يستحق الأمر أن نستخلص بعض النقاط العامة. يستقى الكثير من الأدلة الإغريقية من أثينا القديمة، التي كانت - فيما يبدو - تطبق سياسة الفصل بين الجنسين على نحو أكثر تشددا مقارنة بالكثير من المدن الأخرى ، فيما عدا مدينة ميليتوس. ولا توجد أدلة على أن مثل ذلك الفصل المتشدد كان يطبق على كل فئات الحرائر؛ إذ كانت هناك، على سبيل المثال، بائعات خبز وبائعات أسماك في السوق (راجع ويلكنز 2000). ولكن توجد أمثلة تفيد عكس ذلك أيضا (راجع مثلا ما يرويه جالينوس عن القرويات اللاتي يسلقن القمح كما ورد آنفا). كان بوسع النساء أن يأكلن ويشربن بعضهن مع بعض، ونجد بعض الأمثلة الهزلية على ذلك في كتاب ويلكنز (2000). وحين نقرأ في كتاب أفلاطون «حوار المأدبة» أنه لا داعي لوجود عازفة المزمار، وأنه من الأفضل إرسالها لتسلية النساء إذا دعت الضرورة، فإننا لا ندري شيئا عن ظروف أو طريقة تناول هؤلاء النساء للطعام هن وصديقاتهن. أما النساء اللاتي نعرف معلومات عنهن حقا، فهن الرفيقات أو المحظيات «هيتاراي»، وهن مرافقات يحضرن جلسات الشراب ويظهرن كثيرا في المسرحيات الهزلية وفي الرسوم التي تزين المزهريات وفي صفحات كتب أثينايوس. ويسجل أثينايوس الكثير من الأقوال المأثورة الطريفة لهؤلاء النساء في الجزء الثالث عشر من كتابه «مأدبة الحكماء»، والفكرة التي تؤكدها كثرة حضور المحظية للمآدب الإغريقية هي غياب المرأة صاحبة المكانة الرفيعة. ومع ذلك، كان كل هؤلاء النساء يتناولن الطعام يوميا مع أسرهن وصديقاتهن وأقربائهن.
وربما تفيد مناهج أخرى في ذلك؛ فقد أشار دالبي (1993: 176-181) إلى أن النساء كن غالبا ما يطعمن أزواجهن أولا، ثم يأكلن طعاما أقل جودة بعد ذلك، واعتمد في ذلك على الدليل النسبي الذي استقاه من رعاة الغنم في منطقة ساراكاستاني في شمال غربي اليونان. وهذه طريقة مفيدة للمضي قدما، ولكن لا توجد أدلة قديمة تدعمها. ونجد أن محاولة دالبي لاستعمال أحد المشاهد الواردة في مسرحية أريستوفان «الدبابير» ليست مقنعة؛ ومع ذلك، فإن الأدلة الأثرية تفيد بأنه في مايسيني، وكذلك في كريت في العصر البرونزي، كان الرجال يأكلون الأسماك واللحوم على التوالي بكميات أكبر من النساء، وذلك بناء على الرواسب الكيميائية الموجودة في العظام (تزيداكيس ومارتلو 2002). ويدرس جارنسي (1999) أيضا مجموعة مختلفة من البيانات الأثرية، ويستنتج أن النساء - وخصوصا اللاتي في سن الإنجاب - كن غالبا ما يتعرضن للإصابة بسوء التغذية أكثر من الرجال. ويقول جالينوس - في تعليق نادر - إن النساء والأطفال يأكلون العناب، وهو طعام سيئ في رأيه.
