لماذا لا يسمح لكاهن الإله جوبيتر - الذي يدعى فلامين دياليس - بلمس الدقيق أو الخميرة؟ هل لأن الدقيق طعام غير مكتمل وخام؟ فهو لم يظل كما كان - قمحا - ولم يصبح ما يفترض أن يكون عليه، أي خبزا؛ ولكنه فقد قوة الإنبات التي تكمن في البذرة، وفي الوقت نفسه لم يصل إلى خاصية النفع التي تميز الطعام ... والخميرة هي أيضا نتاج الفساد، وتنتج الفساد في العجين الذي تمزج به؛ إذ يصبح العجين ضعيفا وخاملا، وتصبح عملية التخمير بأكملها فيما يبدو عملية تعفن، وفي حالة الإفراط في استعمالها، فإنها تضفي طعما حامضا على الدقيق وتفسده تماما.
ولماذا يحرم أيضا على هذا الكاهن لمس اللحم النيئ؟ هل المقصود من هذه العادة صد الناس تماما عن أكل اللحم النيئ، أم أنهم يرفضون اللحم لنفس سبب تحريم الدقيق؟ فهو ليس كائنا حيا، ولم يصبح طعاما مطهيا بعد. ويؤدي السلق أو الشواء - بصفتهما نوعين من التعديل والتحويل - إلى التخلص من الصورة السابقة؛ ولكن اللحم النيئ الطازج لا يتسم بمظهر نظيف وطاهر، بل مظهره منفر، مثل جرح حديث. (ترجمه إلى الإنجليزية: بابيت)
يطرح بلوتارخ، ضمن «الأسئلة الإغريقية»، سؤالا عن السبب في أن أهالي مدينة تراليس يطلقون على نبات البيقة المطهر، ويستخدمونه في طقوس التكفير عن الذنوب وطقوس التطهير الروحي. يقدم هذا المنهج العقلاني المتبع في دراسة الأديان القديمة - الذي يمثل صورة مبكرة من صور علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية - تفسيرات مؤقتة للظواهر الدينية المحيرة، ويلقي الضوء على الشعائر التي تقتصر على مدينة بعينها وتميزها عن غيرها (وهي فكرة رئيسة متكررة في هذا الفصل)، ويتناول مجموعة كبيرة من التقاليد الاجتماعية، بما في ذلك الأطعمة والطهي. ويشبه هذا النسق القائم على الأسئلة المنهج الذي استخدمه أوفيد في قصيدته «الأعياد» - التي كان موضوعها الأساسي هو روما - ولكنه يتناول قدرا كبيرا من الشعائر والأساطير الإغريقية أيضا. بلغ بعض جوانب الديانة القديمة حدا كبيرا من الغرابة، حتى إنه كثيرا ما كان يستدعي البحث عن تفسيرات موغلة في الغرابة. وهذه هي الحال خصوصا فيما يتعلق بالردود المحيرة التي كان يجيب بها وسطاء الوحي، وفيما يتعلق بالأساطير المتعلقة بتأسيس بعض المدن. فحسبما قال أحد وسطاء الوحي، ستؤسس مدينة إفسوس «في المكان الذي تشير إليه سمكة ويقود إليه خنزير بري» (أثينايوس). أما في فاسيليس - وهي مدينة تقع جنوبي آسيا الصغرى - فإن تقديم قرابين من الأسماك المملحة يحيي ذكرى الأسماك المملحة التي استخدمها مؤسس المدينة لشراء الأرض من راعي غنم محلي (أثينايوس). ووجد أثينايوس هاتين القصتين في كتب التاريخ المحلية («تاريخ أهل إفسوس» من تأليف كريوفيليس، و«تاريخ أهل كولوفون» من تأليف هيروفيثوس). وتصور القصتان مدى تنوع الممارسات الدينية والعلاقة المعقدة التي تجمع بين عالم البشر وعالم الحيوان في العصور القديمة، وهو ما سنناقشه باستفاضة في الفصل السابع. وكثيرا ما كان الناس يحيون ذكرى هذه العلاقة على نحو مادي وملموس عن طريق الأطعمة التي يتناولونها وطريقة الطهي المتبعة.
