وهنا، نجد أن الإجراءات الأساسية للطهي مدمجة في النظرية القائمة على توازن العناصر التي يستند إليها كل من بحث «الحمية 1»، والإطار الجغرافي لكتاب «الأهوية والمياه والبلدان»، والنموذج الذي وضعه أبقراط عن الهضم.
ولكن الطهي ليس إلا جزءا من الحمية الغذائية التي وضعها أبقراط. ويكمل الطبيب التابع لمدرسة أبقراط النصائح المتعلقة بالطعام والشراب بنصائح عن طرق الاستحمام (57) وزيوت الجسم، والتقيؤ والنوم، والرياضة (المشي والجري والتمارين الرياضية في الهواء الطلق)؛ فهذه الأنشطة تسبب الإرهاق أو «كوبوس».
يتناول بحث «الحمية 3» باستفاضة الحميات المتعلقة بأسلوب الحياة، ويقدم برامج مختلفة للأفراد العاديين وللأفراد الموسرين ممن يتمتعون بحسن التمييز، ويقدم حمية مفيدة للأفراد العاملين، ويضرب مثلا بمن لا يتناولون أطعمة ومشروبات استثنائية، ومن يمارسون الرياضة بحكم الضرورة (أثناء أداء عملهم)، ومن يسافرون بغرض العمل، ومن يعملون في مهن ترتبط بالبحر؛ وهؤلاء ليسوا من أفقر الفقراء أو أغنى الأغنياء، بل من «الأكثرية» (3، 68) أو «الأغلبية» (3، 69). وتركز التوصيات على العوامل الموسمية (نجد مقارنة بين نمو البشر ونمو الأشجار في 3، 68)، وتشمل تلك التوصيات نصائح عن النوم والنشاط الجنسي، وكذلك عن الرياضة ووجبات الطعام (عددها ومواعيد تناولها في اليوم) والطعام. وهكذا، فإن كعكة الشعير والخضراوات أفضل من القمح صيفا، على سبيل المثال. وفي المقابل، نجد أن النظام الغذائي للأغنياء يعبر أبلغ تعبير عن الإفراط («بليسموني»). ومن الممكن أن تؤدي البرودة في المعدة إلى مشاكل (3، 75). وقد تحل التمارين الرياضية المشكلة، وقد يحلها أيضا تناول الخبز الدافئ المخمر والنبيذ الأحمر ومرق لحم الخنزير، أو السمك المسلوق في محلول ملحي لاذع (قارن ذلك بأركستراتوس). ويفيد النبيذ النقي في ذلك، ولكن لحم الجراء فائدته أقل. ويتضح من هذه الوصفات الطبية أن الكثير من الأطعمة الواردة في هذه الأنظمة الغذائية مشتق من الأطعمة الشائعة في ذلك العصر. يصف الطبيب التابع لمدرسة أبقراط علاجا من رءوس الأسماك (3، 82) أو لحم الظهر ولحم الذيل (3، 79)، وهو ما يظهر أيضا في الوصفات الخاصة التي وضعها أركستراتوس للذواقين ممن ينشدون أسلوب حياة الترف. ولكن، ثمة أطعمة أخرى عبارة عن وصفات استثنائية، ويقصد بها الكلاب، هذا إن كانت تؤكل - ولو نادرا - حسبما ادعى جالينوس في فترة لاحقة. وكان النبيذ عادة ما يخفف بالماء، كما ناقشنا فيما سبق.
والبحث الأخير من السلسلة - «الحمية 4» - يتحدث عن الأحلام، وهذا المقال اللافت يربط الأحلام باضطرابات الروح، وقد تظهر تلك الاضطرابات في هيئة أحلام عن الاضطرابات الطبيعية، أو عن الموتى، أو عن صور إيجابية جدا عن عالم الطبيعة. ويكمن علاج تلك الاضطرابات في التمارين الرياضية، والاستحمام، وإدخال تعديلات على النظام الغذائي، ومشاهدة المسرحيات الكوميدية - في حالة واحدة. ومن الممكن مثلا الحد من الاضطراب بالتقليل من الأكل (4، 88). وإذا كان الطعام يشكل فعلا جزءا من الحلم (4، 93)، فمن المرجح أن المريض يفتقر إلى الطعام وتعبر روحه عن رغبة في شيء ما (النص محل خلاف).
