسة الرابعة
التفكير العلمي وإشكالية حروب العلم في ضوء خدعة آلان سوكال
تقديم
شهدت أقسام العلوم الإنسانية في كليات الآداب بالجامعات الأمريكية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين عددا كبيرا من الأساتذة والمفكرين الفرنسيين الذين يتبنون أفكار ما بعد الحداثة. وقد ثبت أن طريقة هؤلاء في معالجة قضايا الواقع ومستجداته خالية من أية معان عميقة، أو بلا معنى على الإطلاق. وقد ذكر الصحفي اللامع الأستاذ «فاضل السلطاني» في مقال له بجريدة «الشرق الأوسط »، بعنوان «الفرنسيون آخر من يعلم»، أن هذا الانطباع عن الفلاسفة والنقاد الفرنسيين المحدثين ليس جديدا في أمريكا؛ فهو معروف منذ دخلت بعض أفكارهم إلى بعض الجامعات الأمريكية العريقة.
1
ويصور هذا الانطباع مقال نشر في المجلة الأسبوعية لجريدة نيويورك تايمز منذ عام 1985م، عن «الغزو الفرنسي» لأقسام الأدب في الجامعات الأمريكية (وقد نشرت جريدة الهيرالد تريبيون
Herald Tribune
ملخصا وافيا له؛ بعنوان: التفكيكية وما إليها: من غابة النقد في جامعة ييل).
2
وفي أواخر تسعينيات القرن العشرين نشبت ظاهرة حروب العلم
Science Wars
داخل أقسام الإنسانيات بالجامعات الأمريكية؛ حيث أخبرنا عنها المفكر الأمريكي «جيمس تريفل»، قائلا: «يمكن القول في البداية إن حروب العلم نشبت بفعل فلسفة ما بعد الحداثة غير التقليدية، التي سرت كالعدوى داخل أقسام الإنسانيات في الجامعات الأمريكية في أواخر القرن العشرين. وتأسيسا على النظرية الأدبية الفرنسية، فقد أكدت وجهة النظر هذه البناء الاجتماعي للمعرفة؛ ومن ثم فإنها تنكر عادة صواب فكرة الحقائق الموضوعية. ونعرف أن أشد دعاتها تطرفا (وما أكثرهم!) قد انحدروا إلى صورة مبتسرة من الذاتية أو الأحادية المطلقة.»
3
ولم يكتف هؤلاء بذلك ، بل شنوا هجوما عنيفا على صحة العلم؛ حيث رأوا أن أحكام العلم لا تعبر عن وقائع طبيعية، ولا تنطلق من أساس تجريبي أو واقعي معين، إنما تنبع من أحكام سابقة سبق أن حصل الاتفاق حولها بنسبة ما، فتكون أحكام العلم مقبولة لدى جماعة العلماء. وهذا القبول لا يأتي من كونها تحمل تفسيرا صائبا لوقائع معينة، ولا من كونها تتمتع بموضوعية ما، بل إن ذلك القبول مشروط بالتضامن بين الجماعة التي تأخذ بها لاعتبارات ظرفية. وهذا أدى إلى قلق كثيرين في الأوساط العلمية، خاصة ما جرى للغة البناء الاجتماعي من استبدال وتغيير بعض المصطلحات، ومحاولة السيطرة السياسية للعلم في المجتمع.
4
وفي عام 1996م أخرجت «جامعة ديوك
Duke » الأمريكية مجلتها الأكاديمية، التي كانت بعنوان «النظرة النقدية لما بعد الحداثة»، وأشارت فيها إلى حروب العلم في مقالات مختصرة ووجيزة؛ فقد استخدم الأكاديميون لغة وفكر ما بعد الحداثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وظهر بذلك دور المجتمع والسياسة في العلم. وفي مقدمة الأطروحة علق المحرر «أندرو روس
Andrew Ross » قائلا: «إن الهجوم على دراسات العلم كان نتيجة تقليص الدعم المادي للعلوم في الولايات المتحدة مع نهاية الحرب الباردة؛ حيث كان الكونجرس يهدد بوضع تخفيضات أخرى من التمويل الحكومي للعلم، بالإضافة إلى نقص التمويل المادي للعلوم الإنسانية.»
5
وهذا ما يؤكده بعض الباحثين فيقول: «إن ما يسمى بحروب العلم يتمثل في أن أنصار العلوم الإنسانية يقفون في مواجهة ضد كل ما يتعلق بالعلوم الطبيعية، هذه المواجهة أخذت شكل معارك فكرية حول نظرية المعرفة، والميثودولوجيا، والإبستمولوجيا، والمنطق. واشتعال الحروب بينهم، أثار اهتمام الرأي العام على نطاق واسع، مما أدى إلى قلق كثيرين في الأوساط العلمية.»
6
وفي تلك الأثناء قام أحد الأساتذة المتخصصين في الفيزياء الرياضية بجامعة نيويورك، ويدعى «آلان سوكال
Alan Sokal »؛
7
حيث أصبح معنيا أشد العناية بهذا الجانب مما يسمى ما بعد الحداثة، مما دفعه إلى أن يجري تجربة بسيطة، قام فيها بتقليد المفكرين الكبار في كتاباتهم الفكرية وتنميقاتهم الاصطلاحية واستدلالاتهم بمفكرين آخرين، على طريقة عدد من المفكرين الفرنسيين وبعض علماء الاجتماع في الولايات المتحدة؛ فقد جمع «سوكال» عددا من الصفحات لبحث بعنوان «اختراق الحدود: نحو تأويل تحولي للجاذبية الكوانتية» 'Transgressing the boundaries: Towards a transformative hermeneutics of quantum gravity’ . وقد كانت ورقة البحث مكتوبة بأسلوب ما بعد الحداثة المتغطرس والمسيس؛ ومن ثم كانت محاكاة سافرة.
وعلى أي حال أرسل آلان سوكال ورقة البحث إلى صحيفة تنتمي بفكرها إلى فكر ما بعد الحداثة اسمها «النص الاجتماعي»
social text
وهي التي قبلت نشرها بدون تحكيم.
8
وبعد أن ظهر المقال مطبوعا كتب سوكال مقالا آخر عنوانه «تجارب عالم فيزياء مع الدراسات الثقافية»
A Physicist Experiments with Cultural Studies ، وأرسله إلى صحيفة منافسة هي صحيفة «لينجوا فرانكا»
Lingua Franca
وأعلن سوكال في مقاله هذا أن الأمر كله خدعة، وأوضح أن الصحيفة كانت سعيدة جدا لحصولها على مقال لعالم فيزيائي جشم نفسه مشاق تعلم لغتها، مما حداها على نشر المقال من دون السؤال عما إذا كان فيما يقوله أي معنى مفهوم.
9
وعلى ذلك سوف تكون عنايتنا موجهة في هذه الدراسة نحو الكشف عن «إشكالية حروب العلم في ضوء خدعة آلان سوكال»، ولا أخفي على القارئ أن سبب اختياري لتلك الإشكالية، هو حداثة هذا الموضوع؛ فهو وليد الساعة، ولا توجد عنه أية دراسة عربية-فلسفية لا من قريب ولا من بعيد في عالمنا العربي. وليس أدل على ذلك مما وصفه بعض كتابنا المعاصرين بشأن خدعة سوكال، بأنها «سارت بذكرها الركبان - وأعرض عنها إعلامنا الثقافي الوسنان - لما لها من دلالة فائقة تتصل، في العمق، بقيمة ومدى مشروعية المقاربة «المباحثية» لقضايا نظرية العلم».
10
ولذلك فإننا في هذا البحث نسعى إلى تحليل قضية «حروب العلم في ضوء خدعة آلان سوكال»؛ حيث نبرز عناصرها الأساسية عبر تطورها، ثم نحاول أن نعيد بناءها في ضوء المناقشات التي أحاطت بها. وعلى هذا فإن هذا البحث يرمي إلى فهم وتأويل خدعة سوكال، والتي على إثرها تم إشعال حروب العلم. وقد اعتمدنا في هذه المهمة على منهجين، هما المنهج التاريخي والمنهج النقدي. وقد استخدمنا المنهج التاريخي؛ بمعنى الرجوع للوقائع التاريخية التي أدت إلى ظاهرة حروب العلم. واستخدمنا كذلك المنهج النقدي بمعنى فحص وتحليل النتائج التي انتهي إليها سوكال في خدعته، على أساس الأهداف التي حددها في فلسفته لإشعال حروب العلم.
ومن هذا المنطلق قمنا بمعالجة «إشكالية حروب العلم في ضوء خدعة آلان سوكال»، في ثلاثة أبعاد: (1)
البعد التاريخي، وفيه نحاول الكشف عن الأبعاد الحقيقية لقضية حروب العلم؛ حيث نوضح أن حروب العلم نشأت بسبب الهوة العميقة بين المشتغلين بالعلوم الطبيعية، والمشتغلين بالعلوم الإنسانية منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأن هذه الهوة قد اتسعت منذ أيام «تشارلز بيرس سنو
Charles Percy Snow (1905-1980م)»؛ علاوة على أننا سوف نبين في هذا البعد أهم الأسباب والدواعي التي أدت إلى إشعال حروب العلم؛ حيث نناقش موقف فلاسفة العلم المعاصرين من الموضوعية ودور البناء الاجتماعي للمعرفة. (2)
البعد الفلسفي، وفيه نبين أهم المضامين الفلسفية التي كشفت عنها خدعة سوكال، وكيف تمكن «سوكال» من أن يفضح فكرة ما بعد الحداثة ويبين كم هي جوفاء؛ فهي في مداها البعيد والقريب تطرح فكرة أن الجهل باللغة وسوء استخدامها هو المسئول عن الإخفاق العقلي والفوضى الروحية التي سادت التفكير الغربي. (3)
البعد النقدي، وفيه نكشف عن مواقف وتوجهات «سوكال» النقدية والنقضية إزاء إبستمولوجيا ما بعد الحداثة؛ حيث نعرض أهم النصوص التي عول عليها سوكال لتفنيد فكر ما بعد الحداثة، ثم الكشف عن الهراء اللغوي الذي وقع فيه.
أولا: البعد التاريخي
منذ زمن بعيد وللعلم علاقة مضطربة إلى حد ما بغيره من أوجه الثقافة بدليل محاكمة «جاليليو»
Galileo (1564-1642م) بدعوى الهرطقة في القرن السابع عشر أمام الكنيسة الكاثوليكية التي لم تعترف رسميا بخطئها إلا منذ فترة قصيرة، أو بدليل الهراء الذي كتبه الشاعر «وليم بليك»
William Blake (1757-1827م) ضد نظرة «إسحاق نيوتن
Isaac Newton (1642-1727م)» الميكانيكية للعالم.
11
علاوة على أن نظرة الأدباء إلى العلم خلال العصر الفيكتوري شهدت نوعا من الاحتقان؛ فعلى سبيل المثال يقول «جوزيف كراتش»: «لقد خاب أملنا في المختبر، لا لأننا فقدنا إيماننا بحقيقة ما يتوصل إليه من نتائج، وإنما لأننا فقدنا إيماننا بقدرة هذه النتائج على مساعدتنا بالشكل الكامل الذي كنا نرتجيه.»
12
وهذا أيضا نفس ما ذهب إليه «جورج جينسنغ»
George Ginseng ، أحد القصصيين في العصر الفيكتوري إذ يقول: «إنني أمقت «العلم» وأخشاه استنادا إلى قناعتي بأنه سيكون للبشرية عدوا فاقد الضمير، وذلك لمدة طويلة جدا إن لم يكن للأبد. إني لأراه وقد أتى على كل ما في الحياة من بساطة ووداعة وكل ما في هذا العالم من جمال؛ إني لأراه وقد أعاد الهمجية تحت قناع المدنية؛ إني لأراه ينشر الظلام في عقول البشر ويقسي قلوبهم؛ إني لأراه يجر في أعقابه عهدا من المنازعات الكبرى أين منها «الحروب الألف في العالم القديم»؟ ويبعثر جميع الجهود التقدمية التي بذلها البشر في بحر دموي من الفوضى.»
13
وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة، وهي أن الهوة قد اتسعت بين العلم والإنسانيات، كما بين «تشارلز بيرس سنو
Charles Percy Snow (1905-1980م)» في مقاله الكلاسيكي «الثقافتان والثورة العلمية» عام 1959م؛ وهذا المقال كان في الحقيقة عبارة عن محاضرة ألقاها «سنو» في جامعة كامبردج عرفت باسم «محاضرة ريد»، وسببت هذه المحاضرة ملاحاة شديدة وجدلا عنيفا بين مؤيد ومعارض. وفيما بعد نشر «سنو» هذه المحاضرة في كتيب يحمل العنوان «الثقافتان والثورة العلمية».
14
ويذهب «سنو» في محاضرته إلى وجود هوة سحيقة ضارة تفصل في الوقت الراهن بين العلوم الطبيعية في جانب، والثقافة التقليدية التي يشكل الأدب جزءا منها في جانب آخر.
15
وكان الجدل الذي طرحه «سنو» يتمثل في تأكيده أن الثقافتين منفصلتان تقريبا بلا تواصل، ولا يدري أفراد كل فئة الكثير عن نشاط الفئة الأخرى. الكارثة أن أفراد الثقافة العلمية، قلما يقرءون الأدب أو التاريخ مثلا، وأفراد الثقافة الأدبية لا يعرفون إلا أقل القليل عن القوانين العلمية حتى أبسطها كقوانين الكتلة أو عجلة التسارع.
16
وأضاف أن هذه الهوة ليست جديدة؛ إذ إنها كانت قائمة بدرجات متفاوتة منذ ما أسماه بالثورة العلمية (التي بدأت على أقصى تقدير منذ ما يقرب من نصف قرن تقريبا). وكانت نتيجة هذه الهوة الثقافية، أننا نرى المفكرين الأدباء في واد، والعلماء في واد آخر، وقد تقطعت بينهم كل أسباب التفاهم، وتمزقت كل وشائج الاتصال، ويقول «سنو» في هذا الشأن: «أعتقد أن الحياة الفكرية للمجتمع الغربي كله تتزايد انقساما إلى مجموعتين مستقطبتين، هناك عند أحد القطبين مثقفو الأدب، والعلماء عند القطب الآخر، وأكثر من يمثلهم هم علماء الفيزياء.»
17
ويستفيض «سنو» في حديثه عن هذه الهوة التي تفصل بين الأدباء والعلماء، فيقول: «يوجد بين المجموعتين ثغرة واسعة من انعدام الفهم المتبادل. ويوجد أحيانا (خاصة بين الشباب) عداء ونفور، على أنه يوجد فوق كل شيء انعدام للفهم. أفراد كل مجموعة لديهم صورة غريبة مشوهة عن أفراد الأخرى. وتختلف مواقف أفراد كل مجموعة إلى درجة أنه حتى على المستوى الوجداني لا يستطيعون أن يجدوا الكثير من الأرض المشتركة. ينحو غير العلماء إلى التفكير على أن فيهم وقاحة وتبجحا.»
18
ويعمل «سنو» على إقامة جسر ليصل ما انقطع من أسباب الوصل بين أصحاب هاتين الثقافتين اللتين آل أمرهما إلى الانفصال التام، ورغبة منه في التوفيق بين هاتين الثقافتين. ويقترح «سنو» على بني جلدته الإنجليز إعادة النظر في برنامجهم التعليمي بقصد تخريج أدباء يلمون بقدر من المعرفة العلمية والأدبية. والرأي عنده أن الأدباء يجهلون أبسط الحقائق العلمية فهم يعجزون عن تعريف أبسط مصطلحات العلم؛ مثل الكتلة والسرعة والقانون الثاني للديناميكا الحرارية. ويتهم «سنو» معظم المشتغلين بالفنون والآداب في القرن العشرين مثل «بيتس» و«إزرا باوند» و«ويندهام لويس» بالرجعية، ويصفهم بأنهم «ليسوا كلهم حمقى سياسيا، بل أشرار سياسيا».
19
ولكن «سنو» لا يلقي تبعة الهوة الثقافية على الأدباء وحدهم؛ فنصيب العلماء من المسئولية لا يقل عن نصيب المشتغلين بالفنون والآداب. ويقول سنو: «إن خيبة الأمل تصيبه عندما يجد أن معظم العلماء لا يفقهون شيئا من أعمال ديكنز الأدبية.»
20
ولم يكتف «سنو» بذلك، بل يستطرد فيقول: «... على أنه لا ريب في أنهم عندما يقرءون ديكنز، بل عندما يقرءون كل كاتب تقريبا ممن ينبغي أن نقدرهم، فإنهم يكتفون لا غير بإيماءة عن بعد بتحية رسمية؛ فهم لديهم ثقافتهم الخاصة، ثقافة مكثفة، صارمة ودائمة في فعل نشط. تحوي هذه الثقافة قدرا من المناقشات فيها عادة دقة وصرامة أكثر كثيرا مما في مناقشات أفراد الأدب.»
21
الكارثة إذن أن أفراد الثقافة العلمية، قلما يقرءون الأدب أو التاريخ مثلا، وأفراد الثقافة الأدبية لا يعرفون إلا أقل القليل عن القوانين العلمية حتى أبسطها كقوانين الكتلة أو عجلة التسارع، ومثل هذا الكلام يجب أن يطلع عليه المثقفون من الفئتين. وهنا يشير «سنو» إلى الانفصال بين الثقافتين الذي من شأنه أن يضر بالمجتمع؛ ذلك أن الثقافتين كلتيهما من ضروريات تقدم الأمم محليا وعالميا، وأن استمرار هذا الانفصال يعوق كثيرا من تقدم المجتمع، ورفاهية الإنسان عموما، فالكتاب يفضح ما يفعله المثقفون من الجانبين. نعرف أن معظم مثقفينا التقليديين، لا يقرءون إلا في الأدب أو التاريخ، أو كل ما يخص العلوم الإنسانية، ولا يقتربون من العلوم الطبيعية إطلاقا. وقد يتباهى البعض بأنه يعرف علم النفس أو القليل من الفيزياء. وعن هذا يقول سنو: «لدينا مجموعتان مستقطبتان؛ هناك عند أحد القطبين مثقفو الأدب، وهؤلاء فيما يعرض أخذوا في غفلة من الأنظار يشيرون لأنفسهم على أنهم المثقفون»، وكأنه لا يوجد مثقفون غيرهم. ولتوضيح رأيه، أشار «سنو» إلى استخدامنا إلى كلمة
intellectual
التي تعني مفكرا عقلانيا أو مثقفا، وهي لا تنطبق مثلا على علماء الفيزياء أمثال «راذرفورد»، و«إدنجتون»، و«أدرياك».
22
ويذكر سنو أن غير العلماء ينحون إلى التفكير في العلماء على أن فيهم وقاحة وتبجحا. ويشير إلى أحاديث الناقد الإنجليزي الكبير «ت. س. إليوت» التي أكد فيها: «أنه لا يمكن لنا أن نأمل إلا أقل الأمل». في حين نرى صوت عالم الفيزياء «راذرفورد» يقول: «هذا هو العصر البطولي للعلم، هذا هو العصر الإلزابيثي!» ويكمل سنو أنه «يوجد لدى غير العلماء انطباع مغروز بعمق بأن العلماء متفائلون تفاؤلا فيه ضحالة، وغير واعين بحال الإنسان. والعلماء من الجانب الآخر يعتقدون أن مثقفي الأدب ينعدم لديهم تماما أي تبصر بالعواقب، وهم على وجه خاص لا يهتمون بإخوانهم من البشر، وهم بمعنى عميق ضد العقلانية، ويعملون بلهفة على أن يقصروا كلا من الفن والفكر على اللحظة الوجودية.»
23
على أية حال، لتكن الحياة الأكاديمية على ما هي عليه، فثمة أيضا رؤية جديدة مطروحة بشأن الهوة بين الثقافتين (الثقافة الأدبية والثقافة العلمية) ظهرت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين. رؤية لم يكن ليحلم بها سنو. وأشير هنا إلى شيء تطور إلى ظاهرة تسمى حروب العلم في أواخر تسعينيات القرن العشرين؛ والتي قال عنها جيمس تريفل: «... ولا عليك إن لم تكن قد سمعت شيئا عن هذه الحروب؛ وذلك لأن أغلبية العلماء لم يسمعوا عنها أيضا (وكثيرا ما تساءلت في دهشة عما إذا كان بالإمكان القول بأن ثمة حربا قائمة بينما أحد طرفيها لا يدري بها). يمكن القول في البداية إن حروب العلم نشبت بفعل فلسفة ما بعد الحداثة غير التقليدية التي سرت كالعدوى داخل أقسام الإنسانيات في الجامعات الأمريكية في أواخر القرن العشرين (ويقال لي إنها الآن في سبيلها إلى الخمود). وتأسيسا على النظرية الأدبية الفرنسية فقد أكدت وجهة النظر هذه البناء الاجتماعي للمعرفة؛ ومن ثم تنكر عادة صواب فكرة الحقائق الموضوعية. ونعرف أن أشد دعاتها تطرفا (وما أكثرهم!) قد انحدروا إلى صورة مبتسرة من الذاتية أو الأحادية المطلقة.»
24
ولم يكتف هؤلاء بذلك، بل اتجهوا بكافة طوائفهم بفعل فلسفة ما بعد الحداثة إلى شن هجوم عنيف على صحة العلم؛ حيث رأوا أن أحكام العلم لا تعبر عن وقائع طبيعية، ولا تنطلق من أساس تجريبي أو واقعي معين، وإنما تنبع من خلال تفاعل الإنسان دائما مع الحقيقة من خلال اللغة؛ فكل النشاطات العقلية كما يزعمون قائمة على اللغة؛ فنحن نفكر من خلال الكلمات، والناس مرتبطون بالحقيقة من خلال الأسماء التي يعطونها لإدراكاتهم وأفكارهم. وهذه الأسماء هي عبارة عن كلمات تطلق بشكل عشوائي أو اتفاقي من المجتمع. وفي الجملة فإن أنصار العلوم الإنسانية في غمرة تأثرهم بفكر ما بعد الحداثة اعتمدوا كثيرا على اللغة في طرح أفكارهم؛ فما دامت اللغة غير قادرة على المعنى، وما دام النص يمكن تفسيره بعدة تفسيرات، وليس هناك مرجع معتمد لترجيح معنى على الآخر، وحتى ولو حاولنا هذا الترجيح، فسيكون عن طريق اللغة نفسها. وما دامت الحقيقة هي ما تؤديه هذه اللغة، واللغة يبنيها المجتمع، فليس هناك إذن حقيقة مطلقة.
25
ومن جهة أخرى كانت فلسفة العلم حتى منتصف القرن العشرين، قد انصبت كل مجهوداتها في التركيز على أهمية وقيمة المنهج العلمي والمعرفة الموضوعية؛ فنجد أن دعاة الوضعية المنطقية يعولون على أن المنهج العلمي لا بد من تطبيقه في مرحلتي المشاهدة وجمع المعطيات، ومرحلة الحكم والتحليل. وبتعبير «آلان شالمرز»: «وتأتي موضوعية العلم الاستقرائي النزعة من كون الملاحظة والاستدلال الاستقرائي موضوعين هما ذاتهما؛ فمن الممكن أن تجد منطوقات الملاحظة تأكيدها في أي ملاحظ يستعمل حواسه استعمالا عاديا؛ فلا مكان هنا للبعد الشخصي والذاتي؛ فصلاحية منطوقات الملاحظة التي تحصل على نحو صحيح، لا تتوقف على ذوق الملاحظ ولا على رأيه أو آماله أو انتظاراته. وكذلك الأمر بالنسبة للاستدلال الاستقرائي الذي ينتج المعرفة من منطوقات الملاحظة؛ فإما أن تستجيب الاستقراءات للشروط المطلوبة وإما أن لا تستجيب. فتلك ليست مسألة ذاتية متعلقة بالرأي.»
26
وإذا انتقلنا إلى موقف «كارل بوبر»
Karl
(1902-1994م) من المعرفة الموضوعية، نجد أن الموضوعية عند بوبر ليست صفة يمكن العثور عليها بسهولة، إذا فهمنا الموضوعية بمعنى المطابقة للواقع، إلا أنه يقبل النوع الآخر للموضوعية وهو إمكان الحكم للعموم، وبحسب تعبيره: «ما أقصده من لفظ موضوعي وذهني ليس بعيدا كل البعد عما يقصده كانط منهما؛ فهو يقصد من وصف المعرفة العلمية بالموضوعية أن يكون صوابها بعيدا عن الوهم والرغبات الخاصة بهذا وذاك. والدليل على الموضوعية عنده (كانط) هو أن تكون القضية قابلة للتدقيق لكل من أراد ذلك واستطاعه، ولكن الفرق بيني وبينه، هو أنني أعتقد عدم إمكان الحكم بالصواب بمعناه الكامل على أية نظرية علمية. وعليه، فالموضوعية ليست إلا إمكان التجربة والاختبار للنظرية العلمية فحسب.»
27
ولذا يرفض بوبر النظرية الذاتية لدراسة نمو المعرفة، وهي النظرية التي تطابق بين المعرفة العلمية والذوات المنتجة لها، وذلك لأنه يرى أن المعرفة العلمية معرفة موضوعية وتوجد في العالم الثالث
Third world .
28
ولقد سار على نهج بوبر في الإيمان بفكرة الموضوعية، العالم والفيلسوف المجري «إمري لاكاتوش»
Imre Lakatos (1922-1974م)، الذي يؤيد النزعة الموضوعية في العلم.
29
وفي عام 1962م، قام «توماس كون
Thomas Kuhn (1922-1996م)» بنشر كتابه (بنية الثورات العلمية)، الذي خصصه لدراسة العلم في أطر جديدة تقوم على تقييم العلم من الناحية الاجتماعية؛ حيث لم يعول على القوانين المنطقية التي قدمها دعاة الوضعية المنطقية في الفلسفة؛ ليس هذا فقط بل عارض كل المواقف التقليدية في فلسفة العلم؛ فهو يقول «لقد بحثت المناقشات التقليدية للمنهج العلمي عن مجموعة من القواعد التي سوف تتيح لأي فرد يحرص على اتباعها أن يصل إلى معرفة صحيحة. وقد حاولت - بدلا عن ذلك - التأكيد على أنه بالرغم من أن العلم يمارسه أفراد، إلا أن المعرفة العلمية في حقيقتها نتاج جماعة. ولن تفهم فعاليتها المميزة ولا الأسلوب الذي تتطور به دون الإشارة إلى الطبيعة الخاصة بالجماعات التي تنتجها.»
30
وهذا البعد السوسيولوجي الذي حاول كون إدخاله في فلسفة العلم، جعله ينظر للنزعة الموضوعية في العلم في إطار القيم المشتركة للمجتمع العلمي. وهذه القيم ليست محددة ويختلف تطبيقها من فرد لآخر؛ حيث لا وجود لمشاهدة صرفة محايدة، بل النموذج القياسي الإرشادي العلمي هو الذي يجعل العلماء يرون الواقع بشكل خاص دون غيره. وعليه فإن النموذج الذي يختاره العالم هو الذي يجعله يعتقد أن بعض الأمور المشاهدة مهمة وأساسية وغيرها فرعي لا أهمية له؛ وبالتالي عندما تكون المعايير المتبناة للموضوعية تابعة للنموذج، عندها سوف لن يكون هناك أي معيار موضوعي وغير ذاتي لتقييم المعرفة. ومع أننا نستطيع الموازنة بين النظريات ضمن نموذج واحد، إلا أن تقييم النماذج والحكم على موضوعيتها أمر لا يمكن نيله والوصول إليه.
ويشرح كون هذا بقوله: «إننا لا نعتقد أنه لا توجد قواعد لاستقراء النظريات الصحيحة من الوقائع، كما أننا لا نعتقد حتى إن النظريات - سواء أكانت صحيحة أم لا - يتم استقراؤها على الإطلاق. وبدلا عن ذلك، فإننا نرى هذه النظريات بوصفها تخمينات مبدئية يتم ابتكارها ككل من أجل التطبيق على الطبيعة ... ومن ثم فلن يتم - من منظورنا - ارتكاب خطأ عند الوصول إلى النظام البطلمي؛ ولذا من العسير أن أفهم ماذا يقصد سير كارل (يقصد هنا كارل بوبر ) عندما يطلق على هذا النظام بأنه خطأ.»
31
إن هذا النص يبين أن العلم تحت النموذج القياسي الجديد لا يخضع لأية معايير تجريبية، كدرجة التأييد أو افتراض استقرائي ولا عن طريق التعزيز، وإنما يخضع هذا القبول لمعيار ذاتي اجتماعي؛ أي لا بد أن يكون هناك إجماع بين العلماء وتعلق بهذا النموذج القياسي الجديد.