وكان الكثير من الأعياد يجمع بين القادة الحكوميين وسكان المدينة، ورأينا في الفصل الثاني الأعياد الكبيرة التي احتفل بها الملوك الهلنستيون القدماء، مثل العيد الذي أقامه أنطيوخوس الرابع في دافني، وكان هذا العيد عبارة عن استعراض للقوة الملكية المخصصة للتنافس في الألعاب التي أقامها القائد الروماني إميليوس باولوس؛ ولكن الموكب كان يشمل الآلهة. ويخبرنا بوليبيوس (31، 3 = أثينايوس 5، 195) أنه: «من المتعذر أن نحصي عدد الصور المقدسة؛ إذ كان المشاركون في الموكب يحملون وهم سائرون تماثيل لكل الشخصيات التي يقال أو يعتقد أنها آلهة أو أنصاف آلهة أو حتى أبطال من البشر، وكان بعض التماثيل مطليا بالذهب وبعضها مكسوا بأردية من خيوط ذهبية. وكان بجوار كل التماثيل كتيبات في طبعات فاخرة تتناول الأساطير المقدسة المتعلقة بكل منها، وذلك وفق ما جاء في القصص التقليدية» (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك). ويخبرنا بوليبيوس أن المشهد التالي في الموكب كان يتمثل في مرور مئات العبيد وهم يحملون أواني ذهبية وفضية، وكان هذا الموكب استعراضا للسلطة والثروة، وكانت تستدعى إليه كل الآلهة التي تخطر على البال. وربما كانت الآلهة تشارك على مضض في بعض الحالات؛ نظرا لأن جانبا من تمويل الموكب كان يأتي من الغارات التي تشن على المعابد.
ويأتي أشهر وصف لموكب ديني في الحقبة الهلنستية من الكتاب الذي يتناول الإسكندرية من تأليف كاليزينوس الرودسي، وهو عبارة عن وصف للاحتفال الذي نظمه بطليموس الثاني - فيلاديلفوس - وزوجته أرسينوي تكريما لبطليموس الثاني - سوتير - وزوجته برنيس. ويأتي الموكب والأنشطة المرتبطة به كمثال على ما تمتلكه هذه المملكة التي حلت محل المملكة السالفة من سلطان ونطاق عالمي. ويضم الموكب خيمة كبيرة مميزة مخصصة للحفلة الأساسية، بها 130 أريكة و100 مائدة فضية وقد انتثرت على أرضيتها الزهور (مع أن الوقت كان شتاء) للتعبير عن خصوبة مصر. وبداخل الخيمة، كانت توجد صور لحفلات شراب، وكانت تقام المسرحيات التراجيدية والكوميدية وغيرها من الأنشطة المرتبطة بديونيسوس. وكانت تتوافر لبقية الحضور من الجنود والحرفيين المهرة والزوار مؤن مستقلة لتناول الطعام، وكان الموكب نفسه يكرم أولا الزوجين الراحلين، ثم يكرم كل الآلهة الأخرى وخصوصا ديونيسوس. وكان يشارك فيه أشخاص متنكرون في هيئة الإله سيلينوس الذي يتخذ هيئة نصف إنسان ونصف حصان، كما كان يشارك متعبدون آخرون. وكانت تتصاعد رائحة عطور مثل البخور وصمغ المر، وكان يشارك أشخاص يمثلون الزمن والفصول الأربعة. وكانت تظهر فيه صور للنبيذ وآنيته، وكانت تظهر في الموكب حيوانات كثيرة مثل الجمال والكركدن والطيور. وكان يشارك فيه كثيرون من أصقاع بعيدة شرقا وجنوبا، كما كانت تشارك نساء يمثلن مدن البر الأساسي لليونان وآسيا الصغرى. وكانت تظهر صور لانتصارات الإسكندر الأكبر ومعروضات رائعة من الذهب.