يتعلق معظم المادة الواردة في مجموعة «الحميات» بالنظام الغذائي اليومي. وفي الأعمال الأخرى ، نجد أن الأطباء التابعين لمدرسة أبقراط يصفون أطعمة متنوعة لعلاج حالات محددة؛ فمثلا: نجد عدة أطعمة تستخدم لأغراض علاجية في كتاب «الأوبئة». في (7، 62)، يتضح أن الشاعر ألكمان يعاني من مرض في الكلى، وظل لمدة سبعة أيام ممتنعا عن الطعام، فيما عدا مزيجا من العسل والماء، ثم بدأ يأكل تدريجيا ماء العدس وعصيدة العدس وكلبا مسلوقا و«المازا» ولحم رقبة بقري أو لحم خنزير مسلوق، بالإضافة إلى العلاجات المساعدة.
يشير كيزر (1997 (مجلد ديبرو) 181-183) - بقائمة مراجع - إلى أنه ما دام لم يصل إلينا أي كتاب مستقل عن علم العقاقير القائم على مدرسة أبقراط، فإن العادة الأقرب شبها بإعطاء العقاقير التي كان يتبعها الطبيب التابع لمدرسة أبقراط كانت تتمثل في وصف الأطعمة في هيئة مركزة. يميز جالينوس بين الأطعمة والعقاقير في بحثيه «عن قوى الأطعمة» و«عن قوى الأدوية البسيطة»، ويشير إلى فرق واضح بينهما. وثمة تاريخ طويل للعلاج الذي يستهدف منه الحفاظ على الصحة ومعالجة اختلالها، ويتحدث عن الفرق في اقتباس من كتاب «عن الطب القديم» في الفصل الأول، وفي بحوث هلنستية مثل كتاب ديفيليوس «طعام المرضى والأصحاء». والمرضى (ويمثلون أغلب دراسات الحالة الواردة في كتاب «الأوبئة») بحاجة إلى إصلاح نظامهم الغذائي، أو إلى تناول عقار أشد تركيزا، وكثيرا ما يكون مشتقا من مصادر نباتية أو حيوانية.
ورد ذكر الأنظمة الغذائية المميزة التي وصلت إلينا في بحث أبقراط «الحمية في الأمراض الحادة»، وفي بحث جالينوس «عن النظام الغذائي في تخفيف الأخلاط». والبحث الثاني يتناول مشكلة الخلل في التوازن بين الأخلاط، ويتمثل ذلك عموما في زيادة إفراز البلغم. والأطعمة الموصى بها في البحث تكاد تكون هي تماما نفس الأطعمة الواردة في القائمة العامة المرتبة في بحث جالينوس «عن قوى الأطعمة»، ولكنها مرتبة ترتيبا مختلفا للغاية؛ ومن ثم، فإن أفضل الأطعمة هي البصليات - الثوم والبصل - لأن هذه النباتات تتسم بخاصية لاذعة تخترق الأخلاط الثقيلة وتخفف من خطر الأمراض الناشئة عن الأخلاط الثقيلة، مثل الأمراض التي تصيب الكبد والكلى والطحال، وأمراض المفاصل، ومشاكل التنفس المزمنة (كتاب جالينوس «عن النظام الغذائي في تخفيف الأخلاط» 1). والخضراوات في هذا النظام الغذائي عادة ما تكون أفضل من الحبوب، واللحوم أسوأ - وخصوصا لحم الخنزير - مع أن اللحوم المأخوذة من الحيوانات البرية ومن المناطق الجبلية أفضل، وكذلك أنواع معينة من الأسماك. وأسوأ الأطعمة جميعها هو الحليب والجبن. ويقدم تصنيف الأطعمة، بناء على مبدأ تخفيف الأخلاط أو تقليلها، مقارنة مبهرة مع التصنيف الذي وضعه جالينوس بناء على التغذية.