بسم الله الرحمن الرحيم
... الحمد للهعلى ما أنعم ، والشكر له على ما خص منها وعم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد العرب والعجم ، أما بعد ....
فيقول أفقر الورى ،وأحقر البرية ،من غير مرى ، الخائض في بحور الآثام والعصيان ، أحمدالشباسي المعروف بمنة المنان : قد وقع السؤال بحضرة جمع من الفضلاء ، وجم غفير من النبلاء عن المنافع التي أثبتها الرب في قوله تعالى : [ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ] (¬1) وعن حكم التداوي بها على مذهب أئمة الدين المؤيدين للسنة بالأدلة والبراهين ، فنقول :
... اعلم أن هذا يتوقف على سرد ما هو في كتب الشريعة منصوص ومنقول من ذكر أدلة واضحة ونقول ، وما ذكر يحتاج إلى بسط / وطول ، ولولا خوف الملالة 1 ب والإسهاب لأتينا بما فيه الحجب العجاب ، لكن أشهر ما قبل وأفاد ، خير مما كثر وأبعد عن السداد ، مسميا لتلك العجالة الأسنة القاطعة المانعة جنوح من يميل إلى التداوي بالخمرة ، التي هي لجميع الشرور جامعة ، ولنشرع في المقصود بعون الملك المعبود ،فنقول : قال الإمام مالك رضي الله عنه : يحرم التداوي بها مطلقا ، صرفة كانت أو مستهلكى في دواء، ولو أبحنا التداوي بالنجس ، لأنها لميل النفوس إليها ، وكثرة تغزل الشعراء فيها ، أوجب الشارع تجنبها بالكلية ، وإراقتها سدا للذريعة الدنية .
صفحة ١
... قال العلامة الشبرخيتي في شرح الأربعين النووية ، في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ) ، أي حتى يوجد ما يبين كأكل الميتة عند / 2 أالضرورة ، وشرب الخمر عند الإكراه ، ولإساغة القصة ؛ لأن المكلف ليس منهيا في الحال على الصحيح ، وأما التداوي فلا يجوز،ولو طلاء ، يعني في ظاهر الجسد ، لحديث ( إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ) ، ومثل ذلك في شربه للعطش ، ولا ينقطع به العطش ، انتهى المراد منه (¬1) .
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه : يحرم التداوي بالصرفة مطلقا ، وفي المستهلكة في الدواء مع إمكان غيرها من الطاهر ،كما قال شيخالإسلام في التحرير ، ونصه متنا وشرحا : باب حكم الأشربة ، هي نوعان : مسكر وغيره ، فالمسكر من خمر وغيره حرام تناوله وإن قل ، أو شرب لتداو أو عطش لآية [إنما الخمر والميسر] (¬2) ،ولخبر الصحيحين ( كل شراب أسكر فهو حرام ) نعم من غص بلقمة / ولم يجد غيره حل2ب له إساغتها ، بل وجب ، وكذا إذا انتهى الأمر بالعطش إلى الإهلاك، ولم يجد غيره ، وغير الأشربة مما يزيل العقل كالبنج حرام أيضا إن كثر ، انتهى المراد منه .
صفحة ٢
قال محشيه (¬1) : قوله أو شرب لتداو ، لما صح ( إن الله لم بجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ) ويجوز التداوي بعرق النجاسة ، لا بصرف المسكر ، وهل يحد من شرب المسكر لتداو ؟ فيه خلاف ، رجح عدمه ، وأما لو استهلكت في دواء حتى انعدم وصفها فلا يحرم استعمالها كصرف باقي النجاسات ، هذا إن عرف ، أو أخبره طبيب عدل بنفعها ،ولو احتيج إلى قطع عضو متآكل ونحوه إلى إزالة العقل جاز بنحو بنج لا بمائع مسكر ،نعم جوزوا سقيه لصغير شم رائحتها ، وخيف عليه توقع مشقة ، وإن لم يخف عليه هلاك ، ولو توقف افتضاض البكر على إزالة عقلها جازبنحو بنج ، لا بمائع /كما تقدم ،انتهى 3أ بتصرف .
وقوله : أو عطش لأنه لا يسكر ، بل يثيره ، ويهيجه ، انتهى بالمعنى .
