بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ميز مقادير الرتب، وقنن القوانين حتى لا يبقى سبيل لمن عتب، وبين قدر عظماء السلاطين بقدر معرفة من خاطب عنهم له عن كثب.
نحمده لما رزق من فواضل زادت محاسن العلوم، وعرفت تفاوت درجات الأولياء إذ قالوا: وما منا إلا له مقام معلوم، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة يعلو بها الإسلام ولا يعلى عليه، ويعنو لها وجه كل متكبر متكثر بقليل ما لديه، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أقرب من دنا مقامًا من ربه، وأشرف من غزا الملوك بكتائبه، ودعاهم إلى الله بكتبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد. قد أغري أهل الفضل بحب التمام، وطبع كل رقيق الشمائل على الظماء إلى موارد الأدب الجمام، ولم يبق من لم يصرف إليه الاهتمام، أو ولع بالري ولوع الصب وكلف بالسجع كلف الحمام. وكان على الألسنة أني لم أطلع هذه الشعوب، وعدى وهو جزع شأو القارح اليعبوب، فذكرت بالدستور الذي كنت عملته في عنفوان الصبا بالأبواب السلطانية بديوان الإنشاء، وقربت منه لكل قاصر قصر الرشاء، وكنت كتبت:
1 / 13
يا طالب الإنشاء خذ علمه ... عني فعلمي غير منكور
ولا تقف في باب غيري فما ... تدخله إلا بدستوري
وألحوا علي في المسألة في الوقوف عليه، وفتح أبواب الأفهام المقفلة بالنظر إليه؛ وكان مما حالت دونه الأيدي الغاصبة، ومانعت عنه الأيام الغالبة، فقلت: أيها الشغف بي اسمع بي ولا ترني، وأيها الكلف بهذا الفن هذا زمانك إني قد مضى زمني! ولو تركت هذا الفن الذي أصبح الولع به مرضًا، وهذا الفضل الذي ما عدت رأيت جوهره إلا عرضًا، وشغلت نفسك بسوى هذا من العلم النافع والعمل الصالح، لكان أعود عليك، وأقر لك وأقرب إليك! فأبى إلا أن يكلفني غرامة ذلك الضائع، ويريد مني رد تلك الودائع. هذا وقد خلعت ذلك الرداء المعار، ومات سلطاننا ﵀ وزال الشعار، وقد أهملت هذا الفن حتى نسيته، وزدت على سائلي في الجهل به أو أواسيه. ثم لم أجد لي راحة من دوام مطالبته إلا بأن أضع له دستورًا، وأحرق خاطري له في التذكر لما فات وإن كنت لا أجد إلا فتورًا. وسألته عن أربه لأعمل على مقتضى إرادته، وأدأب فيما يحصل به قدر إفادته، فاقترح أن أجعله لما يحتاج إليه في ذلك الديوان المباشر، ويكون له كالمعلم الحاضر، والجليس
المباصر. وقد أتيت به على وفق اقتراحه، وملأته سرورًا به وقت راحه؛ وأتيت فيه بزيادات على ما في الأول أين تلك منها، وإعادات في تلك العادات لو حصلت الآن لأعرض عنها، ومحاسن حسنت السماح بما بخل به العاجز الشحيح، وأمسكه بيده ولو وجد مع هذا
1 / 14
لم يكن إلا كالطريح. وهيهات لا ينهض العاجز، ولا يتفتق الذهن المحجوب وبينه وبين ما جهد له ألف حاجز، وسميته: (التعريف بالمصطلح الشريف)، وجعلته سبعة أقسام:
الأول: في رتب المكاتبات.
الثاني: في عادات العهود، والتقاليد، والتفاويض، والتواقيع، والمراسيم، والمناشير.
الثالث: في نسخ الأيمان.
الرابع: في الأمانات، والدفن، والهدن، والمواصفات، والمفاسخات.
الخامس: في نطاق كل مملكة وما هو مضاف إليها من المدن والقلاع والرساتيق.
السادس: في مراكز البريد، والحمام، ومراكز هجن الثلج، والمراكب المسفرة به في البحر، والمناور، والمحرقات.
السابع: في أوصاف ما تدعو الحاجة إلى وصفه؛ وهو سبعة فصول.