يعود الفضل إلى أثينايوس في الاحتفاظ بهذا الوصف، الذي يعلق أن فيلاديلفوس فاق الكثير من الملوك ثراء، وذلك بفضل الثراء الذي أتى به النيل ودلتاه؛ فيبدو أننا بصدد موكب يكرم الملوك المؤلهين، موكب يقوم على تكريم وعبادة ديونيسوس ؛ الإله الذي كررت فتوحات الإسكندر الأكبر رحلته المنتصرة عبر آسيا. وتكرم فقرات كثيرة من الموكب بقاعا بعيدة يتضح الآن أن الملك والملكة قد توجها إليها؛ فالموكب عبارة عن وسيلة لإظهار السلطان والنفوذ، وربما يمكن أن نشبهه بالمواكب التي كانت تسير في مدينة أثينا. وكما ذكر فيما سبق، كانت الإلهة أثينا تكرم في بان أثينايا بموكب وبطقوس لتقديم القرابين. وينظم أهالي الإسكندرية عملية توزيع اللحم، مع إيلاء عناية خاصة بالعائلة الملكية وضيوفها. وتتوافر مؤن مستقلة «للجنود والحرفيين والزوار». كانت ترغب مدينة أثينا في التعبير عن هيكلها الاجتماعي؛ ولذلك كان تقسيم اللحم يتم وفقا لاعتبارات تستند إلى هوية من حضروا الموكب ومن شاركوا فيه من كل من المقاطعات التي تتكون منها المدينة ذات الحكم الذاتي.
ونجد أن وصول ديونيسوس منتصرا في عيد البطلميا هو نسخة مفصلة من وصول ديونيسوس إلى مدينة أثينا قادما من خارج البلاد، وذلك كما يظهر في عيد أنثيستيريا وربما الاحتفالات الأثينية الأخرى المتعلقة بديونيسوس. ونجد أن فكرة وصول إله من مكان آخر وتصوير هذا الحدث فكرة شائعة (راجع الفصل الأول فيما يتعلق بديونيسوس وتريبتوليموس وهرقل). ويتضح من المقارنة بين احتفال البطلميا والاحتفالات الأثينية المتعلقة بديونيسوس كيف أن المواكب الدينية تعبر عن الهياكل الاجتماعية والسياسية للمدينة. ويقدم أثينايوس تعليقا لافتا آخر عن الاحتفالات في الإسكندرية؛ إذ حافظ على مقتطف من بحث ألفه العالم الرياضي والفلكي إيراتوسثينس عن الملكة البطلمية أرسينوي: «أسس بطليموس كل أنواع الاحتفالات ومناسبات تقديم القرابين، خصوصا المرتبطة بديونيسوس، وسألت أرسينوي الرجل الذي كان يحمل أغصان الزيتون عن المناسبة التي كان يحتفل بها آنذاك وعن اسم العيد؛ فأجاب: «إنه عيد يسمى عيد حمل الإبريق (لاغونوفوريا)، ويأكل فيه المحتفلون ما يقدم إليهم وهم يتكئون على أسرة من عيدان نبات الأسل، ويشرب كل منهم من إبريق خاص يحضره معه من منزله.» وبعد أن مضى، نظرت إلينا وقالت: «لا بد أن ذلك تجمع بذيء؛ فذلك النوع من التجمعات لا يشارك فيه إلا حشد أفراده من مشارب مختلفة تقدم إليهم وليمة سيئة المذاق وغير لائقة مطلقا.» ويضيف المتحدث الذي يستشهد به أثينايوس، وهو بلوتارخ: «ولكن لو كان ذلك الاحتفال قد نال إعجاب الملكة، لما سئمت قط من تقديم نفس القرابين، وهو ما كان متبعا في احتفال الأباريق (كوييس)» (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك). من المنطقي أن تستهزئ أرسينوي بطعام هؤلاء بعد أن رأت الأطعمة الراقية التي تقدم في احتفال البطلميا، ولكن لا بد أن نذكر هنا ثلاث نقاط؛ أولا: إدماج نسخة من احتفال منتشر من احتفالات المدينة - وهو «كوييس»، الذي يوافق اليوم الثاني من عيد أنثيستيريا - في طائفة أتباع الملوك البطالمة. ثانيا: التمييز الطبقي حتى في مناسبة احتفالية (وهو ما يشير إليه موقف أرسينوي). ولاحظ أن عامة الناس كانوا يتكئون على أسرة من عيدان نبات الأسل، وكما ناقشنا في الفصل الثاني، كان الاتكاء عادة منتشرة