ولو أن إنسانا عرف الكمال الذي هو حقيقة واجب الوجود ثم كان ينظم الأمور التي بعده على مثاله حتى كانت الأمور على غاية النظام ، لكان الغرض بالحقيقة واجب الوجود بذاته ، الذي هو الكمال.
فإن كان واجب الوجود بذاته هو الفاعل ، فهو أيضا الغاية والغرض.
كذلك لو عرفنا مثلا الكمال فى بناء نبنيه ثم رتبنا أمور ذلك البناء على مقتضى ذلك الكمال ، كان الغرض ذلك الكمال.
فإذا كان ذلك الكمال هو الفاعل ، كان الفاعل والغرض واحدا.
ومثال هذه الإرادة فينا أنا إذا تصورنا شيئا وعرفنا أنه نافع أو جذاب ، حرك هذا الاعتقاد والتصور القوة الشهوانية ، ما لم يكن هناك ترجح ولم يكن هناك مانع ، فلا يكون بين التصور والاعتقاد المذكور وبين حركة القوة الشوقية إرادة أخرى إلا نفس هذا الاعتقاد.
فكذلك إرادة واجب الوجود ، فإن نفس معقولية الأشياء له على الوجه الذي أومأنا إليه هى علة وجود الأشياء ، إذ ليس يحتاج إلى شوق إلى ما يعقله وطلب حصوله. ونحن إنما نحتاج إلى القوة الشوقية ونحتاج فى الإرادة إلى الشوق لنطلب بالآلات ما هو موافق لنا ، فإن فعل الآلات يتبع شوقا يتقدمه ، وهناك ليس يحتاج إلى هذا الشوق واستعمال الآلات ، فليس هناك إلا العلم المطلق بنظام الموجودات ، وعلمه بأفضل الوجوه التي يجب أن يكون عليها الموجودات ، وعلمه بخير الترتيبات.
وهذا هو العناية بعينها ، فإنا لو رتبنا أمرا موجودا لكنا نعقل أولا : النظام الفاضل ثم نرتب الموجودات التي كنا نريد إيجادها بحسب ذلك النظام الأفضل وبمقتضاه. فإذا كان النظام والكمال نفس الفاعل ثم كان تصدر الموجودات عن مقتضاه ، كانت العناية حاصلة هناك ، وهى نفس الإرادة ، والإرادة نفس العلم. والسبب فى ذلك أن الفاعل والغاية شىء واحد.
والعناية هى أن يعقل واجب الوجود بذاته أن الإنسان كيف تجب أن تكون أعضاؤه والسماء كيف تجب أن تكون حركتها ، ليكونا فاضلين ويكون نظام الخير فيهما موجودا من دون أن يتبع هذا العلم شوق أو طلب أو غرض آخر سوى علمه بما ذكرنا وموافقة معلومه لذاته المعشوقة له. فإن الغرض ، وبالجملة النظر إلى أسفل ، أعنى لو خلق الخلق طلبا لغرض ، أعنى أن يكون الغرض الخلق والكمالات الموجودة
صفحة ١٨