ولم تعرف أنه الحب إلا بعد ذلك اليوم، كان يوم جمعة وشمس الشتاء تشيع الدفء في الأجسام وتشجع على الخروج، أول موعد في حياتها، وأول مرة تكذب على والدها، وخرجت متعللة بزيارة صديقة لها، وقابلته، كان ينتظرها بجوار الرصيف داخل عربته الزرقاء، ودخلت بسرعة، وجلست إلى جواره، ولأول مرة يمسك يدها فترتجف، ولأول مرة في حياتها يقبلها رجل.
كانت تنتفض ومناظر الطريق خارج العربة تتراقص أمام عينيها كأنها ذاهبة في غيبوبة.
ولم تفق إلا حينما عادت إلى بيتها ودخلت في السرير وشدت على رأسها الغطاء، أفاقت من غيبوبتها وسألت نفسها بعنف كيف سمحت له بأن يقبلها؟ إنها إذن مثل الفتيات اللائي يقبلهن الرجال وتروى عنهن الشائعات، وتنظر إليهن باحتقار حينا وبإشفاق أحيانا. وأغمضت عينيها، وقرأت سورة «يس» كعادتها وقالت لنفسها في عنف إنها لن تسمح له بأن يقبلها مرة أخرى.
وفي اليوم التالي لم تدر لماذا نسيت هذا العزم، وكيف ضغطت بإصبع الروج على شفتيها رغم أنها لم تكن تحب الأحمر الثقيل وتكتفي بأحمر خفيف، وكيف كانت سعيدة وهي تمشي في الشارع، وكيف كانت تحرك رأسها هنا وهناك طول الصباح تبحث عنه.
وطبيعي أنها لم تستطع بعد كل هذا أن تقول له لا، حينما طلب منها نزهة ثانية في العربة، وطبيعي أيضا أنها لم تستطع أن تقول له لا، حينما طلب منها قبلة ثانية.
ولكن غير الطبيعي أنها قالت له نعم، حينما طلب منها أن تأتي معه إلى بيته، ولم يكن طبيعيا أيضا أنها لم تعرف بالضبط ماذا حدث هناك، كان أول رجل يعانقها، وكانت أول مرة تحس فيها أنها أنثى، ومضت اللحظة سريعة كالبرق لم تحس بها تماما.
وعادت إلى بيتها ووضعت رأسها تحت الغطاء وفكرت، وتساءلت، كيف حدث هذا؟ كانت خائفة، تحس أنها تدخل حياة أخرى غير التي كانت تعيشها، كانت مبهورة، مذهولة، لكنها لم تفكر أبدا أن شيئا كهذا سيحدث، وأن مخلوقا جديدا سيبدأ الحياة في أعماقها بعد هذه اللحظة، لم تكن تتصور أن الناس يخلقون بهذه السهولة، وبهذه السرعة.
ولكن ماذا تفعل الآن وقد حدث ما حدث، وتكون مخلوق جديد سخيف؟ لا شيء أمامها سوى أن تنتهي، تموت، ويموت معها ما بداخلها وما بخارجها.
وقامت عن «الأريكة» وظهرها يؤلمها من السلك البارز، وفتحت الباب وتسللت إلى غرفة النوم، ولبست فستانا قديما لا تلبسه إلا في البيت، ونظرت إلى فستانها الجديد المعلق في الدولاب والدموع في عينيها وقالت لنفسها: خسارة! خسارة الفستان الجديد في الموت، خليه لوفاء تلبسه.
إنها تفكر في أختها وفاء وهي في طريقها إلى الموت، هذا دليل على أنها طيبة وأنها بريئة، وأنها قديسة!
صفحة غير معروفة