مقدمة [ليست من المطبوع]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد:
فإن الله تعالى قد خلق الناس في هذه الدار متفاوتين خلقًا وخُلقًا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات فَمَنَّ على أهل الاستقامة بالدرجات العلى، حيث كَرُمَ أدبهم، وحَسُنَ خلقهم. ولذلك كان أتقى الخلق ﷺ أحسنهم خلقًا. يقول الله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤]. وعن أنس ﵁ قال: "كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقًا" فكان أحسن الناس خلقًا مع الله، وكان أحسن الناس خلقًا مع عباد الله.
وخيار المؤمنين أحسنهم أخلاقًا، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ قال: "لم يكن رسول الله ﷺ فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا) ".
والمرء في طريق سيره إلى الله تعالى لابد له من علم نافع صحيح يبصره الحق ويهديه الطريق، وعمل صالح يستعين به على قطع الطريق.
وعلى قدر قوة علم الإنسان وقوة عمله تكون سرعته في سلوك هذا الطريق، وسهولته عليه، والأدب ملازم للعلم النافع والعمل الصالح. ولا يخفى ما فضل الله تعالى به العلم وأهله العاملين به، الداعين إليه، فالعلم نور يهدي به الله من شاء من خلقه إلى صراطه المستقيم، والعلماء هم ورثة الأنبياء، فإذا كان الناس أمواتًا فإن العلماء أحياء.
مَا الفَخْرُ إلا لأَهْلِ العِلْمِ إنَّهُمُ ... على الهُدَى لِمَن اسْتَهْدَى أَدِلَاّءُ
وقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا كان يُحْسِنُهُ ... والجَاهِلُون لأَهْلِ العِلْمِ أَعْدَاءُ
فَفُزْ بِعِلْمٍ تِعِشْ حَيًّا بِه أَبَدا ... النَّاسُ مَوْتى وأَهْلُ العِلْمِ أَحْيَاءُ
لذلك فإن العلماء وطلبة العلم هم أولى الناس وأحقهم بالأدب وحسن الخلق؛ لأنهم أعلم الناس بالحق، ولمكانهم بين الخلق حيث ينظر الناس إليهم نظرة خاصة، فإن أحسنوا كان ذلك سببًا لمحبة الناس لهم وقبول الحق منهم، وإن أساءوا كان ذلك سببًا لبعد الناس عنهم وكراهية ما هم عليه من الهدى.
يا أيها الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ ... هَلَاّ لِنَفسِكَ كان ذَا التَّعلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى ... كَيمَا يَصِحّ بِهِ وَأَنتَ سَقِيمُ
اِبدَأْ بِنَفسِكَ فَانْهَهَا عَن غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقتَدَى ... بِالقَوْلِ مِنْكَ ويُقْبَلُ التَّعلِيمُ
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ ... عَارٌ عَلَيكَ إِذَا فَعَلتَ عَظِيمُ
ولقد اهتم العلماء الربانيون، والأئمة المهديون بتعليم العلم والأدب جميعًا؛ لأن المقصود الأعظم من العلم هو العمل به، والتقرب إلى الله تعالى بمقتضى هذا العلم. وليس المقصود أن يكون الإنسان مجرد مخلاة للعلوم، فكم من إنسان حوى من العلوم ما لا يعلمه إلا الله، فهو يسرد الأدلة سردًا، ويؤصل المسائل تأصيلًا، لكنه سيئ الخلق قليل الأدب، فهذا قد يكون سببًا في إعراض الناس عن الهدى، وكراهيتهم للحق.
وكم من إنسان ليس عنده من العلم إلا ما يبصره طريق الحق، لكنه على خلق حسن وأدب قويم، تراه مشمرًا عن ساعد الجد، مجتهدًا في العمل تقربًا إلى الله تعالى، داعيًا إليه، مجاهدًا في سبيله، مقيمًا للسنة، مميتًا للبدعة، تجده قانتًا خاشعًا، أسبق الناس إلى الخير وأبعدهم عن الشر، يُهْتَدى بِسَمْتِهِ وإن كان صامتًا.
