قد نعرف الأشياء على الوجه ، فإنا نعرف زيدا ، ونعرف أنه ابن فلان ، ونعرف أنه طويل أو قصير ، أو أنه بصفة من الصفات؛ وإن كان علمنا بانتقال لا بسيطا فلا تتكرر معرفتنا بزيد ، بل يكون علمنا به مرة واحدة. إلا أن نسبته تكثرت عندنا ، فعرفناها أولى وأخيرة ، والأول لا يكون فى علمه انتقال ، فلا يعرف لازما ، فيعرف لازما آخر بواسطة الأول ، بل يعرف الذات على ما هى موجودة عليه.
العناية هى أن الأول خير عاقل لذاته ، عاشق لذاته ، مبدأ لغيره فهو مطلوب ذاته. وكل ما يصدر عنه يكون المطلوب فيه الخير الذي هو ذاته. وكل هذه الصفات ما لم تعتبر فيها هذه الاعتبارات واحدة. وكل من يعتنى بشيء فهو يطلب الخير له. فالأول إذا كان عاشقا لذاته لأنه خير ، وذاته المعشوق مبدأ الموجودات ، فإنها تصدر عنه منتظمة على أحسن نظام.
العناية صدور الخير عنه لذاته ، لا لغرض خارج عن ذاته. فالإرادة تكون له متجددة.
فذاته عنايته. وإذا كان ذاته عنايته ، وذاته مبدأ الموجودات ، فعنايته بها تابعة لعنايته بذاته. وأيضا إذا كان مطلوبه الخير ، والخير ذاته وهو عنايته وهو مبدأ لما سواه ، فعلمه بذاته أنه خير مبدأ لهذه الأشياء وعناية له بها. ولو لم يكن عاقلا لذاته ، وعاقلا لأن ذاته مبدأ لما سواه ، لما كان يصدر عن ذاته التدبير والنظام. وكذلك لو لم يكن عاشقا لذاته لكان ما يصدر عنه غير منتظم لأنه يكون كارها له غير مريد له ، وليست الإرادة إلا أن الموجودات غير منافية لذاته.
ولما كان عاشقا لذاته ، وكانت الأشياء صادرة عن ذات هذه صفتها ، أى معشوقة ، فإنه يلزم أن يكون ما يصدر عنه معنيا به ، لأنه عاشق ذاته ومريد الخير له.
يكفى فى عنايته بالأشياء وجودها عنه. فعنايته بالأشياء هى حقيقة إذ هى عنايته بذاته ، وعناية الكواكب والأفلاك بالكائنات هى من طلبها الخير لذواتها بالتشبه بالأول ، ولأن ذواتها خير وطالبة للخير فجميع ما يصدر عنها يجب أن يكون خيرا ، ويكون فيه نظام الخير.
كما أن وجوده يظهر فى كل شىء فوجوده على صفة وجوده وهو أنه خير.
وجوده مباين لسائر الموجودات ، وتعقله مباين لسائر التعقلات ، فإن تعقله على أنه عنه ، أى على أنه مبدأ فاعلى له ، وتعقل غيره على أنه فيه ، أى على أنه مبدأ قابلى له.
وجود كل موجود هو للأول ، لأنه فائض عنه ، ووجوده هو له ، فوجوده مباين
صفحة ١٥٧