حتى كانت ليلة من ليالي الصيف، واللون الرمادي الذي يصحب أول الليل يغلف كل الأشياء بضوء خافت، لا هو نهار ولا هو ليل، ونوافذ البيوت والعمارات مغلقة «بالشيش» وقد لفظت من الحر كل سكانها إلى الشوارع والكباري والكازينوهات. الضجة كلها في الخارج، لكنه كان في بيته، لم يلبس بذلته ويخرج ككل ليلة.
كان بالبيجاما البيضاء الخفيفة، مستلقيا على أريكة بجوار السرير، ولأول مرة يبدو متحمسا رغم أنه لا يمشي ولا يتحرك، وكان حماسه في عينيه، ارتفع لأول مرة الجفنان المتدليان، وظهرت عيناه بنيتين قاتمتين تغرقان في بياض محمر، لهما نظرات متكبرة، فيها لمعة عميقة تروح وتجيء في ثبات وبطء تحت حاجبين كثيفين.
كل شيء فيه تغير، وكل ملامحه تحمست، إلا السيجارة التي احترق نصفها في فمه مهملة كما هي في مكانها، تلوذ متهالكة بطرف شفتيه، كأنه أراد أن يبقيها هكذا من فرط غروره ليتحدى بها ذلك الحادث الجديد الذي سلبه رغما عنه إهماله وفتوره.
ودارت عيناه الحمراوان في اهتمام حول محتويات الشقة، كأنه يتأملها لأول مرة، ولا يعجبه نظامها. وكان لشقته طابع خاص يشبه إلى حد كبير شخصية صاحبها، في نظامها المهمل طبيعته المغرورة، وفي ذوقها البسيط أناقته المتكبرة.
وقام عن الأريكة فجأة، جاءته فكرة نقل تمثال المرأة العارية من مكانه بجوار السرير، ووقف قليلا أمام التمثال يتأمله. كان هو أول شيء يسترعى انتباه أية امرأة تدخل معه حجرة النوم فتقف أمامه تتأمل النهدين البارزين في صلابة، والخصر الضامر اليابس، وتنظر خلسة إلى نهديها وتتحسس خصرها. ويبتسم هو لنفسه في مكر خبيث؛ لقد تعمد أن يضع هذا التمثال الناعم الرشيق والمبدع في نعومته ورشاقته، ليطفئ غرور أية امرأة تدخل معه حجرة النوم فيستمتع بكل ضعفها وكل أنوثتها دون شوائب، لكنه الليلة تراوده فكرة نقل التمثال من جوار السرير، هذه المرأة الجديدة القادمة الليلة ربما لا تراه في مكانه هذا، يغلب على ظنه أنها لن تدخل معه حجرة النوم. ووضع يده على التمثال يتحسسه ثم بدأ يزحزحه وهو يتلفت حوله لا يعرف أي مكان يختاره له. وابتسم لنفسه في مكر شديد وهو يضعه برفق بجوار المكتبة الزجاجية في الصالة، وجلس على الكرسي الكبير المواجه لها وراح يتأمل منظر التمثال وهو يقف عاريا رشيقا بجوار صفوف الكتب المتراصة وراء الزجاج.
وابتسم، إنها ستجلس حتما على الكرسي، إنه يفهمها ويستطيع أن يخمن تصرفاتها.
ودارت عيناه الحمراوان مرة أخرى حول محتويات الشقة، وامتقع وجهه قليلا. إن الشقة تبدو منظمة ونظيفة أكثر من اللازم، ويظهر عليها واضحا الانتظار والاهتمام الساذج. وقام بسرعة على غير عادته وفتح أحد الأدراج وألقى منه بعض المجلات على الأرض، ودخل المطبخ وأحضر فنجان القهوة التي شربها في الصباح ووضعه دون أن يغسله على المنضدة في وسط الصالة، وفتح صفيحة القمامة، وجمع منها بعض أعقاب السجائر، ثم ملأ بها المطفأة ووضعها على يد الكرسي الخشبية.
وعاد وجلس على الكرسي الكبير يتأمل المنظر، وابتسم في مكر، إنه يفهم المرأة الجديدة، إنها تختلف عن كل النساء اللائي عرفهن. لقد أثارها منه شيء واحد فقط هو إهماله، مشيته المستهترة، ونظرته المتكبرة في إطراقها معرضة عن كل شيء، ونص السيجارة التي ينساها بين شفتيه كأنه تائه عن نفسه، أو ضائع عن وجوده.
لم تثرها جاذبيته التي فتن بها كل امرأة من قبل، وكانت جاذبيته كالصواريخ يطلقها على النساء الآمنات من بعيد، وهو مستلق على ظهره يتثاءب ويتمطى وفي يده ورقة وقلم. كان كاتبا وأديبا مشهورا، يكتب بطريقة ماكرة يثير بها النساء وكأنه لا يثيرهن، ويختار كلماته ومعانيه بذكاء غير مألوف، فتأتي كتاباته خليطا مقنعا من المثالية والإباحية، والطيش والعقل، والقوة والضعف. يكتب فيودع كلماته كل رجولته بتناقضها، ويترك سطوره على الورق لها وهج وفيها لهيب يقنعان الناس بأن الأبيض يمكن أن يكون أسود، والأرض يمكن أن تكون فوق، والسماء تحت، ولا شيء في ذلك يبدو غير طبيعي. كانت هذه هي جاذبيته، التي عرفها وصقلها.
وأصبحت لياليه محجوزة، ككراسي سينما مترو في أول عرض، في كل ليلة يعتصر بذراعيه العريضتين جسد امرأة، وشفتاها بين شفتيه ترددان عن ظهر قلب كتاباته، وفي بعض لياليه كان يحس أنه إله فعلا، وأحيانا يتواضع فيكتفي بأن يكون ملكا للأرض ويترك للسماء إلهها، لكنه الليلة لا يحس أنه إله أو حتى ملك، هذه المرأة الجديدة لها عينان سوداوان واسعتان كعدستي المنظار المكبر، تستقر نظراتهما اللامعة الكاشفة في جوفه كأنها سكين حاد يشطر داخله كالبطيخة شطرين، فيحس أنه ينزل عن عرشه، ويقف بجوار الناس الذين يسميهم عاديين.
صفحة غير معروفة