أولا رواية هسيود عن أسطورة بروميثيوس، وهي نسخة إغريقية لقصة جنة عدن الواردة في سفر التكوين في العهد القديم، وكان البشر حتى ذلك الحين يأكلون مع الآلهة ولم يحملوا هما للتدفئة أو توفير الطعام. ثم نشب خلاف بين بروميثيوس الذي ينتمي للجبابرة وزيوس الذي ينتمي لآلهة الأوليمب؛ إذ ذبح بروميثيوس ثورا وقسمه إلى عدة أجزاء مختلفة غير متساوية، واختار زيوس الجزء الذي يحتوي على عظام الفخذ الملفوفة في الدهن، وترك للبشر اللحم ملفوفا داخل معدة الثور الضخمة، فكانت أشبه بطبق ضخم من أكلة الهاغيس الاسكتلندية؛ فغضب زيوس وقرر أن ينتقم بحرمان البشر من النار؛ فانتاب بروميثيوس الهم على ضعف البشر عند حرمانهم من النار، فسرق النار من زيوس ومنحها إلى البشر في سويقة نبات الشمر. وانتقم زيوس بأن أوعز للآلهة بخلق أول امرأة، وهي باندورا. فضلا عن ذلك، أصبح كل من الرجل والمرأة مضطرين إلى العمل في الحقول؛ لأن زيوس أخفى أسباب الحياة في التربة، وأصبح على البشر في هذه المرحلة زراعة الأرض. وتوجد تفاصيل متنوعة معقدة، ولكن التفسير الرائع الذي يقدمه جون بيير فيرنان (1989) يؤكد على عناصر معينة؛ فهذه أسطورة سلبية كما ورد في سرد هسيود (فالزراعة شاقة والنساء مريبات إلى أقصى درجة)، ومن الواضح وجود ضغائن متأصلة بين الآلهة والبشر بسبب إخفاء الضروريات، وخصوصا وسائل الحياة، وأصبح من الممكن في هذا التوقيت فقط انتزاع الطعام من الأرض الضنينة عن طريق الإنتاج الزراعي. وغضب زيوس من بروميثيوس الذي ينتمي للجبابرة، ولكن البشر هم الذين تعرضوا للعقاب في خضم الخلاف بين هذين الإلهين. ويتذكر البشر خضوعهم للآلهة بتقديم القرابين من الحيوانات كلما أكلوا لحما.
ولكنها أيضا أسطورة ثقافية مفعمة بالمعاني؛ فأصبحت البشرية الآن تحظى بالنار والطهي وطقس تقديم القرابين والتكنولوجيا، وأصبحت تعرف الزراعة والزواج. يعتمد تقديم القرابين في المستقبل على تقسيم القربان إلى أقسام متساوية توزع على الجميع، ثم تطهى، وأصبح الطهي يشغل ركنا مهما في النظام الثقافي. ويقطع الحيوان - الذي يجب أن يكون حيوانا مدجنا، والتدجين من نتاج الزراعة - بعناية وتشوى أكثر الأجزاء ارتباطا بالحياة مثل نخاع عظام الفخذ والأعضاء الحيوية، ثم تقدم قربانا للآلهة، ويسلق اللحم والأحشاء ليأكلهما البشر. يقدم هسيود أسطورة بروميثيوس في قصيدته «ثيوجوني» أو «أجيال الآلهة»، وقصيدته الزراعية «الأعمال والأيام». إذن، فالأسطورة تعود إلى فترة مبكرة (من المعتقد أن هسيود كتب القصيدتين في القرن الثامن قبل الميلاد)، وهي تأتي أيضا في صميم روايات هسيود عن الآلهة وعن الزراعة. ويوضح تحليل فيرنان للأسطورة قوتها بصفتها أسطورة مختصة بثقافة معينة، واتضحت هذه القوة في قرون لاحقة. ويبدو أن هوميروس يشترك مع هسيود في نفس الطريقة الأساسية لتقديم القربان، مع أنه يدرج عدة صيغ مختلفة لذلك بالتفصيل. وتصور بوضوح فكرة اعتماد طقس تقديم القرابين على قتل الحيوانات المدجنة المستخدمة في الزراعة في الجزء الثاني عشر من ملحمة «الأوديسا»؛ إذ يصف هوميروس كيف أن الماشية التي يملكها إله الشمس لم تكن مدجنة، وكان من المتعذر تقديمها كقربان بالطريقة المعتادة. يتجاهل رفاق أوديسيوس هذا الأمر لشدة جوعهم، ويبدءون في تقديم القرابين:
ونظرا لأنه لم يكن لديهم جريش الشعير على السفينة، أخذوا يقطفون الأوراق الطرية الطازجة من شجرة بلوط عالية. وعند انتهاء الصلاة، ذبحوا الأبقار وسلخوها، واستخرجوا عظام الفخذ ثم غطوها بطية مزدوجة من الدهن، ثم وضعوا اللحم النيئ فوقها. ولم يكن لديهم خمر لإراقته فوق القربان المشتعل، بل صبوا الماء بدلا منه وهم يبدءون في شواء الأجزاء الداخلية من القربان. وحين التهمت النيران عظام الفخذ وذاقوا الأحشاء، أخذوا يقطعون بقية القربان إلى شرائح ويشوونها على السيخ ... ثم بدأت الآلهة في إظهار علامات وعجائب لملاحي السفينة؛ إذ بدأت جلود الحيوانات تتحرك وبدأ اللحم المثبت على الأسياخ - سواء النيئ أو المشوي - يخور، وسمعنا أصواتا تشبه أصوات الماشية.
