كيف سافرت ولماذا أكتب؟
من طرائف الرحلة
باكستان في الغرب ... والشرق
مولد دولة جديدة
القائد الأعظم!
إقبال ...
قسمة شبه القارة
مشاكل الدولة الجديدة
رحلة في كشمير
مشكلة كشمير
مشاكل السياسة
نهضة شاملة
الإصلاح الزراعي
النهضة الصناعية
المرأة الباكستانية
التعليم في باكستان
العربية في باكستان
العلاقات بين مصر وباكستان
إلى الأمام!
مراجع هامة
كيف سافرت ولماذا أكتب؟
من طرائف الرحلة
باكستان في الغرب ... والشرق
مولد دولة جديدة
القائد الأعظم!
إقبال ...
قسمة شبه القارة
مشاكل الدولة الجديدة
رحلة في كشمير
مشكلة كشمير
مشاكل السياسة
نهضة شاملة
الإصلاح الزراعي
النهضة الصناعية
المرأة الباكستانية
التعليم في باكستان
العربية في باكستان
العلاقات بين مصر وباكستان
إلى الأمام!
مراجع هامة
تعال معي إلى باكستان
تعال معي إلى باكستان
تأليف
فرج جبران
كيف سافرت ولماذا أكتب؟
رحبت بالسفر إلى باكستان عندما سنحت لي الفرصة؛ وذلك لأنني كنت قد سافرت إلى أوروبا وإلى أمريكا عدة مرات ولكنني لم أكن قد سافرت إلى الشرق، ولم أكن قد رأيت من آسيا إلا أجزاء قليلة قريبة.
ولم يكن هذا السبب وحده هو الذي حفزني إلى السفر، بل إن اسم «باكستان» نفسه كان من دوافع الإغراء على السفر، فباكستان جزء من شبه القارة الهندية ذات الحضارة العريقة ... وباكستان دولة ناشئة لم يمض على وجودها على خريطة العالم أكثر من ثمانية أعوام، ومع ذلك فقد نالت مكانة كبيرة في الميدان السياسي والاقتصادي.
ليس هذا وحسب بل إن باكستان هي أكبر دولة إسلامية في العالم، وهي تتطلع باستمرار إلى توطيد صلاتها بالدول الإسلامية الأخرى، وتمد يدها في كل مناسبة إلى هذه الدول لتخطب ودها ...
لا شك أن السياحة في بلاد عريقة المدنية كالباكستان، وزيارة قطر شرقي حبيب يضم أكبر الأمم الإسلامية في العالم، وتتبع نهضة دولة ناشئة لم تنقض سنوات قليلة على قيامها ...
كل ذلك كان من الأسباب التي جعلتني سعيدا عندما تمكنت من السفر إلى باكستان في رفقة وفد الصحافة المصري في شتاء عام 1953 ... •••
وعدت من باكستان بعد أن تجولت مع الزملاء في طول البلاد وعرضها وزرت ولاياتها وبدأت أستعد لكي أكتب عن باكستان كتابا أضمه إلى كتبي السابقة: «تعال معي إلى أوروبا» و«تعال معي إلى أمريكا» و«تعال معي إلى أمريكا اللاتينية» ...
ولكنني قلت لنفسي: لقد اعتاد القراء أن يقرءوا لي كتابا عن قارة كاملة لا عن دولة ... وإذا كان إخراج كتاب «تعال معي إلى آسيا» أمرا عسيرا في الوقت الحاضر لظروف غير خافية، فلا أقل من أن يكون عنوان الكتاب «تعال معي إلى شبه القارة الهندية» لكي يضم وصف الدولتين: الهند وباكستان. وأخذت أفكر في القيام بجولة في الهند تشبه الجولة التي قمت بها في باكستان ...
وأخذت الأيام تمر حتى انقضى أكثر من عام ولم أقم بعد بالزيارة المرتقبة للهند.
ولما كانت كتبى فى هذه السلسلة «تعال معي» لا تضم إلا ما يراه المؤلف بعينيه، وما يسمعه بأذنيه، وما يحسه بقلبه ... لذلك وجدت لزاما علي أن أبادر بإخراج هذا الكتاب للقراء حتى لا تتغير تلك الصورة الجميلة العزيزة التى رأيتها للدولة الناشئة الناهضة.
فرج جبران
من طرائف الرحلة
جمعت الرحلة التي قام بها الصحفيون المصريون إلى باكستان سبعة من الصحفيين وموظفا رسميا وصحفية واحدة هي السيدة أمينة السعيد.
ولم تكن هذه هي أول مرة تزور فيها السيدة أمينة السعيد تلك الجهات النائية، فقد سبق لها أن زارت شبه جزيرة الهند قبل تقسيمها إلى دولتين: الهند وباكستان.
وكانت قد زارت باكستان في عام سابق سيدة فاضلة أخرى هي السيدة راجية حرم الأستاذ محمد عبد القادر حمزة واشتركت في مؤتمر السيدات المسلمات الدولي، وقد عرفت كثيرات من السيدات في الحفلات التي كنا ندعى إليها أن الأستاذ محمد عبد القادر حمزة زوج السيدة راجية من بين أعضاء بعثة الصحفيين المصريين، ولذلك كن يسألن عنه ويقبلن عليه لسؤاله عن السيدة زوجته التي تعرفن إليها من قبل عند زيارتها للباكستان للاشتراك في المؤتمر، بل إن بعضهن كن قد احتفظن لها ببعض الصور الفوتوغرافية التي أخذت لها عند زيارتها فسلمن هذه الصور لزوجها لكي يحملها إليها ...