وأدخلت في كل قسم من ذلك ما يفتقر إليه ويحسب فيه؛ وهيهات قد ذهبت مني شرة الصبا وشرة الفطنة، وعدمت الرغبة، وعقمت القرائح، وانصرفت إلى غير ذلك الركائب الطلائح، وسماء الشبيبة بضحى المشيب قد تجلت، والنفس قد ألقت ما فيها وتخلت، واستدركت الفارط، وألقيت القلم من يدي وقلت: وما كاتب بالكف إلا كشارط.
1 / 15
القسم الأول
في رتب المكاتبات
وأول ما نبدأ بما يكتب إلى الأبواب الشريفة الخليفيتية - زادها الله شرفًا - جريًا على قديم العادة، ورجاءً لملاحظة السعادة.
والكتابة إليها من الملوك والسوقة لا يختلف؛ وهي: (أدام الله أيام الديوان العزيز، المولوي، السيدي، النبوي، الإمامي، الفلاني) ثم الدعاء المعطوف، والصدر بالتعظيم المألوف.
وقد يفتتح بغير هذا الدعاء، نحو: (أدام الله سلطان، وخلد الله سلطان، أو أيام. .) أو غير ذلك مما يقتضي العزة والدوام.
والصدر نحو: (العبد، أو المملوك، يقبل الأرض أو العتبات أو مواطئ المواقف) أو غير ذلك.
ويختم الكتاب تارة بالدعاء وتارة بـ (طالع) أو (أنهى) أو غيرهما مما فيه معنى الإنهاء.
ويخاطب الخليفة في أثناء الخطاب: بالديوان العزيز، وبالمواقف المقدسة أو المشرفة، والأبواب الشريفة، والباب العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى أو
1 / 17
الشريف، وبأمير المؤمنين - مجردة عن (سيدنا ومولانا) ومرة غير مجردة - مع مراعاة المناسبة والتسديد والمقاربة.
وسبب الخطاب بالديوان العزيز الخضعان عن مخاطبة الخليفة نفسه، وتنزيل الخطاب منزلة من يخاطب نفس الديوان؛ والمعني به ديوان الإنشاء: إذ الكتب وأنواع المخاطبات إليه واردة وعنه صادرة.
فأما خطاب المكاتب عنه (بالعبد) أو (المملوك) أو (الخادم) فاختلف بحسب من كتب عنه: فكتب صلاح الدين بن أيوب: (الخادم)، وكتب بنوه والعادل أخوه: (المملوك)، وكتب الكامل ابن العادل: (العبد)، وجرى هذا ابنه الصالح، وكتب الناصر بن
1 / 18
العزيز (أقل المماليك)، وكتب الناصر داود: (أقل العبيد). وكان علاء الدين خوارزم شاه لا يكتب إلا (الخادم المطواع). وكتب هكذا ابنه جلال الدين. وكانت أم جلال الدين تكتب: (الأمة الداعية). هذا على شمم أنوف الخوارزمية وعلاء شأنهم.
صدر مكاتبة إلى الأبواب الشريفة الخليفية
أدام الله أيام الديوان العزيز، ولازالت سيوف أوليائه في رقاب أعدائه محكمة، وصنوف الكفار في أيدي عسكره الجرار بالنهاب مقسمة، وصفوف أهل الشرك مزلزلة بخوافق أعلامه المطهرة وسنابك جياده المطهمة؛ ولا برحت ملائكة النصر من أمداده، وملوك العصر بيض الوجوه بتعظيم شعار سواده.
الخادم ينتهب ثرى العتبات الشريفة بالتقبيل، وينتهي في قصارى الطلبات على الوقوف على تلك الرحاب وهو وكل ابن سبيل، ويكلل ربى تلك الساحات
1 / 19
بلآلئ الدموع، خضوعًا في ذلك الموقف الذي تنكر القلوب فيه الصدور، وتلصق منه الترائب بالنحور، ويظهر سيماء الجلالة في الوجود، ويغدق على الأولياء فيعرفون بسيماهم من أثر السجود، وينهي أن ولاءه القديم، وبلاءه العظيم، وأيامه السالفة، وأفعاله التالدة والطارفة، وسوابق خدمه في امتثال الأوامر الشريفة التي لم يزل يتسارع إليها، ويقارع عليها، ويصارع غلب الأسود على تنفيذ مراسمها، وإقامة مواسمها، وإطارة صيتها، ودوام تثبيتها، تحمل الخادم على الاسترسال. وتجمل له السؤال، والذي ينهيه كيت وكيت.