قوله لخبر الصحيحين ..الخ ولخبر ( كل مسكر حرام ) وخبر ( اجتنبوا الخمر فإنه مفتاح كل شر ) وقول عمر وعثمان رضي الله عنهما : إنها أم الكبائر ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الخمر أم الفواحش ، وأكبر الكبائر ، ومن شرب الخمر ترك الصلاة ، ووقع على أمه وعمته وخالته ) ، وهو معنى ما صح لخمر جماع ..... (¬2) إلى غير ذلك مما قال حتى أعجب ،وأغرب ، ونقل عن وهببن منبه ، قال : وجدت في التوراة : من شرب الخمر ، وذهب عقله ، يأتيه الشيطان في دبره سبعين مرة ، كما يأتي الرجل امرأته ، إلى أن قال : والحاصل أن شرب الخمر تارة يقتضي الحرمة والحد ، وتارة يقتضي الحرمة دون الحد ، كما إذا شربه لتداو، أو لعطش لم ينتهي / فيه الأمر للإهلاك ، وتارة لا يقتضي حرمة 3 ب ولا حدا ، كما إذا أزال به الغصة ، أو عطشا أفضى إلى الهلاك.. الخ ما قال وأطال .
صفحة ٣
إذا علمت هذا اتضح لكأن صرفها ليس مساويا لباقي النجاسات ، لعدم جوازها أصلا في غير إزالة غصة ، أو عطش مهلك، كما مر ، ولو مع عدم غيرها ، نعم المستهلكة في رتبة باقي النجاسات تجرا واستعمالها عند عدم الطاهر إن عرف هو أو أخبره طبيب ، عدل بنفعها ، وكان قوله سلى الله عليه وسلم : ( لم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها ، ومن تداوى بنجس لا شفاه الله ) محمول على صرف الخمرة ، ولا ناقض وجود النفع في المستهلكة ، وباقي النجاسات عدم الغير الطاهر ، ويكون التأويل في الحديث هذا ، ولا يصح غير هذا التأويل ؛ فإنه صرف اللفظ عن / ظاهره بغير دليل ، وهو غير معقول ، مع أنه4 أليس لأحد من المعتبرين منقول ، فليتأمل ، ثم لا يخفى إشكال تعذر العدل في زماننا على مذهب السيد السند الشافعي ، بل ومالك ، وأشكال تعذر الجواد على الإقدام قبل المعرفة حتى بتفرع عليه جواز تناول المستهلكة إن عرف نفعها ،والانتهاك أولا ، ثم جواز الإقدام بعد التوبة بعيد ، وحينئذ فيتعسر ، أو يتعذر جوازالمستهلكة في زماننا وايضا بتعذر العدل ومعرفته هو نفسه النفع ، ولو وكلنا كلا إلى دينه وأمانته لضاعت فائدة وجوب حد الخمر .
وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه بحرمة التداوي بها مطلقا ، كما يقول الإمام مالك ، وإن كان التحريم متفقا عليه عند مالك ، وعلى المعول عليه عند أبي حنيفة ، وعبارة صاحب الدر متنا وشرحا في كتاب الأشربة / ولا يجوز التداوي بها ، قال 4ب المحقق الشارح على المعتمد ،قاله المصنف، قالت : ولا باحتقان أو إقطار في دبره، انتهى .
قال محشيه : قوله : ولا يجوزالتداوي ، هو داخل في قول المصنف قبله : ولا يجوز الانتفاع بها ، لكن المصنف أفاد أنه لا يباح ؛ لضرورة التداويبقرينة قوله : على المعتمد ، إذ لو لم تكن ضرورة لكانت محرمة بالإجماع ، انتهى .
صفحة ٤
وكأنه والله أعلم أراد بقوله : لكن المصنف أفاد أنه لا يباح لضرورة التداوي عدم إباحة التداوي بها ،ولو تعينت طريقا للدواء بحسب زعم الزاعم ، وإلا فقد علمت قول الصادق ( لم يجعل الله شفاء أمتي ... ألخ ) وفي قول الشارح : ولو باحتقان إيماء وتصريح إلى أن الاستعمال المحرك ليس قاصرا على الشرب كما توهمه بعض الأغبياء ، إذا تمهد هذا علمت أن التداوي / بالصرفة حرام بالإجماع ، إما اتفاقا ، أو على المعول 5أ عليه ، والخلاف إنما هو عند الشافعي في المستهلكة بشرط ، وقد علمت ما فيه (¬1) ، هذا ما يتعلق بحكم التداوي .
