ولعل هذا الجانب الاجتماعي، الذي يشمل أماكن شراء الأطعمة وبيعها وفئات الناس الذين يأكلونها والأسماء المحلية التي يعرف بها طعام ما، من السمات البارزة لمناقشات جالينوس عن الأطعمة. فنطاق المعرفة الاجتماعية التي يوفرها في كتاباته يفوق بكثير نطاق المعرفة الاجتماعية لدى أثينايوس وغيره من المؤلفين «الأدبيين» والمؤلفين المتخصصين، كما سنرى في الفصل القادم. ويذكر أنواع الحبوب والفول الفقيرة التي يأكلها الريفيون لأنها تساعد في رسم حدود النظام الغذائي البشري. وعلى الجانب الآخر من الإطار الاجتماعي، يعبر عن حذره من أطعمة الأغنياء التي يحضرها الطهاة لأبناء الطبقات الراقية في روما وغيرها من المدن، لكنه يعترف بوجود بعض الاهتمامات المشتركة بين الأطباء والطهاة. وربما يكون هذا الحذر هو سبب قلة عدد الأسماك التي يدرجها في الجزء الثالث من بحثه «عن قوى الأطعمة»؛ فلو كان ينوي تقديم موسوعة غذائية شاملة بحق، كان يمكنه إدراج مئات من أسماء الأسماك ، ولكنه بدلا من ذلك ذكر عددا أقل مما ذكره المؤلفون الآخرون. ومن الصعب ألا نظن أن تفسير ذلك يكمن في ارتباط الأسماك بموائد الأغنياء، فالأسماك موضوع يناسب كتب الطهي أكثر مما يناسب البحوث الطبية؛ ففي النهاية، لم تكن الأسماك تخلو من الخواص الطبية، كما أشار الكثير من المؤلفين الآخرين. ويعزز هذا الرأي أن جالينوس يذكر تلوث الأنهار المرتبط بمتاجر الطهي من ضمن الصناعات الحضرية الأخرى، ويعززه كذلك عجزه المعلن عن فهم سبب تفضيل الذواقين الرومان لكبد أسماك البوري الحمراء، ويعززه كذلك عدم اهتمامه بالأسماك الصغيرة التي كانت متاحة للجميع بأسعار منخفضة للغاية. وعلى الرغم من كل ما يتمتع به جالينوس من أدوات متخصصة، فقد وقع ضحية للافتراضات الثقافية الشائعة في عصره عن الطهاة والأسماك والترف. ولكن هذا الكلام ليس انتقادا له؛ فعالمه الفكري قد تشكل بالطبع بفعل القوى الثقافية للإمبراطورية الرومانية ومعتقداتها الاجتماعية والثقافية التي كانت تشترك فيها كل أنحاء الإمبراطورية على امتداد مساحتها في أماكن شتى. ويكمن جزء من عظمته في أنه كان يحترم أفلاطون بنفس قدر احترامه لأبقراط، وكان يرى البراعة المتخصصة في مجال ما باعتبارها جزءا من مشروع فلسفي.
يتمتع جالينوس بسعة فكرية ومعرفية مدهشة؛ فهو يتناول الشئون الطبية والنباتية والبيئية والاجتماعية، كما رأينا، ولكنه أخذ أيضا في الاهتمام بالفلسفة والكتابات النقدية والنصوص الأدبية وتاريخ المكتبات، وقدم قوائم بكتبه ومعلومات عن كيفية طلبها، وقدم كتابات نقدية عن الحياة المعاصرة تضفي قدرا كبيرا من العمق على المشهد المعاصر، وصاغ الكثير منها في قالب مبني على النوادر. وهو يشبه أيضا أثينايوس، الذي يكاد يكون في نفس عمره، في تقديم مناقشة نقدية للثقافة الإغريقية على مدار ألف عام، وتمثل ذلك في نصوص متخصصة وأدبية؛ ولهذا السبب، فإنه يمثل المقدمة المثالية إلى الفصل الختامي الأدبي في هذا الكتاب، وهو يثبت أيضا ما أوضحه الكتاب التابعون لمدرسة أبقراط في بداية هذا الفصل، وهو أن المؤلفين المتخصصين في الطب كانوا يشكلون جوهر الفكر القديم المتعلق بالطعام، ولم يكونوا منعزلين في مجالات تخصصهم فحسب .
مقدمة الفصل التاسع
يأتي الطعام في الأدب عادة كوسيلة لإلقاء الضوء على شخصية أو موقف ما، وليس كمؤشر على اتجاهات تناول الطعام. ومع ذلك، ثمة أفكار يمكن استنباطها شريطة أن يؤخذ الرأي الشخصي للمؤلف في الاعتبار؛ فعلى سبيل المثال: كل ما نعرفه عن الذواقة أركستراتوس يأتينا من التلميحات التي تنتقص من عمله والواردة في الأحاديث المطولة التي يرويها أثينايوس عقب المأدبة.