وهناك أقوام امتن الله عليهم بهمة عالية، يطلبون المجد والعلا في كل ما يرضي الله تعالى، الحكمة ضالتهم، أنى وجدوها بادروا إليها واغتنموها، فهؤلاء ينظرون إلى من فوقهم علمًا وأدبًا فيتعلمون من علمهم ويتخلقون بأخلاقهم.
مَنْ شَاءَ عَيْشًا هَنِيئًا يَسْتَفيدُ بِهِ ... في دِينِهِ ثُمَّ في دُنْيَاهُ إقْبَالا
فَلْيَنْظُرَنَّ إلى مَنْ فَوْقَهُ أَدَبًا ... وَلْيَنْظُرَنَّ إلى مَنْ دُونَهُ مَالا
ومن المصنفات النافعة جدًا لطلبة العلم والعلماء في هذا الباب كتاب "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العلم والمتعلم" لابن جماعة ﵀، فهو كتاب نفيس جمع آدابًا كريمة، ينبغي لأهل العلم التحلي بها، وأشار إلى أخطاء منكرة ينبغي أن يتنزهوا عنها.
وهذا الكتاب وغيره من كتب الآداب والأخلاق التي صنفها علماء الإسلام، ينبغي لطلبة العلم والعلماء مذاكرتها والنظر فيها، وخاصة كتب السلف الصالح فإنهم كانوا أخلص قلوبًا، وأصدق بيانًا، وأعظم أدبًا وامتثالًا.
والله تعالى نسأل أن يَمُنَّ علينا وعلى سائر المسلمين بحُسْنِ الخُلُق
وصَلِّ اللهم وسَلِّم وبارِك على عبدِكَ ورسولِكَ مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبهِ أجمعين
محمود بن محمد العبد [*]
_________
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه المقدمة ليست من المطبوع، وإنما هي خاصة بالنسخة الإلكترونية
صفحة غير معروفة
مقدمة المصنف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه توفيقي
الحمد لله البر الرحيم، الواسع العليم، ذي الفضل العظيم، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد النبي الكريم، المنزل عليه في الذكر الحكيم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وعلى آله وأصحابه الكرام جواره في دار النعيم.
أما بعد، فإن من أهم ما يبادر به اللبيب شرخ شبابه ويدئب نفسه في تحصيله واكتسابه حسن الأدب الذي شهد الشرع والعقل بفضله، واتفقت الآراء والألسنة على شكر أهله، وإن أحق
1 / 1
الناس بهذه الخصلة الجميلة وأولاهم بحيازة هذه المرتبة الجليلة أهل العلم الذين جلوا به ذروة المجد والسناء وأحرزوا به قصبات السبق إلى وراثة الأنبياء لِعِلْمهم بمكارم أخلاق النبي ﷺ وآدابه وحسن سيرة الأئمة الأطهار من أهل بيته وأصحابه وبما كان عليه أئمة علماء السلف واقتدى بهديهم فيه مشايخ الخلف.
قال ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهدى كما يتعلمون العلم.
وقال الحسن: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين.
وقال سفيان بن عيينة: أن رسول الله ﷺ هو الميزان الأكبر وعليه تعرض الأشياء على خلقه وسيرته وهديه فما وافقها فهو الحق وما خالفها فهو الباطل.
وقال حبيب بن الشهيد لابنه: يا بني اصحب الفقهاء والعلماء وتعلم منهم وخذ من أدبهم؛ فإن ذلك أحب إليّ من كثير من الحديث.
وقال بعضهم لابنه: يا بني لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليّ من
1 / 2
أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم.
وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث.
وقيل للشافعي ﵁: كيف شهوتك للأدب؟ فقال: أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعًا فتنعم به. قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره.
ولما بلغت رتبة الأدب هذه المزية وكانت مدارك مفضلاته خفية دعاني ما رأيته من احتياج الطلبة إليه وعسر تكرار توقفهم عليه، أما الحياء فيمنعهم الحضور، أو الجفاء فيورثهم النفور، إلى جمع هذا المختصر مذكرًا للعالم ما جُعِل إليه ومنبهًا للطالب على ما يتعين عليه وما يشتركان فيه من الأدب وما ينبغي سلوكه في مصاحبة الكتب، ثم أدب من سكن المدارس منتهيًا أو طالبًا لأنها مساكن طلبة العلم في هذه الأزمنة غالبًا.