وإذا انتقلنا إلى «بول كارل فييرآبند»
Feyerabend (1924-1994م)، نجد أنه قد تناول في فلسفته العلمية مشكلة الصدق والحقيقة الموضوعيين بالمناقشة والنقد؛ فليس ثمة صدق موضوعي أو حقيقة موضوعية في العلم؛ حيث إن الصدق نسبي من منطقة إلى أخرى، ومن مكان إلى مكان، ومن شخص إلى شخص. ويهتم فييرآبند بالنسبوية الإبستمولوجية التي تنكر أن تكون ثمة أفكار جديدة أو أشكال معرفية جديدة تفرض نفوذها على التقاليد الأخرى، وتثبت أن هناك تقليدا واحدا هو الصحيح بحجة أنه موضوعي؛ ولهذا فإن فكرة الصدق الموضوعي أو الحقيقة الموضوعية، وإن كانت مستقلة عن الرغبات الإنسانية، إلا أنه يتم اكتشافها عن طريق التأثير الإنساني. بالإضافة إلى أن النظريات العلمية تتفرع إلى اتجاهات مختلفة وتستخدم تصورات مختلفة وأحيانا غير قابلة للقياس، فأي من هذه المضامين المتعددة يوصف على أنه دليل على موضوعية نظرية ما؟ وأي منها يوصف على أنه إجراء علمي موضوعي مناسب لها؟ إن الإجابة: لا يوجد. فكل هذا يعتمد على الاتجاهات والحجج التي تتغير من وقت لآخر ومن جماعة بحث إلى جماعة بحث أخرى لاحقة لها.
32
إن الفكرة المسبقة التي يعول عليها فييرآبند، هي أن المعرفة تتخذ من الاعتقاد المسبق أساسا تنطلق منه النظرية العلمية المكتشفة، كما تدخل فيها الذات الإنسانية بشكل أساسي. وهذا يؤدي إلى شيئين أو نتيجتين: (1)
استحالة الوصول إلى معرفة موضوعية تماما عن العالم المادي. وإنما تقوم معرفتنا للعالم نتيجة تدخلنا فيه بقدراتنا العقلية وآلاتنا ومقاييسنا وفروضنا المسبقة. (2)
إن معرفتنا عبارة عن تركيب عقلي
Mental Construction
تلعب فيه الذات دورا أساسيا، وليست معرفتنا مطابقة موضوعية للوقائع.
33
ومن هنا ذهب فييرآبند إلى أن العلم لا يتمتع بأي ميزة أو مكانة تجعله يتفوق على الأنشطة والفعاليات الفكرية الإنسانية المختلفة. وهنا نراه يدافع عن المجتمع ضد كل الأيديولوجيات، والعلم من بينها بل قل هو على رأسها. وهو يرى أننا يجب ألا نتعامل مع هذه الأيديولوجيات باهتمام كبير أو نعطيها قدرا أو حجما أكبر مما تستحق، بل ينبغي أن نقرأها كما نقرأ الحكايات الخيالية.
34
ومن هذا المنطق والتوجه الفكري القائم على ما بعد الحداثة عند فييرآبند، انطلق معظم مثقفي ما بعد الحداثة في معظم أقسام الإنسانيات في الجامعات الأمريكية، يتبنون فكرة أنه ليس هناك حقيقة مطلقة أو صادقة في ذاتها، بل إن الحقائق يصنعها المجتمع بجوانبه الثقافية المتعددة لأفراده، فليس هناك «حقيقة» يجب أن يقر بها الجميع، وليس هناك حق مطلق، بل الحقيقة تصنع عن طريق اللغة، وفي داخل ذهن الإنسان لوحده؛ وبالتالي فما يقال عن التقدم أو التطور الذي رافق «الحداثة» أو الذي تدعو إليه ليس إلا خرافة، وما يقال عن قدرة العقل على اكتشاف الحقيقة، إنما هو وهم؛ فالحقيقة لا تكتشف؛ لأنه ما ثم حقيقة أصلا، وإنما الحقيقة «تخلق» ولا تكتشف، فالإنسان هو الذي يخلق حقائقه، فأفكارنا ليست إلا انعكاسا للواقع؛ بل قراءة له، وهي قراءة تتخذ صيغا أسطورية وأيديولوجية ودينية ونظرية، وكل منظومة معتقدية تعتقد أنها تمتلك الحقيقة وتميل إلى اعتبار كل ما يناقضها ويخالف حقيقتها أكذوبة أو خطأ. إن فكرة الحقيقة هي المنبع الأكبر للخطأ، والخطأ الأساسي يقوم في التملك الوحيد الجانب للحقيقة.
35
إذن فمذهب ما بعد الحداثة يقوم في الجملة على أفكار التشكيك واللاواقعية والذاتية والنفعية والنسبية، حتى أضحى الأمر بأنه عندما يتهور أحد العلماء، ويلفظ كلمة «حقيقة»، فمن الأرجح أنه سيجابه من اللجاج الفلسفي ما يشبه القول بأنه: «لا توجد حقيقة مطلقة. إنك تقترف شيئا من نوع من الاعتقاد الشخصي عندما تتوهم أن المنهج العلمي، بما في ذلك الرياضيات والمنطق، هو الطريق المتميز إلى الحقيقة. هناك ثقافات أخرى قد تعتقد أن الحقيقة هي ما يعثر عليه في أحشاء أرنب أو في هذيان متنبئ في نوبة خبل. إن ما يؤدي بك إلى تحبيذك لنوعك هذا من الحقيقة هو فحسب أن لديك إيمانا شخصيا بالعلم.»
36
وليت الأمر وقف عند ذلك، بل رأينا بعض الدراسات النسائية في العلم في أقسام الإنسانيات في الجامعات الأمريكية تنبذ دراسة المنطق ومناهج البحث لما لها من نزعة تحيز جنسي؛ حيث إن هناك نسخة أنثوية لذلك كشفت عنها بتمكن «دافني باتا» و«نورييتا كورنج»، وهما مؤلفتا «ممارسة مساواة الجنسين: حكايات تحذيرية من العالم الغريب لدراسات النساء»؛ حيث يقولان: «يتعلم الآن طلبة الدراسات النسائية أن المنطق أداة للسيطرة والمعايير القياسية ومناهج البحث العلمي لها نزعة تحيز جنسي
Sexist
لأنها لا تتوافق مع طرائق النساء للإدراك ... هؤلاء النسوة «ذاتيات» النزعة تكون مناهج المنطق، والتحليل، والتجريد ك «مناطق أجنبية تنتمي للرجال»، هن «يعلين من قيمة الحدس كطريقة تناول أكثر أمنا وإثمارا للتوصل إلى الحقيقة».»
37
وقد أعرب المدافعون عن العلم عن قلقهم إزاء موقف علماء الاجتماع والفلاسفة وغيرهم من الأكاديميين الذين يشككون في موضوعية العلم. وفي عام 1994م، ومن هؤلاء «بول ر. جروس
R. Gross (البيولوجي في جامعة فيرجينا)، ونورمان ليفيت
Norman Levitt (الرياضي في جامعة رتكرز)، ففي كتابهما «الخرافة الراقية: اليسار الأكاديمي ومعاركه مع العلم»
Higher Superstition-The Academic Left and its Quarrels with Science ، وأكد المؤلفان بأن المجتمع العلمي كان منذ وقت قريب من القوة بحيث يمكنه تجاهل منتقديه، لكنه لم يعد كذلك؛ فمع نقص التمويل المادي للعلوم يجب شجب كل الاتجاهات التي تدعو لعدم صحة العلم، وذلك من خلال الوقوف ضد القوى المضادة للعلم. ومن هنا انبرى جروس وليفيت نحو تقديم نقد لاذع للبنيوية الاجتماعية ولدراسات العلم والنسبوية. ولم يكتف المؤلفان بذلك؛ بل راحا يقودان هجوما مضادا لدعاة ما بعد الحداثة، ورأيا أنهم لا يعرفون سوى القليل عن النظريات العلمية؛ حيث حدث سوء فهم للمناهج النظرية، كما أن قراءتهم كانت خاطئة ولم يكن لديهم الدليل والحجة.
38
كما تعهد جروس وليفيت في هذا الكتاب بتحدي ما أسمياه «صناعة أكاديمية جديدة: النقد النسائي للعلم». لقد أكد هذان المؤلفان أن هذا الهجوم الذي يستند إلى ثقافة رفيعة ويعتمد أيضا على تخصصات ذات صلة بالمجال المعروف باسم «دراسات العلم»، إنما يشكك فيما إذا كان للعلم ادعاء شرعي للحقيقة والموضوعية. وقد كتبا عن معسكر الحركة النسائية يقولان: «إن الجديد كاسح. إنه يدعي الوصول إلى صميم أسس العلم الميثودولوجية والمفاهيمية والإبستمولوجية.»
39
ولقد لقي كتاب الخرافة الراقية إقبالا منقطع النظير من قبل أصحاب الثقافة العلمية؛ حيث عقد مؤتمر في مدينة نيويورك عام 1995م، تحت عنوان «الرحلة من العلم والعقل». وحدد المؤتمر خصائص العلم والعقل معا وما يواجههما من تهديدات خطيرة مثل الخلقوية العلمية
Scientific Creationism ، التي أخذت تزداد في أواخر تسعينيات القرن العشرين، حتى وصل الأمر إلى التحفظ على تدريس نظرية التطور في بعض المدارس والجامعات، أو المطالبة بتدريس التفسيرات الحرفية للكتب المقدسة على قدم المساواة، باعتبارها رؤية بديلة من حق الدارسين التعرف عليها. ولأن الدين لا يدرس في المؤسسات العلمية في أمريكا، فقد قام أنصار هذا الرأي بإضفاء لباس العلم على تفسيراتهم الحرفية، وأعطوها اسما جذابا؛ الخلقوية
Creationism ، معتقدين بذلك أنه يمكن تدريسها في مقابل التطور، مدعين أن التطور ينفي الخلق ويتناقض معه. وهذا أمر غير صحيح، ودعوة إلى تدريس «اللاعلم» كعلم!
40
والذين حضروا المؤتمر انتقدوا النظرة الانفعالية ل «جروس» و«ليفيت» و«جيرالد هولتون» والتي نجم عنها تضارب ثقافي بين العلماء غير المتخصصين، والمثقفين في الدراسات الاجتماعية التي تتعامل مع العلم.
41
ولم يتوقف هذا الأمر عند ذلك، بل وجدنا العالم «ساكان» من جامعة كورنيل، يؤلف كتابا بعنوان «العالم الذي يسكنه الشيطان»، وقد اهتم ساكان أكثر بمن يعتقدون بوجود الأشباح وباختطاف الناس من قبل كائنات من خارج الأرض وبالخلقوية، وغيرها من الظواهر التي تناقض النظرة العلمية للعالم.
42
وفي أوائل سنة 1996م، عقد مؤتمر بعنوان «العلم في عصر المعلومات المضللة» قرب مدينة بافلو. وقد أعلن «ب. كورتز» رئيس لجنة الفحص العلمي لادعاءات الخوارق (
CSICOP ) الذي نظم المؤتمر قائلا: «إلى حد كبير، يفهم الناس العلم من خلال أجهزة الإعلام. ومن المفترض أن يحصلوه في المدرسة، لكن هذا ليس إجباريا في الكثير من الحالات. إن ثلث الأمريكيين يشاهدون التليفزيون أربع ساعات أو أكثر يوميا، وتبين أن معظم الناس يحصلون معلوماتهم العلمية من التليفزيون.»
43
وفي العام نفسه كشف آلان سوكال النقاب عن أن مقالته الساخرة قصد بها أن يفضح ما بعد الحداثة، ويبين كم هي جوفاء، وهذا ما نكشف عنه الآن.
ثانيا: البعد الفلسفي
وهناك عمليا جانب آخر من حروب العلم كان له دور في تحديد موقف العلماء تجاه مشروع ما بعد الحداثة. ويذكر بعض الباحثين أن آلان سوكال، أصبح معنيا أشد العناية بهذا الجانب مما بعد الحداثة، مما دفعه إلى أن يجري تجربة بسيطة؛ حيث كما ذكرنا من قبل بأنه جمع عددا من الصفحات لبحث يحمل عنوان «اختراق الحدود: نحو تأويل تحولي للجاذبية الكوانتية». ونشرته في عددها المزدوج (الربيع والصيف 1996م). وقد قبل المقال للنشر من غير أن يلفت النظر إلى أي شيء غير عادي فيه.
وهنا يعلق ريتشارد دوكنز على ذلك قائلا: «لا بد أن ورقة بحث سوكال بدت وكأنها هدية للمحررين؛ لأن «أحد الفيزيائيين» هو الذي يقول فيها كل الأشياء المناسبة التي يريدون سماعها، فيهاجم «هيمنة ما بعد التنوير» وتلك الأفكار غير الباردة، مثل وجود العالم الواقعي. ولم يدركوا أن سوكال قد حشا ورقة بحثه أيضا بأخطاء علمية مفضوحة، من نوع كان سيكشفه في التو أي محكم حاصل على أدنى شهادة تخرج في الفيزياء. ولكنها لم ترسل قط إلى أي محكم من هذا النوع. إلا أن المحررين «أندرو روس» والآخرين، أرضاهم أن ما فيه من أيديولوجية يتسق مع أيديولوجيتهم، ولعلهم قد أحسوا بما يرضي غرورهم عند ذكر مراجع من مؤلفاتهم هم أنفسهم، وجعلهم عملهم بالنسبة لتحرير هذا المقال المهين يستحقون بجدارة جائزة نوبل 1996م في آداب الجهل.»
44
ومن الملاحظ أن ورقة البحث مكتوبة بأسلوب ما بعد الحداثة المتغطرس والمسيس؛ ومن ثم كان محاكاة تبدو إلى حد ما سافرة. وبدا مثيرا للضحك لأقصى حد، حتى إن جيمس تريفل علق على ذلك قائلا: «وأذكر للحقيقة أنني لا أعرف عالم فيزياء تأتى له أن يقرأ أكثر من فقرة من دون أن ينفجر ضاحكا، حتى الهوامش كانت مضحكة. وعلى أي حال أرسل سوكال البحث إلى صحيفة تنتمي بفكرها إلى فكر ما بعد الحداثة اسمها «سوشيال تكست»
Social Text
للدراسات الثقافية، والتي تتبنى هيئة تحريرها مثل هذه المجموعات، مثل فريدريك جيمسون
Fredric Jameson ، وأندرو روس.»
45
استقبلت إدارة المجلة مقال آلان سوكال بحماسة وبدون تردد؛ فهو شهادة نفيسة من فيزيائي محترم على مصداقية التوجه «المباحثي» النسبوي الذي تتبناه. وواضح أن الصحيفة كانت سعيدة جدا لحصولها على مقال لعالم فيزياء جشم نفسه تعلم لغتها، ما حداها على نشر المقال من دون السؤال عما إذا كان فيما يقوله أي معنى مفهوم.
46
والسؤال الآن، ما هي حيثيات ورقة البحث التي كتبها سوكال بأسلوب ما بعد الحداثة المتغطرس والمسيس، وكيف زيف سوكال تلك المقالة من خلال اعترافاته؟
المقالة تتكون من سبع وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، ستة عشر صفحة تمثل متن البحث، والباقي هوامش، وقد وضعت الهوامش آخر المتن، وليست أسفل كل صفحة، وكما قلنا من قبل وضعت المقالة ضمن عدد خاص يشمل سلسلة مقالات تحمل عنوان «حروب العلم».
تتكون المقالة من مدخل وستة محاور، حيث تتضمن مراجعة لكثير من المواضيع العلمية التي يشتغل بها العلماء في الفيزياء والرياضيات، ويخلص منها إلى بعض الدروس الثقافية والفلسفية والسياسية المختلفة التي يمكن أن تلاقي قبولا عند أولئك الذين يشكون في موضوعية العلم.
وقد مهد سوكال لذلك بمقدمة ماكرة؛ حيث زعم أن «العديد من علماء الطبيعة؛ وخصوصا الفيزيائيين، لا يزالون يرفضون فكرة أن التخصصات المهتمة بالنقد الاجتماعي والثقافي، يمكن أن تساهم بشكل خارجي في بحثهم. وما زال القليل منهم يستجيب لفكرة أنه يجب إعادة النظر في الأسس التي تقوم عليها نظرتهم للعالم، أو إعادة بنائها في ضوء هذه الانتقادات. وبدلا من ذلك، يتشدقون بالأيديولوجيا التي تفرضها مرحلة ما بعد التنوير كثيرا حول النظرة الثقافية الغربية، والتي يمكن إيجازها سريعا على النحو التالي: أن هناك عالما خارجيا، يشتمل على خصائص مستقلة عن الوجود الإنساني الفردي، ويجري حقا على البشرية ككل؛ وأن يتم ترميز هذه الخصائص في شكل قوانين فيزيائية «أبدية»؛ وأن الوجود الإنساني يمكن أن يحصل عليها بشكل موثوق، حتى وإن كان يمثل معرفة تجريبية ناقصة بهذه القوانين المؤقتة التي تهدف إلى إجراءات موضوعية وتفنيد إبستمولوجي يوصف من خلال ما يمكن أن يسمى المنهج العلمي.»
47
بيد أن التغيرات التصورية العميقة داخل العلم في القرن العشرين، كما يقول سوكال: «قد قوضت هذه الميتافيزيقيا الديكارتية النيوتونية، ودراسات تعيد النظر في تاريخ وفلسفة العلم قد ألقت مزيدا من الشكوك على مصداقيتها، ومعظم الانتقادات الأنثوية وما بعد البنيوية قد ناقشت المحتوى الجوهري للممارسة العلمية الغربية السائدة، كما كشفت عن عقيدة الهيمنة المخبأة وراء واجهة «الموضوعية». لقد أصبح من الواضح بشكل متزايد أن «الواقع» الفيزيائي ليس أقل من «الواقع» الاجتماعي، بحيث يكون في القاع كيانا اجتماعيا ولغويا؛ وأن المعرفة العلمية أبعد ما تكون عن الموضوعية.»
48
ثم يعلن سوكال الهدف الذي يسعى إليه من أطروحته، فيقول: «... وهدفي هنا هو تنفيذ هذه التحليلات العميقة في خطوة واحدة أبعد، وذلك مع الأخذ في الاعتبار التطورات الأخيرة في الجاذبية الكوانتية، وبالأخص الفرع المنبثق في فيزياء ميكانيكا الكوانتم عند هيزنبرج والنسبية العامة لأينشتين في بوتقة واحدة. وفي الجاذبية الكوانتية، كما سنرى، الحالات الموضحة للزمان- المكان توجد بوصفها واقعا فيزيائيا موضوعيا، وتصبح الهندسة ذات محمولات علائقية وسياقية؛ ومحمولات تصورية تأسيسية للعلم القبلي بينهم، ويصبح الوجود نفسه نسبيا. هذه الثورة التصورية، سوف أبرهن على أن لها نتائج عميقة لمحتوى ما بعد الحداثة والعلوم التحررية.»
49
وينهي سوكال مقدمته قائلا: «تناولي سوف يتمثل على النحو التالي. أولا، أنا سأراجع سريعا جدا بعض الإصدارات الفلسفية والأيديولوجية التي نشأت من خلال ميكانيك الكوانتم، ومن خلال النسبية العامة الكلاسيكية. وبعد ذلك سأرسم الخطوط العامة للنظرية الصاعدة للجاذبية الكوانتية، وأناقش بعض الإصدارات التصورية التي ظهرت أخيرا، وبعد سأعلق على النتائج الثقافية والسياسية لهذه التطورات العلمية. ويجب أن أؤكد على أن هذا المقال يمثل ضرورة تجريبية وتمهيدية؛ أنا لا أدعي أنني قد أجبت على كل الأسئلة التي واجهتني. وهدفي، بالأحرى هو أن أوجه عناية القارئ إلى هذه التطورات المهمة في العلم الفيزيائي، والتوصل لأهم النتائج الفلسفية والسياسية. وسأحاول جاهدا الإبقاء على الرياضيات بما يحقق الحد الأدنى، وإن كنت على حذر لتزويد القارئ بالإشارات التي يمكن أن تفيده في كل التفاصيل الضرورية.»
50
ثم يقسم سوكال محاور البحث على النحو التالي:
المحور الأول:
ميكانيكا الكوانتم: اللايقين، التكاملية، اللااستمرارية والترابط
Quantum Mechanics: Uncertainty, Complementarity, Discontinuity, and Interconnectedness .
51
المحور الثاني:
تأويل النسبية العامة الكلاسيكية
Hermeneutics of Classical General Relativity .
52
المحور الثالث:
الجاذبية الكوانتية: الزنبرك، التذبذب أم المجال المتشكل؟
Quantum Gravity: String, Weave, or Morphogenetic Field? .
53
المحور الرابع:
الطوبولوجيا والهيمولوجيا التفاضلية
Differential Topology and Homology .
54
المحور الخامس:
النظرية المتعددة، مثل الثقوب والحدود: الكليات والحدود
Manifold Theory: (W)holes and Boundaries .
55
المحور السادس:
اختراق الحدود: نحو علم تحرري
Transgressing the Boundaries: Toward a Liberatory Science .
56
ونلاحظ في تلك المحاور بعد أن قرأناها قراءة متأنية، أن سوكال لا يضيف جديدا، بل هو كلام يألفه الكثير من الطلاب المبتدئين، علاوة على أنها تحوي نقولا من بعض الكتاب الفرنسيين لا يمكن فهمها؛ حيث إن المقالة مكتوبة بأسلوب لغوي مقعر؛ حتى الاستشهادات التي يستشهد بها من العلماء والباحثين غير مفهومة.
وقد ذكر بعض الباحثين أن مقالة سوكال بدت وكأنها هدية للمحررين؛ لأن «أحد الفيزيائيين» هو الذي يقول فيها كل الأشياء المناسبة التي يريدون سماعها، فيهاجم «هيمنة ما بعد التنوير» وتلك الأفكار غير الباردة مثل وجود العالم الواقعي. ولم يدركوا أن سوكال قد حشا ورقة بحثه أيضا بأخطاء علمية مفضوحة، من نوع كان سيكشفه في التو أي محكم حاصل على أدنى شهادة تخرج في الفيزياء؛
57
علاوة على أن اللغة التي كتبت بها ورقة البحث وإن كانت صحيحة لغويا، إلا أنها لا تحوي أي معنى وكأنها مكتوبة بلغة غير مفهومة؛ حتى الاستشهادات التي يستشهد بها سوكال من العلماء والباحثين غير مفهومة أيضا، وكأنه تعمد أن يقدمها ليضرب بها أنصار بما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. ونذكر على سبيل لا الحصر بعض النصوص التي عول عليها؛ إذ تكاد تكون مضحكة. وهناك أمثلة كثيرة في ورقة سوكال لا حصر لها نذكر منها أربعة أمثلة على سبيل المثال لا الحصر: (أ) المثال الأول
وهو مقطع استشهد به سوكال عن الناقد الفرنسي «جاك دريدا»، وهو يتكلم عن ثابت أينشتين:
The Einsteinian constant is not a constant, is not a center. It is the very concept of variability-it is, finally, the concept of the game. In other words, it is not the concept of something-of a center starting from which an observer could master the field-but the very concept of the game.
ويمكن ترجمتها كالتالي: «ثابت أينشتين ليس ثابتا، كما أنه ليس مركزا. إنه مفهوم التنوع نفسه؛ إنه، بعد ذلك كله، مفهوم اللعب. وبكلمات أخرى، فهو ليس مفهوما عن شيء محدد - أي إنه ليس مفهوم مركز يستطيع الملاحظ منه أن يتحكم في المجال، مثلا - لكنه المفهوم الدقيق للعب.»
58
ويعلق «ستيفن واينبرج
Steven Weinberg ، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء لسنة 1975م، والأستاذ في جامعة تكساس في أوستن». على ذلك قائلا: «إنني لا أفهم ما الذي يمكن أن يقصد بهذا الكلام
I have no idea what this is intended to mean ».
59
ثم يقارن «واينبرج» بين اللغة العلمية التي تكتب بها البحوث العلمية، التي تتميز بالوضوح والتحديد وإن كانت تتناول مفاهيم غاية في الدقة والتجريد، وبين لغة دريدا ومنظري ما بعد الحداثة، فيقول: «وعلى النقيض من ذلك فإنه لا يبدو أن دريدا وكتاب ما بعد الحداثة يقولون أي شيء يتطلب لغة تقنية خاصة، كما أنه لا يبدو أنهم يحاولون محاولة جادة أن يكونوا واضحين.»
60 (ب) المثال الثاني
ونأخذه من فقرة لجاكوب لاكان يتحدث فيها عن الدور المهم الذي لعبته الطوبولوجيا التفاضلية:
This diagram [the Mobius strip] can be considered the basis of a sort of essential inscription at the origin, in the knot which constitutes the subject This goes much further than you may think at first, because you can search for the sort of surface able to receive such inscriptions. You can perhaps see that the sphere, that old symbol for totality, is unsuitable. A torus, a Klein bottle, a cross-cut surface, are able to receive such a cut. And this diversity is very important as it explains many things about the structure of mental disease. If one can symbolize the subject by this fundamental cut, in the same way one can show that a cut on a torus corresponds to the neurotic subject and on a cross-cut surface to another sort of mental disease.
ويمكن ترجمة النص على النحو التالي: «ويمكن اعتبار هذا الرسم (شريط موبيوس) أساس نوع الكتابة الأساسية في الأصل، في العقدة التي تشكل الموضوع. وهذا قد يؤدي إلى أبعد بكثير مما قد يتصور البعض في البداية؛ لأنه يمكنك البحث عن هذا النوع من السطح القادر على تلقي مثل هذه النقوش. ربما يمكنك أن ترى هذا المجال يمثل رمزا قديما عن طريق المجموع غير المناسب. زجاجة كلاين وكلاين تمر عبر سطح منخفض قادر على الحصول على مثل هذا الخفض. وهذا التنوع مهم جدا؛ لأنه يوضح الكثير من الأمور حول بنية الأمراض العقلية؛ إذ يمكن للمرء أن يرمز لهذا الموضوع من خلال هذا الخفض الأساسي، وبنفس الطريقة يمكن للمرء أن يظهر خفضا في طريقة تورز التي تتطابق مع الموضوع العصابي، وعلى السطح عبر خفض لنوع آخر من المرض العقلي.»
61 (ج) المثال الثالث
ومن الفقرات أيضا المنقولة هذه الفقرة المقتبسة من كيلي أوليفر حيث تقول:
In order to be revolutionary, feminist theory cannot claim to describe what exists, or, “natural facts.” Rather, feminist theories should be political tools, strategies for overcoming oppression in specific concrete situations. The goal, then, of feminist theory, should be to develop strategic theories-not true theories, not false theories, but strategic theories.
ويمكن ترجمة النص على النحو التالي: «من أجل أن تكون ثورية لا يمكن للنظرية النسوية أن تدعي وصف ما هو موجود أو الوقائع الطبيعية، بدلا من ذلك ينبغي على النظريات النسوية أن تمثل أدوات سياسية واستراتيجيات للتغلب على الظلم في مواقف محددة وملموسة. الهدف إذن من ناحية النظرية النسوية يجب أن يتطور ليمثل نظريات استراتيجية لا هي صادقة ولا كاذبة، وإنما فقط نظريات استراتيجية.»
62 (د) المثال الرابع
ومن الفقرات أيضا المنقولة هذه الفقرة المقتبسة من أروفينتس حيث يقول:
Natural objects are also socially constructed. It is not a question of whether these natural objects, or, to be more precise, the objects of natural scientific knowledge, exist independently of the act of knowing. This question is answered by the assumption of “real” time as opposed to the presupposition, common among neo-Kantians, that time always has a referent, that temporality is therefore a relative, not an unconditioned, category. Surely, the earth evolved long before life on earth. The question is whether objects of natural scientific knowledge are constituted outside the social field. If this is possible, we can assume that science or art may develop procedures that effectively neutralize the effects emanating from the means by which we produce knowledge/art.
ويمكن ترجمة النص على النحو التالي:
الأجسام الطبيعية تبنى أيضا اجتماعيا. إنه ليس سؤالا فيما إذا كانت هذه تمثل الأجسام الطبيعية، أو تكون أكثر دقة، وبنية المعرفة العلمية الطبيعية توجد بشكل مستقل في فعل معرفة. وهذا السؤال تكون الإجابة عنه بافتراض الوقت «الحقيقي» مقابل افتراض مسبق وشائع بين الكانتية الجديدة، ذلك الوقت له دائما مرجعية، وإن التزامن هو إذن نسبي ، وصنف غير مشروط. بالتأكيد، الأرض تطورت قبل فترة طويلة من الحياة على الأرض. إن السؤال يتعلق فيما إذا كانت بنية المعرفة العلمية الطبيعية تشكل خارج المجال الاجتماعي. إذن هذا محتمل؛ ومن ثم يمكن أن نفترض بأن العلم أو الفن قد تطورا من خلال الإجراءات التي تحيد التأثيرات عمليا بحيث تنبثق من الوسائل التي فيها ننتج معرفة/فنا. فن الأداء قد يمثل مثل هذا المحاولة.