ولم يكن يميز عادة الاتكاء لدى الأغنياء سوى الذهب والعاج. ثالثا: كان ديونيسوس في المدينة ذات الحكم الذاتي إلها يساعد على تعارف مختلف أنواع الناس ويذيب الفوارق بينهم (سيفورد 1994). والنفور الذي أبدته أرسينوي حيال هذا الاتجاه لافت للانتباه؛ نظرا للاتجاه المتزايد في الحقبة الهلنستية والرومانية إلى تخصيص ديونيسوس للاحتفالات والعروض التي يقيمها الأغنياء وذوو السلطان، وذلك حسبما يوضح بلوتارخ في كتابه «حيوات» الذي يتناول الإسكندر الأكبر ومارك أنطونيو. (4) قرابين الأطعمة
كان اللحم هو الطعام الأساسي في الاحتفالات، بل كان - على أقل تقدير - أكثر الأطعمة شأنا، ونجد أفضل مثال على ذلك في النقش الذي يتحدث عن عيد بان أثينايا الذي استشهدنا به آنفا، وفي أعداد جلود الذبائح التي تقدم كقرابين في عيد ديونيسيا وفي طقوس تقديم القرابين الكبرى في أوليمبيا. وطقوس تقديم القرابين الحيوانية هي الأهم بسبب تكلفة القربان والأنماط الفكرية المتعلقة بالقتل. يشدد كل من ديتيان وفيرنان - كما رأينا - على موضوعات التعريف (بين الإنسان والحيوان والإله)، والهوية (من حيث الزراعة والنوع الاجتماعي والحضارة، كما يحددها استخدام النار في المجتمعات المستقرة). ويشدد آخرون على الإحساس بالذنب الذي يحس به المرء حيال قتل حيوان. (وللاطلاع على أفضل ملخص لطقس تقديم القرابين عند الإغريق، راجع بيركرت 1985: 55-68.)
كان هناك أيضا الكثير من الأطعمة الاحتفالية وقرابين الطعام الأخرى، ذات الأعداد الكبيرة والتنوع الهائل، في كل أنحاء المجتمعات المترامية الأطراف في البلدان الإغريقية الرومانية. يذكر جالينوس الخبز بالجبن المستخدم في أيام الاحتفالات في ميسيا (راجع الفصل الثاني). وكان يقدم «أوبيلياس» أو رغيف محمص على السيخ في عيد ديونيسيا، وكانت تقدم أطعمة مميزة في أيام العطلات الدينية في مبنى البريتانيون في نقراطيس (كما ناقشنا في الفصل الثاني).
ننتقل الآن إلى الشعائر التي كانت تشترط تقديم قرابين بخلاف الحيوانات، وذكرنا فيما سبق عددا من ذلك النوع من القرابين في أوليمبيا، وهو ما كان يكمل القرابين الحيوانية المقدمة خلال مدة الاحتفال. وكان من بين الأمثلة اللافتة الأخرى هيكل معبد أبولو جينيتور في ديلوس، وكانت القرابين المقدمة فيه عبارة عن قمح وشعير وكعكات، ولم تشهد الطقوس استخدام النار أو قتل الحيوانات. وكان هذا الهيكل - وفقا لما ذكره ديوجينيس اللايرتي في كتاب «حياة فيثاغورس» (13) - الهيكل الوحيد الذي كان يتعبد فيه فيثاغورس. من الصعب تمييز فيثاغورس عن أتباعه، وكان جانب كبير من فكره يهتم بالأعداد والموسيقى والأفكار الصوفية، ولكن كان جزء مهم من تعاليمه - والجزء الذي كثيرا ما يلاحظه المعلقون المنتقدون - يتعلق بالضوابط الغذائية. كان يوصي باستبعاد اللحوم وبعض أنواع الأسماك والفول، وقد شرح ديوجينيس اللايرتي (14) هذه الضوابط هو والكثير من المعلقين القدماء الآخرين من منطلق الإيمان بتناسخ الأرواح. وهذا المعتقد يعبر عنه ببلاغة في تصريح روائي يناهض أكل اللحوم جاء على لسان فيثاغورس في قصيدة «مسخ الكائنات» (15) من تأليف أوفيد. ويعرض فرفريوس حجة فيثاغورس بالتفصيل في كتابه «عن التقشف» (والفقرة مترجمة إلى الإنجليزية في كلارك 1999). يشرح ديوجينيس اللايرتي دوافع فيثاغورس على النحو التالي (13):
صفحة غير معروفة