وجمعت ذلك مما اتفق في المسموعات أو سمعته من المشايخ السادات أو مررت به في المطالعات أو استفدته في المذاكرات وذكرته محذوف الأسانيد والأدلة كيلا يطول على مطالعه أو يمله.
1 / 3
وقد جمعت فيه بحمد الله تعالى من تفاريق آداب هذه الأبواب ما لم أره مجموعًا في كتاب وقدمت على ذلك بابًا مختصرًا في فضل العلم والعلماء على وجه التبرك والاقتداء.
وقد رتبته على خمسة أبواب تحيط بمقصود الكتاب:
الباب الأول: في فضل العلم وأهله (وشرف العالم ونسله).
الباب الثاني: في آداب العالم في نفسه ومع طلبته ودرسه.
الباب الثالث: في أدب المتعلم في نفسه ومع شيخه ورفقته ودرسه.
الباب الرابع: في مصاحبة الكتب وما يتعلق بها من الأدب.
الباب الخامس: في آداب سكنى المدارس وما يتعلق به (من النفائس).
وقد سميته "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم"، والله تعالى يوفقنا للعلم والعمل ويبلغنا من رضوانه نهاية الأمل.
1 / 4
الباب الأول في فضل العلم والعلماء
وفضل تعليمه وتعلمه
الباب الأول
في فضل العلم والعلماء وفضل تعليمه وتعلمه
قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١] قال ابن عباس: العلماء فوق المؤمنين مائة درجة ما بين الدرجتين مائة عام.
قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] الآية. بدأ سبحانه بنفسه وثَنَّى بملائكته وثَلَّثَ بأهل العلم وكفاهم ذلك شرفًا وفضلًا وجلالة ونبلًا.
وقال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩]، وقال تعالى: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]. وقال تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٣]، وقال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: ٤٩]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
1 / 5
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: ٢٨]، وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٧] إلى قوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: ٨].
فاقتضت الآيتان أن العلماء هم الذين يخشون الله تعالى وأن الذين يخشون الله تعالى هم خير البرية فينتج أن العلماء هم خير البرية.
وقال رسول الله ﷺ من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وعنه ﷺ: العلماء ورثة الأنبياء وحسبك هذه الدرجة مجدًا وفخرًا وبهذه الرتبة شرفًا وذكرًا فكما لا رتبة فوق رتبة النبوة فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة.
وعنه ﷺ لما ذُكِرَ عنده رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.
وعنه ﷺ: من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضى الله
1 / 6
عنه وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا
1 / 7
دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ واف.
واعلم أنه لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء له وتضع له أجنحتها، وأنه لَيُنَافَسُ في دعاء الرجل الصالح أو مَنْ يُظَنُّ صلاحه فكيف بدعاء الملائكة، وقد اختلف في معنى وضع أجنحتها فقيل: التواضع له، وقيل: النزول عنده والحضور معه، وقيل: التوقير والتعظيم له، وقيل: معناه تحمله عليها فتعينه على بلوغ مقصده.
وأما إلهام الحيوانات بالاستغفار لهم فقيل: لأنها خلقت لمصالح العباد ومنافعهم والعلماء هم الذين يبينون ما يحل منه وما يحرم ويوصون بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها.
وعنه ﷺ يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء، قال بعضهم: هذا مع أن أعلى ما للشهيد دمه وأدنى ما للعالم مداده.
1 / 8
وعنه ﷺ ما عُبد الله بشيء أفضل من فقه في دين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.
وعنه ﷺ يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. وفي حديث: يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء، وروى: العلماء يوم القيامة على منابر من يوم.
ونقل القاضي حسين بن محمد ﵀ في أول تعليقه أنه روي عن النبي ﷺ أنه قال: من أحب العلم والعلماء لم تكتب عليه خطيئة أيام حياته.