وقد ناقشنا حتى الآن النساء من حيث استهلاكهن للطعام والشراب، أما بخصوص تحضير الطعام، فمن المؤكد أن النساء كن يحضرن الطعام أكثر من الرجال، إلا في حالة قدرة الأسرة على تحمل تكلفة شراء عبيد. ويوجد الكثير من الأدلة المستقاة من الكتب ومن الحياة الواقعية التي تثبت هذا، وبعضها يرد في ويلكنز (2000). يتحدث الشاعر الهزلي فيريكراتيس في الشذرة 10 من مسرحيته «الهمجيون» عن شخصية تتخيل وجود عالم يخلو من العبيد؛ ولذلك، فالنساء هن من عليهن الاستيقاظ مبكرا وطحن الذرة التي ستؤكل خلال اليوم، تماما كما عرف عن النساء بعد ذلك بستمائة عام؛ حيث كن هن من يخبزن الخبز اليومي كما يرد في قصة جالينوس. ويؤكد مثل هذا النشاط الصورة العامة التي تصور الرجال على أنهم يعملون خارج البيت إما كعمال مشتغلين بالأعمال اليدوية وإما في الأنشطة الأرقى، وتصور النساء على أنهن في المنزل يتولين مسئولية مؤن الأسرة؛ وهذه هي الرسالة الكامنة في كتاب رصين مثل «الاقتصاد» لزينوفون، وأيضا في المسرحيتين الكوميديتين المازحتين من تأليف أريستوفان: «المحتفلات بعيد ثيسموفوريا» و«الضفادع». (7-1) ترتيب المأدبة
غالبا ما يقال إن المأدبة وجلسة الشراب الإغريقية كانتا تنقسمان إلى قسم مخصص للطعام وآخر مخصص لاحتساء الشراب، وهو جلسة الشراب؛ وهذا ينطبق عموما على اليونان، وينطبق على نحو أقل على عادات تناول الطعام الرومانية. ولدينا نصان يعودان إلى عام 400 قبل الميلاد تقريبا يلقيان بعض الضوء على هذا الموضوع؛ فتصف قصيدة تتناول فن تذوق الطعام بعنوان «المأدبة» أو «حفل العشاء» من تأليف فيلوزينوس؛ مأدبة أنيقة، وتنتهي بعبارة: «حين شبعوا من الطعام والشراب.» وبعدئذ تغيرت الموائد، وبدأت جلسة الشراب؛ ومن الواضح أن الضيوف شربوا خمرا بالضرورة خلال المأدبة، ولكن كان ثمة فاصل واضح قبل بدء جلسة الشراب، من أبرز سماته الأرضيات النظيفة والموائد والأكاليل الجديدة والصلوات وطقوس إراقة الخمر؛ وهي بداية جديدة، ولكن سبق تقديم الخمور قبلها، ومن المفترض أن يعقب ذلك المزيد من الطعام خلال جلسة الشراب، عند وضع الموائد الثانية أو تقديم أطباق الحلوى. وفي روما، تبدأ المأدبة باحتساء الشراب (ويلاحظ هذا بوضوح في عشاء تريمالكيو وفي المأدبة الواردة في كتاب «مأدبة الحكماء»)، وتنتهي به. ويوجد تحفظان على النمط الإغريقي، أولهما أنه كان من المستبعد أن يتناول أحد وجبة كبيرة دون تناول مشروبات مرطبة إذا دعت الضرورة. وثانيهما أن ثمة عددا من النصوص يوضح أن الحاضرين كانوا يحتسون النبيذ في مرحلة سابقة لذلك. في بداية ملحمة «الأوديسا»، الجزء الثالث، يقدم النبيذ وأحشاء حيوانات القرابين إلى تيليماكوس وأثينا المتنكرة عند وصولهما، ثم يقدم المزيد من اللحم وتأتي الوليمة الفاخرة بعد ذلك بقليل. وفي الجزء الرابع، يرحب بهما مينيلاوس ويشبعان من الطعام والشراب، ثم ينضمان إلى جلسة شراب بعد ذلك. وفي ملحمة «الإلياذة»، الجزء التاسع، نجد أن أفراد البعثة الموفدين إلى أخيليس يأكلون ويشربون؛ والنبيذ هو الخيار الأول، ثم يأتي الطعام - وهو قطعة من لحم العمود الفقري لخنزير - ثم يشربون أنخابا ويستمرون «عند إطفاء ظمئهم وجوعهم»؛ ولذلك، علينا ألا نعتقد بوجود فاصل وحيد يفصل