ولم يفلح تقديم القربان لأن رفاق أوديسيوس استخدموا منتجات طبيعية - مثل أوراق شجرة البلوط والماء - بدلا من المنتجات الزراعية الصحيحة - حبوب الشعير والخمر - وذلك كما يشير هوميروس. واستخدموا أيضا ماشية مقدسة بدلا من الماشية المستخدمة في الزراعة (فيدال ناكيه، 1981).
وتحكي أسطورة بروميثيوس قصة عن العلاقات بين البشر والآلهة، وتقدم «تفسيرا» أو «أصلا» للصورة الإغريقية لطقس تقديم القرابين. و«تفسر» ثلاث أساطير أخرى كيف أصبح لدى الإغريق ماشية وحبوب وخمر، ويستند التفسير إلى بطل شعبي إلهي مثل بروميثيوس. وكان من المعتقد أن الخلاف بين زيوس وبروميثيوس اندلع في ميكوني، وهو مكان في شبه جزيرة بيلوبونيز. وتؤكد الأساطير الأخرى على فكرة الحركة، وبالتحديد جلب الأطعمة إلى البلدان المطلة على البحر المتوسط.
جاءت الماشية إلى اليونان لأول مرة حين جلبها نصف الإله والبطل الأسطوري هرقل، وكان من بين المهام المضنية التي كلف بها مهمة سرقة الماشية التي يملكها الوحش ذو الرءوس الثلاثة جيريون الذي كان يعيش على جزيرة في المحيط الأطلنطي، وتمكن هرقل من أداء هذه المهمة، ونقل الماشية بمعدية إلى البر الرئيسي الإسباني في قدح عملاق، ثم ساق قطيع الماشية عبر جنوبي فرنسا، ودار حول سواحل إيطاليا وصقلية وعبر البلقان حتى وصل إلى اليونان. وقد توقف في الكثير من الأماكن في طريقه إلى هناك ليقدم أحد الحيوانات كقربان، وعند كل مكان من أماكن تقديم القرابين، كان يقيم مذبحا يتحول فيما بعد إلى أساس لمستعمرة. وكان أهم مكان من هذه الأماكن الكثيرة هو روما؛ حيث كان المذبح المقصود هو مذبح «أرا ماكسيما»، ومعناه المذبح الكبير في «ساحة الماشية»، وقتل هرقل بالقرب منه الوحش العملاق كاكوس الذي كان يسكن في كهف وحاول سرقة الماشية منه. وكما هي الحال بخصوص كل الأساطير التي نحن بصددها الآن، تبين أسطورة هرقل وماشية جيريون كيف دخل اليونان نوع مهم من الأطعمة وافدا من مكان آخر. وكما هي الحال بخصوص الحالات الأخرى أيضا، ارتبطت الرحلة ووصول الطعام الجديد بأنشطة الملل الدينية والأعياد؛ فلم تكن الأساطير بمعزل عن الدين (بيركرت 1979).