صدر آخر: أدام الله أيام الديوان العزيز ولازالت أيامه محفوظة، وراياته بالنصر محظوظة، وأعداؤه بمصارع بعضها بعضًا موعوظة، ولا برح شعاره المرقوم أشرف ما دارت عليه المحاجر، ورعبة المعلوم أفتك مما صالت به الخناجر، ورضاه أعظم ما ادخر إذا بلغت القلوب الحناجر، وسطاه يفلل الجيوش ويلبس كل مقنع من الأبطال ما تلبسه النساء من المعاجر، وعلاه تري الجوزاء دون الثواب ما هو على طاعته آجر، ونهاه يبطل غي كل غاو ويرد كيد كل فاجر، وتقاه لو جهد النير الأعلى لما ارتقاه ولو قرع به البحر لما احتاج إلى ساجر، وهداه يدل النجم على سراه ويكفي في الكف به كل زاجر، وثباته في السؤدد العريق يزلزل كل طوط لا يزول ويسئم كل مضاجر، وأناته لا تقدر بزمان ولا ما تألق به في معلم أعلامه الشريفة العباسية النهار وشمخت بالسواد ذوائب الدياجر
1 / 20
الخادم يشافه ثرى الأرض المقدسة التي جُعلت مسجدًا وترابها طهورًا، ويقبّل ربى تلك العتبات المشرفة التي زادت آياتها على الشمس ظهورًا، ويعفر جبينه في تلك الربوات فيزداد نور ولائه القديم نورًا؛ ويدين بعبودية هي من وصايا آبائه أول مال وعته أذنه، ومن إرث ولائه أولى ما كان عليه ظنه، ومن تحقيق الشكر لآلائه ما لم يخب فيه ظنه، وينهي كيت
وكيت.
صدر آخر: أدام الله سلطان الديوان العزيز، ولازالت الخلائق بكرمه مضيفة، والكتائب في هجير وطيسه مصيفة، والأيام في نصر أنصاره مصنفة، والمواضي بأوامره في قبضات عساكره مصرفة، والنقود - إلا ما تشرف باسمه - مزيفة، والقلوب في صدور الأعداء بخواطف رعبه مسيفة، والوعود - إلا ما تنجزه مواهبه - مسوفة، والوغى لا تُرى إلا برماحه المثقفة، والسماء - وإن علت - لا تكون إلا لأذيال بيوته مسجفة، والمهابة بسطاه إما للمعاقل فاتحة وإما عما يُطمع أن تناله الأيدي منها مجحفة، والأمم على اختلافها تحت راياته المنصورة مقاتلة وأخرى له محالفة، والأعلام التي يأوي إليها الإسلام به جواز الجوزاء أولها مخلفة، والأبطال لقتال الكفار ببوارق سيوفه قبل مضايق صفوفه ومخانق زحوفه مخوفة.
الخادم يقبل بولائه إلى ذلك الجناب، ويقبل الأرض وكتابه يحسن المناب، ويقيل عثراته إذ كان به قد لاذ، ويقيم معاذيره إذ كان به قد عاذ، ويتسربل بطاعته سرابيل تقيه إذا خاف من سهام الدهر إلى مهجته النفاذ، ويصول بانضمامه إلى تلك
1 / 21
العصابة المنصورة لا بما يُطبع من الفولاذ، ويجل تلك المواقف المقدسة أن يبل مواطيها بدمعه، وأن يحل مواطنها بقلبه قبل أن يعاجل كل عدو بقمعه، ويعد ما هدي إليه من الاعتصام بسببها سببًا لفوزه، وموجبًا لملك رق عنق كل عاص وحوزه، وينهي كيت وكيت.
صدر آخر: خلد الله سلطان الديوان العزيز ولازالت أيامه شامخة الذوائب، شارخة الصبا حتى حيث يلحق الشيب الشوائب، راسخة الفخار في الظهور بالعجائب، نافخة في فحم الليل جمر الكتائب، صارخة والرعد ترتعد فرائصه بين السحائب، ناسخة دولة كل علياء بما تأتي به من الغرائب، وتبذله كل الرغائب، فاسخة عقد كل خالع يرده الله ردة خائب، باذخة له على ماضي كل زمان ذاهب، من عصور الخلفاء الشرفاء وآيب، سالخة لجلدة كل أيم ظن أن في أنياب رمحه النوائب.