قال: وروي عنه ﷺ: من أكرم عالمًا فكأنما أكرم سبعين نبيًا ومن أكرم متعلمًا فكأنما أكرم سبعين شهيدًا، وأنه قال: من
1 / 9
صلى خلف عالم فكأنما صلى خلف نبي ومن صلى خلف نبي فقد غفر له.
ونقل الشرمساحي المالكي في أول كتابه نظم الدر عن النبي ﷺ أنه قال: من عظم العالم فكأنما يعظم الله تعالى ومن تهاون بالعالم فإنما ذلك استخفاف بالله تعالى وبرسوله.
وقال علي ﵁: كفى بالعلم شرفًا أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذمًا أن يتبرأ منه من هو فيه. وقال بعض السلف: خير المواهب العقل وشر المصائب الجهل. وقال أبو مسلم الخولاني: العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا بدت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عليهم تحيروا.
وقال أبو الأسود الدؤلي: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.
وقال وهب: يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيًا، والعز وإن كان مهينًا، والقرب وإن كان قصيًا، والغنى وإن كان فقيرًا،
1 / 10
والمهابة وإن كان وضيعًا.
وعن معاذ ﵁: تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وبذله قربة وتعليمه من لا يعلمه صدقة.
وقال الفضيل بن عياض: عالم معلم يدعى كثيرًا في ملكوت السماء.
وقال سفيان بن عيينة: أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء - وقال أيضًا: لم يعط في الدنيا شيئًا أفضل من النبوة، وما بعد النبوة شيء أفضل من العلم والفقه، فقيل: عمن هذا؟ قال: عن الفقهاء كلهم.
وقال سهل: من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء فاعرفوا لهم ذلك.
وقال الشافعي ﵁: إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء الله فليس لله ولي.
1 / 11
وعن ابن عمر ﵄: مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة.
وعن سفيان الثوري والشافعي ﵄: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.
وعن الزهري ﵀: ما عُبد الله بمثل الفقه.
وعن أبي ذر وأبي هريرة ﵄ قالا: باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعًا، وباب من العلم نعلمه عُمِلَ به
1 / 12
أو لم يُعْمَلْ أحب إلينا من مائة ركعة تطوعًا.
وقد ظهر بما ذكرناه أن الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوافل العبادات البدنية من صلاة وصيام وتسبيح ودعاء ونحو ذلك؛ لأن نفع العلم يعم صاحبه والناس والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها؛ ولأن العلم مصحح لغيره من العبادات فهي تفتقر إليه وتتوقف عليه ولا يتوقف هو عليها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم وليس ذلك للمتعبدين، ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه، ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه، وغيره من النوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن في بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة.
فصل
واعلم أن جميع ما ذُكِرَ من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذين قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم، لا من طلبه بسوء نية أو خبث طوية أو لأغراض دنيوية من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب.
فقد روي عن النبي ﷺ: من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يكاثر به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار. أخرجه الترمذي.
وعنه ﷺ: من تعلم علمًا لغير الله أو أراد به غير وجه الله
1 / 13
فليتبوأ مقعده من النار. رواه الترمذي.
وروي من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة. أخرجه أبو داود.
وعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ أن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة، وذكر الثلاثة، وفيه رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها قال: تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت؛ ولكن تعلمت ليقال عالم، وقرأت ليقال قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. أخرجه مسلم والنسائي.
وعن حماد بن سلمة: من طلب الحديث لغير الله تعالى مكر به.
وعن بشر: أوحى الله إلى داود لا تجعل بيني وبينك عالمًا مفتونًا
1 / 14
فيصدك بشك عن محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي.
الباب الثاني في أدب العالم في نفسه
ومراعاة طالبه ودرسه
الباب الثاني
في أدب العالم في نفسه ومراعاة طالبه ودرسه
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في آدابه في نفسه
وهو اثنا عشر نوعًا:
النوع الأول:
دوام مراقبة الله تعالى في السر والعلن والمحافظة على خوفه في جميع حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله فإنه أمين على ما أودع من العلوم وما منح من الحواس والفهوم، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: ٢٧]، وقال تعالى: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة: ٤٤].