وقد أثبتت السيدة أمينة السعيد في مناسبتين أنها قوية الأعصاب شديدة الاحتمال للمتاعب ... أثبتت أنها قوية الأعصاب عندما زرنا كشمير الحرة أو «أزاد كشمير»، ووقف الأستاذ محمد عبد القادر يتحدث إلى موظفي الحكومة التي تدير هذا القسم من كشمير وإلى بعض الأهالي فكادت تخنقه العبرات وهو يخطب حتى اضطر أن يتوقف دقائق لكي يستجمع أفكاره من فرط تأثره، وقد انتقل هذا التأثر إلينا جميعا وإلى السامعين فساد صمت عميق وأخذ بعض الحاضرين في تجفيف دموعهم ... بل لقد ارتفعت أصوات بعض سكان أزاد كشمير بالنحيب الخافت ... إلا سيدة واحدة ظلت محتفظة برباطة جأشها وتمكنت من التحكم في أعصابها وهي السيدة أمينة السعيد ...
وكان الطريق إلى أزاد كشمير طريقا وعرا كله انحناءات وانثناءات والرحلة إليها تعتبر من أشق الرحلات. ولما وصلنا أخيرا إلى مقر الحكومة في «مظفر أباد» كان التعب قد أصابنا وشعرنا جميعا بدوار حتى اضطر الزميلان محمد عبد القادر حمزة وحسني سلمان إلى البحث عن مكان يستريحان فيه، وقد ناما بعض الوقت حتى أمكن لكل منهما أن يستعيد قوته. وكانت السيدة الوحيدة في الركب هي التي صمدت في هذه الرحلة الشاقة!
وقد تميز الطعام الذي كان يقدم للصحفيين في باكستان بوجود التوابل الكثيرة و«الشطة» فيه، وقد أحب بعض الصحفيين هذا الطعام وأقبلوا عليه، في حين أن البعض الآخر لم يحتمل هذا الطعام المصحوب بكميات الشطة الوفيرة، وكان أشد الثائرين ضدها هو الأستاذ عزيز ميرزا رئيس تحرير الأهرام، حتى لقد كان يفضل في أكثر الحفلات والمآدب ألا يتناول الطعام على الإطلاق هربا من الشطة.
وفي إحدى الحفلات وجدت الأستاذ عزيز ميرزا يعيد طبقه إلى المائدة بطريقة عصبية وقد ظهر الامتعاض الشديد على وجهه فقلت له: خير! ماذا حدث ...؟
فأجابني: حاجة تجنن صحيح! لقد تركت جميع ألوان الطعام لأني أعرف أنها مليئة بالشطة التي سببت لي التهابا في اللثة ... تركت جميع الأطباق وفضلت أن أقنع بطبق الحلو المصنوع من «الشيكولاته»، فلما بدأت أتناوله تبين لي أن «الحلو» نفسه مصنوع بالشطة!
وضحكت ... ثم تناولت طبقا من هذه الحلوى المصنوعة من الشيكولاته فوجدته فعلا ممزوجا ببعض الشطة.
الصحفيون المصريون ليلة وصولهم إلى كراتشي. من اليمين إلى اليسار: محمد عبد القادر حمزة - مصطفى بنشي (من وزارة الخارجية) - حسني سلمان - أحمد أبو الفتح - أمينة السعيد - عزيز ميرزا - حسين فهمي - فرج جبران.
وقد بدأت الرحلة - كما قلنا - بتسعة ... ولكنها ما لبثت أن انتهت بأربعة هم الذين عادوا بعد إتمام البرنامج الموضوع للزيارة ...
وكان أول المتخلفين الأستاذ سعيد رمضان الذي كان في إندونيسيا ثم لحق بالصحفيين في كراتشي، ولكنه اعتذر عن عدم مرافقتهم إلى شمال باكستان لكثرة شواغله بسبب اضطراره إلى العودة إلى مصر قبلهم، وكان قد سبق له فضلا عن ذلك أن زار كل تلك المناطق التي تقرر أن يزورها الصحفيون ...
وسافرت البعثة بعد ذلك إلى مدينة حيدر أباد، وهناك بدا التعب والإعياء الشديد على الزميل الأستاذ أحمد أبو الفتح رئيس تحرير المصري ... فقرر أن يعود إلى كراتشي على أن يلحق بالبعثة في لاهور، وذلك لكي يتسنى له السفر بالطائرة بدلا من السفر بالقطار في رحلة تستغرق نحو 12 ساعة.
إلا أن الأستاذ أحمد أبو الفتح بقي في كراتشي، ولما جاء موعد سفر الطائرة إلى لاهور تشاءم من السفر بمفرده في تلك الرحلة فقرر مد إقامته في كراتشي ... وما لبث بعد ذلك أن عاد إلى مصر.
وفي مدينة «لاهور» قرر الزميل الأستاذ حسين فهمي أن يعود إلى مصر، فركب الطائرة من لاهور وعاد بها إلى كراتشي، ومن كراتشي استقل طائرة أخرى إلى مصر ...