63
هذه النصوص كلها آثرت أن أقدمها بنصها لأبين أن سوكال تعمد أن يقدمها بلسان أصحابها ليبين أنها وإن كانت تبدو إلى حد ما صحيحة في بنائها اللغوي، لكنها بلا معنى. ومع ذلك قبلت المقالة ونشرت، والأنكى أنها نشرت في عدد خاص من المجلة المذكورة مكرس للرد على الانتقادات الموجهة إلى ما بعد الحداثة والبنيوية الاجتماعية بقلم عدد من العلماء البارزين.
والورقة من البداية حتى النهاية تبدو محض هراء. وهي محاكاة هزلية صيغت ببراعة للهذر المتجاوز عند أتباع ما بعد الحداثة. وقد حفز سوكال على تأليفها كتاب لبول جروس ونورمان ليفيت في كتابهما «الخرافة الراقية».
64
ووجد سوكال أن من الصعب عليه أن يصدق ما قرأه في هذا الكتاب فتابع ما فيه من مراجع عن أدبيات ما بعد الحداثة، ووجد أن جروس وليفيت لم يبالغا في كتابهما. وقرر أن يفعل شيئا بهذا الشأن، وحسب كلمات جاري كاميا التي عاشت الحدث: «كل من حدث له أن أنفق وقتا كثيرا وهو يخوض هذه الأناشيد المنحرفة الزائفة الظلامية المليئة بالرطانة، والتي تمرر الآن على أنها فكر «تقدمي» في الإنسانيات، كل من حدث له ذلك يعرف أنه سيكون من المحتم إن آجلا أو عاجلا أن يحدث أن: واحدا من الأكاديميين البارعين وقد تسلح بكلمات السر التي هي سرية جدا (مثل «هيرمينوطيقي»، «انتهاكي» «تابع لمذهب لاكان»، «الهيمنة»، ونحن لم نذكر هنا إلا القليل)، سوف يكتب ورقة بحث زائفة بالكامل، ويقدمها إلى أي مجلة «رائجة»، وينال قبولا لها ... يستخدم سوكال في مقاله كل المصطلحات المناسبة. وهو يستشهد بكل من هم أفضل الكتاب.»
65
ثم ما لبث سوكال أن كشف عن حقيقة الخدعة؛ حيث إنه بمجرد صدور العدد الذي يتضمن المقال، بادر إلى الكشف عن خدعته من خلال مقال صادم نشره في مجلة «لينجوا فرنكا»
Lingua Franca
الأمريكية يبين فيها أنه زيف محتوى مقاله الأول. وأعلن سوكال في مقاله هذا أن الأمر كله خدعة. معترفا بأن ما كتبه لا يعدو أن يكون خدعة لفظية وصنعة بلاغية لا يعول عليها؛ يقول سوكال: «لعدة سنوات انشغلت بالانحدار الظاهر والواضح في معايير الصرامة العقلية في الدوائر الأكاديمية بالدراسات الأمريكية، ولكن لأنني فيزيائي فقط وجدت نفسي غير قادر على الإلمام بالموضوع للتمييز والاختلاف؛ ولذلك قررت أن أجري تجربة متواضعة (رغم كونها تمثل عينة لا يمكن التحكم بها): وصحيفة شمال أمريكا للدراسات الثقافية، والتي تتبنى هيئة تحريرها مثل هذه المجموعات، مثل فريدريك جيمسون، وأندرو روس، اللذين نشرا المقالة المتضمنة الخدعة والهراء؛ إذ أن (المجموعة أ) كانت تبدو جيدة، و(المجموعة ب) اشتملت على أيديولوجيا وأفكار المحررين ومفاهيمهم. ولسوء الحظ، فالإجابة كانت بنعم، والقراء المهتمون يستطيعون أن يرجعوا إلى مقالي الذي حمل عنوان «اختراق الحدود: نحو تأويل تحويلي للجاذبية الكمية» والذي نشر ضمن العدد الربيعي-الصيفي في مجلة ال «سوشيال تكست
social text »، ومن الواضح أن مقالي قد نشر ضمن عدد خاص من المجلة، والذي حمل عنوانها اسم «حروب العلم». ماذا يدور هنا؟ هل عجز أعضاء هيئة تحرير المجلة عن معرفة أن مقالي كان يمثل محاكاة ساخرة
؟»
66
ومن ناحية أخرى يؤكد سوكال بأن هدفه من كتابة المقال يعد «نداء لأي فيزيائي أو رياضي نشيط (أو الفيزيائيين في المرحلة الجامعية أو أغلب الرياضيين) أن يدركوا أنها ضالة أو خدعة
Spoof . وبالفعل فإن المحررين للنص الاجتماعي قد شعروا بالراحة من نشر هذا المقال عن فيزياء الكوانتم بدون الرجوع لأي لشخص ذي معرفة بهذا الموضوع.»
67
ثم ينتقل سوكال للكشف عن الأسباب والدواعي التي جعلته يتعمد القيام ببحث عن مكانيكا الكوانتم؛ حيث يؤكد أن ذلك يتمثل في هدفين:
الهدف الأول:
كما يقول: «أن أقتبس بعض التصريحات الفلسفية المتناقضة لهايزنبرج وبوهر وأقر بلا جدال أن الفيزياء الكمية مرتبطة بإبستمولوجيا ما بعد الحداثة.»
68
الهدف الثاني:
كما يقول: «أن أدعو للجمع بين دريدا والنسبية العامة، ولاكان وعلم الهندسة اللاكمية أو الطوبولوجي وبين إيريجاري
Irigaray
والجاذبية الكمية، وذلك من خلال بلاغة غامضة
vague rhetoric
عن ال «غير خطية
nonlinearity » والجريان والترابط
Flux and interconnectedness . وأخيرا فقزت (مرة أخرى بدون جدال) لإثبات أن علم ما بعد الحداثة
قد ألغى
abolished
الواقع الموضوعي. وهنا الآن ليس هناك ما يشبه النتيجة المنطقية للفكر؛ فالمرء قد يكتشف فقط اقتباسا
citations ، وتلاعبا بالألفاظ
plays on words ، وتناظرات متكلفة
strained analogies
ومزاعم فارغة
bald assertions » لا أساس لها.»
69
وهنا يؤكد سوكال أن الذي دفعه على فعلته تلك هو «أن يفضح المستوى المتدني للمهنية بين المشتغلين بالبحوث الأكاديمية، وبخاصة في العلوم الإنسانية؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هو إحراج النزعة النسبوية المتطرفة، بوصفها تمثل في اعتقاد سوكال خطرا يهدد وجود العلم ذاته، علاوة على اختبار مدى جدية وصرامة المنتسبين إلى «ما بعد الحداثة»، ولا سيما حين يتعلق الأمر بموضوع العلم.»
70
ثم يحلل سوكال بعد ذلك تفاصيل الخدعة؛ حيث يقول: «وفي الفقرة الأولى سخرت من المبدأ المفترض من خلال الهيمنة الطويلة لما بعد التنوير الذي ساد النظرة العقلية الغربية: «يوجد عالم خارجي يحمل خصائص مستقلة عند أي شخص أو أي فرد، وإن هذه الخصائص تصنف في قوانين فيزيائية (أبدية)، وإن الموجودات الإنسانية يمكنها أن تحصل على هذه المعرفة غير الكاملة من هذه القوانين، وذلك من خلال الإجراءات الموضوعية الموصوفة بما يسمى المنهج العلمي».»
71
ثم يتساءل سوكال: «هل هذا المبدأ في الدراسات الثقافية يكشف عن أنه ليس هناك وجود للعالم الخارجي؟ أو أن هناك وجودا للعالم الخارجي، ولكن العلم ليس لديه معلومات عنه؟»
ويجيب قائلا: «وفي الفقرة الثانية صرحت بلا جدال أو بينة بأن الواقع الفيزيائي
Reality Physical (من الملاحظ الاقتباس بحذر) هو أساس لبناء اجتماعي ولغوي، وليست نظرياتنا عن الواقع الفيزيائي وأذكرك، ولكن الواقع نفسه. حسنا، وأي شخص يعتقد أن قوانين الفيزياء متواضعات اجتماعية
Social Conventions
تدعو لمحاولة انتهاك تلك المتواضعات من نافذة شقتي (أنا أقطن بالدور الحادي والعشرين).»
72
وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة يؤكد عليها سوكال، وهي أن السخافة الرئيسية
the fundamental silliness
لمقاله تنطوي ليس فقط من خلال تماسكها القوي، ولكن توسطها للمنطق الذي يدعمها.
73
وهنا يعلق «جيمس تريفل» على هذه المغامرة قائلا: «ولكن ما أذهلني من عواقب هذه المغامرة كلها هو رد فعل محرري صحيفة «سوشيال تكست» ومن يدعمونها. إنهم بدلا من أن يشغلوا أنفسهم باستبطان حالهم وفهم أنفسهم على سبيل المثال: لماذا لم يعرضوا المقال على عالم فيزياء، قنعوا بلوم سوكال لأنه «أساء استخدام ثقتهم.»
74
وهذا اللوم استفز سوكال نفسه حتى إنه وصفهم قائلا: «وقبول النص الاجتماعي لمقالتي يوضح الغطرسة والتكبر العقلي
the intellectual arrogance
للنظرية الأدبية لما بعد الحداثة ... وليس من المدهش في أنهم لم يعبئوا باستشارة الفيزيائي.»
75
تباينت ردود الفعل حيال خدعة سوكال؛ وتوزع الناس بين مهلل ومسفه ومتفهم، فأثار بذلك ضجة من ردود الفعل عنيفة في الصحافة اليومية والأكاديمية، فالخدعة قد وجدت طريقها في الصفحة الأولى في جريدة
New York Times
بل وفي كل صفحات الجرائد الأمريكية،
76
كما أعدت قناة ال
CNN
برنامجا لها بعنوان: العصابة الكبيرة
capital gang ، وكذلك ال
rush limbaug . وخدعة سوكال التي قد تناولتها أجهزة الإعلام من راديو وتليفزيون قد نظرت إليها بأنها تمثل فضيحة سياسية رئيسية.
77
وذكر واينبرج عنها قائلا: «لقد تسليت مثل كثير من العلماء بخدعة ظريفة ساخرة قام بها الفيزيائي الرياضي آلان سوكال من جامعة نيويورك؛ حيث قدم مقالة كاذبة لإحدى المجلات المهتمة بالدراسات الثقافية وهي مجلة «النص الاجتماعي». وفي هذه المقالة استعرض سوكال عددا من المواضيع الراهنة في الفيزياء والرياضيات، وعرض بطريقة ساخرة بعض القضايا الثقافية والفلسفية والسياسية والأخلاقية التي أخذها من التعليقات الأكاديمية الرائجة التي كانت تشكك في العلم وموضوعيته.»
78
وذهب مارا بلير
Mara Beller
في مقالة له بعنوان
The Sokal Hoax: At Whom are we Laughing
إلى أن: الخدعة التي أعدها سوكال في عام 1996م وسلمها لمحرري مجلة النص الاجتماعي سرعان ما أصبحت معروفة على نطاق واسع ونقاش ساخن
79
وذهب «إريتش إيتشمان»
Erich Eichman ، حيث كتب مقالة بعنوان «نهاية الخدعة»، حيث قال: «في وقت سابق من هذه السنة، وبشكل ملفت للنظر، قدم الفيزياوي واليساري السياسي آلان سوكال ورقة بحث مليئة بالهراء وسلمها لمحرري مجلة أكاديمية تسمى النص الاجتماعي؛ حيث برهن على أن الواقع الفيزيائي يمثل فقط بناء اجتماعيا. وهو لم يعتقد بذلك ولكنه حاول أن يثبته. وبعد أن نشر المحررون المقالة، أعلن سوكال عن خدعته.»
80
ونكتفي بهذا القدر وننتقل للبعد الأخير من أبعاد خدعة سوكال، ألا وهو البعد النقدي ضمن قضية حروب العلم.
البعد النقدي
كشفت خدعة سوكال عن أن الجهل باللغة وسوء استخدامها هو المسئول عن الإخفاق العقلي والفوضى الروحية التي سادت التفكير الغربي؛ وبالتالي فإن اللغة هي أحدث ملاذ للفلسفة والمأوى الآمن من الهجوم الضاري عليها.
ومن هذا المنطلق بادر سوكال يفضح مذهب ما بعد الحداثة الذي أرسى دعائمه الفلاسفة الفرنسيين، ويبين تهافته، فنجده يشارك جين بريكمونت
Jean Bricmont (وهو أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة لاوفين في بلجيكا)، في تأليف كتاب بعنوان «اللغو الرائج: عبث المفكرين ما بعد الحداثيين بالعلم
Fashionable Nonsense: Postmodern Intellectuals’ Abuse of Science »، وهذا الكتاب كان قد صدر باللغة الإنجليزية في عام 1998م، بعد أن صدر قبل عام واحد في أصله الفرنسي الذي حمل عنوان
Impostures Intellectuelles .
والسؤال الآن: ما هي قصة هذا الكتاب؟
يعلن سوكال وبريكمونت أن: «قصة هذا الكتاب بدأت بخدعة؛ فمنذ بضع سنوات والخزن يخيم علينا من بعض الاتجاهات الفكرية في دوائر معينة من الأوساط الأكاديمية الأمريكية. قطاعات واسعة من العلوم الإنسانية والاجتماعية يبدو أنها تبنت فلسفة يمكن أن نطلق عليها «ما بعد الحداثة»؛ تيار فكري تميز بأنه يرفض إلى حد ما التقليد العقلاني للتنوير من خلال القضايا النظرية المنفصلة عن اختبار تجريبي، وكذلك من خلال النسبوية المعرفية والثقافية والتي تنظر للعلم على أنه ليس أكثر من «السرد»، وهي «أسطورة» أو البناء الاجتماعي من بين أمور أخرى كثيرة.»
81
ويؤكد سوكال وبريكمونت: «أنه للرد على هذه الظاهرة قام أحدنا، وهو سوكال، بتجربة غير تقليدية بسيطة، قام فيها بتقليد المفكرين الكبار في كتاباتهم الفكرية وتنميقاتهم الاصطلاحية واستدلالاتهم بمفكرين آخرين، على طريقة عدد من المفكرين الفرنسيين وبعض علماء الاجتماع في الولايات المتحدة؛ جمع سوكال عددا من الصفحات لبحث عن ميكانيكا الكوانتم. وقد كانت ورقة البحث مكتوبة بأسلوب ما بعد الحداثة؛ ومن ثم كان محاكاة سافرة ... والمرء سرعان ما يدرك أن سوكال قد بنى محاكاته الساخرة من خلال الاقتباسات المأخوذة من المثقفين البارزين الفرنسيين والأمريكيين عن الآثار الفلسفية والاجتماعية المزعومة.»
82
ويذكر سوكال أنه اختار مجموعة من النصوص لمجموعة من المفكرين الفرنسيين المعاصرين والذين يشار إليهم بالبنان في أمريكا وهم: جيل دولوز
Gilles Deleuze
وجاك دريدا
Jacques Derrida
وفيلكس جيواتاري
Felix Guattari
ولوسي إريجاري
Luce Irigarry
وجاك لاكان
Jacques Lacan
برونو لاتور
Bruno Latour
وجان فرانسوا ليوتار
Jean Francois Lyotard
وميشيل سيريس
Michel Serres
وبول فيريليو
. والاقتباسات تشمل أيضا العديد من الأكاديميين الأمريكيين البارزين في الدراسات الثقافية والمجالات ذات الصلة، ولكن هؤلاء الكتاب في كثير من الأحيان كانوا يشايعون الكتاب الفرنسيين.»
83
علاوة على أن الكتاب يهدف إلى فحص ما يمكن أن نسميه «الدجل الفكري» حين يقوم المفكرون بتقديم أطروحات لا معنى حقيقيا لها والاستناد على العلم الطبيعي بطريقة خاطئة وغير دقيقة، والتباهي بعبارات منمقة ولكنها تخلو من المعنى.
ويذهب «ريتشارد دوكنز» أن سوكال وصاحبه بريكمونت، قد بنيا كتابهما على فرضية تقول: «... لنفترض أن لدينا دجالا مثقفا ليس لديه حقا ما يقوله، ولكنه بما لديه من طموحات شديدة لأن ينجح في الحياة الأكاديمية، يجمع زمرة من الحواريين المبجلين، وله تلاميذ في كل أنحاء العالم يضعون تحت السطور المهمة لصفحاته خطوطا بأقلام اللون الأصفر الفاقع المحترم. ما هو نوع الأسلوب الأدبي الذي سيتخذه؟ لا ريب أنه لن يكون أسلوبا واضحا.»
84
علاوة على أن الكتاب يتناول قضية في غاية الأهمية في الفكر الغربي، وهي سوء استخدام العلم في الفكر الغربي الحديث، وتحديدا فكر ما اصطلح عليه بما بعد الحداثة، والمقصود بسوء استخدام العلم أن يعتمد المفكر على معلومات يأخذها من مجالات العلوم المختلفة على نحو تحف به كثير من المشكلات مثل ما يلي: (1)
ألا يكون المفكر فاهما تماما للنظريات العلمية التي يستخدمها في قضاياه الفكرية، ويشمل هذا استخدام مصطلحات علمية دون تقديم شرح لها؛ وهنا يستشهد سوكال وبريكمونت بنص للمحلل النفسي «فليكس جواتاري» وهو واحد من كثيرين من مثقفي الموضة الفرنسيين:
يمكننا أن نرى بوضوح أنه لا يوجد اتفاق مزدوج-أحادي المعنى بين الروابط الخطية ذات المعزى أو الكتابة الرئيسية، بما يعتمد على المؤلف، وبين هذا الحفر الماكيني المتعدد المرجعية، والمتعدد الأبعاد. وما يوجد من سمترية في المقياس، وخطوط مستعرضة، ومن خاصية تمددها على نحو مؤثر غير منطقي؛ كل هذه الأبعاد تنقلنا بعيدا عن منطق الوسط الاستبعادي، وتعزز وضعنا في رفضنا للثنائية الأنطولوجية التي سبق أن انتقدناها.
85
ولقد سار جواتاري إلى ما لا نهاية في هذا الاتجاه، ويطرح حسب رأس سوكال وبريكمونت «مزيجا من رطانة العلم والعلم الزائف والفلسفة هو من أذكى ما يلقاه المرء من هذ النوع». وكان لفيلكس جيواتاري
Felix Guattari
شريك حميم هو الراحل جيليز ديلويز
Gilles Deleuze . ولديه موهبة مماثلة في الكتابة:
نجد في المقام الأول أن الأحداث المفردات تناظر تتاليات لا متجانسة تنتظم في منظومة ليست مستقرة، ولا غير مستقرة، وإنما هي بالأحرى «ما بعد المستقرة»، وقد أضفي عليها طاقة كامنة حيث يحدث اضطراب في الاختلافات التي بين المتتاليات ... وثانيا فإن المفردات تمتلك طريقة معالجة للتوحيد الذاتي، هي دائما متنقلة ومزاحة إلى حد أن عنصرا من المفارقة يمر عبر المتتاليات ويجعلها في حالة رنين، ويطوق النقط المفردة المناظرة في نقطة واحدة تصادفية ويطوي كل الانبعاث، وكل قذفات النرد ، رمية واحدة.
86
ألف ديلويز وجواتاري وشاركا في تأليف كتب وصفها الفيلسوف المشهور ميشيل فوكو بأنها «من بين أعظم الكتب العظيمة ... وربما سيأتي يوم يوصف به القرن بأنه ديلويزي». إلا أن سوكال وبريكمونت يعلقان بأنه:
تشمل هذه النصوص حفنة من جمل مفهومة هي أحيانا تافهة وأحيانا خاطئة، وقد علقنا على بعض منها في الهوامش. أما الباقي، فإننا نتركه للقارئ ليحكم عليه.
87
ولكن الأمر يصعب على القارئ. لا ريب أنه توجد أفكار يبلغ من عمقها أن معظمنا لن يفهم اللغة التي يتم بها التعبير عنها. ولا ريب أن هناك أيضا لغة قصد بها أن تكون غير مفهومة حتى تأكد غياب أي فكر صادق. ولكن كيف لنا أن نعرف الفارق؟ ماذا لو أن الأمر يتطلب حقا عيونا خبيرة لتكشف ما إذا كان الإمبراطور يرتدي ملابس (إشارة إلى قصة مشهورة بأن محتالا أقنع الإمبراطور بأنه سيحيك له ملابس فاخرة لا يراها الأغبياء ويراها فقط الأذكياء. وحين سار الإمبراطور عاريا صاح الناس إعجابا بالملابس المزعومة حتى هتف طفل بأن الإمبراطور يسير عاريا) وبوجه خاص، كيف سنعرف ما إذا كانت فلسفة الموضة السائدة الفرنسية التي سيطر حواريوها وأنصارها على قطاعات كبيرة من الحياة الأكاديمية الأمريكية، هي حقا فلسفة عميقة أو أنها مجرد خطاب خاو لمشعوذين ودجالين؟
88 (2)
استخدام مفاهيم من العلوم الطبيعية في العلوم الإنسانية والاجتماعية دون أي تبرير لهذا الاستخدام العابر للحقول المعرفية (أي من العلم الطبيعي نحو المجالات الإنسانية)؛ وهنا حاول سوكال وبريكمونت أن يقصرا نقدهما على تلك الكتب التي غامرت بالاستشهاد بمفاهيم من الفيزياء والرياضة. وهما ها هنا يعرفان ما يتحدثان عنه، وحكمهما واضح لا لبس فيه؛ كما بالنسبة ل «جاك لاكان
Jacques Lacan » مثلا، الذي يبجل اسمه في الكثير من أقسام الإنسانيات في كل الجامعات الأمريكية والبريطانية. ولا ريب أن هذا في جزء منه بسبب أنه يعمل على محاكاة طريقة فهم عميقة للرياضيات، وهما يقولان عنه: ... على الرغم من أن «لاكان» يستخدم عدة كلمات رئيسية من النظرية الرياضية للدموج
compactness ، إلا أنه يخلط بينهما خلطا تعسفيا دون أدنى اعتبار لمعناها. و«تعريفه» للدموج ليس فحسب زائفا؛ وإنما هو هذر بلا معنى.
وهما يواصلان القول بالاستشهاد بالفقرة التالية المذهلة عن الاستدلال بواسطة لاكان:
وبالتالي فإنه بحساب هذه الدلالة حسب الطريقة الجبرية المستخدمة هنا، وهي أن:
لا يحتاج الواحد منا لأن يكون رياضيا ليدرك أن هذا أمر مضحك. وهذا يستدعي للذاكرة شخصية من شخصيات إلدوس هكسلي أثبتت وجود الرب بعملية قسمة للصفر على رقم، وبالتالي يستنتج من ذلك ال «ما نهاية». وفي فقرة أخرى من الاستدلال هي بالكامل نمط من «الجنسانية =
Genre » يواصل «لاكان» الاستدلال ليستنتج أن عضو الانتصاب هو مكافئ للجذر ≠ −1 في الدلالة الناتجة أعلاه الدال (−1).
89
لا يحتاج الواحد منا إلى الخبرة الرياضية لسوكال وبريكمونت ليتأكد من أن مؤلف هذا الكلام مدلس. أتراه يكون صادقا عندما يتحدث في مواضيع غير علمية؟ إلا أننا عندما نقبض على فيلسوف وهو يساوي عضو الانتصاب بالجذر التربيعي لناقص واحد، فإنه بالنسبة لما أعرف يكون قد نسف كل أوراق اعتماده عندما تصل الأمور إلى أشياء «لا» أعرف عنها أي شيء.
90 (3)
ادعاء المعرفة من خلال نثر المصطلحات العلمية في ثنايا المقالات الفكرية «دون حياء» مع عدم ارتباط تلك المصطلحات بالقضايا موضع النقاش. وهنا يرى سوكال وبريكمونت أن هناك لوسي إريجاري
Julia Kristeva «الفيلسوفة» نصيرة المرأة، وهي شخصية أخرى عالج أمرها سوكال وبريكمونت في فصل بأكمله.
91
تذكر إريجاري محاجة في فقرة تذكرنا بتوصيف مشهور أسمته نصيرة للمرأة على كتاب «المبادئ» لنيوتن؛ حيث وصفته بأنه (كتيب إرشادي لاغتصاب المرأة)، تبرهن إريجاري بأن معادلة الطاقة = الكتلة في مربع سرعة الضوء (e: mc2) (.)
هي «معادلة ذات طابع جنسي». ما هو السبب؟ لأنها تضفي تميزا لسرعة الضوء على سائر السرعات الأخرى الضرورية لنا ضرورة حيوية (إن تأكيدي على ما سأصل سريعا إلى معرفته هو أن الكلام هنا ضمني). ونجد مبحثا عند إريجاري على ميكانيكا السوائل يعطي مثلا نمطيا لهذه المدرسة الفكرية التي ندرسها؛ فهي تقول إن السوائل، كما ترى، قد أهملت إهمالا غير منصف ف «الفيزياء الذكورية» تضفي امتيازا على الأشياء الصلبة الجامدة .
92
ولإريجاري شارحة أمريكية هي «كاترين هيلز» ارتكبت خطأ في أنها أعادت التعبير عن أفكار إريجاري في لغة واضحة (نسبيا)؛ ففي هذه المرة نحصل على نظرة معقولة على الإمبراطور لا يوجد ما يعوقها، ونجد أن نعم، الإمبراطور لا يرتدي ملابس:
إنها ترجع السبب في إضفاء امتياز للميكانيكا الصلبة على ميكانيكا السوائل، وإلى عجز العلم حقا عن التعامل مطلقا مع التدفق المضطرب للسوائل، ترجعه إلى ارتباط السيولة بالأنوثة. ففي حين أن الأعضاء الجنسية لدى الرجال تكون بارزة وتصبح صلبة، فإن النساء لديهن فتحات يتسرب منها الدم والسوائل المهبلية. وبهذا المنظور ما من عجب في أن العلم قد عجز عن التوصل لنموذج ناجح الاضطراب. وليس في الإمكان حل مشكلة تدفق السائل المضطرب لأن مفاهيم السوائل (ومفاهيم النساء) قد صيغت بحيث تخلق بالضرورة بقايا بلا اتساق واضح.
93
لا يحتاج المرء لأن يكون فيزيائيا ليشتم السخف المعتوه لهذا النوع من المحاججة (والذي أصبحت نغمته مألوفة لأكثر مما ينبغي)، على أنه مما يفيدنا أن يكون كتاب سوكال وبريكمونت في متناولنا ليخبرنا عن السبب الحقيقي في أن تدفق السائل المضطرب مشكلة صعبة (معادلات نافير-ستوكس معادلات يصعب حلها).
94 (4)
ادعاء التفلسف وذلك من خلال استخدام كلمات وعبارات وجمل لا تحمل معنى حقيقيا حين يتم فحصها وامتحان دلالتها؛ ويعطينا سوكال وبريكمونت من خلط برونو لاتور
Bruno Latour
بين نظرية النسبية (عند أينشتين) ومذهب النسبية (الفلسفية)، وعلم ما بعد الحداثة عند ليوتار وسوء الاستخدام المنتشر والمتوقع لمبرهنة جوديل ونظرية الكم ونظرية الشواش. وسنجد أن جان بودريلارد المشهور هو مجرد واحد من كثيرين يجدون أن نظرية الشواش أداة مفيدة لخداع القراء. ومرة أخرى فإن سوكال وبريكمونت يساعداننا بأن يحللا لنا الحيل المستخدمة في التلاعب. والجملة التالية «وإن كانت قد بنيت على مصطلحات علمية إلا أنها لا معنى لها من وجهة النظر العلمية».
لعله يجب أن ينظر إلى التاريخ نفسه على أنه تشكيل شواشي؛ حيث التسارع يضع نهاية للخطية، وحيث الاضطراب الذي يخلقه بالتاريخ انحراف أكيد عن غايته، تماما مثلما يحدث أن يؤدي الاضطراب إلى إبعاد النتائج عن أسبابها.
95
ونكتفي بهذا القدر؛ فإنه كما يقول سوكال وبريكمونت، فإن نص بودريلارد «يتواصل في تصاعد تدريجي من الهراء». وهما يلفتان الانتباه مرة أخرى إلى ما يوجد من كثافة عالية للمصطلحات العلمية والزائفة علميا، التي تولج داخل الجمل، وهي - بقدر ما نستطيع فهمه - خاوية من أي معنى. وخلاصة حكمهم على بودريلارد يمكن أن تنطبق على أي من المؤلفين الآخرين الذين انتقدوا هنا، ويحتفى بهم في كل أمريكا:
والخلاصة أن المرء يجد في أعمال «بودريلارد» سيلا غزيرا من المصطلحات العلمية، تستخدم دون أي اعتبار لمعناها، ونجد أنها فوق كل شيء تستخدم في سياق من الواضح أنها لا علاقة لها به. وسواء فسرناها أو لم نفسرها كاستعارات مجازية، فإن من الصعب أن ندرك أي دور يمكن أن تقوم به، إلا أنها تعطي مظهرا من العمق لملاحظات مبتذلة حول علم الاجتماع أو التاريخ. ونجد فوق ذلك أن المصطلح العلمي يخلط بمفردات غير علمية تستخدم بالدرجة نفسها من السبب القذر. وبعد أن يقول بودريلارد وينقل كل ما يشاء فإن لنا أن نتساءل عما سيتخلف من فكره بعد أن نزيل عنه كل ما يغطيه من تلك القشرة الخادعة من الألفاظ.