وقال الشافعي: ليس العلم ما حُفِظَ، العلم ما نَفَعَ. ومن ذلك دوام السكينة، والوقار والخشوع والتواضع لله والخضوع.
ومما كتب مالك إلى الرشيد: إذا علمت علمًا فَلْيُرَ
1 / 15
عليك علمه وسكينته وسمته ووقاره وحلمه لقوله ﷺ: العلماء ورثة الأنبياء.
وقال عمر ﵁: تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار.
وعن السلف: حق على العالم أن يتواضع لله في سِرِّه وعلانيته ويحترس من نفسه ويقف على ما أشهر عليه.
الثاني:
أن يصون العلم كما صانه علماء السلف ويقوم له بما جعله الله تعالى له من العزة والشرف فلا يذله بذهابه ومشيه إلى غير أهله من أبناء الدنيا من غير ضرورة أو حاجة أو إلى من يتعلمه منه منهم وإن عظم شأنه وكبر قدره.
قال الزهري: هَوَانٌ بالعلم أن يحمله العالم إلى بيت المتعلم، وأحاديث السلف في هذا النوع كثيرة، وقد أحسن القائل أبو شجاع
1 / 16
الجرجاني:
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأَخْدِمَ من لاقيت لكن لأُخْدَما
أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلة ... إذًا فاتباعُ الجهل قد كان أَحْزَما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
فإن دعت حاجة إلى ذلك أو ضرورة أو اقتضته مصلحة دينية راجحة على مفسدة بذله وحسنت فيه نية صالحة فلا بأس به إن شاء الله تعالى وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض أئمة السلف من المشي إلى الملوك وولاة الأمر كالزهري والشافعي وغيرهما لا على أنهم قصدوا بذلك فُضُول الأغراض الدنيوية وكذلك إذا كان المَأْتيُّ إليه من العلم والزهد في المنزلية العَلِيَّة والمحل الرفيع فلا بأس بالتردد
1 / 17
إليه لإفادته فقد كان سفيان الثوري يمشي إلى إبراهيم بن أدهم ويفيده وكان أبو عبيد يمشي إلى علي بن المديني يُسْمِعه غريب الحديث.
الثالث:
أن يتخلق بالزهد في الدنيا والتقلل منها بقدر الإمكان الذي لا يضر بنفسه أو بعياله فإن ما يحتاج إليه لذلك على الوجه المعتدل من القناعة ليس يُعَدُّ من الدنيا وأقل درجات العالم أن يستقذر التعلق بالدنيا لأنه أعلم الناس بخستها وفتنتها وسرعة زوالها وكثرة تعبها ونَصَبِهَا فهو أحق بعدم الالتفات إليها والاشتغال بهمومها.
وعن الشافعي ﵁: لو أوصى إلى أعقل الناس صرف إلى الزهاد فليت شعري من أحق بالعلماء بزيادة العقل وكماله.
وقال يحيى بن معاذ: لو كانت الدنيا تِبْرًا يفنى والآخرة خَزَفًا يبقى لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على التبر الفاني فكيف والدنيا خزفٌ فانٍ والآخر تِبْرٌ باقٍ.
1 / 18
الرابع:
أن ينزه علمه عن جعله سلمًا يتوصل به إلى الأغراض الدنيوية من جاه أو مال أو سمعة أو شهرة أو خدمة أو تقدم على أقرانه.
قال الإمام الشافعي ﵁: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إليَّ حرف منه، وكذلك ينزهه عن الطمع في رفق من طلبته بمال أو خدمة أو غيرهما بسبب اشتغالهم عليه وترددهم إليه، كان منصور لا يستعين بأحد يختلف إليه في حاجة.
وقال سفيان بن عيينة: كنت قد أوتيت فهم القرآن فلما قَبِلْتُ الصرة من أبي جعفر سُلِبْتُهُ فنسأل الله تعالى المسامحة.
الخامس:
أن يتنزه عن دنى المكاسب ورذيلها طبعًا، وعن مكروهها عادة وشرعًا كالحجامة والدباغة والصرف والصياغة، وكذلك يتجنب
1 / 19