ولما عدنا من بشاور إلى كراتشي، وقبل موعد انتهاء الزيارة الرسمية بيومين، قرر الأستاذان محمد عبد القادر حمزة وحسني سلمان العودة إلى مصر بأول طائرة. ... وهكذا لم يبق إلى نهاية الرحلة إلا ثلاثة من الصحفيين كان يصحبهم الأستاذ مصطفى بنشي مندوب وزارة الخارجية ... وكانت السيدة أمينة السعيد ممن صمدوا حتى النهاية.
وكنا في كل يوم نتحدث في موضوع «البردة»، وهو الحجاب الباكستاني الذي ترتديه النساء هناك، فتبدو كل امرأة كأنها عبارة عن «ستار» متحركة وقد احتجب وجهها وكل شيء فيها.
حدث في إحدى الحفلات أن جاءت سيدة إلى الحفلة وهي ترتدي هذه البردة وطلبت أن تتحدث مع السيدة أمينة السعيد فأجيبت إلى طلبها وتحدثت إليها، وكانت هناك سيدة باكستانية أخرى تترجم الحديث بين السيدة التي ترتدي البردة والسيدة أمينة السعيد، لأن صاحبة البردة لم تكن تتحدث الإنجليزية.
وكانت السيدة أمينة ثائرة ضد البردة، فقالت للمترجمة: أرجو أن تسألي هذه السيدة لماذا ترتدي هذه الملابس.
وأجابت صاحبة البردة بوساطة المترجمة: لأنني مسلمة محافظة على التقاليد.
قالت السيدة أمينة للمترجمة: أرجو أن تقولي لها إنني مسلمة مثلها ومحافظة على التقاليد، ولكنني لا أوافقها على أن هذه الملابس من الإسلام في شيء!
وكان لهذه الإجابة وقع عميق في نفس صاحبة البردة!
وحدث بعد زيارة الوفد للبيجوم لياقت علي خان أن طلب المصورون أخذ صور للوفد مع البيجوم، فوقفت هي ووقف الجميع ينتظرون الصورة المطلوبة، وساد الصمت التام احتراما للسيدة الجليلة، وطال الوقت دون أن يتم التقاط الصور فقالت البيجوم: عندما يستعد الجميع للصورة بهذا الشكل ويسكتون ... في أغلب الحالات تتعطل آلة التصوير وتفشل الصورة!
وتعالى ضحك الجميع لما قالته البيجوم، وفي أثناء ضحكهم التقطت الصورة ... فظهروا وهم يضحكون إلا واحدة فقط احتفظت بوقارها وهدوئها ... وهي البيجوم لياقت ... صاحبة النكتة!
وكان أول شيء استرعى أنظارنا في باكستان هو البان ...
و«البان» عبارة عن ورقة خضراء من أوراق شجرة معينة، وتدهن الورقة بسائل لزج أحمر اللون ثم يوضع عليها بعض التوابل وكمية من الجير ... ومن أهم التوابل التي توضع في الورقة جوزة الطيب والحبهان والمستكة ... إلخ، وكلما تعددت الأصناف ارتفعت قيمة «البان». وإذا انتهى إعداد ورقة «البان» ووضعت عليها كل هذه الأشياء لفت بعناية وقدمت للمشتري الذي يتناولها في الحال ويضعها في جانب من فمه ويشرع في مضغها، وهي بمثابة اللبان الأمريكي (التشوينج جم) الذي لا يستغني عنه أمريكي.
والفقراء والأغنياء في باكستان يستعملون البان، على أن «بان» الأغنياء يتميز بكثرة ما يوضع فيه من توابل، بل لقد سمعت أن بعضهم - أي بعض الأغنياء - يضع في البان تراب الماس بعد صحنه جيدا، وكثيرا ما يقدم المضيف إلى ضيوفه البان الفاخر ملفوفا في الورق المفضض.
سألت فتاة باكستانية مثقفة: هل تمضغين البان؟
قالت: طبعا!
سألتها: ولماذا؟
قالت: لأنه مفيد للصحة بوجه عام ... وللأسنان بوجه خاص!
قلت: ولكنه يترك أثرا أحمر اللون في الفم والأسنان!
قالت: ولكن هذا لا يهم إذا قيس بالفائدة التي يجنيها ماضغ البان!
وهذا هو «البان» أو «اللبان» الباكستاني!
باكستان في الغرب ... والشرق
تأسست باكستان في يوم 14 أغسطس سنة 1947، وتألفت من قسمين تفصل بينهما مسافة تقدر بنحو 1200 ميل، ويقع أحدهما في الشمال الغربي من جمهورية الهند ويسمى باكستان الغربية، ويقع الثاني في الشمال الشرقي منها ويسمى باكستان الشرقية، وكان هذان القسمان يؤلفان من قبل جزءا من «إمبراطورية الهند البريطانية».
فأما باكستان الغربية فتتاخم كلا من أفغانستان وإيران من الناحيتين الغربية والشمالية الغربية، وتتاخم من ناحية الشرق إقليم شرقي البنجاب من الهند وصحراء الهند الكبرى، ومن الشمال إمارة كشمير وجمو، وهي الإمارة الإسلامية التي لا يزال النزاع مستمرا حولها، ويحف بأطرافها من الجنوب والجنوب الغربي البحر العربي، وعلى هذا البحر تشرف باكستان الغربية بثغرها وعاصمتها: كراتشي.