96
خلاصة القول إن سوكال وبريكمونت يريدان أن يوصلا رسالة للعالم كله يعلنان فيها: (أ)
أن عالم الفكر في أحيان كثيرة لا يقدم فكرا حقيقيا، بل ضربا من الموضات الفكرية. (ب)
أن الكتاب يدعو إلى تنقية الفكر من الشوائب غير العلمية، وضرورة اعتماد الفكر على البيانات العلمية الدقيقة في بناء النظريات الفكرية. (ج)
أن أهميته تنطلق من أنه يدعو إلى الفكر الحقيقي الذي يساهم المفكر من خلاله في البناء الإنساني العام، ويدعو إلى فضح «الموضات الفكرية» التي يصبح فيها الكتاب والمفكرون مثل الببغاوات يرددون كلاما غير مفهوم، أو غير قائم على أساس سليم من المعلومات العلمية. (د)
أن الكتاب كشف عن فكرة تجنب أوهام المسرح التي نادى بها «فرنسيس بيكون»؛ الأمر الذي دعا سوكال وصاحبه إلى مناقشة - بتفصيل - عدد من المفكرين الفرنسيين المشهورين ويفضحا الأخطاء العلمية الخطيرة التي وقعوا فيها.
ولم يكتف سوكال بكتاب «اللغو الرائج» في نقد إبستمولوجيا ما بعد الحداثة، بل كتب دراسة أخرى مطولة كتبها بدون أن يشارك فيها آخرون، وكانت بعنوان «العلم الزائف ومذهب ما بعد الحداثة: أخصوم أم زملاء مسافرون
Fellow-Travelers? ». وقد ذكر سوكال أن فكرة هذا البحث تعول على أن «العلاقة المحالية بين نوعين عريضين من أنواع التفكير وهما: العلم الزائف ومذهب ما بعد الحداثة (أن كليهما سوف نعرفهم بوضوح أكثر بعد لحظة). من أول وهلة يبدو أن العلم الزائف ومذهب ما بعد الحداثة متعارضان؛ العلم الزائف يتميز بسذاجة مفرطة، بينما مذهب ما بعد الحداثة يتميز بشكوكية مفرطة. وبتوضيح أكثر، فإن أتباع العلم الزائف يعتقدون في النظريات أو الظواهر التي يرفضها العلم السائد تماما كعلم غير قابل للتصديق، بينما أتباع مذهب ما بعد الحداثة يعتقدون في النظريات التي يعتبرها العلم السائد بأنها قد تأسست ما بعد الشك المعقول».
97
ويؤكد سوكال بأنه «سوف يبرهن بأنه في بعض الأحيان على الأقل، يوجد تقارب بين العلم الزائف ومذهب ما بعد الحداثة»، ولتحقيق ذلك نراه يحاول أن يميز بين ثلاثة مفاهيم هي «العلم»، «العلم الزائف»، «مذهب ما بعد الحداثة».
98
أما مفهوم العلم في نظر سوكال فهو يمثل سياقا مترابطا يجمع بين العلم الطبيعي والعلم الإنساني في وحدة مترابطة؛ يقول سوكال: «أنا أقصد بالعلم أولا وفوق كل شيء وجهة النظر العالمية التي تعطي الأسبقية للسببية والتوضيح والمنهجية بهدف اكتساب معرفة دقيقة عن العالم الاجتماعي والطبيعي. هذه المنهجية صنفت قبل كل شيء من خلال الروح النقدية؛ يعني الالتزام بالاختبار المستمر للتقريرات من خلال الملاحظات والتجارب - الاختبارات الأكثر صرامة، والأفضل - ومراجعة أو تصحيح هذه النظريات التي تفشل في الاختبار. والنتيجة الطبيعية الأولى للروح النقدية تكون قابلة للخطأ
fallibilism ؛ الفهم بأن كل معرفتنا التجريبية تكون تجريبية، وناقصة ومفتوحة للمراجعة في ضوء دليل جديد أو حجج قوية مقنعة (لذا بالطبع فإن غالبية أشكال المعرفة العلمية التي تأسست من الصعب أن تكون نبذت كليا).»
99
والموقف الذي اتخذه سوكال هنا من العلم قائم على أن هناك سمة أساسية في ضوئها يمكن التمييز بين ما هو علمي وما غير علمي، وهذه السمة هي التي قال عنها «كارل بوبر»
Karl Popper (1902-1994م) مبدأ «القابلية للتكذيب
Falsifiability »؛ حيث إن هذا المبدأ (القابلية) يقرر ما إذا كانت النظرية تعطينا محتوى إخباريا أم لا، وذلك في ضوء حجج تجريبية وملاحظات؛ فمهمة العلماء هي أن يحكموا النظريات في ضوء اختبارات قاسية.
100
ومن جهة أخرى يؤكد سوكال أن كلمة العلم تتميز بأربعة معان هي: «إنها تشير إلى المسعى الثقافي بهدف ربط الفهم العقلاني للعالم الخارجي، الطبيعي والاجتماعي. إنها تشير إلى مجموع المعرفة الجوهرية المقبولة حاليا. وتشير كذلك إلى الجماعة العلماء، بأعرافهم وبناءاتهم الاقتصادية والاجتماعية. وأخيرا إنها تشير إلى العلم التطبيقي والتكنولوجيا».
101
ويؤكد سوكال أن العلم في نظره ليس «قاصرا على العلوم الطبيعية، ولكن يتضمن تحقيقات تهدف إلى اكتساب معرفة دقيقة للمواضيع الواقعية المرتبطة بأي شكل للعالم باستخدام مناهج عقلانية تجريبية مماثلة للتي طبقت في العلوم الطبيعية. وهنا «العلم» كما استخدمته (كمصطلح) يزاول بشكل متكرر ليس فقط بواسطة الفيزيائيين أو الكيميائيين أو الأحيائيين، ولكن أيضا بواسطة المؤرخين، والمخبرين والسباكين، وفي الواقع كل إنسان يحتاج في «بعض أشكال» حياتنا اليومية.»
102
ثم ينتقل سوكال للحديث عن العلم الزائف، فيرى أن مفهومه متعلق بكل ما يخالف العقلانية والمنهج العلمي، ويقول سوكال: «وفي الحقيقة أن المرء يمكن أن يميز (في أغلب الحالات بسهولة جدا) بين العلم الصادق والعلم المزيف، وهذا لا يعني بالطبع أنه من الممكن رسم خط حاد بينهما. أقل خط يعتمد على الصلابة بكثرة «معيار التمييز» وهذا ما اقترحه الفيلسوف كارل بوبر. وبالأحرى المرء يمكن أن يميز بشكل أفضل لتصور الاستمرارية (الشكل الأول) للعلم الراسخ جيدا (مثل فكرة هذا المادة مكونة من ذرات) في نهاية الطرف الأول، المرور عن طريق علم حافة بداية القطع (مثل تذبذبات جزيئه محايدة) والاتجاه العام ولكن العلم التخميني (مثل نظرية الخيط) - ومن ثم، الكثير ابتعد عن الطريق، خلال العلم الرديء (مثل أشعة إن الانشطار البارد) - وفي النهاية بعد رحلة طويلة جدا خلال العلم المزيف؛ ولذلك لا يوجد موقع دقيق من بين هذه الاستمرارية حيث يمكن رسم الخط، وعلى الرغم من هذا هناك اختلاف جذري بين تأسيس العلوم الطبيعية والعلم المزيف باعتبار كليهما ينبثق من المنهجية ودرجة الإثبات التجريبي.»
103
وبخصوص مفهوم ما بعد الحداثة فيقول سوكال: «ومصطلح» مذهب ما بعد الحداثة «أكثر انتشارا؛ إنه يستخدم لكي يغطي مجرة غامضة من الأفكار في مجالات تتراوح من الفن والهندسة المعمارية إلى العلوم الاجتماعية والفلسفة. أنا أفترض هنا استخدام مصطلح مذهب ما بعد الحداثة بدقة أكثر لشرح الفكر الحالي المميز من خلال أكثر أو أقل للرفض الواضح للتقليد العقلاني من التنوير، ومن خلال المحادثات النظرية غير المتصلة بأي اختبار تجريبي، وبواسطة الثقافة النسبية والإدراكية التي تعتبر العلم ليس أكثر من «رواية »، «أسطورة» أو بناء اجتماعي بين معظم العلوم.»
104
ويرى سوكال أن «مذهب ما بعد الحداثة يرفض فكرة المزاعم عن العالم الخارجي الاجتماعي أو الطبيعي الذي يمكن أن يكون موضوعيا (وذلك ثقافيا متعاليا) الصدق أو الكذب، وبالأحرى هم يصرون على أن «الصدق» مرتبط ببعض الجماعات الثقافية أو الاجتماعية. وأخيرا هم يعيدون تعريف كلمة «الصدق» لتدل على مجرد شخصية مخفية متفقة (ضمن بعض المجموعة الاجتماعية المحددة) أو المنفعة العملية (لبعض الأهداف المحددة)؛ ولذا مذهب ما بعد الحداثة يميل إلى رفض الموضوعية كمجرد فكرة نحو الذي يكافح (ومع ذلك بشكل ناقص)؛ كل شيء أصبح يعتمد على وجهة نظر شخصية واحدة، والقيم الجمالية أو الأخلاقية، يستبدل إدراكيا واحدة من معيار لتقييم المزاعم للحقيقة المزعومة.»
105
نتائج البحث
بعد هذه الجولة نود أن نلقي الضوء على أهم النتائج التي توصلنا إليها في هذا البحث، وذلك على النحو التالي: (1)
إن الهوة بين العلم والإنسانيات لم تنشأ بسبب حروب العلم، بل تعود إلى القرن السابع والثامن عشر، بدليل محاكمة جاليليو بدعوى الهرطقة في القرن السابع عشر أمام الكنيسة الكاثوليكية، التي لم تعترف رسميا بخطئها إلا منذ فترة قليلة، وأيضا بدليل الهراء الذي كتبه الشاعر «وليم بليك» ضد نظرة «إسحاق نيوتن» الميكانيكية للعالم. (2)
إذا كان القرن العشرون قد شهد اتساعا في الهوة الفاصلة ما بين العلوم الإنسانية كالفلسفة والآداب من جهة والعلوم الدقيقة كالفيزياء والكيمياء والهندسة من جهة أخرى، ظهرت محاولات للتوفيق ما بين هاتين الطائفتين من المعارف الإنسانية، وقد وصل ببعض هذه المحاولات إلى التبشير بثقافة ثالثة تجمع هاتين الطائفتين لتحل محلهما عند سنو. (3)
لقد كان سنو مبالغا حين دافع عن العلماء دفاعا ضاريا، حط فيه من شأن الأدباء، واصطنع لهم عدوا وهميا، لعل ذلك وقتها كان منطقيا بعض الشيء، حين كان الطلاب يقبلون على الدراسة الأدبية وقليل منهم من يقبل على الدراسة العلمية؛ لأن الطريقة الملكية وقتها لم تكن للعلم وكانت للآداب والحقوق، وكان الأدباء يلقون اهتماما واسعا من الجمهور والملوك، لكن هذا الأمر تغير الآن تماما، انظر إلى ما يحدث في الغرب، حيث يتحدث العلماء بطلاقة وكل غرور، وتراجع الأدباء بشدة. (4)
إن حروب العلم كشفت على أنها تمثل سلسلة من المعارك الفكرية التي حدثت في عام 1990م بين أنصار الواقعية العلمية
Scientific Realist
وأنصار ما بعد الحداثة؛ حيث كان الجدال حول طبيعة النظرية العلمية؛ فقد تساءل دعاة ما بعد الحداثة عن الموضوعية العلمية؛ حيث أجريت انتقادات على نطاق واسع للمنهج العلمي والمعرفة العلمية، وذلك عبر سلسلة من التخصصات، مثل الدراسات الثقافية، والأنثروبولوجيا الثقافية، والدراسات الأنثوية، والأدب المقارن، والدراسات الإعلامية، ودراسات العلوم والتكنولوجيا. (5)
إن حروب العلم التي نشبت بفعل فلسفة ما بعد الحداثة داخل أقسام الإنسانيات في الجامعات الأمريكية في أواخر القرن العشرين كانت ناتجة عن الاتجاه الما-بعد بنيوي، ذلك الاتجاه الذي شن هجوما عنيفا على صحة العلم، ولقد نجح سوكال بخدعته المشهورة في إحراجهم. (6)
إذا كانت فلسفة العلم بفضل الوضعيين المناطقة وكارل بوبر، قد انصبت كل مجهوداتها في التركيز على أهمية وقيمة المنهج العلمي والمعرفة الموضوعية، إلا أنها مع توماس كون وفييرآبند سارت في اتجاه آخر يحث على مزيد من الاهتمام بالبحث السوسيولوجي حول العلم، وينادي باستحالة الوصول إلى معرفة موضوعية تماما عن العالم المادي. وإنما تقوم معرفتنا للعالم نتيجة تدخلنا فيه بقدراتنا العقلية وآلاتنا ومقاييسنا وفروضنا المسبقة؛ علاوة على أن معرفتنا عبارة عن تركيب عقلي تلعب فيه الذات دورا أساسيا، وليست معرفتنا مطابقة موضوعية للوقائع. (7)
إن حروب العلم التي شنها سوكال ضد أنصار ما بعد الحداثة الفرنسيين كشفت على أن تلك الحروب ليس الهدف منها فقط سوء استخدام اللغة بقدر ما هي حروب ثقافات. (8)
إن الباعث الذي حدا بسوكال إلى أن يكتب بحثا عن ميكانيكا الكوانتم بأسلوب ما بعد الحداثة المتغطرس والمسيس، كان الهدف منه هو إحراج دعاة النسبوية المتطرفة، بوصفها خطرا يهدد وجود العلم ذاته، واختبار مدى جدية وصرامة المنتسبين إلى «ما بعد الحداثة». (9)
أوضحت خدعة سوكال أن إصرار فلاسفة ما بعد الحداثة على أنهم مؤهلون للحديث عن موضوعات صعبة، تأسيسا على قراءات لكتب شعبية رائجة ، من شأنه أن يجعل العلماء يحجمون عن أخذهم مأخذا جادا. (10)
لقد كشفت خدعة آلان سوكال عن أهمية النظرة الفيتجنشتينية التي تعول على أننا نكتشف اللغة من خلال استعمالها في مختلف مجالات النشاط الإنساني في حياتنا اليومية. كما كشفت الخدعة أيضا الدعوة إلى مطالبة العقل بالتريث، وأن الجهل باللغة وسوء استخدامها هو المسئول عن الإخفاق العقلي والفوضى الروحية التي سادت التفكير الغربي. (11)
إن خدعة آلان سوكال فضحت دعوة أنصار ما بعد الحداثة القائلين بأن العلم يمثل منتجا ثقافيا مثل المنتوجات الثقافية الأخرى؛ وليس، في أي من أحكامه، أصدق من صدق موسيقى موتسارت مثلا، فلا يوجد أي مقياس لفرز عبارات العلم وتمييزها عن الخطاب العادي. (12)
إن سوكال أراد من خدعته أن يوصل رسالة لجميع أنصار العلوم الإنسانية الذين أجبروه على أن يشعل حروب العلم ضدهم، وهي أن العلم مختلف عن الأنشطة الفكرية الأخرى؛ لأنه يعتمد على حكم منزه للأفكار الطبيعية ذاتها؛ فالبنسبة إلى رجل العلم، بمجرد أن تنطق التجربة، ينتهي النقاش. وهذا الجانب تحديدا من العلم هو ما يهاجمه فكر ما بعد الحداثة. (13)
كشفت لنا خدعة آلان سوكال على أن العلماء يشكلون - فيما بينهم - مجتمعهم الخاص بهم، وأن هناك قيودا داخلية على البحوث داخل كل مبحث علمي. وهي قيود ليست لها علاقة كبيرة بمتطلبات العلم ذاته؛ ففي الحياة العلمية يمكن لصحيفة مهمة بأن تكون مضطرة إلى تغيير سياستها في مواجهة معلومات كاسحة؛ حيث إن المحررين هم في نهاية الأمر علماء، وإنهم مثل جميع العلماء سيقبلون عمليا، ولو على مضض، حكم رجل العلم الطبيعي. (14)
إن هناك سببا رئيسيا جعل سوكال يشعل بخدعته حروب العلم ضد مفكري ما بعد الحداثة، وهو أن هؤلاء المفكرين استسلموا في فور حماستهم لفكرة أن العلم، شأنه شأن النقد الأدبي، تحكمي وذاتي، وبذلك فإنهم عمليا عمدوا بذلك إلى توسيع الهوة بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية من دون ضرورة. (15)
أظهرت لنا خدعة آلان سوكال أن الهوة الراهنة بين العلوم والإنسانيات كان سببها المفكرين الإنسانيين الذين تبنوا فكر ما بعد الحداثة ؛ وذلك لإيمانهم الشديد بأن إحدى الأفكار الأساسية في النقد الأدبي بعد الحداثي هي «أن لا شيء خارج النص». ومعنى هذا في تصور سوكال أنهم يؤمنون بأن الأسلوب الصواب لتحليل أي رأي هو النظر فقط إلى ما هو مسطور عن هذا الرأي، وأن ما يحدث هذا بخاصة بغية الكشف عن الانحيازات والأهواء التي يخفيها المؤلف ويسكت عنها، ولكن سوكال وغيره من العلماء يرون أن السبيل لاختيار أحكام ما هو إجراء التجارب لاستبيان صدقها من عدمه. (16)
بينت لنا خدعة سوكال أن حروب العلم تأججت بفعل السيطرة الاجتماعية على العلم؛ حيث إن ثمة مكونا اجتماعيا في العلم، وأن العمليات الاجتماعية والسياسية يمكن أن تؤدي إلى تسريع أو إبطاء تقدم مجال معين من مجالات العلم. (17)
كشف لنا سوكال في كتابه «الدجل الفكري» أن ما يكتبه كتاب ما بعد الحداثة عن موضوعات مثل «النسبية أو ميكانيكا الكوانتم» يظهر له أن هؤلاء المؤلفين يعرفون بعضا من الكلمات الطنانة الرائجة التي تتضمنها هذه المجالات، ولكنهم - على ما يبدو - لا يمتلكون ناصيتها، علاوة على أن الكلمات العلمية الواردة في كتاباتهم هي كلمات وعبارات رائجة وليست من أساسيات العلم. (18)
إن ورقة بحث سوكال لم يكن الهدف منها فقط تقليد المفكرين الكبار في كتاباتهم الفكرية وتنميقاتهم الاصطلاحية واستدلالاتهم بمفكرين آخرين، على طريقة عدد من المفكرين الفرنسيين وبعض علماء الاجتماع في الولايات المتحدة، بل تنطلق من الدعوة إلى الفكر الحقيقي الذي يساهم المفكر من خلاله في البناء الإنساني العام، ويدعو إلى فضح «الموضات الفكرية» التي يصبح فيها الكتاب والمفكرون مثل الببغاوات يرددون كلاما غير مفهوم، أو غير قائم على أساس سليم من المعلومات العلمية. (19)
إن الحيلة التي لجأ إليه آلان سوكال في ورقة بحثه عن ميكانيكا الكم، تذكرنا بنفس الحيلة التي لجأ إليها «الأصمعي» الشاعر العربي في قصيدته المشهورة «صوت صفير البلبل هيج قلبي الثمل» في تراثنا العربي الإسلامي مع اختلاف التوجهات.
قائمة المصادر والمراجع (1)
د. أحمد شوقي: إلا العلم يا مولاي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2004م. (2)
آلان شالمر: نظريات العلم، ترجمة الحسين سحبان وفؤاد الصفا، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1991م. (3)
جورج أ. لندبرغ: «هل ينقذنا العلم؟»، ترجمة أمين أحمد الشريف، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر، بيروت - نيويورك، 1963م. (4)
جيمس تريفل: «لماذا العلم؟»، ترجمة شوقي جلال، عالم المعرفة، عدد 372، فبراير، 2010م. (5)
د. خالد قطب: العقلانية العلمية: دراسة في فلسفة بول كارل فييرآبند، رسالة ماجستير غير منشورة، آداب القاهرة، 1996م. (6)
خليد كدري: مدخل إلى نظرية العلم عند بول فيرباند، مقال منشور ضمن مجلة الأوان الكويتية، السبت، الثاني من نيسان/أبريل، 2011م. (7)
د. رمسيس عوض: س. ب. سنو والثورة العلمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1981م. (8)
ريتشارد دوكنز: «العلم والحقيقة: تأملات عن الأمل والأكاذيب والعلم والحب»، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، مطبوعات المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005م. (9)
عصام محمود بيومي مصطفى: إبستمولوجيا التقدم العلمي عند توماس كون، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة عين شمس، القاهرة، 1996م. (10)
كارل بوبر: منطق الكشف العلمي، ترجمة د. ماهر عبد القادر، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1986م. (11)
د. محمد أحمد السيد: نسبية المعرفة العلمية عند بول فييرآبند، بحث منشور ضمن كتاب ثلاث محاورات في المعرفة لبول فييرآبند، ترجمة د. محمد أحمد السيد، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1997م. (12)
فاضل السلطاني: الفرنسيون آخر من يعلم، مقال بجريدة الشرق الأوسط، العدد 6887، في 6 / 10 / 1997م. (13)
د. سالم يفوت: المناحي الجديدة للفكر الفلسفي، دار الطليعة، بيروت، 1999م. (أ) قائمة المصادر والمراجع الأجنبية (1)
Alan Sokal, Jean Bricmont: Fashionable Nonsense: Postmodern Intellectuals’ Abuse of Science, U.S.A., 1988. (2)
______ :
Fellow-Travelers?, In Archaeological Fantasies: How
2006). (3)
______ :
A Physicist Experiments with Cultural Studies, Lingua Franca, May/June 1996. (4)
John Omicinski’s, Hoax Article Yanks Academics’ Legs, Gannett News Service, 22 June 1996. (5)
______ : 'Transgressing the boundaries: Towards a transformative hermeneutics of quantum gravity’, Social Text, 1996, 46/47. (6)
Andrew Ross (Editor): Science Wars, Duke University Press, Durham and London, 1996. (7)
Best, S. & Kellner, D.: Postmdernism Theory: Critical Interrogation, 1991. (8)
Bruce Robbins: Co-Editor Social Text, In Tukkun, 15 July 1996. (9)
Bent Flyvbjerg: Making Social Science Matter: Why Social Science Fails and How it Can Succeed Again, Cambridge University Press, Cambridge, 2001. (10)
Campbell, C.: “Deconstruction and all that, from Yale’s Critical Jungle” Herald Tribune 14-2-1986. (11)
C. B. Snow: The Two Cultures and Scientific Revolution, The Rede Lecture-1959, Cambridge University, New York, 1961. (12)
Dorothy Nelkin: The Science Wars: What is at Stake?, Chronicle of Higher Education, July 26, 1996. (13)
Erich Eichman: The end of the affair, the New Criterion December, 1996. (14)
Jay Rosen: Swallow Hard: What Social Text Should Have Done, In Tikkun magazine, Sept. 1996. (15)
Fish, S. (1996). “Professor Sokal’s Bad Joke.” The New York Times, (May 21): A23. (16)
Jennifer Daryl Slack and M. Mehdi Semati: Intellectual and Political Hygiene: The “Sokal Affair”, Critical Studies Mass. (17)
Liz McMillen’s “The Science Wars: Scholars Who Study the Lab Say their Work has Been Distorted”, In The Chronicle of Higher Education, June 28, 1996. (18)
Karl Popper: Realism and the Aim of Science, Great Britain, Gwild Ford and King’s Lynn, 1983. (19)
Kuhn, T. S.: Logic of Discovery or Psychology of Research?, In: Criticism and The Growth of Knowledge, Eds. I. Lakatos and A. Musgrave, Cambridge University Press, 1970. (20)
Nick Jardine and Marina Frasca-Spada: Splendours and Miseries of the Science Wars, Stud. Hist. Phil. Sci., Vol. 28, No. 2, 219-235, 1997. (21)
Superstition: The Academic Left and its Quarrels with Science Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1994. (22)
social knowledge and their distant echoes in 20th-Century American Philosophy of Science, Stud. Hist. Phil. Sci. 35 (2004) 283-326. (23)
Steven Weinberg: Sokal’s Hoax, The New York Review of Books, Volume XLIII, No. 13, August 8, 1996. (24)
William Rehg: Cogent Science in Context: The Science Wars, Argumentation Theory, and Habbermas, The MIT
2009.
الدراسة الخامسة
التفكير العلمي وميكانيكا الكوانتم في ضوء مبدأ اللايقين عند هيزنبرج
تقديم
استطاعت الفيزياء الكلاسيكية أن تسيطر على الفكر العلمي ما يقرب من ثلاثة قرون. وقد حققت ذلك عن طريق منهج ثلاثي الخطوات، يجسد منطق التفكير في ذلك العصر، وهو الإيمان الشديد بالعقل، وقدرته على أن يحيط بكل ما في الكون علما. والأهم هو الاعتقاد بأن قوانين الطبيعة ليست اكتشافا لما هو موجود من قبل، بل هي نتاج لعبقرية العقل الذي يفرض مبادئه على الطبيعة؛ الخطوة الأولى هي تبسيط الطبيعة ذهنيا بحيث تكون قابلة للتصور . أما الخطوة الثانية فهي استخلاص النتائج اللازمة عن النظام التصوري، ثم إجراء التقريبات والتعديلات التي تكفل الاقتراب من الواقع التجريبي. أما الخطوة الثالثة، فيتم التحقق من أن التعديلات السابقة قد أدت إلى توافق النتائج مع المشاهدات. ومما هو جدير بالملاحظة، أن المفاهيم الرياضية التي ابتدعتها هذه الفيزياء لم يكن الهدف منها التعبير عن المعطيات التجريبية، بل إعطاء النظرية العلمية قوة تفسيرية أكبر. والنجاح الذي أصابته أوهم الكثيرين أن هذه النظريات تصور الواقع تصويرا حقيقيا وبطريقة أولية سابقة على التجربة.
1
وحتى عام 1880م، كان لدى العلماء طمأنينة وقناعة بنجاحهم العلمي، خاصة بعد تمكنهم من شرح معظم الظواهر الطبيعية في الكون بواسطة قوانين «نيوتن» الميكانيكية مثل نظريات «ماكسويل» الكهرومغناطيسية، وميكانيكا «بولتزمان» الإحصائية والديناميكا الحرارية ... وغيرها. إلا أن بعض القضايا الهامة بقيت دون تفسير؛ من أهمها معرفة خواص «الأثير»، وشرح الطيف الإشعاعي للغازات والأجسام الصلبة. وهذه الظواهر غير المشروحة كانت بمثابة بذور الثورة التي تأججت بفعل سلسلة من الملاحظات والاكتشافات المثيرة التي حدثت في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر.
2
إلا أنه بحلول عام 1900م، وبعد أن ظن العلماء أن كل القوانين الفيزيائية الأساسية قد اكتشفت على ما يبدو، ظهر ما لم يكن في الحسبان واضطر العلماء إلى اقتحام عوالم جديدة على مستوى الذرة ونواتها، وعلى مستوى الأجرام السماوية وحشودها، وانبثقت فيزياء جديدة تتعامل مع عالم المتناهيات في الصغر وعالم المتناهيات في الكبر، وواجه العلماء نتائج عملية جديدة بحاجة إلى تفسير جديد غير المألوف عندهم سابقا. واكتشف بلانك نظرية الكم
Quantum theory ، كما استحدث «أينشتين» نظرية النسبية
Relativity
الخاصة والعامة. وقد أدت هذه الفيزياء الجديدة التي ظهرت مع أوائل القرن العشرين، وعرفت باسم «الفيزياء الحديثة
Modern Physics » إلى زعزعة ما كان يسمى ب «الحتمية العلمية»
Scientific Determinism (وبالذات الحتمية الميكانيكية عند لابلاس). وبدأ الحديث عن الاحتمالية والنسبية وعدم اليقين والفوضى، وغير ذلك من المصطلحات والمفاهيم التي تميزت بها فيزياء القرن العشرين. وتوالت النظريات الفيزيائية الكبرى التي دفعت بمسيرة هذا العلم قدما، وانعكست آثارها المباشرة على حياة الناس وفهمهم لطبيعة الكون الذي يعيشون فيه.
3
ومن هذا المنطلق يدور بحثنا حول «مبدأ اللايقين»
Uncertainty Principle
عند «فيرنر كارل هيزنبرج
Werner Karl Heisenberg » (1901م-1976م) بين ذاتية تفسير كوبنهاجن وموضوعية تفسير أينشتين.