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه على الرغم من اختلاف نظام الأخلاط الذي تحدث عنه جالينوس عن الأساس الكيميائي والبيولوجي الذي يقوم عليه الطب الحديث، فإن العلم الحديث يحدد أن الثوم يتسم بالقدرة على الوقاية من تجلط الدم أو الجلطة، وذلك من بين خواص أخرى (ديفيدسون 1999: 331). وبالمثل، فإن الكوليسترول - مع أنه مهم للحياة (مثل البلغم) - الذي يمثل خطورة عند زيادة ترسبه إلى مستويات مرتفعة في الشرايين يمكن تخفيضه عن طريق تناول خضراوات معينة ودهون نباتية غير مشبعة. وعلى العكس، تساعد الدهون الحيوانية في زيادته، وأهمها الدهون التي تتجمد في درجة حرارة الغرفة مثل الجبن ودهون لحم الخنزير؛ ومن ثم، نجد أن العلم مختلف ولكن الإصلاح القائم على النظام الغذائي ليس متباينا.
رأينا أيضا - في الفصل الأول - أن نظرية أبقراط عن الهضم كانت تقوم على فكرة الطهي، وكان لاستعمال الطعام النيئ أهمية كبيرة في هذه النظرية؛ لأن طهي الطعام كان يختزل قواه الطبيعية - إذا جاز التعبير - ويجهزه لعملية التمثيل الغذائي في الجهاز الهضمي. ويتحدث المؤلف التابع لمدرسة أبقراط الذي ألف مجموعة «الحميات» عن هذا، كما يتحدث عن التوازن بين مقدار ما يأكله المرء من طعام والتمارين الرياضية والاستحمام، وهي التي تشكل الأعمدة الثلاثة للعلاج بأسلوب أبقراط (الذي كانت تضاف إليه أحيانا الإجراءات الجراحية وغيرها من طرق التدخل الميكانيكي المحفوفة بالمخاطر).
يقدم بحث جالينوس المعنون ب «عن المحافظة على الصحة» (هايجينا) بعض الافتراضات اللافتة عن العصر الذي يعيش فيه. يتناول البحث تصوره عن النظام الغذائي اليومي المفيد بناء على تطور جسم الإنسان من مرحلة الطفولة المبكرة (الجزأين الأول والثاني) إلى الشيخوخة (الجزء السادس). ويبدو أن جالينوس عادة ما يهتم بالجسم الذكوري، ويهتم بالطفل وليس المرضعة أو الأم حتى وهو يناقش الرضاعة التي يفرد لها مناقشة تفصيلية. وهو يقصد أيضا الجسم الإغريقي. وحين يناقش جالينوس الجسم المثالي، فإنه يدعي أن الجسم المتناسق أمر يصعب تحقيقه في بلد شديد الحرارة أو شديد البرودة ما دامت الحرارة تسبب بنية بدنية نحيلة، أما المناخ البارد فيؤدي إلى حدوث اضطراب في توازن الأخلاط ويتسبب في ارتفاع زائد في حرارة الأعضاء الحيوية. ويصرح جالينوس أن المقياس الذي يجب اتباعه هو مقياس النحات بوليكليتوس؛ إذ تكثر الأجسام المتناسقة التي تشبه تماثيله «في بلادنا»، أما بخصوص السلتيين والسكوثيين والمصريين والعرب، فمن المستبعد وجود مثل تلك الأجسام بينهم. وهذه الخصوصية الثقافية لافتة، ولكنها متسقة تماما مع المؤلفين التابعين لمدرسة أبقراط الذين كتبوا بحوثا مثل «الأهوية والمياه والبلدان».
صفحة غير معروفة