وتبلغ مساحة باكستان الغربية 310236 ميلا مربعا، ويقطنها نحو 33779000 نفس، وهي مقسمة إلى أربعة أقاليم هي: إقليم السند، وإقليم البنجاب، وإقليم الحدود الشمالية الغربية، وبلوجستان، هذا علاوة على منطقة العاصمة الاتحادية المحيطة بمدينة كراتشي، ولها كيان إداري خاص وعدد من الإمارات أكبرها إمارة بهاولبور.
وتنساب في باكستان الغربية خمسة أنهار كبرى، هي نهر السند وفروعه: جيلوم وجيناب وراوي وستلج، وكلها تنبع من جبال همالايا الشامخة في الشمال وتنحدر بين وديان كشمير ثم في السهول الجنوبية والغربية.
وأما باكستان الشرقية فتتألف من إقليم شرقي البنغال، وتبلغ مساحة رقعتها 54501 ميلا مربعا وعدد سكانها 42063000 نفس، وتقدر نسبة كثافة السكان فيها ب 777 نفسا في الميل المربع.
وتتكون باكستان الشرقية من سهل فسيح مستو لا تكاد تعترض أرجاءه الواسعة هضبة أو جبل، اللهم إلا في النواحي الجنوبية الشرقية حيث تبرز سلاسل من الجبال الواطئة. وأبرز مظهر في طبيعة هذا القسم من باكستان هو تلك الأنهار العظيمة الكثيرة التي تتلاقى وتتعارض في مجاريها حتى لتبدو للرائي وكأنها شبكة، ومن هذه الأنهار نهرا الكنج وبراهما بوترا وفروعهما العديدة، ويبلغ عرض الكنج في موضع من المواضع نحو عشرة أميال ... وعلاوة على المياه الغزيرة التي تتدفق من مجاري هذه الأنهار فإنها تحمل بين ثنايا تيارها كميات كبيرة من الغرين الذي يسمد التربة ويزيد من خصوبتها، كما يغزر في مياهها أنواع السمك، ثم هي إلى هذا كله تهيئ أرخص الوسائل للانتقال والنقل. وتقع في الناحية الجنوبية من البنغال الغابة الاستوائية المشهورة «سندربان»، وهي غابة كثيفة تكثر فيها الحيوانات الضارية ومن أهمها النمر البنغالي.
باكستان الغربية
تتكون أرض باكستان الغربية من سهول وبطاح وهضاب وجبال، تبدأ من صحراء السند المنبسطة، ثم يتموج سطحها ارتفاعا وانخفاضا حتى يبلغ سفوح جبال همالايا في الناحية الشمالية الشرقية وسفوح جبال هندوكوش في الناحية الشمالية.
أما المواصلات بين باكستان الشرقية وباكستان الغربية فتكون في الغالب بواسطة البحر والجو.
وتقع مدينة كراتشي - عاصمة باكستان - على ساحل البحر العربي الذي يحف بباكستان الغربية من الجنوب، ولقد اتسعت اتساعا ظاهرا خلال السنوات السبع الماضية، ففيها الآن ميناء كبير عامر ومطار جوي يعد من أكبر المطارات وأكثرها نشاطا.
وعندما تأسست باكستان منذ ثماني سنوات لم يكن عدد سكان كراتشي يزيد عن 359000 نسمة، أما الآن فيربو عدد سكانها عن المليون والربع. وقد سبب تدفق اللاجئين إليها من الهند وجود أزمة شديدة في المساكن غير أن أهل كراتشي انصرفوا إلى البناء والتعمير، فشيدوا خلال الأعوام القليلة الماضية عددا لا يحصى من البيوت والمساكن والمكاتب والمدارس والمعامل والمخازن، وما إلى ذلك مما تقتضيه الحياة المدنية.
ويبلغ عدد سكان السند نحو 4608000 نسمة، وتقع خارج حدود المنطقة التي تحتلها العاصمة الاتحادية - كراتشي - الآن، وقد دلت الحفريات التي أجريت في نواحي هذا الإقليم مؤخرا على أنه كان مركزا لمدنية زاهرة قامت منذ أكثر من خمسة آلاف سنة وعاصرت مدنيات الفراعنة في مصر، وإنك لتجد مصداق هذا القول في آثار موهن جودارو المشهورة. ثم إنك لتجد في السند وعلى الأخص في مدن تتا وبامبور وحيدر أباد (وهذه الأخيرة هي عاصمة السند، ويبلغ عدد سكانها نحو 242000 نسمة)، آثارا قيمة تدل على مبلغ تقدم الفنون الإسلامية في هذا القسم من باكستان خلال العصور الوسطى.
والسند بلاد زراعية من حيث الأساس وتسقى أراضيها من نهر السند الذي تتفرع منه قنوات وترع تؤلف شبكة كبرى للري ... ويجري الآن بناء خزان ضخم في أسفل نهر السند بالقرب من كوترى ويعرف باسمها وهو على وشك التمام.
وأكثر سكان السند فلاحون أقوياء الأجساد أشداء، وقوتهم الرئيسي لحوم الضأن والخضر واللبن والقمح، ومن هوايتهم الرياضية المصارعة وركوب الخيل.