وهيزنبرج هو واحد من أعلام الفيزياء الذرية الحديثة الذين ساهموا في تطوير النظرة العلمية الدقيقة لتفسير ما يحدث خارج الذرة وداخل النواة. ويعتبر التعرف على أفكاره ومبادئه - ومن ثم نظرته الشاملة إلى الظواهر التكرارية في الكون - مدخلا رئيسيا إلى الفلسفة الطبيعية المعاصرة؛ فهو العالم الذي اكتشف مبدأ عدم الحتمية في الفيزياء الذرية، والذي اعتنقه عدد من الفلاسفة المعاصرين، وأصبح هذا المبدأ بالإضافة إلى مفاهيم فلسفية أخرى نابعة من علم الفيزياء الحديثة مثل «الاحتمالية» و«الإنتروبيا» وغيرها، أصبحت هذه المبادئ تمثل ركائز تقوم عليها الفلسفة الحديثة.
4
كما كان هيزنبرج أحد العلماء القلائل الذين أرسوا أسس الفيزياء الحديثة. ولقد لعب دورا قائدا في الصياغة الأولى لميكانيكا الكم، ثم فيما تلاها من تعريف بتضميناتها الثورية. وبالرغم من أن الكثير قد كتب مؤخرا عن الأسس العجيبة لمفاهيم ميكانيكا الكم فإن علينا أن نولي اهتماما خاصا لتأملات هيزنبرج - وحتى وفاته عام 1976م - لشغفه العميق بعالم الكم، وبالتضمينات الفلسفية الهائلة التي تنثال منه.
5
لقد رأس إبان الحرب العالمية الثانية فريق العلماء الألمان المشتغلين في مجال الانشطار النووي،
6
ومنح جائزة نوبل في الفيزياء عام 1932م، عن حصيلة أبحاثه العلمية على مدى عشر سنوات، وكان عمره في ذلك الوقت واحدا وثلاثين سنة.
7
ولد هيزنبرج في الخامس من ديسمبر عام 1901م، بمدينة دويزبرج
Duisberg
قرب دسلدورف بألمانيا، وكان والده حينئذ مدرسا بالجامعة، ودرس الطبيعة النظرية في جامعة ميونخ
Munich
على الأستاذ أرنولد سومرفلد
Arnold Sommerfeld ، ونال درجة الدكتوراه عام 1923م، ثم عمل مساعدا لماكس بورن في جامعة جونتجن. ولقد قضى الفترة ما بين 1924م إلى 1927م في جامعة كوبنهاجن
Copenhagen ؛ حيث تتلمذ على يد الأستاذ «نيلز بور
Niels Bohr »، ثم عين مدرسا بتلك الجامعة. وبعودته لألمانيا في عام 1927م عين أستاذا للطبيعة النظرية بجامعة ليبزج، ثم مديرا لمعهد ماكس بلانك للطبيعة ببرلين، وأستاذا بجامعة برلين، وذلك من عام 1942م إلى 1945م، ثم انتقل مديرا لمعهد ماكس بلانك للطبيعة بجونتجن.
8
وتعتبر جميع أعمال هيزنبرج العلمية، سواء كانت في الطبيعة الذرية أو النووية، من الأركان الهامة في تلك الفروع. وكان لتلمذته على أساطين الذرة أثر كبير في إنتاجه العلمي، خصوصا في أوائل حياته العلمية؛ فلقد بدأ أعماله بمعالجة عجز نظرية «نيلز بور» عن تفسير الظواهر التي تشاهد في الذرات المعقدة التي تحتوي على أكثر من إلكترون. وعلل ذلك العجز بأن بور أسس نظريته على أمور لا يمكن مشاهدتها مباشرة، كحركة الإلكترونات في مداراتها، فاتخذ لنفسه أساسا لمعالجة الموضوع من وجهة نظر أخرى مبنية على مقادير طبيعية يمكن مشاهدتها وقياسها، كتردد الموجة مثلا وشدة استضاءة الخطوط الطيفية، وبذلك استثنى من افتراض صورة دوران الإلكترونات في مداراتها لتمثيل الذرة. ولقد أدى تطبيق نظريته هذه إلى نتيجة هامة جدا؛
9
هي قاعدة أو مبدأ اللايقين الذي نقوم بدراسته في هذا البحث.
لكل ما سبق قصدت إلى إنجاز بحث عن «مبدأ اللايقين عند هيزنبرج بين ذاتية كوبنهاجن وموضوعية أينشتين»، ساعيا من خلالها للتعرف على مفهوم مبدأ اللايقين، وأهم المضامين الإبستمولوجية التي نجمت عن هذا المبدأ. وهذا ما سوف نكشف عنه من خلال إلقاء الضوء على فلسفة هيزنبرج في فكرة اللايقين، وتحليل عناصرها الأساسية عبر تطورها، ثم إعادة بنائها في ضوء المناقشات التي أحاطت بها، والانتقادات التي تعرضت لها. وعلى هذا فإن هذا البحث يرمي إلى فهم وتأويل فلسفة هيزنبرج في مبدأ اللايقين، برؤية تحليلية نقدية.
وقد اعتمدنا في هذه المهمة على منهجين؛ وهما: المنهج التاريخي والمنهج النقدي. وقد استخدمنا المنهج التاريخي بمعنيين؛ الأول بمعنى الرجوع إلى الوقائع التاريخية التي قام عليها مبدأ اللايقين، والثاني بمعنى تطور مبدأ اللايقين عبر مراحله الزمنية. واستخدمنا كذلك المنهج النقدي بمعنيين؛ قصدنا بالمعنى الأول فحص وتحليل النتائج التي انتهى إليها هيزنبرج على أساس الأهداف التي حددها لفلسفته في مبدأ اللايقين. وقصدنا بالمعنى الثاني محاولة تقييم أفكار هيزنبرج في مبدأ اللايقين في ضوء الانتقادات الفلسفية التي تعرضت لها، وفي ضوء إمكان تطوير هذه الأفكار وحدود هذا التطوير.
وبهذا تتجسد محاور البحث على النحو التالي:
التفسير العلمي لمبدأ اللايقين
البعد الذاتي لمبدأ اللايقين
البعد الموضوعي لمبدأ اللايقين
أولا: التفسير العلمي لمبدأ اللايقين
لقد سادت الفيزياء التقليدية بعض التصورات، كفكرة الزمان، والمكان، والأثير، هذا إلى جانب اقتصار منهج تلك الفيزياء على التحديد الفردي للظواهر، وذلك بمعرفة سرعاتها الأصلية ومواضعها في لحظة معينة، ولكن سرعان ما واجهت تلك الفيزياء ظواهر جديدة لا تقبل تحديدها الفردي ولا صياغتها القائمة على النزعة التقليدية. ويعد القانون الثاني لنظرية القوى الحرارية - مبدأ «كورنو» - أول تاريخ لبداية هذه الأزمة في الفيزياء التقليدية، ثم توالت الظواهر التي ساهمت في تعميق الأزمة وفي مضاعفة حدتها، كحركة الغازات والحركة البراونية والتحلل التلقائي لذرات الراديوم. وكانت جميعا تدعيما لنوع جديد من الظواهر تتميز باللاارتدادية وبعدم القابلية للتحديد الفردي. وكان حساب الاحتمالات هو الصياغة الكمية الجديدة لهذه الظواهر جميعا.
10
وشهدت بداية القرن العشرين، نظريات فيزيائية جديدة، لتحديد التركيب الداخلي للذرة، وقامت هذه النظريات على دراسة ظواهر الإشعاع. وتتميز هذه الظواهر كذلك بالمميزات السابقة من لاارتدادية وعدم إمكانية على التحديد الفردي؛ وبالتالي ضرورة تطبيق حساب الاحتمالات عليها لدراستها وتحديد انتظاماتها. وكانت مسألة طبيعة الضوء من أهم موضوعات الدراسة في تحديد التركيب الداخلي للذرة؛ ذلك لأن الحركة الداخلية للذرة تتم دراستها عن طريق إشعاعاتها. وكان الضوء تتنازعه نظريتان؛ نظرية جسيمية وأخرى موجية؛
11
وقد تم حسم هذا النزاع من خلال التجربة الحاسمة التي أجراها فوكو
Foucault (1819-1868م) لاتخاذ قرار بصدد تصورين عن طبيعة الضوء متنافسين. أحد التصورين قدمه «هويجينز
Huygens » وطوره فيما بعد «فريزنيل» و «يونج»، اللذان قالا بأن الضوء يتألف من موجات عرضية منتشرة في وسط أثيري. وكان التصور الثاني لطبيعة الضوء، هو تصور «نيوتن
Newton »، القائل بأن الضوء يتألف من جزئيات صغيرة للغاية متطايرة بسرعة عالية؛ فقد ترتب على كلا الفرضين أنه أصبح بالإمكان استخلاص النتيجة القائلة بأن أشعة الضوء تتطابق مع قوانين الانتشار للأشعة الضوئية في خطوط مستقيمة من جانب، وتتطابق أيضا مع قوانين الانعكاس والانكسار الضوئية، ولكن التصور الموجي أدى إلى اللزوم الاختباري القائل بأن الضوء يسير في الهواء أسرع منه في الماء، بينما التصور الجسيمي يؤدي إلى نتيجة مضادة. وفي سنة 1850م نجح فوكو في إجراء تجربة قارن فيها بين سرعة الضوء في الهواء مباشرة فأنتجت صورتين لنقطتين ضوئيتين منبعثتين بواسطة أشعة الضوء المارة عبر الهواء والماء على التوالي، ثم تعكسان في مرآة تدور بسرعة فائقة. واعتمادا على أن سرعة الضوء في الهواء أعظم أو أقل منها في الماء تظهر صورة المصدر الضوئي الثاني؛ ولذلك أمكن أن توضع بإيجاز اللزومات الاختبارية المتضاربة التي تضبطها هذه التجربة على النحو التالي: إذا أجريت تجربة فوكو تظهر الصورة الأولى إلى يسار الصورة الثانية. وقد أبانت التجربة عن أن اللزوم الاختباري الأول كان صادقا. واعتبرت هذه النتيجة دحضا، وعلى نطاق واسع، للتصور الجسيمي للضوء، وانتصارا حاسما للتصور الموجي.
12
لكن سرعان ما اكتشف «ماكس بلانك» - صاحب ميكانيكا الكوانتم في القرن العشرين - خطأ رأي فوكو، وأثبت بالتجربة أن قوام الضوء فوتونات
، وأن كل شعاع، بما فيه الضوء، يسير وفقا للأعداد الصحيحة لوحدات أولية من الطاقة هي ما أطلق عليه الكوانتم
Quantum ، وأن الطاقة قوامها كمات
Quanta ، والكوانتم ليس سوى ذرة الطاقة المتوقفة على طول موجة الشعاع الذي ينتقل به الكوانتم.
13
ثم جاء «ألبرت أينشتين» وأيد النظرية الجسيمية للضوء؛ فقد تبين أنه إذا ما سلط الفوتون على الذرة فإنها تضطرب وفقا لكمية الطاقة الموجودة في الفوتون، كما يتضمن أن الفوتون في حركة مستمرة، وأن سرعته تماثل سرعة الضوء.
14
وانتهى أينشتين إلى تقرير مبدأ ثنائية مذاهب الضوء؛ إذ إن الظاهرة الكهربية لو كانت تقتضي تفسيرا جسيميا؛ فإن علم الضوء الكلاسيكي كان يدرس ظواهر تقتضي القول بالنظرية التموجية (كظاهرة التداخل). وبعبارة أخرى، فإن نوع التفسير الذي كان ينبغي الأخذ به، أعني التفسير الجسيمي أو التموجي، يختلف باختلاف الظواهر الضوئية الخاصة.
15
وظل الأمر كذلك حتى جاء «لويس دي بروي»، ليحسم الصراع بين نظريات الضوء في ضوء مفاهيم الفيزياء؛ حيث اكتشف من خلال تجاربه أن الضوء مؤلف من جسيمات وموجات معا. وهذا الكشف الجديد مكنه من نقل الفكرة إلى ذرات المادة التي لم يفسرها أحد من قبله على أساس موجي، فوضع نظرية رياضية يكون فيها كل جزيء صغير من المادة مقترنا بموجة.
16
ثم قام «إيرفين شرودنجر» بعد ذلك بوضع هذا الرأي في معادلة تفاضلية أصبحت الأساس الرياضي للنظرية الحديثة في الكوانتم. ومعنى ما ذهب إليه «دي بروي»، هو ما يكشف عنه «ماكس بورن» من أن الجسيمات الأولية لا تتحكم في سلوكها قوانين علية، وإنما قوانين احتمالية من نوع مشابه للموجات فيما يتعلق بتركيبها الرياضي. وفي ضوء هذا التفسير لا تكون للموجات حقيقة الموضوعات المادية، بل تكون لها حقيقة المقادير الرياضية. وهذا ما جعل «هيزنبرج» يتوصل إلى أن هناك قدرا من اللاتحديد (أو اللايقين) بالنسبة للتنبؤ بمسار الجزيء.
17
والسؤال الآن: ما هو مبدأ اللايقين؟
هو المبدأ المعروف بمبدأ «فيرنر هيزنبرج»، أعلنه عام 1927م، ويعرف أحيانا بمبدأ اللاتحديد أو عدم التحديد أو مبدأ اللايقين أو اللادقة أو مبدأ اللاحتمية أو مبدأ الريبة أو مبدأ الشك؛ حيث درج المترجمون العرب على استخدام التعبير الأخير، ونهج على منوالهم أغلب أساتذة الفيزياء والكيمياء الفيزيائية، أما ترجمة المجمع اللغوي «مبدأ أنه لا يقين في الطبيعة» وهو مبدأ نتج عن تحول معنى الحقيقة تبعا لما اكتشف في علم الفيزياء في هذا القرن مما اختلت به الموازين القديمة كل الاختلال؛ فقد اتضح أن كل المعرفة الطبيعية التي حصل عليها العلم ليست إلا معرفة إحصائية تختفي وراءها حقيقة الأشياء وحقيقة العالم بما فيه من علل ومعلومات، وأن هذا الكون المختفي من وراء ما نعلم من ظواهر ليست معروفة - وغير قابلة لأن تعرف - بل هي أيضا غير قابلة للتصور.
18
ومبدأ اللايقين هو خاص بالإلكترون، فلنلخص ما قيل عن اكتشافات علماء الذرة وعلماء الكوانتم في الإلكترون؛ حيث جاء راذرفورد مكتشفا للنواة في الذرة وعرف منها البروتون فقط عام 1911م، ورأى أن الإلكترون أو الإلكترونات تدور حول البروتون دورة كوكبية. ثم جاء نيلز بور عام 1913م وأيد اكتشاف «ثابت بلانك» كما أيده في أن الذرة من طبيعة جزيئية. وافترض بور أن الإلكترون لا يبقى في مدار ثابت محدد حول النواة وإنما يقفز من مدار إلى مدار، وحين يغير الإلكترون مداره تتغير الطاقة الكلية للذرة؛ ولذلك فإن هذه الطاقة إما أن تنطلق إلى خارج الذرة وإما أن تمتصها. وصور الإلكترون على أنه لا يؤدي حركة متصلة، كما يتحرك القطار على شريط السكة الحديدية، وإنما يتحرك في قفزات تشبه قفزات الكنجارو في حقل. وجاء «دي بروي» و«شرودنجر» ليفترضا أن الذرة والإلكترون من طبيعة موجية حيث لا يكون لهما وضع محدد في المكان.
19
جاء هيزنبرج ليكتشف شيئا أكثر غرابة عن الإلكترون؛ حيث حاول بتجاربه ملاحظة موضع الإلكترون وسرعته واتجاهه بأدق ما لديه من مكبرات. بدا له أن ليس للإلكترون وضع محدد وسرعة محددة، ويمكن للعالم رصد ما يفعله الإلكترون بدقة إذا كان يتناول مجموعة من الإلكترونات. لكن حين يريد العالم تحديد مسار إلكترون واحد وسرعته واتجاهه فجهد ضائع. نستطيع فقط أن نجد نقطة من نقط تحركات موجات الإلكترونات كمجموعة تمثل الوضع المحتمل للإلكترون المعين. لكن الإلكترون الواحد منعزلا عن إخوته في مجموعته ليس غير بقعة غير محددة، شأنها في ذلك شأن الريح أو موجات الصوت في الظلام. وكلما قل عدد الإلكترونات التي يلاحظها العالم زاد حيرة. ولا ترجع هذه الظاهرة عند هيزنبرج إلى نقص في آلات العالم، وإنما إلى طبيعة الإلكترون، ولكي يثبت ذلك افترض أن مكبرا خاليا قادر على تكبير الإلكترون إلى قدر قطره بمائة بليون مرة حتى نستطيع رؤيته. وجد هيزنبرج هنا صعوبة جديدة لأن الإلكترون أصغر من موجة الضوء؛ ولذلك يضطر العالم إلى استخدام إشعاع طول موجته أصغر مثل الأشعة السينية، فوجد هيزنبرج أنها عديمة الجدوى؛ لأنها لا تمكننا من رؤية الإلكترون. وجد أن الرؤية قد تكون ممكنة إذا استخدمنا أشعة جاما، وهي أشعة تنبعث من ذرة الراديوم. لكن تجارب العلماء السابقين عليه أثبتت أن الأشعة السينية تؤثر على الإلكترون لدرجة الخطورة على وجودها. وصل هيزنبرج من كل ذلك إلى مبدأ اللايقين الذي يقول إن من المستحيل من حيث المبدأ أن ترصد موضع الإلكترون وسرعة حركته واتجاهها بدقة متناهية في نفس الوقت. يمكنك فقط أن تحدد سرعته بدقة واتجاهها بنفس الدقة، أو يمكنك تحديد سرعته واتجاهها بكل دقة، وحينئذ لا تستطيع تحديد موضعه المكاني.
20
وبالتالي يقضي مبدأ اللايقين بأن الحالة التي يكون لها توزيع احتمالي متمركز جدا لقياسات الموضع سوف يكون لها حتما توزيع عريض المدى بالنسبة لقياسات كمية التحرك، والعكس بالعكس. هناك حد لإمكانية تحديد كل من الموضع وكمية التحرك بدقة عالية في آن معا. وينسحب القول نفسه على أزواج أخرى معينة من الكميات التي يمكن ملاحظتها أو رصدها أو قياسها
Observables . وقد حفظت هذا النظرية في الصياغة الشهيرة التي وضعها هيزنبرج لمبدأ الارتياب أو اللايقين. هذا المبدأ ليس مجرد ضميمة أضيفت إلى ميكانيكا الكم، ولكنه نتيجة فنية نابعة من بنية ميكانيكا الكم ذاتها. ولا يشكل حد هيزنبرج تقييدا لما ينبغي أن يكون عليه الحال بالطبع بالنسبة للأجسام العيانية (الكبيرة)
macroscopic
التي نراها في الحياة اليومية العادية؛ فنحن نستطيع، مثلا، أن نعرف كلا من الموضع وكمية التحرك لقطعة حلوى متحركة بحجم حبة الفول، وذلك بدقة تامة كافية لكل الأغراض العادية. أما على المستوى الذري فإن مبدأ اللايقين يسري على نحو تام.
21
وقد أدلى «هيزنبرج»، بهذا المبدأ في صورة قانون طبيعي؛ حيث تخيل تجربة وهمية ومضمون هذه التجربة بسيط يحاول فيها العالم ملاحظة موضع وسرعة الإلكترون واتجاه حركته باستخدام مجهر عملاق للغاية يمكنه تكبير الإلكترون إلى حجم يمكن رؤيته، وأن الضوء المستخدم لإضاءة الإلكترون يجب أن يكون طول موجته قريبا من أبعاد الإلكترون، وحين تتدخل الأجهزة لتسجل ما يحدث كما هو في طبيعته؛ إما أن نقيس وضعه في المكان قياسا دقيقا، ولكن حينئذ لا نستطيع قياس سرعة حركته واتجاهها قياسا دقيقا. وإما أن نقيس سرعته قياسا دقيقا، ولكن ذلك القياس يعبث بالوصول إلى وضعه المكاني بالدقة المطلوبة.
22
وصل هيزنبرج إلى أن تحديد موضع وسرعة إلكترون في لحظة واحدة مستحيل؛ فالفيزيائيون يحددون خواص الإلكترون بدقة مناسبة بالاستنباط من خواص مجملة منها، ولكنهم عندما يحاولون تحديد مكان إلكترون معين في الفضاء، فخير ما يقال في هذه الحالة هو أن نقطة معينة من نقط تحركات موجات الإلكترونات كمجموعة تمثل الوضع المحتمل للإلكترون المعين - فالإلكترون عبارة عن بقعة غير محددة شأنها في ذلك شأن الريح أو الموجات الضوئية. وكلما قل عدد الإلكترونات التي يلاحظها الفيزيائي زادته مشاهدته حيرة وعدم تحديد.
23
ويؤكد هيزنبرج استحالة وصف إلكترون وصفا دقيقا، شارحا رأيه بأنه إذا اصطدم إلكترونان أ، ب يتألف منهما نقطة من السيل الكهربي
Drop of Electric Fluid
تلك التي تتفتت من جديد لتؤلف إلكترونين جديدين ج، د لأن الإلكترونين أ، ب لم يعد لهما وجود على الإطلاق.
24
إن المحاولة الني قام بها هيزنبرج الرامية إلى توضيح بعض الغموض الذي بقي عالقا بمسألة «انتقال» الإلكترون من مدار إلى آخر، ومسألة طبيعته عندما يكون خلال فترة «الانتقال» بين المدارين. وكانت إجابته عنها، كما يرى بعض الباحثين، بمثابة القطيعة الكبرى مع العلم القديم؛ ذلك أنها تضمنت القول بضرورة التخلي عن تصور الإلكترون كما لو كان جوهرا ماديا صغيرا يخضع لنفس القوانين التي خضع لها العالم المعتاد، وعلى ضرورة تصوره ك «شيء يوجد» بكيفية متأنية في مواقع مختلفة. ونتيجة ذلك، وضع هيزنبرج علاقات تمكننا من ضبط تعين المنظومة الذرية الحاصل عن «انتقال» الإلكترون من محطة إلى أخرى ضبطا احتماليا، وذلك بواسطة علاقات الارتياب، وهي علاقات أدى التعمق في بحثها ودراستها إلى الزيادة في تحديد الحدود الفاصلة بين الفيزياء الحديثة والفيزياء الكلاسيكية، وإلى رسم نقط القطيعة بين مفهومين مختلفين ونظريتين متعارضتين، وإلى التعمق في بنية الذرة. وأخذ العلماء يفحصون الجزئيات الدقيقة وحركاتها الكوانتية، ولاقوا صعوبة كبرى، وانتهوا إلى أنه من المتعذر الزيادة في دقة التنبؤ إن زدنا في دقة الملاحظة وضبط الأجهزة. ومعنى هذا أنه كلما زدنا في تدقيق بعض القياسات زادت دقتنا تلك في مقدار الخطأ المرتكب في القياس الآخر. وهذا ما قالت به علاقة الارتياب عند هيزنبرج، والتي يمكن إحصاء نتائجها فيما يلي: كلما كان قياسنا لموقع الجسيم دقيقا، أثر ذلك على كمية حركته وسرعته، وكلما كان قياسنا لكمية حركته دقيقا، تعذر علينا قياس موقعه بدقة خالية من الإبهام؛ ولهذا فإنه يستحيل استحالة مطلقة قياس موقع الجسيم وكمية حركته معا قياسا مضبوطا، أو بتعبير آخر يتعذر تعيين الموقع والسرعة الابتدائيين خلاف ما كانت تعتقد الفيزياء الكلاسيكية. وينتج عن هذا التعذر عدم إمكان معرفة موقع الجسيم وسرعته في الأزمنة اللاحقة؛ لذا فإننا إذا قسنا موقع جسيم ما وحركته في آن واحد كان حاصل الخطأ المرتكب في تعيين الموقع والحركة معا يساوي ثابت بلانك أو أكثر منه.
25
وقد استطاع هيزنبرج التوصل إلى هذه النتائج من دراسته للمناهج المختلفة المتبعة أو الممكن اتباعها لقياس موقع جسيم وقياس كمية حركته. وقد لاحظنا أننا كلما أردنا أن نعين موقع الجسيم لزمنا أن نعين تعيينا مضبوطا ودقيقا إحداثياته الثلاث، إلا أن كل ذلك يتطلب منا إضاءة الجسيم وتسليط نور قوي عليه. ويؤدي هذا الاحتكاك العنيف بينهما إلى حدوث اضطراب من نتائجه ازدياد نسبة الخطأ المرتكب لقياس حركته. إن سقوط فوتون ضوئي على إلكترون يضاء به، إذا كان الفوتون قوي الطاقة أي قصير الموجة، يؤدي إلى أن يصطدم به ويغير من حركته ويزيحه من موقعه الأصلي بناء على مفعول كمتون. ومن جراء ذلك، يحدث إبهام والتباس لا بد من الإذعان والخضوع له إذا أردنا قياس الموقع بدقة، أو القضاء عليه إن أردنا قياس السرعة والحركة بدقة، لكن سينتج من هذا الاتهام أنه سيميط بالموقع وهكذا باستمرار؛ فكلما أردنا أن نقيس موقع الجسيم وحركته معا، لا بد من أن نخضع لبعض الارتياب حول مقدار كل منهما، ولا بد في ذلك من ارتكاب خطأ تقريبي في قياس الموقع وارتكاب خطأ آخر في قياس كمية الحركة.
26
ثانيا: البعد الذاتي لمبدأ اللايقين
انقسم العلماء في مناقشتهم لمبدأ اللايقين في الفيزياء الحديثة بين كونه يمثل صفة موضوعية أم صفة ذاتية؛ فالقائلون بالصفة الموضوعية يؤكدون أن هذا المبدأ ناتج عن عمليات موضوعية خالصة؛ فأداة القياس أداة فيزيائية مركبة من عناصر فيزيائية تقوم بينها وبين الوقائع الفيزيائية ظواهر موضوعية دقيقة غاية الدقة هي التي يحددها تحديدا دقيقا مبدأ اللايقين أو عدم التحديد. أما القائلون بالصفة الذاتية في الفيزياء الحديثة فيعولون على تداخل أدوات القياس مع الظاهرة العلمية، وإن عملية القياس تعد تأثيرا ذاتيا أو انعكاسا إنسانيا على الطبيعة الخارجية بشكل يثير اضطرابا في العملية الفيزيائية ويجعل قياساتنا غير يقينية.
27
والقائلون بالصفة الذاتية يقفون طويلا أمام مبدأ عدم اليقين في فيزياء الكم متخذيه مثالا نمطيا لتداخل الذات الملاحظة في الموضوع «الملاحظ»، ودليلا على ذاتية الفيزياء الحديثة بوجه عام، وفيزياء الكم بوجه خاص؛ ولهذا يرون أن فيزياء الكم لا تصف حالة موضوعية في عالم مستقل، وإنما تصف مظهر هذا العالم كما عرفناه خلال وجهة نظر ذاتية معينة أو بواسطة وسائل تجريبية معينة.
28
وأصحاب هذه الصفة ينتمون إلى مدرسة كوبنهاجن
Copenhagen School ، وهذه المدرسة مكونة من جماعة من الفيزيائيين الألمان الذين تتلمذوا على يد «نيلز بور» (مدير معهد الفيزياء النظرية في كوبنهاجن) في العشرينيات. وكان «جان لويس ديتوش» (
Jean Louis Destouches ) وكرامر
Kramers ، وسلاتر
Slater ، وهيزنبرج من أحد أقطابها؛ فقد حاول هؤلاء أن يحلوا التناقضات الكثيرة بين صورة الموجة وصورة الجسيم عن طريق تصور موجة الاحتمال، وذهبوا إلى أن الموجات الكهرومغناطيسية موجات حقيقية تعطي احتمالية تواجد الجسيم في مكان أو آخر.
29
ولقد نزعت مدرسة كوبنهاجن في أول عهدها منزعا وضعيا منطقيا في أول عهدها؛
30
علاوة على إيمانها العميق باستحالة معالجة الظواهر الذرية بواسطة مفهوم الحتمية نظرا لعلاقات اللايقين، فهي تتخذ الطابع الاحتمالي للظواهر الكوانتية أساسا لنظرية تنكر الوجود المادي الواقعي على الجسيمات الذرية،
31
وتلجأ كما تلجأ الوضعية المنطقية الجديدة في الدفاع عن وجهة نظرها إلى تحليل اللغة، وكأن الوجود الواقعي يتوقف فقط على المفاهيم اللغوية.