وفي العصر الفيكتوري، يستخدم تشارلز ديكنز أوقات الطعام لعرض ما يبديه الأشخاص الجالسون إلى مائدة الطعام من جرأة أو تحفظ كعلامات تدل على شخصياتهم، وربما منزلتهم الاجتماعية. ويعبر عن وجهة نظر ثرية عادة عن تناول الطعام؛ حيث يرصد السيد بيكويك - ذلك الرجل اللطيف السليم النية - وهو يسارع دوما للجلوس إلى الموائد العامرة بأطايب الطعام، وذلك على عكس مأدبة الزفاف التي لم يأكل منها أحد، والتي أقيمت للاحتفال بزفاف الآنسة هافرشام التي هجرها خطيبها في رواية «الآمال الكبرى». والمثال الأشهر نجده عندما يتحول إبنيزر سكرودج (في رواية «ترنيمة عيد الميلاد») من البخل إلى حب الإحسان وفعل الخير، وهو ما نستدل عليه من إرساله في طلب ديك رومي كبير للاحتفال بمأدبة عيد الميلاد مع أسرة كراتشيت.
وربما يدل هذا على أن تشارلز ديكنز كان رجلا يستمتع بطعامه بقدر ما يدل على أي سمات متعلقة بالطعام والأصناف المتوافرة في ذلك العصر. مع ذلك، فإن الصور التي تستحضرها روايات ديكنز لأصناف الطعام الوفيرة والأنس الذي يشارك فيه الجميع، تظل ترمز لكل ما يستحسنه الشعب البريطاني في الطعام وعادات تناول الطعام.
أما كتب الطهي، فهي شأن آخر؛ فمن غير المرجح حتى وقت قريب أن يكون الطاهي ملما بالقراءة، أو أن يكون في مقدوره حتى شراء كتاب. إن الكتب المتعلقة بالطعام والطهي التي وصلت إلينا من تلك الحقبة التاريخية - التي فقد معظمها في حريق مكتبة الإسكندرية - موجهة لمن يأكلون وليس لمن يطهون؛ فالطهي من المهارات اليدوية التي تنتقل من الأم إلى الابنة في المنزل، أو من رب العمل إلى المتمرن على حرفة ما في مكان العمل. وحتى وقت قريب، كان من المستبعد تماما أن يأكل من يطهون المآدب الفاخرة - للأغنياء أو أسر النبلاء، أو للفنادق والمطاعم في القرن الماضي - من تلك المآدب التي طهوها؛ إذ كانوا خدما من الطبقة الكادحة يعدون المآدب للأسر الغنية. وكانت كتب الطهي الأولى، مثل كتاب «الطاهي الفرنسي» من تأليف لا فارين الذي صدر في عام 1651، موجهة للمشرفين على الطهاة، وكانت تحتوي على إرشادات بسيطة بخصوص المكونات وتخلو من طرق الطهي، ونادرا ما كانت تحتوي على أي معلومات عن المقادير المطلوب استخدامها.
وفكرة أنه ينبغي أن تكون كتب الطهي موجهة لمن يأكلون ليست بالفكرة الجديدة ولا القديمة؛ فلو أن عمل أركستراتوس قد ألف بغرض قراءته بصوت مسموع لمن يأكلون لما اختلف بدرجة كبيرة في جوهره عن الكثير من كتب الطهي - ربما معظمها - التي تنشر حاليا.
تظهر كتب الطهي بأسلوبين؛ فمن الممكن أن تكون دليلا إرشاديا بغرض الاستخدام في المطبخ، يحتوي على إرشادات دقيقة عن التحضير والمقادير، وعادة ما يحتوي هذا النوع من الكتب على رسوم توضيحية أو صور لخطوات التحضير، ويحتفظ به داخل المطبخ أو بالقرب منه. أو من الممكن أن يكون ما يعرف بالكتاب القائم على الإلهام وهو مخصص للقراءة، والغرض منه هو استحضار الروائح وطريقة تجهيز أصناف الطعام، وعادة ما تحتوي هذه الكتب على صور فوتوغرافية يظهر فيها ريفيون أشداء يقطفون الخضراوات، ويظهر خلفهم مشهد للغروب وراء تلال منطقة توسكاني. وربما تنجح الوصفات أو لا تنجح، وعلى أي حال ربما تعتمد على مقادير يتعذر الحصول عليها من خارج المنطقة التي عاش فيها المؤلف. وتقوم كتب الطهي التي يؤلفها طهاة المطاعم على أساس مشابه؛ إذ يكون الكتاب والصور التي يحتوي عليها بمنزلة تذكار لوليمة رائعة، ولكن الوصفات تتطلب على الأرجح كتيبة من الطهاة يعملون معا، أو تتطلب مهارات متقدمة من غير المتوقع توافرها لدى هواة متحمسين.
ولا شيء يرجح كفة أحد النوعين على الآخر، وإن كان الدليل الإرشادي هو النوع الأحدث الذي حل محل عادات الطهي الشفهية والعملية. أما الكتاب القائم على الإلهام، فيحمل الكثير من أوجه التشابه مع الكتابات المتخصصة في الطعام على مدار القرون، ويهدف إلى إلهام متناولي الطعام وتسليتهم وليس الطهاة.
صفحة غير معروفة