بين قسمي تناول الطعام وتناول الشراب من المأدبة (ونجد بالفعل في الكثير من المصادر - بدءا من زينوفون وحتى العصور التالية له - أن مصطلحي المأدبة وجلسة الشراب يشملان قسمي المناسبة كليهما). فبالأحرى، كانت جلسة الشراب تبدأ بداية جديدة، تتميز بإحضار أكاليل جديدة وإعداد موائد جديدة وتلاوة صلوات جديدة وبداية جديدة لوعاء مزج الخمور. بيد أن هذه الصورة تتناقض مع ما يرويه بلوتارخ في كتابه «حديث المائدة» (8، 9)؛ إذ يدعي أن ترتيب المأدبة سبق أن تغير منذ العصور القديمة؛ إذ كان يقدم المحار وقنافذ البحر والخضراوات النيئة في بداية المأدبة بدلا من نهايتها. ويذكر أيضا أن احتساء الشراب في بداية المأدبة كان عادة غير معروفة في العصور السابقة لذلك العصر؛ إذ لم يكن يقدم أي شراب قبل أطباق الحلوى. وقد يكون بلوتارخ محقا، ولكني أشك فيما يقوله بشأن عدم احتساء الشراب في مرحلة سابقة من المأدبة. وتوجد حالة يذكرها جالينوس تدعم هذا الرأي؛ فحين رأى رجلا يأكل وجبة عادية، حاول أن يفهم سبب إصابته بالتوعك من التفاح والكمثرى («عن قوى الأطعمة» 2، 21). يستحم الرجل ويشرب بعض الماء ويأكل الحلبة والفجل كمقبلات، ويشرب شيئا من النبيذ الحلو، ويأكل الخبيزة بالزيت وصلصة جاروم والنبيذ والأسماك ولحم الخنزير والدجاج، ويشرب قدحا أو قدحين من الخمر، ثم يأكل ثمرتي كمثرى لاذعتين.
كثيرا ما يكون من الصعب تحديد الترتيب الدقيق للمأدبة الرسمية، ونظرا لتنوع المدن وعادات تناول الطعام والجدول الزمني قيد المناقشة في هذا الكتاب، فمن غير المرجح أن نخرج بمعلومة نهائية، ولكن من الممكن إثبات نقاط معينة. ظهرت اختلافات على مر الزمن، كما يذكر أثينايوس (مؤكدا ما قاله بلوتارخ في 3، 101) بقوله: «لم يقدم جميع القدماء قبل المأدبة أرحام أنثى الخنزير أو خسا أو أي شيء آخر من ذلك النوع، كما يحدث الآن. ويتحدث أركستراتوس الطاهي المبتكر عنها بعد المأدبة وبعد الأنخاب والمسح بصمغ المر» (ترجمه إلى الإنجليزية: ويلكنز). ثم يستشهد أثينايوس بعد ذلك بأركستراتوس من الشذرة 60 في أولسون وسينس (2000)، وهو دراسة مفيدة للغاية عن الموائد الثانية. ويذكر أثينايوس أيضا أنه في حفل العشاء الذي أقامته المحظية لاميا لديميتريوس بوليوركيتيس في أثينا، كانت الأسماك واللحوم تقدم أولا، كما كانت الحال بخصوص حفلات العشاء التي أقامها الملك أنتيجونوس وبطليموس الثاني اللذان ورد ذكرهما سابقا. ومن الصعب أن نحدد الأطعمة التي قدمت أولا في أركستراتوس؛ نظرا لعدم اكتمال القصيدة، وللخلافات القائمة بين المحررين حول ترتيب الشذرات فيها. ويصرح في الشذرة 9 أولسون وسينس: «أيتها البصلات، أودع أطباق مخللات بصلات النباتات وسيقانها وكل الأطباق الجانبية الأخرى.» ومع ذلك، قد يكون ثمة وجه شبه ما بين المقبلات و«الموائد الثانية» التي كانت توضع خلال جلسة الشراب الإغريقية؛ ومن ثم، نجد أنه في مأدبة تريمالكيو أيضا، كانت الأسماك الصغيرة تقدم في بداية المأدبة وليس في نهايتها. ويقدم أثينايوس عددا من الأطعمة التي يبدو أن مكانها المعتاد قد تبدل من بداية المأدبة إلى نهايتها أو العكس . وتعبر هذه التعليقات لأثينايوس وبلوتارخ عن رغبة في التوفيق بين الأدلة القديمة والمتناقضة.
