وسمعته يقول: يا ست الدكتورة الغدا جهز. - غدا؟! هو أنا طلبت غدا؟ - أنا قلت مش معقول حضرتك تفضلي من غير غدا، ودي حاجة بسيطة مش قد المقام يا ست الدكتورة.
ودخلت امرأة ريفية تحمل على رأسها صينية كبيرة مغطاة بفوطة بيضاء نظيفة، ووضعت الصينية على المائدة وانصرفت، وأخذ محمود يرتب الأطباق، ويعد الأكواب، وما إن تأكد أن كل شيء في مكانه حتى تراجع نحو الباب في حركة خفيفة وقال: تطلبي حاجة تاني يا ست الدكتورة؟
ولا أدري بم ذكرتني لهجته، وكأنما سمعتها قبل اليوم، ورفعت عيني إليه ورأيت وجهه. ولأول مرة تبينت عينيه، كانتا سوداوين ضيقتين فيهما نظرة مألوفة لدي كأنما رأيتهما من قبل، من سنين بعيدة، ربما وأنا طفلة، وأحسست كأنه قريبي، وقلت له وأنا أبتسم: لا، كتر خيرك يا عم محمود.
ورن صدى «عم محمود» في نفسي ، لماذا قلت له عم محمود؟ لست أدري، لكني لم أستطع أن أقول له محمود «حاف» كالمرات السابقة.
وأكلت بشهية تشبه الشهية التي كنت آكل بها وأنا في العاشرة من عمري حينما كنت أعود من المدرسة وألقي حقيبتي وأجري لألحق بكرسي على المائدة، وما إن يمتلئ فمي بالطعام حتى أسمع أمي تهتف بي كعادتها من المطبخ: غسلتي إيديك يا آمال!
وتذكرت أنني لم أغسل يدي، فقمت وغسلتهما، والتهمت بقية الطعام ثم نمت، نمت أيضا بشهية تشبه شهيتي وأنا طفلة، ولم أستيقظ إلا في الصباح التالي لأجد كل شيء مشرقا متألقا.
الشمس الدافئة تدخل إلى نصف السرير وحقول الذرة تلمع وتهتز مع النسيم الوادع، ونظرت من النافذة التي تطل على الوحدة فوجدت المرضى الفلاحين يقفون أمام حجرة الكشف متجمعين، ولمحت التومرجية - النساء والرجال - بملابسهم البيضاء يروحون ويجيئون في مباني الوحدة، وأحسست بالنشاط والحماسة فلبست المعطف الأبيض ونزلت مسرعة.
وعلى باب حجرة الكشف وجدت عم محمود يلبس ملابسه البيضاء النظيفة ويبدو فيها «تومرجي» متمرنا قديما وليس الفلاح الذي رأيته أمس.
وبدأت الكشف، ودخل المرضى واحدا واحدا بنظام دقيق وعم محمود يروح ويجيء بينهم في حماس غريب، يحمل على الأم طفلها، ويحمل على الرجل ملابسه، وعيناه ببريقهما العجيب تتبعان كل شيء باهتمام شديد. وانتهى الكشف وذهبت إلى حجرة الغيار حيث وجدت كل شيء معدا، الحقن معقمة، والعمليات وغيرها جاهزة، وبعد حجرة الغيار صعدت إلى القسم الداخلي، فوجدت العنابر نظيفة تلمع، وأسرة المرضى مرتبة، والملاءات بيضاء، وكل شيء يدعو إلى السرور والدهشة.
واستدرت لمن حولي من التمورجية وسألت: «مين اللي نظف هنا؟»
صفحة غير معروفة