شكل 1-3: الأرز من الحبوب التي أصبحت الآن من محاصيل البلدان المطلة على البحر المتوسط (مثلا في إسبانيا وإيطاليا)، ولكنه كان من المحاصيل الآسيوية النادرة في العصور القديمة. ومع ذلك، فقد انضم إلى مجموعة الأدوية التي يقرها ديسقوريدوس وجالينوس، بل ذكر أيضا في المسرحية التراجيدية التي ألفها سوفوكليس - «تريبتوليموس» - التي سميت تيمنا برفيق ديميتر، إلهة الحبوب. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
جلبت الحبوب إلى اليونان ديميتر ورفيقها تريبتوليموس. ومن المعروف أن سوفوكليس قد ألف مسرحية بعنوان «تريبتوليموس»، ويبدو أنها كانت تتناول رحلة ذلك البطل الأسطوري عبر آسيا الصغرى، ولم يبق من المسرحية إلا شذرات - نوه أثينايوس عن معظمها - وهي تشير إلى أطعمة متنوعة، بعضها مكون من الحبوب مثل الأرز والجعة، وبعضها ليس كذلك مثل صلصة «جاروم» (صلصة السمك المختمر). وبمجرد أن صارت الحبوب المستنبتة مستخدمة على نطاق واسع في اليونان، كرم الإغريق تريبتوليموس وديميتر وابنتها بيرسيفوني في عدد من مراكز الملل الدينية ، وكان أهمها يقع في إلفسينا، وكانت الإلهة تتلقى في هذا الموقع باكورة الحصاد. وظهرت طائفة دينية غامضة، كانت تربط على نحو ما بين حياة الذرة وحياة الإنسان، وكان من ينضمون إليها يوعدون بشكل من أشكال الحياة الآخرة. ووردت أسطورة اغتصاب (أو اختطاف) بيرسيفوني في قصيدة قديمة، وهي قصيدة هوميروس «ترنيمة إلى ديميتر»، وتصف هذه الأسطورة العلاقة بين حياة و«موت» بيرسيفوني وزراعة الذرة واعتماد البشر على هاتين الإلهتين: فحين تحزن ديميتر، تصيب المجاعة الناس (فولي 1993). وكانت أسطورة ديميتر ترتبط أيضا بعيد مهم في أثينا والكثير من المدن الأخرى - وهو عيد ثيسموفوريا - وسنناقشه في الفصل الثالث. ومن الواضح أن ديميتر جلبت فوائد اجتماعية أخرى مع الحبوب، وهي «ثيسموي» أو القوانين المحلية التي يعيش الناس وفقا لها، وجلبت أيضا رعاية الحمل ودرجة من درجات السيطرة على الحياة والموت.
ونلاحظ قوة هائلة مشابهة في الأسطورة الثالثة التي تدور حول الطعام والخمر وديونيسوس إله الأعناب. في استهلال مسرحية يوربيديس «الباخوسيات»، يخبرنا الإله بأنه ارتحل عبر آسيا وجلب معه تكنولوجيا تصنيع النبيذ، ويصل إلى طيبة - محل ميلاده - حيث يعاقب العائلة الملكية لأنهم لم يقبلوا ألوهيته. وتحكي الصيغ الأخرى للأسطورة عن وصول ديونيسوس إلى منطقة أتيكا. وتقبل إيكاريوس الخمر من الإله، ولكن حين قدمه إلى غيره من القرويين، سقطوا سكارى، واشتبهوا في أن سبب ذلك يعود للسحر، فقتلوا إيكاريوس، وشنقت ابنته إريجوني نفسها. وكان الموت يرتبط باحتساء الخمر؛ وكان ديونيسوس إلها للعالم السفلي وإلها للأعناب. ونناقش الأعياد المتناقضة المرتبطة بديونيسوس باستفاضة في الفصل السادس، أما ما نؤكد عليه الآن، فهو وصول صناعة النبيذ من الخارج.
وكانت هذه المنتجات الوافدة من أماكن أخرى - مثل الماشية والحبوب والخمر - أساسية للثقافة الإغريقية والرومانية، ولكن وظيفة كل منها كانت تختلف عن الأخرى؛ فالحبوب كانت هي الطعام الأساسي، وكانت الحيوانات - ولا سيما الماشية - تحظى بمكانة عالية، ولكن معظم السكان كانوا يأكلونها على نحو نادر نسبيا، وذلك على أقل تقدير. وكان الخمر من المشروبات الأساسية، ولكن كان لا بد من استعماله باحترام نظرا لتأثيره المسكر.
صفحة غير معروفة