الخادم يقبل العتبات الشريفة ساجدًا بجبينه، وشاهدًا يستأديه له على يمينه، وجاحدًا كل ولاء سوى ولائه المعقود بيمينه، وعاقدًا بشرف الانتساب إليه عقد دينه، وحامدًا الله الذي جعله من طاعة أمير المؤمنين عند حسن يقينه، وعائدًا بأمله إلى كرم تثمر به الآمال، وتقمر به
الليالي لأنه شعاره الذي تضرب به الأمثال، وتمطر به السحب الجهام فتمحو بها آية الإمحال؛ وينهي ورود المثال الشريف الذي طلع نيره فأنار، وسطع متضاده فألف بين الليل والنهار؛ وأقبل فما رآه إلا كتابه الذي أوتيه باليمين، وسحابه الذي أعطيه يندى من الجبين، ونصره أكثر من الألوف، وصرفه أعجل من السيوف، وزاحم به الدهر فضلًا عن الصفوف، وزار به الوغى لا يهابها وخطيات القنا وقوف؛ فتشرّف به وطار بغير جناح، وقاتل بغير سلاح، وقرأ
1 / 22
وبات قرى له في السماح، وتسلمه كأنما تسنم به المعاقل وتسلم منه المفتاح.
صدر آخر: خلد الله أيام الديوان العزيز، ولا زالت سطواته تجمد برعبها الأبطال المدججة، وتخمد بفيضها النيران المؤججة، وتخمل بركز نفاذها إلى القلوب الرماح المزججة، وتبخل معها بعوائد كرمها السحب المثججة، وتخف لديها أوقار الجبال المفججة، وتخربل تخور خوفًا أن تترقى إليها الأصوات المضججة، وتخص بالغرق من خاطر في بحارها الملججة، وتحلف بسلطانها: للموت أشهى من البقاء إلى طرائد سيوفها المهججة، وتخلد النصر بحججها القائمة على الخصماء المتحججة.
الخادم يقلب وجهه في سماء الشرف بتقبيل الأرض التي طالت السماء، فأطالت النعماء، وفضلت النجوم اللوامع، وأوتيت بمالكها - أعز الله سلطانه - كلم الفضل الجوامع، وأحلت شوامخ المجد من حلها، وأجلت قدر من جد فأجلها، وأعطت مفاتيح الكنوز - كنوز الشرف - لمن قبلها كما يقبل الحجيج الحجر، أو أملها كما يؤمل الساري طلوع القمر، وينهي. . .
صدر آخر غريب الأسلوب: أدام الله أيام العدل والإحسان، والنعم الحسان، والفضل المشكور بكل لسان، الأيام التي أشرق صباحها السافر، وعم سماحها الوافر، وآمن بيمنها كل مسلم ضرب عليه سرادق الليل الكافر، وعلت شموسها وقد
1 / 23
جنحت العصور الذواهب، وقدحت أشعتها فأضاءت بين لابتي الغياهب، أيام الديوان العزيز المولوي، السيدي، النبوي، الإمامي، الحاكمي، لا برحت أيامه مفننه، وأحكامه مقننه، وسحبه على الظماء محننه، وقربه بفقد ما حوته مجننه، وحقائقه غير مظننه، وطرائقه للخير مسننه، والخلائق تحت جناح رأفته ورحماه مكننه؛ ولا زال ولأوه ضمير من اعتقد، وممير من أخذ من الدهر ما نقد، ومبير الأسود المتضائلة لديه كالنقد، وسمير من تنبه وضجيع من رقد،
ومعير البرق ندى كرمه وقد وقد، ومغير متعالي الصباح من راياته العالية بما عقد، ومجير من لاذ به حتى لا يضره من فقد، ومبير عداه براده الذي إن تأخر إلى حين فقد.
الخادم يخدم تلك العتبات الشريفة التي إن تاهت على السماء فما، وإن دنت للتقبيل فإن الثريا تود أن تكون فما، وينهب تراب تلك الأرض التي هي مساجد، ويقبل ذلك البساط الذي لا موضع فيه إلا مكان لاثم أو ساجد؛ وينزهها عن سواكب دمعه لأن ذلك الحرم الآمن لا تطل فيه الدماء، ويجلها عن مواقع لثمه لأنها لا تلثم السماء، ويرفع صالح الدعاء، وإنما إلى سمائها يرفعه، وينهي صادق الولاء، وما ثم من يدفعه، ويدخر من صحيح العبودية ما يرجو أنه ينفعهن ويطالع العلوم الشريفة بكذا وكذا.