أما إقليم البنجاب فيبلغ عدد سكانه نحو 18828000 نسمة، ويتاخم إقليم السند من ناحية الشمال. وكلمة «بنجاب» تعني المياه الخمسة، إشارة إلى الأنهار الخمسة التي تمر في أراضيه (هي السند وجيلم وجيناب وراوي وستلج)، وهو من أغنى المناطق الزراعية في باكستان ومن أكثرها خصوبة وأغزرها خيرات، فهو في الواقع «صومعة القمح» في باكستان.
وعاصمة البنجاب هي مدينة لاهور، وتعد من أكبر المراكز الثقافية في باكستان، وتتجلى في آثارها وعادياتها مظاهر أمجاد المغول وتراثهم، فمسجد بادشاهي يعد أكبر مسجد من نوعه في العالم، ومسجد وزير خان يعد تحفة فنية نادرة المثال، وحدائق شاليمار تبدو كالدرة الفريدة لما تمتاز به من دقة في التخطيط ومهارة في الهندسة وعلو في الذوق الفني.
ولمدينة لاهور جامعتها التي تعتبر من أقدم الجامعات في شبه جزيرة الهند، ويحيط بمدينة لاهور أرياف سندسية وبلدان وقرى جميلة، منها بلدة مونتجمرى (ويبلغ عدد سكانها 50000) وبلدة ليالبور (سكانها نحو 179000) وسيالكوت (سكانها 168000)، وهذه كلها من المراكز الكبرى للزراعة وللصناعة اليدوية.
وأهل البنجاب أقوياء أشداء أيضا، ويتكون طعامهم من خبز القمح والذرة ومن لحم الضأن والخضر واللبن والسمن، وهم يكلفون بالرياضة والفروسية، ومن ضروب الرياضة عندهم المصارعة والسباحة.
وعندما يحين فصل الصيف في إبان شهر مايو ويشتد القيظ وتهب الرياح الحارة على سهول البنجاب يهرع الأغنياء من أهله إلى مصيف جميل يقع على جبال مري (ويعرف باسمه)، على ارتفاع 7527 قدما من سطح البحر، فيقضون فيه أشهر الصيف متنقلين بين وديانه وحقوله الغناء ... فإذا ما مضى الصيف وولى القيظ هبطوا عائدين إلى مدنهم في السهول تاركين وراءهم المصيف وقد أخذت الثلوج تتساقط عليه وتكسو أشجاره وبيوته بحلة سميكة بيضاء ناصعة ...
أما إقليم الحدود الشمالية الغربية فيقع - كما يدل اسمه - في الناحية الشمالية الغربية من باكستان الغربية، ويبلغ تعداد سكانه 3253000 نسمة جلهم من البتان الذين اشتهروا بالشجاعة والشهامة وشدة البأس وإكرام الضيف وحماية الضعيف. والإقليم جبلي صخري مجدب وهواؤه جاف وسماؤه صافية وفي آفاقه سلاسل جبلية جرداء غبراء، منها سلسلة جبال سليمان ومن ورائها سلسلة جبال هندوكوش التي تطل من بعيد بقممها العالية المكللة بالثلوج ...
وعاصمة إقليم الحدود هي مدينة بشاور ذات الأسوار، ويبلغ عدد سكانها 152000 نسمة، وتزخر أسواقها بضروب السلع والبضائع مما يستجلبه إليها التجار والعملاء من جميع أرجاء الإقليم.
وتقع في الناحيتين الشمالية والشمالية الغربية من الإقليم المناطق القبلية وعدد سكانها 2647000 نسمة، وهي مناطق جرداء صيفها معتدل وشتاؤها شديد البرودة، ولا ينبت فيها من الزرع إلا الأشواك وضروب من العشب مما تقتات عليه الأغنام والماشية، ويعيش أفراد القبائل في مضارب وقرى صغيرة متناثرة هنا وهناك على سفوح الجبال.
وتتصل بإقليم الحدود من ناحية الجنوب منطقة بلوجستان (ويبلغ تعداد سكانها 622000 نفس)، وهذه منطقة واسعة تتألف من بطاح شاسعة ومن هضاب وجبال ووديان، وتنتشر فيها القرى الكثيرة على سفوح الجبال والهضاب حيث ينبت خلال الصيف بعض العشب والكلأ مما ترعاه الأغنام والماشية طوال الفصل، فإذا ما حل الشتاء واشتد البرد هبط السكان إلى السهول حول مدينتي سيبى ووهادار.
ويقع بين مدينتي كويتا وبشين واد خصب يجري فيه نهر صغير وقناة جوفية تسمى «كاريز»، وتزرع فيه الحبوب بأنواعها بكميات كبيرة، ومدينة كويتا عاصمة الإقليم وتقع في وسط هذا الوادي الغني، ويبلغ عدد سكانها نحو 84000. أما جوها فمعتدل وهواؤها عليل في الصيف، وبارد وشديد البرودة في الشتاء ، حتى لتنخفض درجة الحرارة في بعض أيام الشتاء إلى ما دون درجة التجمد، فهي تصلح لأن تكون مصيفا لا مشتى ... وهي تقع بين حقول غناء ومزارع مزدهرة. فإذا حل فصل الربيع وازدهرت الحقول بدت المدينة في حلة قشيبة تأخذ بالألباب ... أما مزارعها وبساتينها فغنية بضروب الفاكهة والخضر، كالأعناب والخوخ والسفرجل والبرقوق والتين والرمان ... ويشتهر سكان هذه المنطقة بالكرم ويزاول أكثرهم مهنة الزراعة وطعامهم العادي لحوم الضأن والجبن والخبز والفاكهة.