32
كما أثارت مدرسة كوبنهاجن مجموعة من القضايا الإبستمولوجية منها قضية الذاتية والموضوعية في المعرفة العلمية، وبالأخص فيما يتعلق بالعالم المتناهي في الصغر. إن عدم خضوع الجسيمات الأولية للتحديد الدقيق، كما كشف عنه مبدأ اللايقين، يرجع فيه إلى تداخل آلات القياس تدخلا يجعل من الصعب الفصل في نتائج القياس بين ما يعود إلى الموضوع الملاحظ وما يرجع إلى عملية القياس وأدواته. هذا معطى من معطيات البحث العلمي في مرحلة معينة من تطوره؛ وبالتالي فلا يمكن إهماله. غير أن فكر مدرسة كوبنهاجن قام على فهم العلاقة بين الذات والموضوع فهما وحيد الجانب؛ حيث أكد دعاة تلك المدرسة على الصفة الذاتية في الفيزياء الحديثة، كما عولوا على تداخل أدوات القياس مع الظاهرة العلمية، وأن عملية القياس تعد تأثيرا ذاتيا أو انعكاسا إنسانيا على الطبيعة الخارجية بشكل يثير اضطرابا في العملية الفيزيائية ويجعل قياساتنا غير يقينية.
وبالتالي أنكرت مدرسة كوبنهاجن الصفة الواقعية-الموضوعية للشيء الفيزيائي الكوانتي (الدقائق الصغرى كالإلكترونات مثلا) نكرانا كليا أو جزئيا، وذلك بعد أن ركزوا على أن الظواهر التي يدرسها العالم لا تملك أي واقع فيزيائي موضوعي قائم بذاته وباستقلال عن طريق اختبارها وملاحظتها والقياس عليها؛ أي إنها لا توجد إلا بالنسبة لذات تختبرها وتجرب عليها؛ لذا فالقضايا العملية لا تشير إلى الواقع الموضوعي، بل إلى إجراءاتنا وطرقنا التجريبية؛ أي إن الظواهر لن يكون لها وجود موضوعي مستقل عمن يدركها، وهي في الأخير ليست سوى مركبات ذهنية من الإحساسات. وبهذا يعيدون إلى الأذهان سيرة «إرنست ماخ»، الذي يميز بين المعرفة الحسية؛ أي معرفة الواقع مثلما تمدنا به حواسنا، ومعرفة الواقع في ذاته التي هي معرفة مستحيلة؛ وبالتالي يعيدون المثالية الكانطية والتي لم يعمل ماخ سوى على تنقيتها وتطهيرها من الشوائب الميتافيزيقية العالقة بها، كفكرة الشيء في ذاته، حتى تمتزج بآراء هيوم وبركلي وتتفق معها.
33
وفي هذا يؤكد «هيزنبرج» أنه «يجب أن نلاحظ أن تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم ليس على الإطلاق وضعيا؛ فبينما تركز الوضعية على أن عناصر الواقع هي الإدراكات الحسية للمراقب، فإن تفسير كوبنهاجن يعتبر الأشياء والعمليات التي يمكن وصفها بلغة المفاهيم الكلاسيكية، نعني الواقعية، أساسا لأي تفسير فيزيائي. في نفس الوقت سنلاحظ أننا لا نستطيع تجنب الطبيعة الإحصائية لقوانين الفيزياء الميكروسكوبية؛ لأن أية معرفة عن الواقعي هي بذات طبيعتها معرفة ناقصة بسبب قوانين الكم النظرية.»
34
ومن ناحية أخرى فقد تمكنت مدرسة كوبنهاجن بزعامة بور وهيزنبرج أن تروج لتفسير مفاده استحالة معالجة الظواهر الذرية بواسطة مفهوم الحتمية؛ نظرا لعلاقات الارتياب واستحالة الاستمرار في الاعتقاد في الوجود المادي الواقعي والموضوعي للجسيمات الذرية. وبهذا المعنى يغدو من الصعب، في نظرها، الحديث عن «واقع»؛ لأن هذا الأخير في ميدان الذرة يختلف اختلافا أساسيا عن الواقع في الميدان الميكروسكوبي؛ أي في مستوى الظواهر التي نتعامل معها في حياتنا اليومية الاعتيادية. وانطلاقا من نفس الاعتبارات، نفوا أن تكون نتائج قياساتنا وتجاربنا في المستوى الذري نتائج موضوعية، نتيجة ما يؤدي إليه تدخل آلات القياس من تأثير على الظاهرة الملاحظة نفسها تأثيرا بارزا؛ حيث لا يكون للظاهرة الفيزيائية الملاحظة واقع فيزيائي إلا بالنسبة للآلة، أو لوسيلة إدراكه وقياسه.
35
وكان معظم ممثلي مدرسة كوبنهاجن يرفضون الحتمية بالمعنى الكلاسيكي الذي أرساه لابلاس، ويقولون بالطابع الإحصائي للقوانين العلمية مع إعطاء مفهوم اللايقين؛ إذ أضحى جل فكر معظم العلماء والفيزيائيين المتخصصين في ميكانيكا الكوانتم، منقادين وراء التفسير الفلسفي الذي اقترحته مدرسة كوبنهاجن لعلاقات اللايقين ولازدواجية الجسيم والموجة والتداخل القائم بين آلات القياس والظواهر، معتبرين أن اللاحتمية واقعة أساسية في الظواهر الكوانتية، وأن التداخل ينزع كل صبغة موضوعية عن الظواهر التي ندرسها وعن النتائج التي نحصل عليها من دراستنا؛ لهذا فإن الشيء أو الموضوع في نظرهم، لم يعد بالنسبة لنا سوى مجرد تركيب من الانطباعات أو الإحساسات التي يتدخل فيها عنصر الاعتباط والاختيار والذاتية، وهم يعتقدون انطلاقا من ذلك أن الاستمرار في القول بأن هدف العلم هو الاطلاع على حقيقة العالم الواقعي ليس سوى وهم أصبح يكذبه العلم الكوانتي.
36
ويؤكد تفسير كوبنهاجن على أن الملاحظة الإنسانية تؤدي إلى عدم اليقين في قياس الظواهر الفيزيائية. وهي كما يبدو دعوى بالذاتية في القياس العلمي بشرت به مدرسة كوبنهاجن (هيزنبرج-بور) التي لا تنتبه إلى أن التداخل الموضوعي بين عمليات القياس وبين الظواهر الفيزيائية يحدد بتحديد كمي لعدم التحديد أو عدم اليقين.
37
وهنا يذهب ديتوش، وهو أحد المناصرين لفكر مدرسة كوبنهاجن؛ يؤكد : «إن التصورات الديكارتية هي التي قادت إلى تلك الحتمية التي عرفها العلم الكلاسيكي. وعندما ظهر أن تطبيقها يؤدي إلى تناقضات، وأن التمسك الصارخ بالروح الوضعية يمنع من استعمال عناصر تتطلب، لكي تكون محددة بالفعل، القيام بعمليات لا يمكن إنجازها، كان لا بد من فحص الإمكانات المبدئية المتعلقة بالقياسات الفعلية فحصا دقيقا، والاقتناع بالتالي بأنه ليس في الإمكان قياس «حالة» منظومة ما بالمعنى الذي يفهم به القياس في الفيزياء الكلاسيكية؛ الشيء الذي يعني أنه لا يمكن تحويل «علاقات اللايقين» تحويلا عكسيا، ومن ثم التسليم بوجود لاحتمية أساسية.»
38
لهذا تنتهي مدرسة كوبنهاجن إلى إبطال صلاحية التصور الكلاسيكي للواقع على أنه أجسام، والقول بأنه تصور محدود بحدود ظواهر العالم المرئي الذي كانت تدرسه الميكانيكا، ولا يمكنه أن ينطبق على الميدان الميكروفيزيائي. كما تقول بضرورة إبطال صلاحية المنطق الأرسطي الذي نشأ في أحضان نظرة فلسفية جوهرية، باعتباره منطقا يعجز عن استيعاب المظهر التكاملي للظواهر الذرية كازدواجية الجسيم والموجة. وانطلاقا من التأثير الذي تمارسه أدوات وأجهزة قياسنا على الظاهرة المدروسة، قالت بضرورة الإقلاع عن إعطاء الآلة نفسها أو الظاهرة واقعا فيزيائيا قائما بذاته.
39
ولم تكتف تلك المدرسة بذلك، بل راحت تعلن رأيها حول الأحداث في العالم الصغير، وذلك على النحو التالي:
40 (1)
أن جسيمات العالم الصغير لا تكتسب صفة الواقع الموضوعي إلا حينما تسجل بواسطة جهاز مختبري، ويحس بها إحساسا ميكروسكوبيا (القياس أو الرصد). (2)
لا يمكن الفصل فصلا واضحا بين الراصد (الإنسان أو الجهاز) والمرصود (الدقيقة، الذرة)؛ أي بين الذات والموضوع، وأن المرصود ليس له واقع موضوعي مستقل عن الراصد. (3)
التفاعل بين الجسيم الصغير (الدقيقة الميكروسكوبية) وجهاز القياس يخلق اضطرابا في الجسيم لا يمكن السيطرة عليه أو معرفته مقدما. (4)
للراصد إمكانية الاختيار الحر بين ترتيبين مختبرين مختلفين يؤدي كل منهما إلى معلومات عن الجسم الميكروسكوبي تتنافى مع ما يؤدي إليه الترتيب الآخر، إلا أنهما تكملان بعضهما (مبدأ التكميلية). وفسر ذلك بأن الخواص التكميلية (الدقائقية أو الموجية) للدقائق الصغرى تتولد بتأثير الذات على الموضوع؛ ولذلك لا يستطاع معرفة الشيء (الموضوع في جوهره). وبهذا كانت ثنائية الدقيقة-الموجة وعلاقة اللايقين تفسران تفسيرا لا أدريا. (5)
الإحصاء والسببية أو الاحتمال والحتمية نقيضان يتنافى أحدهما مع الآخر تناقضا مطلقا. ولا يمكن التوفيق بينهما. وإن قوانين الميكانيك الكوانتي الإحصائية تعني اللاحتمية واللاسببية في أحداث العالم الصغير (الميكروسكوبي). (6)
واجب الفيزياء ينحصر في وصف الروابط بين الإحساسات وصفا شكليا. أما الواقع الموضوعي الذي هو مصدر تلك الإحساسات، وإمكان معرفة هذا الواقع، فينبذ من تفكير البعض باعتباره تأملات «غير ذات معنى».
وما يمكننا استخلاصه من هذه الاعتبارات التي قالت بها مدرسة كوبنهاجن، هو أن تقدم العلم جرد المادة من كيفياتها المادية، كما سلخ عنها الصبغة الواقعية التي قالت بها العقلانية الديكارتية بإمكان تحديدها بالشكل والحركة باعتبارها أجساما تتحرك في مكان معين. لقد تغير مفهوم النقطة المادية في الفيزياء الحديثة إذ لم تعد نقطة معينة في المكان تعيينا سكونيا، بل غدت مركزا لحركة دورية تنتشر حولها. وأن محاولة تحديد موقعه أو سرعته تقتضي إنشاءه ذهنيا بحيث إن صفاته يكتسبها من هذه المنظومة ذاتها؛ لهذا نقول بأن محاولة التغلب على الصعوبات التي طرحتها الإشكالية الكوانتية (في المرحلة الأولى) أدت إلى انفتاح آفاق جديدة للتفسير أمام العلم تثبت كلها الطابع الإنشائي التركيبي للعلم، وتؤكد على الصبغة الطرائقية لمفهوم «الشيء»؛ إذ الجسيم الملاحظ لا يعرف إلا في علاقته بالملاحظة وأداة الملاحظة. ومن نتائج ذلك أن بنية التفسير الميكروسكوبي استبعدت صلاحيتها، بل ظهر فشلها كأداة للتفسير في هذا المستوى الجديد من الظواهر؛ وبالتالي انهارت النظرة الكيميائية للذرة التي اعتبرتها جسيمات صلبة يمكن تحديد موقعها وسرعتها بالشكل والحركة. وفي نفس الوقت الذي تنهار فيه المقادير الديكارتية أمام علاقات الارتياب تؤكد نزعة العلم الطرائقية نفسها وتبين عن جداراتها، خصوصا وأن مفهوم الموقع والسرعة يتحول إلى مفهوم طرائقي وكأن تحديده ينتج عن علاقة الجسيم بمنظومة الملاحظ.
41
ويعتبر هيزنبرج من أقطاب مدرسة كوبنهاجن، والمتحدث الرسمي عن فكر تلك المدرسة، بل والمدافع عن فكرها؛ حيث راح يعلن أن: «الوصف الموضوعي للوقائع في الفضاء والزمان غير ممكن»؛
42
كما أنه: لا يمكن أن توجد «فيزياء موضوعية»؛ أي إن من الممكن وضع حد فاصل واضح بين الموضوعي والذاتي. وإن الفيزياء الذرية لا تعالج بنية الذرات، بل أحداثا نحس بها عند الرصد. وليس من الممكن جعل الرصد عملية موضوعية، ولا يمكن اعتبار نتائجه شيئا واقعيا بصورة مباشرة. وكتب: «تنحصر مهمة الفيزياء في وصف الترابط بين الإحساسات وصفا شكليا فقط. وبإمكاننا إيجاز الواقع الحقيقي كما يلي: بما أن جمع التجارب تخضع لقوانين الميكانيك الكوانتي، أصبح خطأ قانون السببية مثبتا إثباتا قاطعا.»
43
ومما يجلب الانتباه أن هيزنبرج لم يكن له موقف واضح ثابت من «الواقع الموضوعي»؛ فهو يكتب عن الذرة مثلا: «في الجوهر نجد أن الدقيقة الأولية ليست جسيما ماديا في الفضاء والزمان، إنما هي بشكل من الأشكال مجرد رمز تتخذ قوانين الطبيعة عند تقديمه شكلا سهلا واضحا ... إن خبرات الفيزياء الحديثة تبين لنا أن لا وجود للذرات كجسيمات بسيطة. إلا أن تقديم مفهوم الذرة يمكننا من صياغة القوانين التي تحكم المعطيات الفيزيائية والكيميائية صياغة سهلة.» ولكنه يكتب في نفس المقال: «إن الشرط المسبق للتدخل الفعال العلمي في العالم المادي والموجه لأغراض عملية هو المعرفة الواعية بالقوانين الطبيعية المصاغة بقالب رياضي.» وكتب في مكان آخر: «العلم يسأل بشكل من الأشكال محاولة لوصف العالم بالمدى الذي يكون فيه هذا العالم مستقلا عن فكرنا وعملنا. أما حواسنا فليست سوى وسيلة محدودة الكمال، تمكننا من اكتساب المعرفة عن العالم الموضوعي.»
44
لكن هيزنبرج في كتابه «الفيزياء والفلسفة»، يقدم لنا بعضا من أصرح ما رأيت من تأكيدات لهذا الموقف الذاتي الغير موضوعي؛ فهو يقول: «في التجارب التي تجرى على الوقائع الذرية علينا أن نتعامل مع الأشياء والحقائق، مع ظواهر لها نفس واقعية الحياة اليومية. لكن الذرات أو الجسيمات الأولية ذاتها ليست واقعية مثلها. إنها تشكل عالما من الإمكانات أو الاحتمالات لا عالما من الأشياء والحقائق.» توسم آراء أينشتين بأنها واقعية دوجماطيقية، وهي تمثل موقفا طبيعيا جدا في رأي هيزنبرج. والحق أن الغالبية العظمى من العلماء يدينون به. هم يعتقدون أن أبحاثهم تشير فعلا إلى شيء واقعي «يوجد هناك» في العالم المادي، وأن الكون المادي الشرعي ليس مجرد ابتكار من خيال العلماء. إن النجاح غير المتوقع للقوانين الرياضية البسيطة في الفيزياء يدعم الاعتقاد بأن العالم إنما يطرق واقعا خارجيا موجودا بالفعل. لكن هيزنبرج ينبهنا إلى أن ميكانيكا الكم قد بنيت أيضا على قوانين رياضية بسيطة ناجحة تماما في تفسير العالم المادي، غير أنها لا تتطلب أن لا يكون لهذا العالم وجود مستقل، بالمعنى الذي تقول به «الواقعية الدوجماطية». وعلى هذا فإن العلم الطبيعي ممكن بالفعل دون أساس من الواقعية الدوجماطية.
45
وهنا يعلن هيزنبرج عن موقف مدرسة كوبنهاجن من الواقع فيقول: «إن تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم يبدأ بمقارنة. إنه يبدأ من حقيقة أننا نصف تجاربنا بلغة الفيزياء الكلاسيكية، بينما نعرف في نفس الوقت أن هذه المفاهيم لا تلائم الطبيعة بدقة، والتوتر بين نقطتي البداية هاتين هو أصل الطبيعة الإحصائية لنظرية الكم. وعلى هذا فلقد اقترح أحيانا أن علينا أن نهجر المفاهيم الكلاسيكية تماما، وأن تغيرا جذريا في المفاهيم المستخدمة لوصف التجارب قد يرجع بنا إلى وصف للطبيعة غير إحصائي، وموضوعي تماما. على أن هذا الاقتراح يبنى على سوء تفهم. إن مفاهيم الفيزيقا الكلاسيكية هي مجرد تهذيب لمفاهيم الحياة اليومية، وهي جزء أساسي من اللغة التي تشكل الأساس لكل العلوم الطبيعية. إن موقفنا الواقعي في العلوم هو أننا نستخدم بالفعل المفاهيم الكلاسيكية لوصف التجارب. ولقد كانت مشكلة نظرية الكم هي أن نجد التفسير النظري للتجارب على هذا الأساس. لا فائدة ترجى من مناقشة ماذا يمكن عمله لو كنا كائنات أخرى غيرنا نحن. وهنا يجب أن ندرك - كما قال فون فايتسيكر - أن «الطبيعة أقدم من الإنسان، لكن الإنسان أقدم من العلوم الطبيعية». والفقرة الأولى من الجملة تبرر الفيزياء الكلاسيكية ومثلها الأعلى هو الموضوعية الكاملة. أما الفقرة الثانية فتخبرنا عن السبب في أننا لا نستطيع أن نهرب من مفارقة نظرية الكم، نعني حاجتنا إلى استخدام المفاهيم الكلاسيكية.»
46
ومن الملاحظ أن هيزنبرج هنا يعتبر الحديث عن عالم موضوعي واقعي تتمتع فيه أصغر الجسيمات بنفس الوجود الموضوعي الذي ننسبه للأجسام الميكروفيزيائية حديثا مستحيلا وغير مقبول؛ إذ الظواهر الميكروفيزيائية لا توجد إلا بالنسبة لذات تدركها وبالنسبة لآلة تقيس عليها؛ فوجودها يكمن في كونها مدركة ومختبرة من طرف عالم، ومن طرف منظومة بين الذات والموضوع الملاحظ نتيجة التداخل والتفاعل بينها؛ أي يعدو من غير الممكن اعتبار الظواهر تتمتع بوجود واقعي فيزيائي مستقل وموضوعي بالمعنى الاعتيادي للكلمة. بل تخلقه خلقا إراديا حرا تلعب فيه مبادرة العالم دورا أساسيا. كما يشكل فيه الاختيار عنصرا رئيسيا.
47
وفي الوقت الذي يدافع فيه هيزنبرج عن فكر وتوجه مدرسة كوبنهاجن، نجده يقدم عرضا لمفهوم السببية في ضوء ميكانيكا الكوانتم؛ حيث نراه يقول عن مبدأ السببية: «لقد درج الناس على القول، خلال السنين الأخيرة، إن العلم الذري قد أبطل مبدأ السببية أو على الأقل، أفقده قسطا من سلطته، وذلك إلى درجة أنه لم يعد من الممكن الحديث عن ضبط عمليات الطبيعة، بالمعنى الدقيق لكلمة ضبط، بواسطة قوانين. وأحيانا يقال فقط إن مبدأ السببية لا يسري مفعوله إلى علم الذرة الحديث.»
48
ويستطرد هيزنبرج فيقول: «لقد عمل العلم الذري منذ بداية نشأته على صياغة وتطور مفاهيم لا تتفق، والحق يقال، مع هذه الصورة التي رسمناها عن مبدأ السببية، ولكن هذا لا يعني أن هذه المفاهيم الجديدة تناقض الأسس التي قامت عليها تلك الصورة؛ فكل ما في الأمر هو أن طريقة التفكير الخاصة بالعلم الذي كان شائعا، لا بد أن تتميز منذ البداية، عن أسلوب التفكير الذي تقوم عليه الحتمية. لقد سبق لعلم الذرة القديم أن بنى تفسيره للكون على أساس فكرة الترابط الإحصائي بين العديد من العمليات الصغيرة المعزولة، فعمم هذه الفكرة وقدم لنا صورة عن العالم، قوامها أن جميع الكيفيات الحسية التي للمادة، يرجع السبب فيها بكيفية غير مباشرة، إلى وضعية الذرات وحركتها، يقول ديموقريطس: «لا يكون الشيء حلوا أو مرا إلا في الظاهر. أما في الواقع فلا وجود لشيء آخر غير الذرات والخلاء.» فإذا فسرنا هكذا الظواهر الحسية بواسطة تضافر العديد من العمليات الصغيرة المعزولة نتج من ذلك ضرورة، أننا نعتبر قوانين الطبيعة إحصائية لا غير. والحق أن هناك قوانين إحصائية.»
49
ثم يشرح هيزنبرج الطابع الإحصائي لنظرية الكوانتا قائلا: «على الرغم من أن المعرفة الناقصة بمنظومة ما كانت، منذ الاكتشافات التي توصل إليها كل من «جيبس» و«بولتزمان»، مندرجة في الصياغة الرياضية للقوانين الفيزيائية، فإنه لم يقع التخلي عن مبدأ الحتمية إلا بعد ظهور نظرية الكوانتا على يد بلانك. لم يجد بلانك في البداية سوى عنصر واحد يدل على الطابع المنفصل لظواهر الإشعاع التي كان يدرسها. لقد أثبت أن الذرة المشعة لا تصدر الطاقة بكيفية منفصلة على شكل صدمات. إن هذا الانفصال في إصدار الطاقة الذي يشبه تتابع الصدمات، قد أدى، مثله في ذلك مثل جميع المفاهيم المتعلقة بنظرية الذرات، إلى القول بالطابع الإحصائي لظاهرة الإشعاع. ومع ذلك كان لا بد من مرور خمس وعشرين سنة على اكتشاف الكوانتا حتى يصبح في الإمكان إثبات أن نظرية كوانتا، تحتم في الواقع إعطاء الصبغة الإحصائية للقوانين الفيزيائية، والتخلي عن مبدأ الحتمية؛ فمنذ أن ظهرت أبحاث أينشتين وبور وسومرفيلد بدا واضحا أن نظرية الكوانتا هي المفتاح الذي يفتح باب الفيزياء الذرية على مصراعيه. وكان النموذج الذري الذي قال به روتر فورد وبور خير مساعد على تفسير العمليات والتفاعلات الكيماوية مما سمح منذ ذلك الوقت بدمج الفيزياء والكيمياء والفيزياء الفلكية في واحد منصهر، وحتم التخلي عن مبدأ الحتمية المحض عن صياغة القوانين الرياضية للظواهر الطبيعية حسب نظرية الكوانتا.»
50
ومن هذا المنطلق شرع هيزنبرج في عقد مقارنة مذهب كانط والفيزياء الحديثة، حيث يقول: «... من اللحظة الأولى سيبدو مفهومه المحوري عن الأحكام التركيبية القبلية، وقد محقته اكتشافات هذا القرن (يقصد القرن العشرين). غيرت نظرية النسبية رؤيتنا للمكان والزمان، بل لقد كشفت في الحقيقة ملامح جديدة للزمان والمكان، ليس بينها ما نراه في صور كانط القبلية للحدس الخالص. لم يعد قانون العلية يطبق في نظرية الكم ولم يعد قانون حفظ المادة صحيحا بالنسبة للجسيمات الأولية. الواضح أن كانط لم يكن له ليتنبأ بالاكتشافات الحديثة. لكن لما كنت مقتنعا بأن مفهوماته ستكون الأساس لأي ميتافيزيقيا مستقبلية يمكن أن تسمى علما، فمن المشوق أن ترى أين كانت حججه خاطئة.»
51
ولم يكتف هيزنبرج بذلك، بل نراه يؤكد قائلا: «دعنا نأخذ قانون العلية كمثال. يقول كانط إنه حينما نلاحظ واقعة فإننا نفترض أن ثمة واقعة سبقتها لا بد للأخرى أن تنتج عنها حسب قاعدة ما. وهذا كما يقرر كانط أساس كل العمل العلمي. أما إمكانية أن نجد دائما هذه الواقعة السابقة من عدمه فهو أمر لا يهم بالنسبة لهذه المناقشة. والواقع أننا نستطيع أن نجدها في الكثير من الحالات. لكن حتى لو لم نستطع، فليس ثمة ما يمنعنا من أن نسأل عما قد تكونه، وأن نبحث عنها. وعلى هذا فقد تم تطويع قانون العلية إلى منهج البحث العلمي. إنه الشرط الذي يجعل العلم ممكنا، ولما كنا نطبق هذا المنهج بالفعل فإن قانون العلية قبلي ولا يشتق من الخبرة. فهل هذا صحيح في الفيزياء الذرية؟ فلنأخذ ذرة راديوم يمكنها أن تطلق جسيم ألفا، لا يمكن أن يتنبأ بالوقت الذي سيطلق في المتوسط في نحو ألفي عام. وعلى هذا فعندما نلاحظ الانطلاق فلن نبحث عن مثل هذه الواقعة، ولا يلزم أن تثبطنا حقيقة أن أحدا لم يلحظ حتى الآن مثل هذه الواقعة. لكن لماذا تغير المنهج العلمي بالفعل في هذه القضية الجوهرية بالذات منذ كانط.»
52
يستكمل هيزنبرج الحديث بقوله: «ثمة إجابتان محتملتان لهذا السؤال. الأولى منهما هي: لقد أقنعتنا الخبرة أن قوانين نظرية الكم صحيحة، فإذا كانت كذلك، فإننا نعرف أننا لن نجد واقعة سابقة تعلل انبعاث الجسيم في وقت معين. أما الإجابة الثانية فهي: إننا نعرف الواقعة السابقة، لكن ليس بشكل دقيق تماما. إننا نعرف القوى في النواة الذرية المسئولة عن إطلاق جسيمات ألفا. لكن هذه المعرفة تحمل اللامحققية الناجمة عن التفاعل بين النواة وبين بقية العالم. فإذا أردنا أن نعرف السبب في إطلاق جسيم ألفا في ذلك الوقت المعين فمن الضروري أن نعرف التركيب الميكروسكوبي للعالم بأكمله بما فيه أنفسنا، وهذ أمر مستحيل؛ ولهذا فلم تعد حجج كانط للصفة القبلية لقانون العلية قابلة للتطبيق هنا.»
53
إن قول هيزنبرج باللاحتمية والذاتية في الفيزياء الحديثة استنادا إلى احتمالية هذه الوقائع وإحصائية قياسها، قد فتح باب الاجتهاد لوضع تفسيرات ميتافيزيقية للكون الذري، وأول هذه التفسيرات هو القول بنظرية في الحرية الإنسانية استنادا إلى فكرة اللاحتمية. والعلماء الذين يذهبون هذا المذهب يحددون المسألة على هذا النحو: لا يمكن أن توجد سيطرة حتمية كاملة على الظواهر غير الحتمية ما لم تكن الحتمية مسيطرة على الذهن نفسه، وعلى العكس من ذلك لو أردنا أن نحرر الذهن فينبغي إلى حد ما أن نحرر العالم المادي كذلك.
54
ويبرر هؤلاء العلماء موقفهم هذا من خلال مقارنتهم بين ميكانيكا نيوتن وميكانيكا الكوانتم؛ فالأولى قد ضربت على الكون ستارا حديديا من الحتمية الآلية الصارمة، التي تعبر عن سيطرة الضرورة العقلية على الطبيعة والإنسان على السواء؛ فكل شيء مقدر له سلفا وبنوع من الضرورة، ماذا سيكون عليه في المستقبل. وهكذا عاش الإنسان في ظل حتمية نيوتن أو السببية الضرورية كما لو كان يختنق؛ فكل ما يحدث لا بد له من سبب، فإذا عرف السبب كان كالقضاء المبرم الذي لا راد له، بحيث يتحتم على الشيء أن يحدث. وقد أحسن كل من اسبينوزا وكانط التعبير عن هذه الحتمية كل بطريقته الخاصة. وبينما كان كانط على استعداد للتضحية بالضرورة الإبستمولوجية من أجل الأخلاق، كان ديكارت قد سبقه إلى ذلك، حينما قرر أن الإرادة أوسع من الذهن؛ أي إن الإرادة الحرة لا تخضع لمنطق التفكير الرياضي.