1 / 24
رسم المكاتبة إلي ولي العهود بالخلافة
ضاعف الله جلال الجانب الشريف المولوي، السيدي النبوي، الفلاني، وأطلع من وجود الشمس بدره التام، وأحوج مع زاخر البحر منه إلى مدد الغمام، وقدّمه إمامًا على الناس وأطال الله بقاء سيدنا أبيه الإمام، ولا عدم منه مع نظر والده الشريف جميل النظر، ولا برح صدر دسته العلّي إذا غاب وثانيه إذا حضر، ولا زال الزمان مختالًا من جود وجودهما لا عرّف الله الأنام قدره إلا بالزهر والثمر، ولا زاد فيض كرم إلا وهو من كف أبيه الكريم فاض أو من وبله العظيم انهمر.
الخادم يخدم تلك العتاب الباذخة الشرف، الناسخة بما وجده من الخير في (الأشراف في) تقبيلها قول من قال: لا خير في السرف، وينهي ولاء ما عقد على مثله ضمير، ولا انعقد شبيهه لولي عهد ولا أمير، وإخلاصه في انتماء أشرق منه على الجبين، وأشرف فرآه فرضًا عليه فيما نطق به القرآن ورقم في الكتاب المبين.
صدر آخر: أعز الله أنصار الجانب الشريف، ولا جحد منه سر ذلك
1 / 25
الجلال، ولا معنى ذلك البدر المشرق منه في صورة الهلال، ولا فيض ذلك السحاب المشرع منه هذا المورد الزلال، ولا تلك المآثر التي دل عليها منه كرم الخلال، ولا تلك الشجرة المفرعة ولا ما امتد منها به من الغصن الممتد الظلال، ولا ذلك الإمام الذي هو ولي عهده وهو أعظم من الاستقلال.
الخادم يقبل تلك اليد موفيا لها بعهده، ومصفيا منها لورده، ومصفيا منها جلابيب الشرف
على عطفه، وحسبه فخارًا أن يدعى في ذلك المقام بعبده، ويترامى على تلك الأبواب، ويلثم ذلك الثرى ويرجو الثواب.
صدر آخر: ولا زالت عهود ولايته منصوصه، وإيالته بعموم المصالح مخصوصه، وصفوف جيوشه كالبنيان مرصوصه، وقوادم أعدائه بالحوالق محصوصه، وبدائع أنبائه فيما حلقت إليه دعوته الشريفة مقصوصه، والوفود في أبوابه أجنحتها بالندى مبلولة مقصوصه.
الخادم يجدد بتلك الأعتاب خدمه، ويزاحم في تلك الرحاب خدمه؛ ويقف في تلك الصفوف لا تنفك عن الطاعة في قدمه، ويتمثل بين تلك المواقف ويتميز عليهم إذا ذكر في السوابق قدمه؛ ويدلي بحجج سيوفه التي أشهرها، وصروفه التي لاقى أشهرها، ومواقفه التي ما أنكرها الديوان العزيز مّذ أثبتها. ولا حط رماحها مُذ أنبتها، ولا محا سطورها مذ كتبها، ليغيظ الأعداء ولا يشفي صدورها مذ كبتها، وينهي كذا وكذا.
صدر آخر: ولا زالت مواعيد الظفر له ممضوضة ورؤس من كفر بطوارقه
1 / 26
مرضوضة، وصحائف الأيام عما يسر به الزمان فيه مفضوضة، وجفون عداه ولو اتصلت بمقل النجوم مغضوضة، وطوارق الأعداء التي تجنهم منه بسيوفه معضوضة.