صفحة ٥
وأما الجواب عن المنافع الثابتة في قوله تعالى : [ومنافع للناس] (¬2) بعد قوله : [ فيهما إثم كبير] (¬3) أوكثير ، كما قرئ بهما فالمراد إما اللذة والفرح في الخمر ،وإصابة المال بلا كد في الميسر ،كما اقتصر عليه الجلال ، كماأن المراد بالأثم فيهما ما ينشأ عنهما من المفلسد من الإتلاف ،والعربدة في الخمر ، وسلب المال والأهل لمن قامر بهما ، ثم صار أسفا بعد ، كما أفاده غيره ، وعلى هذا التفسير فالمنافع باقية ، وأما من فسر المنافع بتشجيع الجبان ، وما معه كتقوية الطبيعة فإخبار عما كان قبل التحريم ، وإلا فقد سلبت تلك المنافع / بعده كما أخبر به الصادق المصدوق بقوله : ( لم يجعل الله شفاء أمتي ) ، 5ب وعلى فرض وقوع الشفاء لبعض الأجساد الخبيثة الرديئة ، فقد يقع بالسم الشفاء ، وهو قاتل لوقته بالكلية ، ومن بديع التفسير [فيهما إثم كبير] ، أي في تناولهما ، [ومنافع للناس] أي في تركها ، وإذا بعده ما بعده ، ثم قال الجلال : ولما نزلت [يسألونك ... ] (¬1) الخ، شربها قوم ، وامتنع آخرون ، إلى أن حرمتها آية المائدة ، وهو صريح في وقوع النسخ ، وأن التحريم به ، لا بترجيح المفسدة على المنفعة ، كما قال به المعتزلة ، وفيه إيماء لرد من قال كالبيضاوي ، وقيل : التحريم ثابت بأية [يسألونك.. ] الخ ، بترجيح المفسدة على المنفعة ، فإنه مبني على التحسين والتقبيح القطعيين ، ولا يقول بهما إلا المعتزلة ، كما أفاده العلامة الشهاب في حاشيته / عليه ، وعبارة العلامة الخطيب 6 أفي التفسير ، روي لما نزل بمكة قوله تعالى : [ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا] (¬1) ، وكان المسلمون يشربونها ، وهي لهم حلال يومئذ ، ثم إن عمر ومعاذا في نفر من الصحابة قالوا : افتنا في الخمر يا رسول الله ، فإنها مذهبة للعقل ، فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم إن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما ، ودعا ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأتاهم بخمر ، فشربوا ، وسكروا ، فحضرته صلاة المغرب ، فقدموا بعضهم ليصلي بهم ، فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، هكذا قرأ السورة بحذف لا ، فأنزل الله [ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ] (¬2) فحرم/6ب السكر في أوقات الصلاة ، فتركها قوم ، وقالوا لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة ، وتركها قوم في أوقات الصلاة ، وشربوها في غير وقتها ، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء ، فيصبح وقد زال عنه السكر ، ويشرب بعد صلاة الصبح ، فيصحوا وقت الظهر ، ثم إن عثمان بن مالك صنع طعاما ، ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وثاص رضي الله تعالى عنه ، وقد كان شق لهم رأس بعير فأكلوا منه ، وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ، ثم افتخروا عند ذلك ، وانتسبوا ، وتناشدوا الأشعار ، فأنشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار ، وفخر لقومه ، فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير ، فضرب به رأس سعد ، فشجه / فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشكا له الأنصاري ، فقال عمر: 7 أاللهم بين لنا بيانا في الخمر شافيا ، فنزل [إنما الخمر والميسر] (¬1) إلى قوله تعالى [فهل أنتم منتهون] (¬2) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : انتهينا يا رب .
قال القفال (¬3) : الحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن القوم كانوا ألفوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم به كثيرا ، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم ، فاستعمل في التحريم هذا التدريج والرفق .
وبيان معنى الخمر والميسر معلوم ومشهور ، وفي كتب الفقهاء والمفسرين محرر ومسطور ، يخرجنا تتبعه عن أداء هذا الغرض ، الذي أداؤه على كل أحد واجب ومفترض ، وكنا في غنية عن هذا التعب بالكل / لكن أحوجنا إليه تبجح بعض الأغبياء في 7 ب المجالس بالوساوس الشيطانية ، قاصدين به الطعن في النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، متحيلين به على المروق من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، كما أخبر بذلك المخصوص بالوسيلة ، والفضيلة ، والكرامة ، والدرجة العلية ، وما دروا أن زمام هذه الشريعة محفوظ لرب البرية ، وأنه جعل لها في كل عصر حماة يحرسونها وراثة من الحضرة المحمدية .
نسأله سبحانه أن يصلح لنا النية ، وأن يطهر منا الطوية بجاه النبي وآله ذوو النفوس الزكية ، وصحبه ذوو السادة المرضية ، آمين .
صفحة ٨
نجزه جامعه وقت السحر المكرم في ليلة السادس من رمضان المعظم الذي هو من شهور سنة ألف ومائتين وخمسة وخمسين
من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل
الصلاة
والسلام .
تمت .
صفحة ٩