باكستان الشرقية
وبنغال الشرقية، وهو الإقليم الذي تتكون منه باكستان الشرقية، بلاد شديدة الخصوبة كثيرة الماء متنوعة الزرع ... والواقع أن كل شيء في هذه المنطقة يتوقف على الماء؛ الزرع والطعام والمواصلات.
والسكان هنا يقتصر طعامهم في الغالب على السمك والأرز، ويزاولون زراعة الجوت والشاي، فينتجون من الجوت أكثر مما ينتجه أي بلد آخر في العالم، إذ يبلغ محصولهم منه أكثر من ثلثي مجموع محصوله في العالم كله، وزراعة هذه الكميات الكبيرة من الجوت، وكذلك زراعة الأرز والشاي، تقتضي جهودا شاقة وهمما قوية وجلدا شديدا، فضلا عما تتطلب من كثرة الأيدي العاملة. ولقد أنعم الله عليهم بهذه الخصائص كلها، فباكستان الشرقية كثيرة السكان كثيرة الخيرات.
وأهل الريف في باكستان الشرقية يقيمون في أكواخ من القصب، يقيمونها وسط مزارع الأرز الخضراء أو مزارع الألياف الذهبية، ويقتاتون بطعام صحي بسيط هو في الغالب ما يغلونه من الأرز ومن السمك والخضر، وهم يهوون الفن بطبيعتهم فيكلفون بالموسيقى والغناء والشعر والرسم.
وعاصمة بنغال الشرقية هي مدينة داكا، ويبلغ تعداد سكانها نحو 411000، وفيها من المساجد والمنائر والقباب ما ينبئ عن تراث الإسلام فيها، ولقد كانت في وقت من الأوقات تشتهر بمهارة صناعها ودقة مصنوعاتها، لا سيما الأنسجة والخيوط المذهبة والحرير ... وهي اليوم تعج بالحركة والنشاط، وتتسع فيها العمارة اتساعا مطردا، وتعد جامعتها مركزا ثقافيا عظيما وذلك لأنها المحور الذي تدور عليه الحركة الثقافية في الإقليم كله.
وتتصل باكستان الشرقية ببحار العالم عن طريق ميناء شيتاكونك، وهو ميناء حديث آخذ في الاتساع، وقد لا يمضي وقت طويل حتى يصبح من أكبر الموانئ ومن أكبر المراكز التجارية في الشرق.
مولد دولة جديدة
شهد فجر القرن الثامن عشر الميلادي بداية النهاية للحكم المغولي في شبه القارة الهندية، وذلك بعد أن أرسيت تقاليد الإسلام وثقافته في هذه الأرجاء الواسعة. وقد أعقب هذه النهاية انهيار في القوة السياسية وتفكك في عرى الوحدة، ونشأت حالة من الفوضى مهدت لقوة أجنبية طريق حكم البلاد، ونتج عن هذا أن عملت شركة الهند الشرقية على إقامة إمبراطورية هناك تسلمتها منها بعد زمن وجيز بريطانيا العظمى.
وكانت آخر محاولة قام بها مسلمو شبه القارة لاستعادة مراكزهم تلك المحاولة التي ظهرت في عام 1857 والتي أطلق عليها بعض المؤرخين بلا حق حركة «العصيان الهندي»، وقد نتج عن هذه الحركة تحطيم قوة المسلمين السياسية والاقتصادية، وخلا الجو للإمبراطورية الهندية البريطانية التي عرفت كيف تبسط سلطانها على البلاد بقوة وبعزم.
وكان من نتيجة هذه السياسة أن قاسى المسلمون كثيرا، وكان عليهم والحالة هذه أن يبتعدوا عن البريطانيين بل وأن يقاطعوهم.
هذا هو الموقف الذي واجه السيد أحمد خان عام 1858، وهذا هو الوضع الذي ظل قرابة أربعين سنة من بعده، ولكن أحمد خان رأى بثاقب فكره أن هذه السياسة التي يتبعها المسلمون لن تؤدي إلى غاية، وأن مما يدعو المسلمين لأن يجاهدوا في سبيل بقائهم وكيانهم وجوب تزودهم بكل ما تنطوي عليه الحضارة الأوربية الغازية، وكان أن بذل جهوده لتعليم الشعب وتدريب الشبيبة المسلمة على المساهمة في تحديد الهدف السياسي والاقتصادي.
وكان أول عمل قام به السيد أحمد أن بذل جهودا مشكورة في خلق جو من التفاهم بين الطوائف المختلفة بالهند، وفي عام 1885 ظهر حزب المؤتمر الهندي وأخذ السيد أحمد يرقبه عن بعد طوال ثلاث سنين، انتهى بعدها إلى الحكم عليه بضيق أفقه، وفي هذه الأثناء ثار جدال حول استعمال اللغة الأوردية واللغة الهندية، وتأثر السيد أحمد خان بما رآه من تنافر بين الحضارتين الإسلامية والهندية، وأدرك - وكان أول من أدرك - أنهما حضارتان منفصلتان ليس بينهما تقارب أو تماثل.