الخادم يخدم أرضه المقدسة بترامي قبله، وتقليب وجهه إلى قبله، ويتطوف بذلك الحرم، ويتطول من فواضل ذلك الكرم، ويتطوق بقلائد تلك المنن، وفرائد تلك المواهب التي إن لم تكن له وإلا فمن؛ فإنه - والله يشهد له - لا يعتقد بعد ولاء سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، والقيم بأمور الدنيا والدين ﵊ إلا ولاءها ولا يؤمل بعد تلك الآلاء إلا آلاءها، ولا يرجو من غير هذه الشجرة المباركة لأمله إثمارًا، ولا لليله إقمارًا، ولا لأيامه حافظًا، ولا لحال إقدامه في قدم صدق ولائه لافظًا؛ قائمًا في خدم هذه الدولة القاهرة يجهد في منافعها، ويجد في كبت مدافعها، ويدخر شفاعتها العظمى إذا جاءت كل أمة بشافعها.
إمام الزيدية باليمن
وهو من بقايا الحسنيين القائمين بآمل الشط، من بلاد طبرستان، وقد كان سلفهم جاذب الدولة العباسية حتى كاد يطيح رداءها، ويشمت بها أعدائها؛ وهذه البقية الآن بصنعاء وبلاد حضرموت وما والاهما من بلاد اليمن؛ وأمراء مكة تسر طاعته، ولا تفارق جماعته؛
والإمامة الآن فيهم من بني المطهر؛ واسم الإمام القائم في وقتنا: حمزة، ويكون بينه وبين الملك الرسولي باليمن مهادنات ومفاسخات
1 / 27
تارة وتارة؛ وهذا الإمام وكل من كان قبله على طريقة ما غيروها وهي إمارة أعرابية لا كبر في صدورها ولا شمم في عرانينها؛ وهم على مسكة من التقوى وترد بشعار الزهد؛ يجلس في ندي قومه كواحد منهم، ويتحدث فيهم ويحكم بينهم، سواء عنده المشروف والشريف، والقوي والضعيف؛ وربما اشترى سلعته بيده، ومشى في أسواق بلده لا يغلظ الحجاب، ولا يكل الأمور إلى الوزراء والحجاب، يأخذ من بيت المال قدر بلغته من غير توسع، ولا تكثر غير مشبع، هكذا هو وكل من سلف قبله من عدل شامل وفضل كامل.
ورسم المكاتبة إليه: أدام الله جلال الجانب الكريم، العالي، السيدي، الإمامي، الشريفي، النسيبي، الحسيبي، العلامي، سليل الأطهار، جلال الإسلام، شرف الأنام، بقية البيت النبوي، فخر النسب العلوي، مؤيد أمور الدين، خليفة الأئمة، رأس العلياء، صالح الأولياء، علم الهداة، زعيم المؤمنين، ذخر المسلمين، منجد الملوك والسلاطين؛ ولا زال زمانه مربعًا، وغيله مسبعًا، وقراه مشبعًا، وكرمه بفيض نداه منبعًا، وهداه حيث أم بالصفوف متبعًا، وملكه المجتمع باليمن، لو أدركه سيف بن ذي يزن، لم يكن إلا لديه منتضى وتبع لم يكن له إلا تبعًا؛ ولا فتئت معاقل شرفه بالجوزاء، وعقائد حبه تعد لحسن الجزاء، ومعاهد وطنه آهلة بكثرة الأعزاء، وياسم أهل ولائه تعز إليه بالاعتزاء، ومباسم ثغور أودائه
1 / 28
ضاحكة السيوف في وجوه الأرزاء. هذه النجوى إلى روضة الممرع وإلا فما تزم الركائب، وإلى حوضه المترع وإلا فما الحاجة إلى السحائب، وإلا حماه المخصب، وإلا فمما يسري الرائد، وإلى مرماه المطنب فوق السماء وإلا إلى أين يريد الصاعد، تسري ولها من هادي وجهه دليل، وفي نادي كرمه مقيل، وإلى بادي حرمه وما فيه للعاكف، وإلى عالي ضرمه ما لا ينكره العارف، وفي آثار قدمه ما يحكم به كل عائف، وفي بدار خدمه ما يذر عداه كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، مبدية وأول ما تبدأ بسلام تقدمه على قول كيت وكيت، وثناء ولا مثل قوله: ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت﴾.
