وجزء الرواية الأول أحسن حالا في هذه الخصلة؛ لأنه يمس قلب الإنسان ويستجيش عاطفته بقصة الفتاة «مرغريت» التي وقعت في حبائل الشيطان فجرها إلى الفسق فالقتل فالعار فالسجن والجنون، فإن صورة «مرغريت» لتضارع أجمل الصور الإنسانية التي خلقتها الآداب في جميع العصور، وعلى هذه الصورة الحية تقوم الرواية وإليها يعزى النجاح الذي أصابته عند جمهور النظارة، فإذا عدوناها إلى غيرها فهناك مناجاة فوست وحواره مع الشيطان تارة ومع التلميذ تارة أخرى، وهناك أشجانه وهواجسه وكلها على جانب وافر من الشعور والفكر يهز أوتار الحياة ويفتح للذهن أبواب التأمل والاعتبار.
فالجزء الأول - كما أسلفنا - أحسن حالا في هذه الخصلة؛ ولهذا كان أحسن حالا من ناحية التناسق والتنظيم، ولكنك مع هذا تنظر فيه فتجد مناظر كاملة لا علاقة لها بنسق الرواية في شيء، بل تبدأ الصفحة الأولى بحديث بين شاعر ومدير مسرح وصديق لهما ليس بينه وبين الرواية سبب. ومن طرائف جيتي في قلة الاكتراث أنه نظم أبياتا يحمل بها على ناقديه لينشرها في إحدى الصحف. فلما تعذر عليه نشرها أخذها وألقى بها في هذا الجزء بغير تمهيد ولا تفسير!
أما الجزء الثاني فهو الفوضى بعينها يزيد عليه الغموض الذي لا ينتهي إلى طائل، ولكي يقف القارئ على مثال من فوضى التأليف فيه يكفي أن يعلم أن الجزء كله قائم على قصيدة نظم جيتي بعضها قبل صدور الجزء الأول ونظم باقيها بعد صدوره، ونشرها كلها على حدة في سنة 1827 وهو يشعر بما فيها من الخلط فسماها «خيال الظل الكلاسيكي الرومانتيكي»، ثم جعلها محور الجزء الثاني بما ألصق بها وأضاف إليها، وهذه هي قصيدة «هلينا» الفاتنة اليونانية التي ثارت حولها حرب طروادة المشهورة في الإلياذة.
هذا مثل من التلفيق في التأليف، أما الرموز الغامضة الشائعة في الجزء كله، فمثالها بناء فوست بهلينا والإشارة بذلك إلى الحضارة الأوروبية التي هي زواج بين الثقافة الإغريقية وثقافة القرون الوسطى! فالثقافة الإغريقية هي «هلينا» وثقافة القرون الوسطى هي «فوست». ولما أراد جيتي أن يزج بذكرى «بيرون» في القصيدة أسبغ صفاته على «يوفريون» ولد فوست وهلينا أو ولد الإغريق والقرون الوسطى؛ فإذا هو بيرون كما شاء!
ومن رموزه ما كان هو نفسه لا يفهمه، فقد سأله أكرمان عن الأمهات اللاتي وردت الإشارة إليهن في هذا الجزء ولجأ إليهن فوست لاستحضار روح هلينا، قال أكرمان: «ولكنه تقنع بالغموض ونظر إلي بعينين مفتوحتين وهو يردد: الأمهات الأمهات! إن في الكلمة لسرا خفيا. وليس في وسعي أن أزيدك بها علما، إلا أن أقول لك إنني طالعت في بلوتارك أن الأمهات كن بعض الآلهة في يونان القديمة.» فكأن جيتي قد أخذ هنا برنة الكلمة الخفية ولم ينظر وراءها إلى مدلول واضح في ذهنه، وإنما هو أثر من آثار الولع بالأسرار الذي استولى عليه في أواخر أيامه، أو هو عرض من أعراض الشيخوخة التي تبدو على المفكرين عند الإحساس بقرب النهاية، وجيتي نفسه يقول لنا إن لكل عمر فلسفة؛ فالطفل «واقعي» لأنه واثق من التفاح والكمثرى، والشاب خيالي لاضطراب العواطف والدوافع في نفسه، والرجل «شكوكي» لأنه يخاف أن تختلف وسائله وأحواله، والشيخ متصوف معتقد بالأسرار؛ «لأنه يرى ألف شيء يعتمد على المصادفة، ويرى السخافة تفلح والرشد يخفق والسعادة والشقاء نوبا تدول، هكذا تجري الدنيا وهكذا جرت، والشيخ يجد السكينة فيما هو كائن وفيما كان وفيما سيكون».
ومتى ذكرنا ولع جيتي بالخفايا في صباه لم نعجب لهذه النزعة التي نراها في فوست الثانية، بل عجبنا له كيف ملك معها قواه ولم يخرج بها من حيزها الذي قصرها فيه فهي جن مارد، لكنه في قمقمه وطوع يد سليمانه، إلى مدى يتفقان عليه!
وبعد فما الغرض من رواية فوست وما مغزاها؟ لقد سئل جيتي هذا السؤال فأجاب في غير اكتراث: تسألني كأنما أنا أعرف هذا المغزى؟ إنما هي رحلة من الأرض إلى السماء خلال الجحيم!
ولك أن تقول شيئا كهذا عن روايات جيتي كلها أو عن كبرياتها على الخصوص، فهناك أشخاص متفرقون وحوادث متفرقة، وهذه هي الصفة التي تستطيع أن تحصرها في جميع الروايات، أما ما عدا ذلك فهو غير محصور!
وقد تكون للأشخاص بنية قائمة وملامح مميزة وسمات مألوفة، أما الحوادث فليس لها هذه البنية وليس لملامحها وسماتها وحدة مرسومة.
وسبب ذلك بسيط معقول، وهو أن جيتي يأخذ من ساعة ساعة والحوادث واحدة واحدة، فأنت إذا جمعت ألف حادثة متفرقة عن شخص واحد فهناك بنية مرسومة وشخص معلوم ولو اختلفت الحوادث وجاءت على غير اطراد، ولكن هذه الحوادث بقضها وقضيضها لا تكفي لتأليف كتاب واحد أو رواية واحدة إذا هي أخذت على تشعث وعلى غير نسق، بل أنت إذا سمعت عشر نوادر متفرقات عن إنسان واحد فقد عرفته وحفظته، ولكنك إذا سمعت بعشر حوادث متفرقات فلست تعرف إلا هذه الحوادث دون غيرها، ومن ثم تضيع الوحدة في روايات جيتي ولا تضيع الوحدة في أشخاصه، وفوست هي «المثل الأعلى» في هذين النقيضين.
صفحة غير معروفة