مقدمة الفصل الثالث
تتشابه القيود التي يفرضها الدين على النظام الغذائي مع القيود التي تفرضها عليه الهيئات العسكرية والاجتماعية؛ فهذه القيود تبدو وكأنها تعبير عن ضم صفوف المؤمنين وتوفر حسا من الترابط والانتماء للجماعة أكثر من أي شيء تجمعه أدنى صلة بالمعتقدات الجوهرية والفلسفة الأساسية. ومع ذلك، فهي تكتسب - بوصفها رموزا للدين - دلالة مغزى يتعدى حدود ما قد يبدو أنه ضروري أو منطقي؛ فربما يكون من الأسهل أن يظهر المرء تقواه بطرق ظاهرة مثل تجنب الطعام غير الموافق للشريعة اليهودية، أو الطعام غير الموافق للشريعة الإسلامية، أو مثل الامتناع عن تناول اللحم أثناء الصوم الكبير قبيل عيد الفصح، وذلك مقارنة بالالتزام بالنصوص المقدسة التي تتحدث عن الإخاء بين البشر أو الامتناع عن رد الإساءة بمثلها؛ فعامل الجذب القائم على الإظهار الجماعي للاتحاد والأخوة في مواجهة الغرباء هو الاحتمال الأرجح.
وعادة ما ينصح بالامتناع - مثل الصوم كجزء من نظام غذائي معين يهدف إلى كبح شهوات الجسد - وتكون الأهداف المبتغاة من وراء ذلك تهذيب النفس وضبط النفس. وليس من الصعب ملاحظة أن ذلك يمثل عامل جذب للمجتمعات التي تعتمد على القوة العسكرية أو المهتمة بأن تكون لها هوية مستقلة؛ إذ نادرا ما تتعارض اهتمامات الإله واهتمامات الدولة.
ونجد أن أتباع فيثاغورس يلتزمون بهذه القواعد؛ إذ يجمع بينهم تجنب اللحم، بل الأغرب أيضا تجنب البقوليات. ومع ذلك، يشترك أسلوب الحياة النباتي مع البوذية - وللأسباب نفسها - في فكرة أن الحياة مقدسة في حد ذاتها أكثر من كونها خاضعة للاحتياجات العليا للدولة أو المجتمع. ولعل هذا الأسلوب النباتي كان سيثير الجدل أكثر من أي نظام غذائي آخر، كما أن تقديم أي قربان بخلاف الحيوانات عند مذبح الآلهة كان سيعتبر قربانا وضيعا وسخيفا؛ ففي أوقات الخطر لن يكون لحزمة من الكرفس أبدا نفس تأثير جدي مذبوح.
وكان ذبح الحيوانات في إطار شعائري وطهيها وتوزيعها في اليونان من الشعائر الوثيقة الصلة بالطقوس الدينية، ومن المفترض أنها أيضا تعبير عن تعزيز النظام الاجتماعي أكثر من أي شيء يتصل بفن تذوق الطعام. وتكاد المسيحية تخلو من الأطعمة المطلوب تناولها وليس الأطعمة المطلوب تجنبها. وخبز القربان المقدس - وهو كسرة الخبز التي ترمز لجسد المسيح - هو الاستثناء الأساسي، ولا يقدم إلا إلى المؤمنين المخلصين ممن هيئوا أنفسهم بالتوبة لتلقيه. ومع ذلك، فإن تكريس فترة من النهم أو الإفراط في الانغماس في الطيبات للآلهة ليس أمرا جديدا.
صفحة غير معروفة