صدر آخر: ولا عطل محراب هو إمامه، ولا بطل عمل هو تمامه، ولا جف ثرا نبات هو غمامه، ولا خف وقار امرئ بيده المصرفة زمامه، ولا ارتد مضرب سيف رؤوس أعاديه
كمامه، ولا ارتأى في حصول الخيرة له من كان إلى كنفه انضمامه؛ وأطال الله باع عليائه، وأطاب بأنبائه سماع أوليائه؛ وأدام إجماع السرور عليه، ومصافاته لأصفيائه وتراميه إليه؛ صدرت بها الركائب إليه مخفه، وسرت بها لتقف عليه والقلوب بها محفه؛ وأهوت لديه تشمخ بها لوصولها إليه الكبر، وطوت إليه البيد طي الشقة تقيسها المطايا بالأذرع والثريا بالشبر؛ تأتي بالعجب إذ تجلب إليه المسك الأذفر، وتجلو له الصباح وما لاح والليل وما أسفر؛ وتحل في مقر إمامته، وتحلي العاطل بما نثره من الطل صوب غمامته؛ موصلة لعلمه ما لا يقطع، ومضوعة عنده من عنبر الشحر ما يستبضع ومعلمة له كيت وكيت.
وقد وصل إلينا بمصر في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون سقى الله
1 / 29
عهدها رسول من هذا الإمام ابن مطهر إمام الزيدية من صنعاء، بكتاب منه يقتضي الاستدعاء، أطال فيه الشكوى من صاحب اليمن وعدد قبائحه، ونشر على عيون الناس فضايحه، واستنصر بمدد يأتي تحت الأعلام المنصورة لإجلائه عن دياره، وإجرائه مجرى الذين ظلموا في تعجيل دماره؛ وقال: إنه إذا حضرت الجيوش المؤيدة قام معها، وقاد إليها الأشراف والعرب أجمعها، ثم إذا استنقذ منه ما بيده أنعم به عليه ببعضه، وأعطي منه ما هو إلى جانب أرضه، فكتبت إليه مؤذنا بالإجابة، مؤيدا إليه ما يقتضي إعجابه؛ وضمن الجواب أنه لا رغبة لنا في السلب، فإن النصرة تكون لله خالصة وله كل البلاد لا قدر ما طلب؛ وهذا نسخة ما كتبت به إليه:
ضاعف الله جلال الجانب (بالألقاب والنعوت) واعتز جانبه عزًا تعقد فواضله بنواصي الخيل، وصياصي المعاقل التي لم يطلع على مثلها سهيل، وأقاس الشرف الذي طلع منه في الطوق وتمسك سواه بالذيل؛ وقدمه للمتقين إمامًا، وجعله للمستقين غماما، وشرفه على المرتقين في علا النسب العلوي ونوره وصوره تمامًا؛ ومن على اليمن بيمنه، وأعلم بصنعاء حسن صنيعه وبحضرموت حضور موت أعدائه، وبعدن أنها مقدمة لجنات عدنه؛ ولا زالت الأفاق تأمل في فيضه سحابا دانيا، وتتهلل إذا شامت له برقا يمانيا، وتتنقل في رتب محامده ولا تبلغ من المجد ما كان بانيًا.
هذه النجوى وكفى بها فيما يقدم بين يديها، ويقوم ولا يقوم من كل غالي الثمن ما عليها، تطوي المراحل، وتجوب البر والبلد الماحل، وتثب إليه البحار وتقذف منها العنبر إلى
الساحل؛ وترسي بها سفنها، ى وتحط إليه بل تخط لديه مدنها؛ وتؤذن علمه - سره الله - بما لم يحل إليه من نظرن ولم يخل منه من سبب ألف به النوم أو نفر، وورود وارد رسوله فقال: يا بشراي ولم يقل هذا غلام، ووصوله بالسلامة
1 / 30
