ليست ثمة استفادة تذكر من دراسة الأنظمة الغذائية للشعوب التي كانت على شفا مجاعة؛ إذ إنهم كانوا يأكلون ما يتيسر لهم، وكانوا يستخدمون كل ما هو صالح للأكل من النباتات أو الحيوانات الموجودة حولهم. ومن الأمور الأكثر إثارة للاهتمام الخيارات التي كان يتخذها من يتمتعون بالقدرة على تلبية التفضيلات المتنوعة.
من المفترض - من الناحية النظرية - أن تكون هذه التفضيلات مباشرة وغير متغيرة إلى حد ما على مدى القرون. وهي من الناحية التطبيقية معقدة وتأتي كرد فعل للكثير من الضغوط الاجتماعية والطبية، وهذه الضغوط متغيرة فعلا؛ فالأفكار المعاصرة فيما يخص مخاطر النظام الغذائي الكثير الدسم والرغبة في النحافة تتعارض تماما مع الأفكار التي ظهرت في فترة ما بعد الحرب، حين كان الناس يرون أن الطفل الرضيع ذا الجسم الممتلئ هو طفل يتمتع بصحة وافرة ويبعث على الفرحة، أكثر من أن يكون مثارا للقلق خشية احتمال إصابته بالسمنة في المستقبل.
نحن نختار مما هو متوافر لدينا؛ لذلك سيوضح أي فحص موجز لما يفترض أنه كان متوافرا اختلافات كبرى بين الحاضر والماضي. ونظرا لأن التغيرات الموسمية كان لها تأثير كبير للغاية على اللحوم، وكذلك على الفواكه والخضراوات، فإن أساليب التخزين كانت تتسم بالصرامة، وغالبا ما تغير في طبيعة المادة المخزنة عن طريق التمليح والتقديد، وبالطبع كانت الحفر العميقة في الأرض هي أقرب وسائل التبريد شبها إلى أجهزة التبريد.
أكبر العوائق التي تحول دون فهم الأطباق التي ربما كانت متوافرة حينئذ هي الأفكار المسبقة عن «النظام الغذائي في البلاد المطلة على البحر المتوسط»، التي ترسخت بقوة في الوعي؛ فالأسماك والحبوب - على سبيل المثال - من الأطباق التي لا بأس بها، ولكن الكثير من الأنواع التي نظن أنها جزء من هذا المصطلح تنتمي لفترة ما بعد اكتشافات كولومبس؛ لذلك، كان غذاء تلك البلاد يخلو - من بين مواد أخرى - من الطماطم والفلفل والذرة اللازمة لصنع العصيدة والفلفل الحار. وكانت للقمح أصناف متنوعة، وكلها كانت باهظة الثمن للغاية، حتى إنها لم تكن في متناول الطبقات الفقيرة؛ مما كان يضطرها إلى الاعتماد على الدخن والشعير كأغذية أساسية. وكانت تستخدم أنواع القمح الأقل جودة مثل القمح الثنائي الحبة والعلس في صنع رقائق مسطحة غير مختمرة تشبه المكرونة، وكان الطلب كبيرا على الأنواع الأجود مثل القمح الصلب - الذي يصنع منه أفضل أنواع الخبز - وكانت تزرع وتستورد بكميات كبيرة من كل أنحاء الإمبراطورية إبان العصر الروماني.
إن المدة الزمنية التي يتناولها هذا العمل كبيرة - تشمل عصر هوميروس حتى أوائل العصر المسيحي - لذلك يجب أن نأخذ في اعتبارنا التغيرات التي حدثت، ليس فقط من حيث مدى توافر المواد الغذائية، بل من حيث الآراء الدينية والرخاء النسبي أيضا، بل حتى الأزياء السائدة إبان هذه الفترة. ولا بد أيضا من دراسة مصادر العمل وتقييمها تحريا للدقة في هذا السياق. كان الكتاب نتاج عصرهم، بكل الأفكار المسبقة والآراء المتحيزة التي كانت سائدة آنذاك، ومن أمثالهم كاتب القرن الثاني الميلادي أثينايوس الذي أسهم إسهاما مهما في الكتابة المتعلقة بالطعام، ولكن كتاباته تلك اندثرت الآن بالكامل، ولم يصلنا منها شيء. فأي تحليل أو تعليق يتعلق بالطعام وعادات تناول الطعام قبل ذلك الحين، كان سيتأثر بهذه المؤثرات؛ على سبيل المثال: تتسم الإشارات المتعلقة بالكاتب والذواقة أركستراتوس - الذي عاش وألف في القرن الرابع قبل الميلاد - بمسحة من السخرية لأن آراءه المتشددة عن الطعام والطهي - فضلا عن الإيقاع الذي كان يكتب به - لم يعد اعتناقها من الفطنة في شيء؛ فعند تأمل كتاب يتناول الطعام والتوجهات في عصر الملكة إليزابيث الأولى أو عصر الملك جيمس الأول كتبه مؤلفه من وجهة نظر الحاضر؛ ستتضح الفجوة الزمنية.