55
وعلى العكس من ذلك، جاء مبدأ اللاتحديد عند هيزنبرج ليفك الحصار الذي ضربته حتمية نيوتن على الكون بما في ذلك الإنسان. والأساس المنطقي الذي يعتمد عليه هذا اللاتحديد هو نظرية الاحتمالات، بمعنى أن حتمية نيوتن قد قامت على فكرة المسار الثابت والذي يحتم الجمع بين الموضع والسرعة بالنسبة للشيء المتحرك، ولكن بناء على معادلة هيزنبرج على هامش الخطأ، فمن المستحيل الجمع بين الدقة الكاملة في قياس الموضع والسرعة بالنسبة لحركة الإلكترون، فيقول بعض الباحثين: «إن تركيب الأجهزة لقياس إحداثيات الإلكترون (أي موضعه المكاني) يحول آليا دون وضع المعدات المطلوبة لقياس سرعته في المكان نفسه، والعكس صحيح؛ فعملية القياس ذاتها تحدث في وضع الإلكترون تغيرا لا سبيل إلى التنبؤ به. وهكذا حاول البعض استثمار مبدأ اللاتحديد بطريقة ميتافيزيقية ليؤكد بها حرية الإرادة الإنسانية، بالرغم أن منهم علماء يعرفون حدود العلم، وبالرغم من أن هيزنبرج لم يرتق ببحوثه إلى الإنسان، فقد ذهب «بافينك» و«إدنجتون»، كل منهما على حدة، إلى تفسير عجز العلماء عن التنبؤ بأي الإلكترونات هو الذي سيقفز من مداره، وإلى أي المدارات سيتجه، نقول تأولوا ذلك بأن الإلكترون «حر» في أن يقفز متى وأنى شاء. أفيكون الإنسان وإرادته أقل حرية من الإلكترون؟»
56
ولكي نفهم وقع نظرية الكم على تصورنا العام للكون فهما واضحا، فقد يحسن بنا ألا نسأل الفلاسفة والعلماء، وأن نسأل الكتاب الأدباء، الذين عبروا عن مشاعر القرن العشرين. كتب جورج برنارد شو يقول: «إن العالم الذي بناه إسحاق نيوتن، والذي ظل القلعة المنيعة للمدينة الحديثة على مدى ثلاثمائة عام قد تهاوى أمام نقد أينشتين كما تهاوت جدران المعبد. كان عالم نيوتن يمثل معقل المذهب العاقل للحتمية؛ فالكواكب في مداراتها تخضع لقوانين ثابتة لا تتغير، وكذلك تخضع الإلكترونات في مدارها في الذرات لنفس القوانين العامة. إن كل لحظة من لحظات الزمن تحكم اللحظة التي تليها ... إن كل شيء يمكن حسابه، وكل ما وقع كان حتما أن يقع. لقد أزيلت الأوامر من فوق مائدة القوانين، وحل محلها علم الجبر الجاري؛ معادلات الرياضيين.»
57
ويصف «برنارد شو» بعد ذلك الإنسان الحديث، حيث أصبحت لديه فيزياء نيوتن بديلا للدين التقليدي. ويستطرد «برنارد شو» قائلا: «هنا كان إيماني، وهنا وجدت عقيدتي في العصمة من الخطأ. وأنا الذي ازدريت الكاثوليكي وهو يحلم هباء بالإرادة الحرة المسئولة، مثلها ازدريت البروتستانتي بتظاهره بالحكم المتميز.» ويصف «شو» بعد ذلك كيف تهشم هذا الدين البديل بواسطة الفيزياء الذرية ونظرية الكم في القرن العشرين. يستطرد «شو» قائلا «والآن - الآن - ماذا يبقى من ذلك؟ إن مدار الإلكترون لا يخضع لقانون، فهو يختار مسارا وينبذ مسارا آخر؛ فكل شيء يسير على هواه، والعالم الذي كنت تستطيع الاعتماد عليه فيما مضى لم يصبح موضعا للاعتماد عليه.»
58
ولكي نفهم على نحو أكثر تحديدا الفائدة من استخدام تماثلات الفطرة السليمة في التفسيرات الميتافيزيقية لمبدأ اللايقين في الفيزياء الذرية، يجب أن ندرس مثالا ورد في كتيب لبرنارد بافنك، وهذا المثال يعود إلى القوانين التي تحكم انتقال الإلكترون من أحد المدارات حول نواة الإيدروجين إلى مدار آخر. وتحدد لنا قوانين ميكانيكا الكم ما هي المدارات التي يمكن أن يتحرك فيها الإلكترون حول النواة، غير أنه إذا كان هناك إلكترون معين يدور حول نواة الذرة، فليس هناك قانون يحدد لنا تحديدا دقيقا، وفي كل لحظة، ما الذي سيفعله هذا الإلكترون في اللحظة التالية، هل سيقفز إلى مدار آخر أم لا يفعل؟ وتستطيع النظرية أن تحدد فقط متوسط عدد الإلكترونات التي تقفز في الثانية التالية، ولكنها لا تستطيع أن تحدد ما إذا كان إلكترون معين سوف يقفز أم لا. ويعطي بعض الباحثين تفسيرا لهذا الوضع قائلا: «يجب أن نتذكر أولا أن الفعل الأولي المفرد (القفزة) لا يمكن حسابه على هذا النحو، ولكنه يترك حرا؛ وأن نتذكر ثانيا أن الجوهر الحقيقي لهذه الحرية ربما كان حدثا فيزيائيا ... وبعبارة أخرى، إن الاختيار «الحر» للفعل الأولي، والذي لا تحدده الفيزياء، لا وجود له في الواقع إلا كجزء من «خط» أو «هيئة»؛ أو هو جزء من مجموعة متسلسلة من الهيئات والأشكال الأرقى يمتص دائما الشكل المختلف ليصنع منه تركيبا أعلى ... والجديد في الأمر هو أن الفيزياء تقترح اختبار هذه الفكرة.»
59
وتتضح الخاصية التماثلية لهذا التفسير في هذه الحالة؛ فبما أن قواعد ميكانيكا الأمواج لا يمكن صياغتها بلغة الفطرة السليمة، فإن المؤلف يقارن سلوك الإلكترون بسلوك الكائن الحي «الحر» في اختيار ما يفعله في اللحظة التالية. وقد استخدمت كلمة «حر» هنا في لهجة الفطرة السليمة الغامضة التي بمقتضاها نصف ما يفعله الكائن الحي بأنه فعل «حر» لأننا لا نعرف القواعد التي نستطيع أن نحدد بها ما سوف يفعله في اللحظة التالية. وبعد أن ترسخ وجود الحرية «الحرية» في العالم الفيزيائي فإن المرء يستخدم هذه «الحقيقة» لكي يصبح من المعقول أن تكون القرارات البشرية قرارات «حرة»؛ فمن المؤكد أن الإنسان لا يمكن أن يكون أقل تحررا من الشيء الفيزيائي غير الحي. وقد كان تبرير مذهب الإرادة الحرة بواسطة الفيزياء الذرية واحدا من الأسباب التي أعلن من أجلها مرارا أن الفيزياء قد صارت اليوم أكثر تآلفا مع الدين التقليدي عما كانت عليه لقرون مضت.
60
وبطبيعة الحال، يجب أن نذكر أن نصوصا مثل: «أدخلت التقدمات الأخيرة في الفيزياء عوامل عقلية في العلم.» أو «إن العلوم الحديثة تبرر مذهب «الإرادة الحرة».» هي نصوص لا تتحدث عن الفيزياء من «الوجهة العلمية». إنها في الواقع تتناول التفسيرات الميتافيزيائية للنظريات الفيزيائية الأخيرة، ولكي نحدد المعنى الدقيق لهذه النصوص يجب أن نقول: إن الفيزياء المعاصرة قد تعرضت لتفسير ميتافيزيائي، وطبقا لهذا التفسير يعتبر الإلكترون ناتجا عن قوى روحية، كما أنه في قفزة من مدار إلى مدار، إنما يمارس عملا من أعمال الإرادة الحرة؛ ومن ثم فإن علينا أن نتساءل عما إذا كانت الميكانيكا النيوتونية لا تستطيع أن يكون لها تفسير ميتافيزيائي يرخص بإدخال القوى الروحية والإرادة الحرة إلى الفيزياء. وبما أن كل هذه التفسيرات هي في الأساس عرض لتماثلات من الفطرة السليمة للنظريات الفيزيائية فيمكننا فقط أن نتساءل عما إذا كان من الأقرب إلى «الطبيعة» أو إلى «الفطرة السليمة» أن نفسر ميكانيكا الكم بواسطة القوى الروحية وألا نفعل ذلك بالميكانيكا النيوتونية.
61
والحقيقة، أن هؤلاء الذين دافعوا عن الحرية الإنسانية بمنطق العلم، سيان من العلماء أو الفلاسفة أو حتى من رجال الدين، لم يكن هدفهم هدم الحتمية في العلم أو التهليل للاحتمية، بل فقط تأكيد أن الظواهر لها قوانينها الخاصة المختلفة عن قوانين المادة الصماء. وإنه إذا كانت هناك حتمية فمحلها العالم الفيزيائي. ولا تسري على الباطن الإنساني. وإنه لجدير بنا عدم الخلط بين حقائق العلم المتغيرة وحقائق النفس الثابتة؛ فها هو فالتون شين (أحد رجال الدين الكاثوليك) يقول إن القديس توما الأكويني يؤكد أن التغير في العلم التجريبي لا يستتبع تغيرا في الميتافيزيقيا التي تحكم هذا العلم، ما دامت الفلسفة مستقلة عن العلم. ونحن لو نظرنا للنتائج التي انتهت إليها نظرية الكوانتم ومبدأ اللاتحديد، فلن نجد فيها ما يبرهن على عدم خضوع الحوادث الفيزيائية لمبدأ السببية؛ أي إن المدافعين عن الحرية الإنسانية استثمروا جهل العلماء بالظروف المحيطة بالإلكترون والتي تدفعه لتغيير مداره في تأكيد اللاحتمية.
62
من أجل ذلك فمن العبث أن نبحث عن سند فيزيائي لحرية الإرادة؛ لأنها مشكلة الفلسفة في المقام الأول، وليست مشكلة الفيزياء. وهذا ما أكده أحد الفلاسفة الهنود كانتا براهما
N. K. Brahama
وبنفس حجة شين عن استقلال الميتافيزيقا عن الفيزيقا، فيقول معقبا على المحاولات الخاطئة لاستخلاص الحرية الإنسانية من نتائج العلم: «ثم ماذا يمكن أن يحدث فيما لو فاجأتنا تجارب المستقبل بأن اللاحتمية التي يفترض وجودها في حركة الإلكترون، لا وجود لها حقيقة، ألن تجد الفلسفة نفسها عاجزة عن تبرير موقفها، فيما لو أخذت الآن برأي إدنجتون؟! إن الحرية وسائر الحقائق الميتافيزيقية الأخرى لا يمكن البرهنة عليها في عالم الظواهر الذي تسيطر عليه مقولات المكان والزمان والسببية.»
63
ثالثا: البعد الموضوعي لمبدأ اللايقين
إذا كانت مدرسة كوبنهاجن، قد استطاعت بزعامة «بور» و«هيزنبرج» و«ديتوش»، أن تروج لتفسير مفاده استحالة معالجة الظواهر الذرية بواسطة مفهوم الحتمية نظرا لعلاقات الارتياب واستحالة الاستمرار في الاعتقاد في الوجود المادي الواقعي والموضوعي للجسيمات الذرية، وبهذا المعنى يغدو من الصعب، في نظرها، الحديث عن (واقع) لأن هذا الأخير في ميدان الذرة يختلف اختلافا أساسيا عن الواقع في الميدان الميكروسكوبي؛ أي في مستوى الظواهر التي نتعامل معها في حياتنا اليومية الاعتيادية، فإنه انطلاقا من الاعتبارات نفسها، نفوا أن تكون نتائج قياساتنا وتجاربنا في المستوى الذري نتائج موضوعية، نتيجة ما يؤدي إليه تدخل آلات القياس من تأثير على الظاهرة الملاحظة نفسها تأثيرا بارزا؛ حيث لا يكون للظاهرة الفيزيائية الملاحظة واقع فيزيائي إلا بالنسبة للآلة، أو لوسيلة إدراكه وقياسه.
64
ولقد قوبلت هذه الآراء بالترحاب الكبير من طرف كبار العلماء، بل كان لها تأثير فلسفي قوي عليهم؛ فلويس دي بروي انساق تحت تأثيرهم، منذ تاريخ انعقاد سولفي الخامس (1927م) بباريس حتى سنة 1951م، في تفسير احتمالي محض للميكانيكا الكوانتية ونتائجها، والتزم حرفيا بآراء بور وهيزنبرج، وهو ما جعله يتخلى عن آرائه الأولى المناصرة للحتمية الكلاسيكية،
65
ويعتنق آراء مدرسة كوبنهاجن هي حذاقة حجج بور ودقة وفطانة براهينه. وانساق الحاضرون في المؤتمر وراءه هو وهيزنبرج ما عدا أينشتين الذي أعلن عن عدم رضاه عن الاتجاه الاحتمالي؛
66
مؤكدا أنه يوجد عالم واقعي وموضوعي خارجا عن الذات وباستقلال عنها، كما أن معرفتنا به معرفة موضوعية لا تتطلب إدراكه في الإحساس والخبرة فقط، بل بالأساس إنشاءه عقليا وإعادة بنائه؛
67
ففي خطاب وجهه أينشتين إلى ماكس بورن في 30 ديسمبر سنة 1947م، يقول: «لقد أدى بنا تطور العلم إلى أن أصبح كل منا على طرف نقيض من الآخر (أنت تؤمن بإله يلعب بالنرد، أما أنا فأومن بوجود قواعد دقيقة وقوانين يخضع لها الكون خضوعا موضوعيا ...)، فالاحتمال الذي تتضمنه الفيزياء الكوانتية الإحصائية لا ينبغي أن ينسينا أن العلم لا يمكنه التخلي عن فكرة خضوع الظواهر للقانون؛ فالإحصاء ليس يمثل حلا نهائيا لمشكل تحديد حركة الجسيمات الدقيقة . يقول أينشتين: «لا يمكنني أن آخذ بالنظرية الإحصائية بصورة جدية؛ لأنها تتعارض مع المهمة الأساسية للفيزياء؛ أي وصف الواقع في المكان والزمان (...) وإني مقتنع تمام الاقتناع بأننا سننتهي بنظرية تكون الروابط والعلاقات فيها حقائق لا احتمالات؛ فالصفة الإحصائية للنظرية الكوانتية الراهنة، ناتجة بالضرورة عن عدم كمال وصفنا للمنظومات الملاحظة، فلا مبرر يدعونا إلى الاعتقاد بأن أساس الفيزياء سيبقى مستقبلا هو الاحتمال. وإن هيزنبرج وديتوش وغيرهما باعتقادهم أن فكرة اللاحتمية في الفيزياء الكوانتية هي لاحتمية صميمة، يغفلون مسألة أساسية وهي أن النظرية الكوانتية القائمة ، لا تمثل سوى مرحلة انتقالية من تطور العلم، ولا يمكن التشبث بها كمنطق أكيد ونهائي لتطور الفيزياء اللاحق؛ فالاحتمال لا يمكن أن يكون أساسا لتطور الفيزياء. وتبقى دائما هناك إمكانية التوصل مستقبلا إلى نظرية نستطيع بواسطتها الإفصاح عن حركة الجسيمات الدقيقة منفردة بواسطة دالة متصلة زمانيا ومكانيا.»
68
وانطلاقا من هذا المنظور، انتقد أينشتين تفسير كوبنهاجن لميكانيكا الكم الذي يناصره هايزنبرج، والذي يوقعنا في رفض الواقع الموضوعي لعالم الكم؛ بمعنى أن أينشتين يرفض مثلا أن يكون للإلكترون موقع محدد تماما وكمية حركة محددة تماما في غياب ملاحظة فعلية لموقعه أو لحركته (ولا يمكن أن يكون لكليهما سويا في نفس الوقت قيم قاطعة). وعلى هذا فلا يمكن أن نعتبر الإلكترون أو الذرة شيئا صغيرا بالمعنى الذي تكون فيه كرة البلياردو شيئا. إن كلامنا يكون بلا معنى إذا نحن تحدثنا عما يفعله إلكترون بين ملاحظتين؛ لأن الملاحظة وحدها هي التي تخلق واقع الإلكترون. وعلى هذا فإن قياس موقع إلكترون ما يخلق «إلكترونا له موقع»، وقياس كمية حركته يخلق «إلكترونا له ذا حركة» لكنا لا نستطيع أن نعتبر هذا الكيان أو ذاك موجودا بالفعل قبل أن نجري القياس.
69
وفي مقابل ذلك نجد أن صورة العالم الكلاسيكي التي يعتنقها أينشتين في حماس هي صورة تنسجم جيدا مع العقل العام بتأكيدها الواقع الموضوعي للعالم الخارجي. وهي تسلم بأن ملاحظاتنا بالضرورة تقتحم ذلك العالم وتقلقه، لكن هذا الإقلاق ليس سوى اتفاق عرضي يمكن التحكم فيه وتقليله. ثم إن هذه النظرة تعتبر العالم الصغير مختلفا في المدى، لا في مرتبة الوجود، عن عالم الشهادة الكبير؛ فالإلكترون صورة مصغرة من كرة بلياردو عادية، ويشترك مع هذه الأخيرة في مجموعة كاملة من الخصائص الدينامية، مثل صفة الوجود في مكان ما (نعني أن لها موقعا) والحركة في مسار معين (نعني أن لها كمية حركة)؛ فملاحظاتنا في العالم الكلاسيكي لا تخلق الواقع وإنما تكشفه. وعلى هذا تظل الذرات والجسيمات موجودة تحمل صفات محددة تماما حتى لو لم نكن نلحظها.
70
ومن هذا المنطلق شرع أينشتين يدعو إلى استبعاد المنهج الاحتمالي كأساس للفيزياء النظرية بوجه عام، نتيجة لربطه جوهر الفيزياء النظرية بالوصف الفردي الكامل؛ ولهذا كان على الفيزياء أن تبحث لها عن أساس جديد. إن أينشتين يتحرك كما يرى بعض الباحثين في إطار عقيدي خالص؛ فهو يدرك ويسلم بأن قانونية الطبيعة مركبة بحيث يمكن لقوانينها أن تصاغ صياغة كاملة وملائمة في إطار وصفنا غير الكامل، أو يسلم بأن الوصف الإحصائي للظواهر إنما هو وصف كامل لها، وهذا يعني أن هذه الظواهر إحصائية في جوهر تركيبها. إن أينشتين يسلم بهذه الوجهة من النظر، ولكنه يعتقد أن من الضروري البحث عن منهج آخر غير إحصائي، منهج يمكن به وصف الأنظمة الفردية وصفا كاملا؛ فأينشتين يرى أن معرفة الحركة الفردية هي أساس للعلم النظري، معرفتها لا في علاقتها بالأفراد الآخرين. وإنما من حيث إنها عالم مستقل كامل. ولما كانت هذه المعرفة غير قائمة في الفيزياء الحديثة، رفض هذه الفيزياء، واعتبرها مرحلة موقوتة بل لعبة من ألعاب زهرة النرد «لا يمكنه أن يقتنع بها».
71
وهنا نلاحظ أن أينشتين قد راعته فكرة اللاتنبؤية المتأصلة في العالم الفيزيقي ليرفضها في غير تحفظ بمقولته الشهيرة «إن الإله لا يلعب النرد مع الكون» فكان يرى أن ميكانيكا الكم قد تكون صحيحة في حدودها، لكنها بالرغم من ذلك ناقصة ولا بد من وجود مستوى أعمق من متغيرات دينامية مخبوءة تؤثر في النظام، وتضفي عليه لاحتمية ولاتنبوءية، في الظاهر لا أكثر . لقد أمل أينشتين أن توجد تحت فوضى الكم صيغة غاية في الدقة من عالم مألوف حسن السلوك من الديناميكا الحتمانية. ولقد عارض هايزنبرج ونيلز بور، وبقوة، محاولة أينشتين للتشبث بهذه النظرة الكلاسيكية للعالم. وامتد الجدل الذي بدأ في أوائل ثلاثينيات هذا القرن لسنين طويلة، كان أينشتين أثناءها يهذب من اعتراضاته ويعيد صياغتها. كان أكثر هذه الاعتراضات ثباتا هو ما اقترحه مع بوريس بودولكسي وناثان روزين عام 1935م، وهو ما يطلق عليه عادة اسم «أ ب ر» (والواقع أنه ليس ثمة مفارقة حقيقية). تتعلق هذه المفارقة بخصائص نظام من جسيمين يتفاعلان ثم يفترقان وينطلقان بعيدا عن بعضهما مسافة طويلة. تقول ميكانيكا الكم إن النظام يبقى كلا لا يتجزأ بالرغم من انفصال الجسيمين في الفضاء، والمتوقع أن تبين القياسات المتزامنة التي تجرى على الجسيمين المتلازمين (تدل على) أن كل جسيم يحمل (بمعنى يمكن تحديده تحديدا رياضيا جيدا) أثرا لنشاطات الآخر. يحدث هذا التعاضد بالرغم من قيود نظرية النسبية الخاصة لأينشتين نفسه والتي ترفض أي اتصال فوري مادي بين الجسيمين؛ فقد كان أينشتين يرى أن نظام الجسيمين يوضح القصور في ميكانيكا الكم؛ ذلك أن المجرب عندما يجري القياسات على الجسيم الثاني وحده (وهو ما يعني في الواقع استخدام هذا الجسيم بالإنابة كوسيلة للحصول على بيانات عن الجسيم الأول) فقد يستنبط حسب هواه موقع الجسيم الأول في تلك اللحظة أو كمية حركته. يقول أينشتين إن هذا بالتأكيد يعني ضرورة إضفاء قدر من الواقع في تلك اللحظة على الجسيمين كليهما؛ لأن الباحث يستطيع أن يدنو من أي منهما (لا كليهما) مستخدما نظام قياس لا يمكن أن يقلق الجسيم موضع الاهتمام (بسبب قيد سرعة الضوء).
72
ومن جهة أخرى رفض أينشتين اتخاذ مبدأ عدم اليقين في فيزياء الكم مثالا نمطيا لتداخل الذات الملاحظة في الموضوع «الملاحظ»، ودليلا على أن فيزياء الكم لا تصف حالة موضوعية في عالم مستقل، وإنما تصف مظهر هذا العالم كما عرفناه خلال وجهة نظر ذاتية معينة أو بواسطة وسائل تجريبية معينة؛ فخلافا لمدرسة كوبنهاجن ، لم يذهب أينشتين إلى التشكيك في الواقع الموضوعي، كما لم يربطه بالذات الملاحظة وبأدوات القياس. لقد كان على أتم اقتناع بحتمية الظواهر الكونية كبيرها وصغيرها، وبأن الاحتمال لا يعكس خاصية صميمة لمجال الظواهر اللامتناهية في الصغر، بل يعكس جهلنا أمامها، وبإمكان تحديد الظاهر تحديدا حتميا في المكان والزمان.
73
ويذكر عالم الفيزياء «جورج جاموف» أن أينشتين كان ضمن المجموعة التي انتقدت مبدأ اللايقين؛ إذ لم تسمح فلسفته (التي تركزت في تحديد الأشياء) بالسمو بعدم التثبت (اللايقين) إلى مرتبة المبادئ. وكما كان حساده يحاولون إيجاد متناقضات في نظريته الخاصة بالنسبية، حاول أينشتين اكتشاف المتناقضات في مبدأ عدم التثبت الخاص بفيزياء الكم. ومهما يكن من شيء فقد أدت مجهوداته هذه إلى تقوية مبدأ عدم التثبت. ومن الأمثلة الرائعة التي حدثت مصادفة وكانت تدل على ذلك، ما حدث في المؤتمر الدولي السادس للفيزياء الذي انعقد في بروكسل عام 1930م؛ فقد أجرى أينشتين - في أثناء نقاش كان يحضره بور - «تجربة ذهنية» تبين أن الزمن إحداث رابع للمكاني-الزمني، وأن الطاقة مركبة رابعة لكمية التحرك (كتلة في السرعة)، فقال إن معادلة عدم التثبت لهيزنبرج تتطلب أن يتوقف عدم التثبت في الزمن على عدم التثبت في الطاقة، وأن حاصل ضرب الكميتين يساوي على الأقل ثابت بلانك. ه. وراح أينشتين يحاول إثبات خطأ ذلك، وأن الزمن والطاقة يمكن تحديدهما من غير عدم التثبت بتاتا، فقال: خذ مثلا صندوقا مثاليا تبطنه من الداخل مرايا مثالية بحيث يستطيع الإبقاء على طاقة الإشعاع إلى ما لا نهاية من الوقت. عين وزن الصندوق. وبعد فترة تبدأ ساعة ميكانيكية سبق ضبطها - كما تضبط القنبلة الذرية - العمل على فتح بوابة مثالية لينطلق منها بعض الضوء. وبعد ذلك عين وزن الصندوق مرة أخرى. وبطبيعة الحال يكون التغير في الكتلة دليلا على طاقة الضوء التي تم إشعاعها وانبعاثها. وذهب أينشتين أنه يمكن بهذه الوسيلة قياس الطاقة المنبثقة والزمن الذي يتم فيه ذلك إلى أي درجة نريدها من الدقة، مما لا يتفق مع مبدأ التثبت. وفي صباح اليوم التالي، بعد قضاء ليلة ساهرة أذاع بور كلمة هادمة لبرهان أينشتين العكسي، وتقدم بتجربة فكرية مضادة استخدم فيها جهازا مثاليا خاصا به وقد بناه لتفنيد تجربة أينشتين.
74
وبصرف النظر عن نجاح تجربة أينشتين الذهنية من عدم نجاحها، إلا أنها لم تغير من رأيه في مبدأ اللايقين بأنه ناتج عن «عمليات موضوعية خالصة، وأن أداة القياس أداة فيزيائية مركبة من عناصر فيزيائية تقوم بينها وبين الوقائع الفيزيائية ظواهر موضوعية دقيقة غاية الدقة هي التي يحددها تحديدا دقيقا مبدأ اللايقين أو عدم التحديد .»
75
ومن هنا شرع أينشتين يقدم مجموعة من الأدلة النظرية لنقد مبدأ اللايقين من خلال مناقشته نقده لميكانيكا الكم التي اتهمها بالذاتية والقصور؛ فقد أكد أن ميكانيكا الكم كأي جانب آخر من الفيزياء لا تتعلق إلا بالعلاقات بين موضوعات فيزيائية. وكافة قضاياها وتعبيراتها إنما تصاغ بدون أي إشارة إلى ملاحظ. والاضطراب الذي يحدثه الملاحظ .. مسألة فيزيائية بأكملها ولا تتضمن أي إشارة إلى تأثيرات صادرة من الكائنات الإنسانية من حيث إنهم ملاحظون. إن أداة القياس تحدث اضطرابا لا لأنها أداة يستعين بها ملاحظون من البشر، ولكن لأنها شيء فيزيائي ككل الأشياء الفيزيائية؛ فلقد رأينا عن طبيعة قياس موضع الإلكترون وسرعته، أنه لتحديد الموضع يستخدم شعاع ضوئي، ولكن هذا الشعاع نفسه مكون من فوتونات وبمقتضى الطول الموجي للشعاع تصطدم هذه الفوتونات بالإلكترونات وتغير من سرعته. كذلك الحال في حالة قياس السرعة. وعلى هذا فليست المسألة إذن تأثير ملاحظ أو ذات على العمليات الفيزيائية. وليس استخلاص حكم بعدم يقين علمي، نتيجة لتدخل الذات. وإنما هو شكل من أشكال التحديد الموضوعي للتداخل بين ظواهر فيزيائية خالصة. وعدم اليقين هذا ليس إلا نتيجة للتداخل الضروري بين عوامل فيزيائية متعددة؛ فمبدأ عدم اليقين ينطبق على الطبيعة سواء كنا ننظر إليها أم لا ننظر؛ ولهذا فهو مبدأ علمي فيزيائي خالص موضوعي وليس نتيجة لحدود المعرفة الإنسانية؛ فهو ليس عجزا إنسانيا، وإنما هو قياس لصفة معينة للإلكترون؛ ومن ثم فهو قياس لصفة فيزيائية خالصة. هذا إلى جانب أنه لا يكشف عن نقص في الإعداد الفني لمقاييسنا العلمية ولا يحدد من دقة هذه المقاييس، بل هو نتيجة هذه المقاييس ودلالة على هذه الدقة؛ لذا فإن الفهم الذاتي لمبدأ عدم اليقين وعدم التحديد فهم غير علمي كما رأينا؛ فعدم اليقين صفة كمية وتحديد فيزيائي خالص، لا يرتبط بالذات الدارسة ارتباط معلول بعلة. وليس نتيجة لعجز عن الكمال في المعرفة أو لنقص في مقاييسنا العلمية. وإنما هو مظهر للتداخل الموضوعي الخالص بين العمليات الفيزيائية. خلاصة القول فإن أينشتين واحد من العلماء الذين يتهمون فيزياء الكم بالذاتية والقصور، ويجعلون منها مرحلة مؤقتة من مراحل المعرفة، لا يردون ذلك إلى مبدأ عدم اليقين وحده، وإنما إلى الأساس المنهجي الذي تقوم عليه الفيزياء، وهو حساب الاحتمالات باعتبار أن الاحتمال وصف غير كامل للظاهرة الفيزيائية.