وكان يعرف أن تنافرهما لا يقتصر على اللغة بل يتعداه إلى الميدان السياسي والاقتصادي والثقافي كذلك. وعلى هذا يمكن أن يقال إن السيد خان كان أول من فكر في وجوب إقامة دولة وأمة منفصلة تضم المسلمين وتبتعد عن الهندوس، وعلى هذا أيضا يمكن أن يقال إن السيد أحمد خان كان أول باكستاني.
وبعد أن استأثرت رحمة الله بالسيد أحمد خان قام نواب محسن الملك ونواب وقار الملك فتزعما المسلمين في حركاتهم السياسية، وكان أول عمل لهما أن أبديا استنكارهما للسياسة اللغوية في البلاد.
وكان من أثر هذا التحدي الذي لمسه المسلمون من الأغلبية أن تيقظ الوعي القومي بينهم وسرت فيهم موجة كبيرة من النشاط والعمل، وتنبه المسلمون إلى ضرورة إنشاء وطن خاص بهم يستطيعون فيه أن يكفلوا مصالحهم، وتركزت كل جهودهم في تنظيم صفوفهم، وبدا ذلك بوضوح في عليكرة عام 1901.
وكانت الأحداث تسير بسرعة ... ولكي يرضي البريطانيون المسلمين ويخففوا بعض ما يلاقونه قرروا في يوليه 1905 تقسيم البنغال، ومع أنه كان في هذا العمل ترضية للمسلمين ورد بعض الحق والإنصاف إليهم، إلا أنه سرعان ما ألغي هذا القرار في عام 1911، وهنا أخذ الهندوس في ضم صفوفهم لتنظيم المعارضة. وقد أتاح تقسيم البنغال للمسلمين في شرقيها فرصا جديدة رحبوا بها، ولكن معارضة الهندوس كانت شديدة. وكان أن اضطربت النفوس، واضطر المسلمون الذي كانوا مبتعدين عن الجو السياسي إلى أن يقلعوا عن هذه السياسة، ولما زاد الهياج في الخواطر اضطروا إلى أن يوفدوا وفدا منهم للورد منتو ب «سملا»، وكان ذلك في أول أكتوبر عام 1906، ونجح الوفد في استخلاص بعض الدوائر الانتخابية الخاصة بالمسلمين. وكان هذا الوفد من أقوى الوفود التي اتصلت بحكومة الهند، وكان مكونا من 36 عضوا يمثلون كل الأقاليم وكل الطبقات المتعلمة، وكان مطلبه الأول من الحكومة السماح للمسلمين بتمثيل أنفسهم في إدارة البلاد والاعتراف بمركزهم بوصفهم فئة مستقلة عن الأمة.
وقد مهدت هذه الأحداث لغيرها من الحوادث السياسية عام 1906، حيث عقد الاجتماع التاريخي الأول الذي وضع فيه أساس حزب الرابطة لكل مسلمي الهند ، وهو الحزب الذي كان له أكبر أثر في المصير السياسي لشبه القارة فيما بعد، وقد تأسس هذا الحزب وكان من أول أهدافه كفالة حقوق المسلمين السياسية.
وقد استغل حادث تقسيم البنغال في إثارة حفيظة المتطرفين من الهندوس، وهنا ثار الشعور الديني وبدأت الاضطرابات الطائفية.
وكان تكوين حزب الرابطة الإسلامية بداكا أول خطوة اتخذت في سبيل الوحدة وفي سبيل الشعور بالواقع والحقائق السياسية بين المسلمين. وفي أول اجتماع عقده هذا الحزب وجه إنذارا للحكومة ضمنه عدم رضائه عن إلغاء تقسيم البنغال وجزعه من أي إجراء مثل هذا، لأن تقسيم البنغال كان أمر حياة أو موت لمسلمي البنغال الشرقية. ونما حزب الرابطة وأصبحت له مكانة مرموقة بين الجماهير حتى افتتح له فرعا في لندن، وفي عام 1909 انتخب أغاخان رئيسا للحزب، وكان أكبر همه أن يمحو الأمية السائدة بين المسلمين.
وفي عام 1909 رأى المسلمون في المقترحات التي تقدمت بها لجنة «منتور مورلاي» بصيصا من الأمل، وذلك لأنها اعترفت بحقهم في دوائر انتخابية مستقلة.
وفي سنة 1911 اهتز كيان المسلمين نتيجة للقرار الذي اتخذته الحكومة البريطانية بإلغاء تقسيم البنغال برغم الوعود والتعهدات التي أخذتها على نفسها من قبل، مما أثر في نفوس مسلمي الهند.
وفي هذه الظروف الحرجة ألف حزب الرابطة الإسلامية لجنة لوضع برنامج للمستقبل، وطالبت الرابطة لأول مرة بضرورة تأسيس حكومة ذاتية للهند.
وفي هذه الأثناء، أعلن قيام الحرب الكبرى ضد ألمانيا، وانتهز الحزبان الكبيران بالهند، وهما حزب المؤتمر وحزب الرابطة، هذه الفرصة ليطالبا بتعديلات جوهرية في نظام الإدارة بالهند، وظهر تعاون الحزبين في كثير من المسائل، ووقف رئيس حزب الرابطة يخطب في الدورة الثانية التي عقدها حزب المؤتمر في بومباي عام 1915، مما اعتبر تعاونا لم يشهد مثله تاريخ الإمبراطورية الهندية البريطانية من قبل.
