ولم يعرف سعيد كيف تسربت هذه الذكريات إلى نفسه وهو سائر في الشوارع يبحث عن بيت إحسان، وكانت أول مرة في حياته يغير الطريق الوحيد الذي يمشي فيه، الطريق من بيته إلى الجامعة وبالعكس. وأحس أنه تائه غريب وسط عالم واسع ليس له فيه أحد، لكن احتمال عثوره على بيت إحسان شجعه على المسير، وراح يدخل في شارع ويخرج من شارع ويسأل، وأخيرا وصل إلى بيتها، وأخذ يبحث عن جرس ولم يجد، فنقر بأصابعه في وجل على الباب، وخفق قلبه حين سمع صرير الباب وهو ينفتح، وتظهر طفلة صغيرة ووجهها نحيل وملابسها قذرة، رمقته بنظرة خائفة حادة من عينين واسعتين غائرتين وسألته بحدة: «عاوز مين؟»
فقال لها وهو يمسح جبهته وأنفه: «الآنسة إحسان موجودة؟»
وردت عليه الطفلة بسرعة: «أيوه.»
وجرت إلى الداخل وسمعها تقول بصوت رفيع: «أبله إحسان فيه واحد راجل عاوزك.»
ثم رأى «إحسان» نفسها أمامه في فتحة الباب، وكان يظن حتى هذه اللحظة أنه أخطأ العنوان، ورأى في عينيها مسحة غريبة من الحزن لم يرها من قبل في الكلية، كانت تلبس رداء واسعا أصفر، وشعرها ملموم داخل منديل أبيض، وبدت طويلة نحيلة شاحبة، بل أكثر طولا وشحوبا مما كانت في الكلية، وصافحته بيد باردة، ودخل وراءها إلى حجرة صغيرة فيها بعض الكراسي.
وجلس أمامها ينظر إلى أرض الحجرة ثم قال في تلعثم: «حبيت أطمن عليكي، قلت يمكن تكوني عيانة، قلت لازم برضه أسأل، قلت لازم ...»
كان مرتبكا، وكلماته متقطعة متكررة، كان خائفا كأنه أخطأ التصرف، وتهور في الاهتمام بها، ولم يعرف أتلومه أم تعنفه، أم تطلب منه الخروج، لكنه سمعها تقول في هدوء وعلى وجهها ابتسامة ضعيفة: «أشكرك يا سعيد، أنا توقعت برضه إنك ح تسأل عني.»
وأعاد صوتها إليه اطمئنانه، إنه نفس صوتها الممتلئ الحاني الذي يحتويه في الكلية ويحميه ويؤنسه ويشجعه، وقال يحاول أن يستعيد هدوءه: «أنا مش عارف، الحقيقة قلت لازم أشوف إنت غبت ليه، يمكن ...»
وبلع ريقه وسكت ونظر إليها، كانت تجلس بجواره وعيناها شاردتان تفكر في شيء بعيد، وأخذ يتأملها، رأى صدرها يعلو ويهبط، ولمح لها نهدين صغيرين بارزين يظهران ويختفيان تحت الرداء الواسع، وأحس بسخونة تلسع رأسه وصدره، وشعر برغبة في أن يقترب منها أكثر، ويحوطها بذراعيه، ويدفن رأسه في صدرها ويبكي، لكنه لم يتحرك من مكانه، وإنما اغرورقت عيناه بدمعة كبيرة ابتلعها بسرعة، وقال لإحسان وهو يحاول مداراة شعوره: «على فكرة أنا جبت لك محاضرات النهارده عشان تنقليها.»
وقالت في إعياء وعيناها منكسرتان: «أشكرك يا سعيد.» ورأى لأول مرة منذ عرفها أنها ضعيفة، وأنه يستطيع أن يساعدها. وشعر بفرحة جديدة تغزو قلبه كأنه بلغ سن الرشد وأصبح رجلا.
صفحة غير معروفة