من الممكن تنفيذ وصفات فعلية اعتمادا على بعض النصوص، ولكن ليس الكثير منها؛ فمن غير المرجح أن الطهاة كانوا من هواة قراءة كتب الطهي واقتنائها، هذا إن كانوا يجيدون القراءة أصلا. توجد بعض الوصفات القابلة للتنفيذ بالطبع؛ فمثلا نجد شرحا واضحا لعجينة «تراكتا» من تأليف بلينوس، ونجد بعض الوصفات اللافتة التي وضعها كاتو في بحثه المعنون ب «عن الزراعة» - وهو بحث عن الزراعة ألفه في عام 160 قبل الميلاد تقريبا - ومن هذه الوصفات وصفة لحلوى البودنج تحضر بالدقيق والجبن والبيض والعسل. ومع ذلك، يتوجب علينا في معظم الأحوال أن نعتمد على أوصاف الطعام التي يقدمها من تناولوه، وليس على أوصاف يقدمها من يتوقعون منا أن نطهوه.
ثمة معضلة معينة تنشأ من جراء ذلك. إذا أعددنا طبقا بنفس طريقة إعداده تماما منذ ما يزيد عن ألفي عام، فقد يطغى عدم اعتيادنا على الطعم والقوام على قدرتنا على الحكم على فروق النكهة، التي كان من الممكن أن تكون واضحة لأي شخص من تلك الفترة، مثل تقديم الكاري لشخص لم يسبق له تذوق الطعام الهندي قط، وأن نتوقع منه أن يلحظ الاختلافات الدقيقة في التوابل بدلا من أن يصدمه طعم الفلفل الحار فحسب. إذا أعدنا تحضير الأطباق طبقا لطريقة إعدادها الأصلية، فسنضطر لإحياء القدرة على استساغة طعمها والتوقعات التي كانت سائدة في ذلك العصر كذلك.
من ناحية أخرى، هل إذا خففنا من حدة التوابل والنكهة حتى تتضح السمة المميزة للطعام، نكون بذلك قد أضعفنا من موثوقية جهودنا؟ لقد أصبحنا الآن نعرف طرائق الطهي التايلاندي والفيتنامي، ونجد أن الكثير من المكونات المستخدمة فيهما تشبه المكونات المستخدمة في طرائق الطهي في البلدان المطلة على البحر المتوسط في الفترة التي نتناولها. كانت صلصة التغميس المنتشرة في العالم، والمعروفة باسم «جاروم»، تحضر بنفس طريقة تحضير الصلصة الفيتنامية «نام بلا» (صلصة السمك) تقريبا - ويعتمد تحضيرها على تخمير الأسماك الصغيرة - وجدير بالذكر أن النتائج شهية للغاية؛ فهذه الصلصة ليست كريهة الرائحة على الإطلاق كما توحي فكرة السمك النتن.
وما ينشأ من ذلك هو الولع بالنكهات الفاسدة في الأطعمة التي على غرار صلصة الجاروم أو الجبن بعد تقديمها مع مزيج من النكهات الحلوة مثل العسل والفواكه المجففة. وفي الواقع، لا يختلف ذلك اختلافا ملحوظا عن استخدام صوص الفواكه مع لحوم الطيور، أو البسكويت الحلو والنبيذ اللاذع مع الجبن الأزرق. كما كانت تستخدم التوابل اللاذعة مثل الحلتيت والأعشاب المرة مثل الزوفاء التي من المفترض أنها أعشاب طبية حاليا؛ وذلك لأن من المحتمل أنها كانت تضفي نكهة أفضل على أطباق عصيدة الحبوب، ولولاها لصارت بلا طعم.
ولم يكن للمطاعم بصورتها المعروفة وجود آنذاك؛ كانت ثمة فنادق صغيرة لإطعام المسافرين وإيوائهم بالطبع، ولكن الطقوس الرصينة لتناول الطعام كانت تقتصر على المنازل الخاصة التي يعمل فيها طهاة وخدم، بينما كانت الوجبات المخصصة للموظفين - وهي عماد العمالة الزراعية وطعام الباعة الجائلين - حكرا على فقراء المدن.
صفحة غير معروفة