76
ولذلك استبعد أينشتين المنهج الاحتمالي كأساس للفيزياء النظرية بوجه عام، نتيجة لربطه جوهر الفيزياء النظرية بالوصف الفردي الكامل؛ ففي خطاب وجهه إلى ماكس بورن في 30 ديسمبر سنة 1947م يقول: «إنني بالطبع أرى أن التفسير الإحصائي يقوم على جانب كبير من الصدق، ولكنني لا أستطيع أن أومن به إيمانا جديا؛ ذلك لأن النظرية غير متماسكة مع المبدأ القائل بأن الفيزياء ينبغي أن تمثل حقيقة واقعة في المكان والزمان بدون تأثيرات خيالية عبر المسافات ... إنني مقتنع اقتناعا مطلقا بأن المرء سوف يصل في نهاية الأمر إلى نظرية تكون فيها الموضوعات المرتبطة بقوانين ليست احتمالات وإنما وقائع متصورة.»
77
ويذهب بعض الباحثين إلى أن استبعاد أينشتين للمنهج الاحتمالي كان خاطئا إلى حد ما؛ حيث إن القوانين الاحتمالية في فيزياء الكم والميكانيكا الموجية كما يؤكد بعض الباحثين، هي قوانين محققة تحقيقا تجريبيا، وتكشف كشفا صادقا عن طبيعة الظواهر التي تنطبق عليها. إن دخول المنهج الإحصائي ليس معناه إدخال الشك والعوامل الذاتية في مجال ينبغي أن يكون موضوعيا بشكل حاسم، وإنما يدل على سقوط التصور الزائف المحدود للموضوعية في مفهومها التقليدي؛ فتحديد الموضوعية بحدود موضع الجزيء الفرد وسرعته، تحديد جامد؛ إذ إن الموضوعية ليست صفة التفرد، وإنما صفة الترابط والتداخل، والتعدد والتشابك؛ ولهذا تميزت الفيزياء الحديثة بوجه عام، بموضوعيتها لاحتفاظ موضوعات بحثها ونتائجها بهذه الصفات. والاحتمال هو التعبير الدقيق الكامل عن هذه الصفات من ترابط وتداخل وتعدد وقابلية للتغير والاستقلال. وهي الصفات التي واجهتنا في حركة الغازات واتجاه المحدود
entropy
وحركة الإلكترون وموضع الجسيم في موجة الاحتمال. هي صفات فيزيائية أصيلة، يعبر عنها حساب الاحتمالات تعبيرا دقيقا. والقياس الاحتمالي بشكل عام ليس تحديدا متعسفا للموضوعات المدروسة، وإنما استيعاب لها وامتلاء بحقيقتها وطواعية لإمكانياتها.»
78
ولقد عارض هيزنبرج وبقوة دعوة أينشتين في أن مبدأ اللايقين ناتج عن عمليات موضوعية خالصة؛ فأداة القياس أداة فيزيائية مركبة من عناصر فيزيائية تقوم بينها وبين الوقائع الفيزيائية ظواهر موضوعية دقيقة غاية الدقة هي التي يحددها تحديدا دقيقا مبدأ اللايقين أو عدم التحديد؛ فنجد هيزنبرج يعقد فصلا في كتابه «الفيزياء والفلسفة»، بعنوان «نقد تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم، والاقتراحات المضادة له»؛ حيث ذكر أن النقد الذي ظهر في العديد من أبحاث أينشتين (وغيره) يركز على قضية ما إذا كان تفسير كوبنهاجن يسمح بوصف متفرد موضوعي للحقائق الفيزيائية. ويمكن أن نعرض حججهم الجوهرية فيما يلي: إن البرنامج الرياضي لنظرية الكم يبدو وصفا كاملا كافيا لإحصائيات الظواهر الذرية. لكن حتى لو كانت تقاريره أن احتمالات الوقائع الذرية صحيحة تماما، فإن هذا التفسير لا يصف ما يحدث واقعيا وصفا مستقلا عن الملاحظات أو بين الملاحظات. لكن شيئا ما لا بد أن يحدث، هذا أمر لا يمكن الشك فيه. وهذا الشيء لا يلزم أن يوصف بصيغة الإلكترونات أو الموجات أو كمات الضوء. ومهمة الفيزياء لا تتم دون أن نصفه بشكل أو بآخر. لا يمكن أن نقر بأنه يشير إلى فعل الملاحظة وحده. لا بد للفيزيائي أن يسلم أنه في علمه إنما يدرس عالما لم يصنعه هو، عالما سيوجد دون تغير يذكر في غير وجوده. وعلى هذا فإن تفسير كوبنهاجن لا يقدم أي تفهم حقيقي للظواهر الذرية يسهل مرة أخرى أن نرى أن ما يتطلبه هذا النقد هو الأنطولوجيا المادية القديمة ، ولكن، ما ستكون الإجابة من وجهة نظر تفسير كوبنهاجن؟
79
ويستطرد «هيزنبرج»: «يمكن القول إن الفيزياء جزء من العلم؛ ومن ثم فإنها تهدف إلى وصف وتفهم الطبيعة. وأي صورة للتفهم - علمية كانت أو غير علمية - إنها تعتمد على لغتنا، على تبادل الأفكار. إن كل وصف للظواهر، للتجارب ونتائجها، يرتكز على اللغة كسبيل أوحد للاتصال. وكلمات هذه اللغة تمثل مفاهيم الحياة اليومية، وهي مفاهيم هذبت في اللغة العلمية للفيزياء إلى صورة مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية. هذه المفاهيم هي الأدوات الوحيدة لاتصال لا يشوبه غموض حول الوقائع، حول إقامة التجارب وحول نتائجها. وعلى هذا فإذا ما سئل الفيزيائي أن يقدم وصفا لما يحدث واقعيا في تجاربه، فإن كلمات «وصفا» و«يحدث» و«واقعيا» لا تشير إلا إلى مفاهيم الحياة اليومية أو الفيزياء الكلاسيكية، فإذا ما تخلى الفيزيائي عن هذا الأساس، فقد وسيلة الاتصال غير الغامض، فلا يستطع المضي في عمله. وعلى هذا فإن أي تقرير عما قد «حدث واقعيا» هو تقرير صيغ في لغة المفاهيم الكلاسيكية وهو بطبيعته ناقص بالنسبة لتفاصيل الوقائع الذرية، بسبب الثرموديناميكية والعلاقات اللامحققية. إن سؤالنا «أن نصف ما يحدث» (في عملية الكم النظرية) بين ملاحظتين متعاقبتين هو - بصفته - تناقض؛ لأن كلمة الوصف إنما تعني استخدام المفاهيم الكلاسيكية، بينما لا يمكن تطبيق هذه المفاهيم على الفضاء بين الملاحظات، هي لا تطبق إلا عند مواقع الملاحظة.»
80
وفي فقرة أخرى يؤكد هيزنبرج قائلا: «تظهر في نظرية الكم أعقد مشاكل استخدام اللغة. لم يكن لدينا في البدء أي دليل بسيط نربط به الرموز الرياضية بمفاهيم اللغة الاعتيادية. كان كل ما نعرفه في البداية هو حقيقة أن مفاهيمنا الشائعة لا يمكن أن تطبق على بنية الذرة. مرة أخرى بدت نقطة البداية الواضحة للتفسير الفيزيقي للصورية هي اقتراب البرنامج الرياضي لميكانيكا الكم من برنامج الميكانيكا الكلاسيكية. وذلك في الأبعاد الأكبر كثيرا من حجم الذرات، وحتى هذا لا نستطيع أن نقوله دون بعض التحفظات؛ فسنجد حتى تحت الأبعاد الكبيرة العديد من الحلول للمعادلات الكماتية النظرية، والتي لا نظير لها في الفيزياء الكلاسيكية، تظهر في هذه الحلول ظاهرة «تداخل الاحتمالات». وهذه ظاهرة لا توجد في الفيزياء الكلاسيكية. وعلى هذا، فلن يكون تافها على الإطلاق - حتى داخل حدود الأبعاد الضخمة - ذلك الارتباط بين الرموز الرياضية والقياسات والمفاهيم المألوفة، ولكي نصل إلى مثل هذا الارتباط غير الملتبس علينا أن ندخل في اعتبارنا ملمحا آخر من ملامح المشكلة. علينا أن نلاحظ أن النمط الذي تعالجه مناهج ميكانيكا الكم هو في الحقيقة جزء من نظام أكبر (حدوده العالم بأسره)، إنها تتفاعل مع هذا النظام الأكبر، ولا بد أن نضيف أن الخصائص الميكروسكوبية للنظام الأكبر مجهولة - إلى حد كبير على الأقل. لا شك أن هذا وصف صحيح للوضع الواقعي. ولاستحالة أن يكون هذا النظام موضوع قياس وتفحصات نظرية، فإنه لن ينتمي إلى عالم الظواهر ما لم يكن يتفاعل مع مثل هذا النظام الأرحب، الذي يمثل المراقب جزءا منه. والتفاعل مع النظام الأكبر هذا بخصائصه الميكروسكوبية غير المحددة يقدم إذن إلى وصف النظام (الكماتي-النظري والكلاسيكي) عاملا إحصائيا جديدا. وفي الحالة الحدية للأبعاد الكبيرة يحطم هذا العامل الإحصائي آثار و«تدخل الاحتمالات» حتى ليقترب البرنامج «الكماتي- الميكانيكي» الآن من البرنامج الكلاسيكي في الوضع الحدي. وعلى هذا يصبح الارتباط عند هذه النقطة بين رموز نظرية الكم ومفاهيم اللغة الاعتيادية غير مبهم، ويصبح هذا الارتباط كافيا لتفسير التجارب.»
81
والملاحظ أن هذا الذي سار فيه هيزنبرج هو نفس الاتجاه الذي طوره «بريدجمان» في كتاب «منطق الفيزياء الحديث» (1927م)، وهو أيضا الذي سار فيه أصحاب مدرسة كوبنهاجن (بور-ديتوش) عندما ركزوا على أن معنى قضية ما مرتبط بطرق تحقيقها وملاحظتها، وأن الظواهر لا تملك أي واقع فيزيائي موضعي قائم بذاته وباستقلال عن طرق تحقيقها وملاحظتها والقياس عليها؛ أي إنها لا توجد إلا بالنسبة لذات تختبرها وتجرب عليها «ويترتب عن وجهة النظر هذه أن القضايا العلمية تشير إلى طرائقنا التجريبية وليست الأشياء ذاتها التي هي موضوع التجربة». وهذا هو السبب الذي من أجله قلنا إن مدرسة كوبنهاجن تمثل لونا وضعيا جديدا يحاول، انطلاقا من الإشكالية الجديدة التي طرحتها الفيزياء الكوانتية، أن يعيد تمييزا تصوره ماخ بين المعرفة الحسية؛ أي معرفة الطبيعة مثلما تمدنا بها حواسنا. وبهذا المعنى لن يكون للظواهر وجود موضوعي مستقل عمن يدركها، ولن تكون سوى مركبات ذهنية من الإحساسات؛ فمعرفة الشيء في ذاته هي مستحيلة لا سيما وأن الوجود إدراك؛ إذ إن ما نلاحظه ليس الطبيعة في ذاتها، بل الطبيعة في ارتباطها بطرائقنا ومناهجنا؛ أي في ارتباط بما يسمونه «الذات».
82
ومن هنا نجد هيزنبرج يعترف أن : «تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم ليس على الإطلاق وضعيا؛ فبينما تركز الوضعية على أن عناصر الواقع هي الإدراكات الحسية للمراقب، فإن تفسير كوبنهاجن يعتبر الأشياء والعمليات التي يمكن وصفها بلغة المفاهيم الكلاسيكية، نعني الواقعية، أساسا لأي تفسير فيزيائي.»
83
ولم يكتف هيزنبرج بذلك، بل نراه يصب جام غضبه على الوضعية المنطقية قائلا: «أما المشكلة الأساسية فقد أقرت بها الوضعية الحديثة في وضوح. يعبر هذا الخط من التفكير عن انتقاد للاستخدام الساذج لمصطلحات معينة مثل «الشيء» و«الإدراك الحسي» و«الوجود» وذلك بالمسلمة العامة بأن مسألة ما إذا كان لجملة ما أي معنى على الإطلاق، هي أمر لا بد أن يخضع لفحص دقيق نقدي. والموقف من خلفها، مشتق من المنطق الرياضي. ويصور منهج العلوم الطبيعية كوصلة من الرموز ملحقة بالظواهر. من الممكن أن تجمع الرموز - كما في الرياضيات - حسب قوانين معينة، وبهذه الطريقة يمكن أن تمثل التقارير عن الظواهر بمجاميع من الرموز، فإذا ما كان ثمة مجموعة من الرموز لا تطيع القوانين، فهي ليست خاطئة، إنما هي فقط لا تنقل أي معنى. والمشكلة الواضحة في هذه الحجة هي افتقارنا إلى أي معيار نحكم به عما إذا كانت الجملة بلا معنى؛ فنحن لن نصل إلى حكم حاسم إلا إذا كانت الجملة تنتمي إلى نظام مغلق من المفاهيم والبديهيات، وهذا أمر يعتبر في تطوير العلوم الطبيعية الاستثناء لا القاعدة. يقول التاريخ إن التخمين بأن جملة معينة لا معنى لها قد قاد في بعض الحالات إلى تقدم كبير؛ إذ فتح الباب لتوطيد علاقات جديدة كانت مستحيلة لو كان للجملة معنى. ولقد ناقشنا في نظرية الكم مثالا هو الجملة: «في أي مدار يتحرك الإلكترون حول النواة». لكن المخطط الوضعي المستمد من المنطق الرياضي هو على العموم نطاق ضيق للغاية في وصف الطبيعة يستخدم بالضرورة كلمات ومفاهيم يصعب تعريفها إلا في صورة مبهمة. ولقد قادت القضية القائلة إن كل المعرفة تتركز في نهاية المطاف في الخبرة، قادت إلى مسلمة تتعلق بالتفسير المنطقي لأي تقرير عن الطبيعة. ربما كان هناك ما يبرر مثل هذه المسلمة في مرحلة الفيزياء الكلاسيكية، لكن قد عرفنا منذ أن ظهرت نظرية الكم أنها لا يمكن أن تحقق، إن موقع وسرعة الإلكترون كلمتان يبدو أنهما محددتان من ناحية المعنى والارتباطات المحتملة، والحق أنهما كانتا مفهومين واضحي التحديد داخل الإطار الرياضي لميكانيكا نيوتن، لكن الواقع أنهما ليستا كذلك، تخبرنا بذلك العلاقات اللامحققية؛ فقد نقول إن الموقع في ميكانيكا نيوتن كان محددا تماما، لكن العلاقة بالطبيعة لم تكن كذلك. وهذا يبين أننا أبدا لن نستطيع أن نعرف مقدما أية قيود قد تكتنف قابلية تطبيق مفاهيم معينة عندما نمد موقفنا إلى مناطق من الطبيعة بعيدة لا يمكننا اختراقها إلا باستخدام أعقد الأدوات. علينا إذن في عملية الاختراق أن نستخدم مفاهيمنا أحيانا بطريقة لا تبرر ولا تحمل أي معنى. والإصرار على مسلمة التفسير المنطقي الكامل سيجعل العلم مستحيلا، وسيذكرنا علم الفيزياء الحديث هنا بالحكمة القديمة القائلة: على كل من يريد ألا يتفوه بخطأ أن يصمت.»
84
نتائج البحث
بعد هذه الجولة السريعة من عرض «إبستمولوجيا مبدأ اللايقين عند فيرنر هيزنبرج»، فإنه يمكننا أن نخلص إلى أهم النتائج وذلك على النحو التالي:
إن المفهوم اللاحتمي الذي تمسك به أنصار مدرسة كوبنهاجن إنما هو نتيجة للارتباط والتمسك بمفهوم معين للحتمية هي الحتمية الميكانيكية التقليدية؛ فالميكانيكا التقليدية تتميز بالتحديد الفردي للظاهرة تحديدا مكانيا زمنيا مطلقا؛ أي يرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل، ويجعل من التنبؤ بها أمرا يقينيا.
إن إقامة الحرية الإنسانية استنادا إلى حرية الإلكترون ومبدأ عدم التحديد هو تفسير غير سليم من الناحية المنهجية؛ لأننا بهذا نرتكب ذات الخطأ الغائي الذي ارتكبه فلاسفة اليونان، وبالأخص أبيقور عندما جعل من الميل سندا لإثبات حرية الإنسان؛ فتطبيق تصورات فيزيائية على تجربة إنسانية - هي الحرية - عملية غير ملائمة.
إن فكرة اللاحتمية والذاتية عند هيزنبرج ومدرسة كوبنهاجن قائمة على مبدأ وهو أنهم يحدون الموضوعية والتي يأنفون منها بحدود نيوتونية، بدلا من أن يجعلوا من النيوتونية، مقاربة معينة من الموضوعية. إن التحديد الدقيق لموضع الجسيم وسرعته في لحظة معينة عند نيوتن، ليس هو الحد المطلق للتحديد الدقيق وللموضوعية العلمية، وإنما هو شكل من أشكال التحديد بالنسبة للظواهر التي يمكن عزلها عزلا نسبيا ودراستها دراسة فردية.
إن المفهوم اللاحتمي عند هيزنبرج ومدرسة كوبنهاجن، إنما هو نتيجة للارتباط والتمسك بمفهوم معين للحتمية هي الحتمية الميكانيكية التقليدية. فالميكانيكا التقليدية تتميز بالتحديد الفردي للظاهرة تحديدا مكانيا زمنيا مطلقا؛ أي يرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل، ويجعل من التنبؤ بها أمرا يقينيا؛ ولهذا كان التحديد الاحتمالي في الفيزياء الحديثة حتميا لعدم انطباقه على الحتمية الميكانيكية.
إن تفسير كوبنهاجن ليس خاليا من النقائص؛ فما يزال الكثيرون من الفيزيائيين يشعرون بالضيق بالنسبة للنظرية، التي يلزم قبل تطبيقها من توسيع الصورية بفروض إبستمولوجية (معرفية) معينة. أما حقيقة أن تفسير كوبنهاجن يرتكز على قبول الوجود المسبق للعالم الكلاسيكي الكبير، فإنها تبدو حقيقة دائرية ومتناقضة؛ لأن العالم الكبير يتألف من عالم الكم الصغير.
إذا كان أينشتين قد استبعد المنهج الاحتمالي كأساس للفيزياء النظرية بوجه عام، فذلك راجع لكونه يمثل نتيجة لربطه جوهر الفيزياء النظرية بالوصف الفردي الكامل.
إن الخبرة الضخمة التي تمدنا بها الاستعانة بالاحتمال في الفيزياء الحديثة تكشف عن أن الاحتمال ليس وصفا غير كامل للظواهر، وإنما صورة ملائمة وانعكاس دقيق للوقائع الموضوعية؛ فالاحتمال صفة واقعية موضوعية وليست جهلنا نسقطه على الواقع؛ فالظواهر الفيزيائية بما تتميز به من تشابك وتداخل وصيرورة وقابلية للتغير والارتدادية تجد في حساب الاحتمال التعبير عن حقيقتها. إن الظواهر التي تدرسها الفيزياء الحديثة لا تتميز بالحتمية الميكانيكية لا لنقص في معرفتنا أو لقصور منهجي أو لعدم دقة في القياس، وإنما لطبيعة هذه الظواهر نفسها، لطبيعتها غير الارتدادية ولطبيعتها المتداخلة المتشابكة المترابطة التي لا سبيل إلى تجزئتها إلى فرديات منعزلة بدون الخروج بها عن تلك الطبيعة. عندما قام الفيزيائي الألماني ماكس بلانك بوضع ميكانيكا الكم والكوانتم، والتي تبحث في قوانين الجزيئات والأجسام الصغيرة، كانت المفاجأة حين أعلن بلانك أن حركة الجسيمات لا يمكن التنبؤ بها، وأن حركة الجزيئات لا تخضع لما يعرف بالحتمية المادية، وظل الأمر مستغلقا مريبا إلى أن أتى هيزنبرج، وقام بالتأصيل للنظرية تأصيلا علميا فيما يعرف بمبدأ اللايقين.
لقد نجح هيزنبرج في أن يزيل الغموض الذي بقي يحيط بكيفية انتقال الإلكترون من مدار لآخر؛ إذ ماذا يحدث عندما ينتقل الإلكترون من مدار لآخر؟ وماذا تكون طبيعته وهو «بين» المدارين؟ هل تتم النقلة من مدار إلى آخر بكيفية متصلة أم بكيفية أخرى؟ وقد كانت إجابته تقوم على القول بضرورة التخلي كلية عن تصور الإلكترون كما لو كان يمثل جسيما صغيرا تنطبق عليه قوانين الحركة في الفيزياء الكلاسيكية. وعلى ضرورة اعتباره لا على أنه جسم ينتقل من مكان لآخر، بل كشيء يوجد بصورة متأنية في أمكنة مختلفة؛ وبالتالي لا يمكن أن يوجد «بين» مدارين مختلفين؛ لأن له طبيعة تخالف طبيعة الأجسام القابلة للإدراك تجريبيا.
إن المحاولة التي قام بها هيزنبرج الرامية إلى توضيح بعض الغموض الذي بقي عالقا بمسألة «انتقال» الإلكترون من مدار إلى آخر. ومسألة طبيعته عندما يكون خلال فترة «الانتقال» بين المدارين، كانت بمثابة القطيعة الكبرى مع العلم القديم؛ ذلك أنها تضمنت القول بضرورة التخلي عن تصور الإلكترون كما لو كان جوهرا ماديا صغيرا يخضع لنفس القوانين التي خضع لها العالم المعتاد، وعلى ضرورة تصوره ك «شيء يوجد» بكيفية متأنية في مواقع مختلفة.
إن مبدأ اللايقين كشف عن أن العلم قد جرد المادة من كيفياتها المادية، كما سلخ عنها الصبغة الواقعية التي قالت بها العقلانية الديكارتية بإمكان تحديدها بالشكل والحركة باعتبارها أجساما تتحرك في مكان معين. لقد تغير مفهوم النقطة المادية في الفيزياء الحديثة؛ إذ لم تعد نقطة معينة في المكان تعيينا سكونيا، بل غدت مركزا لحركة دورية تنتشر حولها.
إن أينشتين كان على حق في انتقاداته لتفسير كوبنهاجن؛ فهو لم يتشكك في الواقع الموضوعي، كما لم يربطه بالذات الملاحظة وبأدوات القياس. لقد كان على أتم اقتناع بحتمية الظواهر الكونية كبيرها وصغيرها، وبأن الاحتمال لا يعكس خاصية صميمة لمجال الظواهر اللامتناهية في الصغر، بل يعكس جهلنا أمامها، وبإمكان تحديد الظاهرة تحديدا حتميا في المكان والزمان.
إن مبدأ اللايقين عند هيزنبرج قد فك الحصار الذي ضربته حتمية نيوتن على الكون بما في ذلك الإنسان. والأساس المنطقي الذي يعتمد عليه هذا اللاتحديد هو نظرية الاحتمالات، بمعنى أن حتمية نيوتن قد قامت على فكرة المسار الثابت والتي تحتم الجمع بين الموضع والسرعة بالنسبة للشيء المتحرك، ولكن بناء على معادلة هيزنبرج على هامش الخطأ، فمن المستحيل الجمع بين الدقة الكاملة في قياس الموضع والسرعة بالنسبة لحركة الإلكترون.
إن النزعة الموضوعية عند أينشتين كان لها مفعول السحر على بعض فلاسفة العلم وبالأخص كارل بوبر؛ إذ أكد بوبر على مناصرته للمعرفة الموضوعية التي يرى أنها معرفة بلا عارف، كما أنها معرفة بلا ذات عارفة؛ فلا توجد في نظرية بوبر قضايا ملاحظة أولية تتجاوز ما - نظريا - يمكن أن تبنى النظرية عليها؛ وبالتالي تتعارض أفكار بوبر مع نظرية الكوانتم؛ حيث إن الذات تقوم بدور محوري داخل هذه النظرية، ولا يمكن فصلها عن موضوع المعرفة. بالإضافة إلى أن قضايا الملاحظة الخاصة بنظرية الكوانتم لا يمكن أن تكون حسية، ولكنها بالفعل تقع فيما وراء الإدراك الحسي.
قائمة المصادر والمراجع (أ) قائمة المصادر والمراجع العربية والمترجمة (1)
د. بدوي عبد الفتاح: فلسفة العلوم، دار قباء، القاهرة، 2000م، ص218-219. (2)
بول موي: المنطق وفلسفة العلوم، ترجمة د. فؤاد حسن زكريا، مراجعة د. محمود قاسم، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، 1962م. (3)
جان لويس ديتوش: الحتمية واللاحتمية في الفيزياء الحديثة، ترجمة د. محمد عابد الجابري، ضمن كتابه «مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الدار البيضاء، ط3، 1994م. (4)
جورج جاموف: قصة الفيزياء، ترجمة وتقديم د. محمد جمال الدين الفندي، دار المعارف، القاهرة، 1964م. (5)
د. ب. جريبانوف وآخرون: أينشتين والقضايا الفلسفية لفيزياء القرن العشرين، ترجمة ثامر الصفار، الطبعة الأولى، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1990م، ص55 وما بعدها. (6)
سام تريمان: من الذرة إلى الكوارك، ترجمة د. أحمد فؤاد باشا، عالم المعرفة، العدد 327، مايو 2006م. (7)
د. سالم يفوت: فلسفة العلم المعاصرة ومفهومها للواقع، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1968م. (8)
د. السيد نفادي: الضرورة والاحتمال بين الفلسفة والعلم، الطبعة الأولى، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1983م، ص145. (9)
عبد الفتاح غنيمة: نحو فلسفة العلوم الطبيعية «النظريات الذرية والكوانتم والنسبية»، القاهرة، بدون تاريخ. (10)
فليب فرانك: فلسفة العلم «الصلة بين العلم والفلسفة»، ترجمة د. علي علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 1983م، ص278. (11)
فيرنر هيزنبرج: الطبيعة النووية، ترجمة د. سيد رمضان هدارة، دار العالم العربي، سلسلة ألف كتاب، القاهرة، بدون تاريخ، ص3-4. (12)
______ : الفيزياء والفلسفة، ترجمة د. أحمد مستجير، المكتبة الأكاديمية، 1993م. (13)
______ : محاورات الكل والجزء «محاورات في مضمار الفيزياء الذرية» لهيزنبرج، ترجمة محمد أسعد عبد الرءوف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986م. (14)
______ : فيزياء الذرة وقانون السببية: ترجمة د. محمد عابد الجابري، ضمن كتابه «مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الدار البيضاء، ط3، 1994م. (15)
كارل همبل: فلسفة العلوم الطبيعية، ترجمة وتعليق د. جلال موسى، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، القاهرة-بيروت، القاهرة - بيروت، 1976م. (16)
د. ماهر عبد القادر: فلسفة العلوم الطبيعية «المنطق الاستقرائي»، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية. (17)
د. محمد زكي عويس: دنيا الفيزياء، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 2000م. (18)
د. محمد عبد اللطيف مطلب: الفيزياء والفلسفة، الجزء الثاني، وزارة الثقافة الأعلام، العراق، 1985م. (19)
د. محمود فهمي زيدان: من نظريات العلم المعاصر إلى الموقف الفلسفي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، ط1، الإسكندرية، 2004م. (20)
محمود أمين العالم: فلسفة المصادفة، دار المعارف، القاهرة، 1970م. (ب) قائمة المصادر والمراجع الأجنبية (1)
James C. O’Flaherty: Werner Heisenberg on the Nazi Revolution: Three Hitherto Unpublished Letters, Journal of the History of Ideas, Vol. 53, No. 3 (Jul.-Sep., 1992), pp. 489-490. (2)
Rudolf Ladenburg and Eugene Wigner: Award of the Nobel Prizes in Physics to Professors Heisenberg, Schroedinger and Dirac, The Scientific Monthly, Vol. 38, No. 1 (Jan., 1934), pp. 86-91. (3)
Richard Schlegel: Statistical Explanation in
No. 1, Mar., 1970, pp. 80-81. (4)
Mara Beller: The Rhetoric of Antirealism and the Copenhagen, Philosophy of Science, Vol. 63, No. 2, Jun., 1996, p. 183. (5)
Michel Paty: The Nature of Einstein’s Objections to the Copenhagen Interpretation of Quantum Mechanics, Foundations of Physics, Vol. 25, No. 1, 1995, pp. 183-184. (6)
Nevill Mott and Rudolf Peierls: Werner Heisenberg. 5 December 1901-1 February 1976, Biographical Memoirs of Fellows of the Royal Society, Vol. 23 (Nov., 1977), pp. 213-251. (ج) المعاجم والموسوعات (7)
Biogrphical Dictionary of Scients, Edited by Trevor Williams, Harper Collins Publishers, Glasgow, 1994, pp. 332-234.
صفحة غير معروفة