والسلام، وما تضمنه ما استصحب منه من صحيفة كلها كرم، وأخبار صحيحة كلها مما لو قذف به الماء لاضطرم، ذكر فيها أمر المتغلب العادي، والصاحب الذي يفعل فعل الأعادي، والجار الذي جار والظالم البادي، وما مد الأيدي إليه من النهاب، وما اختطف به القلوب من الإرهاب، وحدث عن أخباره وعندنا علمه، وأخبر عن أفعاله مما له أجر الصبر عليه وعليه ظلمه، وقص رسوله القصص، وزاد الشجى وضيق مجال الغصص، وأطار من وكر هذا العدوان طائرا كأنما كان في صدره، وحرك منه لأمرٍ كان يتجرع له كأس صبره؛ وقد أسمع الداعي، وأسرع الساعي، وبلغ الأمانة حاملها، وأوصل الكلمة قائلها؛ ومرحبًا مرحبًا بداعي القيام من قبله؛ وأهلًا أهلًا بما بلغ عن ألسنه رسله، وهلُم هلم إلى قلع هذه الشجرة التي لم يخب إلا ظن غارسها، وقطع هذه الصخرة التي لم تنصب إلا مزلقة لدائسها، والتعاضد التعاضد لما هتف به هاتفه الصارخ، وسمعه حتى الرمح الأصم والسيف المتصاوخ؛ فليأخذ لهذا الأمر الأهبة، وليشد عليه فقد آنت الوثبة، فقد سطرت وقد نهض إلى الخيل ملجمها، وبادر وضع السهام في الكائن مزحمها؛ وكأنه بأول الأعنة، وآذان الجياد تفرق بين شطري وجهها الأسنة، وكأنه برسول القائد وفي أعقابه الجيش المطل، والألوية وكل بطل باسل يبتدر الوغى ولا يستذل؛ ولا أرب لنا في استزادة بلاد وسع الله لنا نطاقها، وكثر بنا مدد أموالها وقد على أيدينا إنفاقها؛ وإنما القصد كله والأرب جميعه كشف تلك الكرب، وتدارك ذلك الذماء الذي
1 / 31
أوشك أو كرب، وإن قدر فتوح، وتيسر ما طرف سوانا إليه طموح، كان هو أحق بسبقه: لأنه جار الدار، والأول الذي كان له البدار، ويقل له لعظيم شرفه ما نسمح به وإن جل، وما نهبه منه وإن عظم شأن كل تبع وهو ببعضه ما استقل؛ وكأنه والخيل قد وافته تجد في الإحضار، وتسرع إليه وتكفيه مؤونة الانتظار.
ولاة العهود بالسلطنة
أعز الله أنصار المقام وما زال مشرق الأهلة، مغدق السحب المستهلة، محدق الحدائق لتجتبي الأمة ثمره وتتبوأ ظله، مطلق الأعنة إلى مدى - قبله سلف الملوك فما وجدوا إلا
ظله.
صدرت هذه المفاوضة إلى مقامه العالي ومحله منا في الصدر، ومثاله - وإن بعد عنا - بين عينينا مثال القمر ليلة البدر، ومكانه إلى جانبنا على سرير الملك يتشوق لحلوله، ومقامه تحت أعلامنا وأعلامه يتشوف إلى وصوله، وعساكرنا التي هي عساكره تعلن في مواقفها الجهاد باسمنا واسمه، وجنودنا التي هي مدده تقسم بالله وبنا أنها لا تعدل عن قسمه.
صدر آخر: أعز الله أنصار المقام وأنجز له من النصر ما وعد، وبوأه سرير الملك الذي اقتعد، وبشر سح صيته الذي سبح له لما أرعد، وسبح في مدده حتى أبعد، وسنح طائرة إلا أنه الذي عدى العد.
أصدرناها إلى مقامه العالي تملي عليه أحاديث أشواقنا إليه، وأنبائنا التي نرجو أن تكون أسر ما يرد عليه، وتمثل له ما نحن عليه من سلامة له أوفرها، وأشتات تأيد لنا الجد في جمعها وله ظفرها؛ ويطلع علمه الشريف.
صدر آخر: أعز الله أنصار المقام العالي ولا زال معنا معنى حيث يممنا، وأدنى
1 / 32
دان منا إذا ارتقينا كاهل المنبر وتسنمنا، وأبدى مبد في استيداع جلائل القلاع إذا تسلمنا؛ ولا برحت جنود الليل والنهار تصحبنا سرى وتصحبه إقامة، وتقربنا سرائر وتقربه إلينا حتى لا يرى بعين الإجلال إلا مقامنا ولا نرى ولا نرى بعين الحنو إلا مقامه.
أصدرناها إليه وعهدنا له كما عهد، وعقدنا له على لواء كل نصر كما عقد، وشوقنا إليه يمثله لنا مثال الحاضر، ويرينا شخصه الكريم بالقلب وسنراه إن شاء الله عن قريب بالناظر.
أمير مكة
وإمرتها في الأشراف (بني حسن)؛ واستقرت في أولاد أبي نمي؛ وهي الآن في رميثة، وهو آخر من بقي من بيته، وعليه كان النص من أبيه دون البقية مع
1 / 33