وبدأ حزب الرابطة يتحدى السلطة حين عدل عن إظهار شعوره وإخلاصه للحكومة البريطانية، وراح يعرب عن غضبه وتأثره للحركة التي أدت إلى حبس مولانا محمد علي وشوكت علي وظفر علي خان وإلى مصادرة صحف المسلمين استنادا إلى قانون الصحافة الذي كان معمولا به يومئذ.
وطلب الزعيم الخالد الذكر محمد علي جناح من حزب الرابطة الإسلامية في كل الهند تأليف لجنة يناط بها وضع الإصلاحات التي تراها مع السماح لها بالتفاهم مع المنظمات السياسية الأخرى. وفي نوفمبر 1916 اجتمعت لجنة من حزب المؤتمر الهندي بحزب الرابطة الإسلامية في كلكتا، ثم اجتمعا ثانية بلكناو في ديسمبر من العام نفسه وذلك بغية وضع تفاصيل المقترحات التي يريانها للتمهيد لإقامة الحكومة الذاتية.
وانتشرت فكرة الحكم الذاتي في الهند انتشارا واسعا حتى اضطرت الحكومة البريطانية أن تبعث بأحد وزرائها إلى الهند لدراسة الموقف.
وفي 26 نوفمبر عام 1917 استقبل لورد مونتاجو وفدا من الحزبين، ولكن الجو كان قد تعكر نتيجة لتدخل بعض المنظمات السياسية الأخرى، واستمرار حبس الزعماء المسلمين، الأمر الذي نتج عنه شغب طائفي كان قد توقف بعض الشيء منذ زمن بعد أن ترك مرارة وحزازة في صدور كل من الهندوس والمسلمين. وقد اعتبر حزب الرابطة هذه المشاغبات ضربة شديدة موجهة إلى حركة الجهاد المشترك.
ولم يرض الهنود عن التقرير الذي وضعه لورد مونتاجو ونائب الملك لورد تشيلمسفورد عن دستور الهند المقبل، وثارت النفوس بالهند، وأعرب الهندوس وكذلك المسلمون عن استيائهم من التوصيات التي تقدمت بها الحكومة. وقام الدكتور أنصاري يحذر الحكومة من أن المسلمين لن يسمحوا بإحداث أي تغيير في حقوق المسلمين في الدوائر الانتخابية المستقلة.
وهنا قام مسلمو شبه القارة بحركة تحد ضد الحكومة البريطانية لم يسبق لها مثيل. وأصبحت حركة الخلافة التي أثارها مولانا محمد علي بعد ما انتاب تركيا من نكبات على أثر انتهاء الحرب العظمى حركة يهتم لها كل مسلم في الهند، بعد أن كانت المسائل السياسية من اختصاص المتعلمين منهم وذوي الرأي والفكر فقط، وكان من أثر ذلك أن أصبح حزب الرابطة الإسلامية حزبا شعبيا كبيرا.
وفي هذه الأثناء اقترح مولانا «موهاني» إعلان استقلال الهند استقلالا تاما.
وكان موقف جناح من هذه الأحداث موقف السياسي المحنك، فكان من رأيه الجهاد في سبيل الدستور مع الانضمام ل «المجالس» في سبيل الحصول على نظام «الدومنيون»، وكان قد اعترى حزب الرابطة خلال هذه المدة بعض الضعف فبذلت الجهود الكبيرة لإحياء الحزب، ورأس جناح الحزب في وضعه الجديد، وفي المجلس التشريعي المركزي قام جناح يطالب بتأليف لجنة جديدة لدراسة الإصلاحات المرجوة من جديد.
وكان طبيعيا أن يؤثر إلغاء الخلافة في تركيا الكمالية على حركتها بالهند، فقامت بعض الاضطرابات الطائفية بين المسلمين والهندوس. وظهر أن من المتعذر تحقيق اتحاد المسلمين مع الهنود، وكانت آخر محاولة في هذا السبيل تلك المحاولة التي بذلت عام 1924 وباءت بالفشل.
وفي عام 1927 أرسلت إنجلترا إلى الهند لجنة «سيمون» بقصد دراسة الأوضاع، وهنا قام جناح يطالب بالنقاط الأربعة عشرة التي تتضمن فيما تتضمن كفالة حقوق الأقلية المسلمة.
وفي آخر أكتوبر 1930 أعلن نائب الملك بالهند قرار الحكومة البريطانية بعقد مؤتمر الدائرة المستديرة، لكي يشترك فيه الزعماء السياسيون في شبه القارة. واجتمع هذا المؤتمر بلندن في 12 نوفمبر 1930، وفيه طالب المسلمون بوجوب النص في الدستور على كفالة حقوقهم.
وفي هذا الوقت كانت الرابطة الإسلامية تعقد دورتها السنوية في «الله أباد» وعلى رأسها الدكتور محمد إقبال، وهناك طالب إقبال في خطاب تاريخي عظيم بوجوب اتحاد المسلمين وتكوين دولة خاصة بهم.
وكان مما جاء في هذا الخطاب الخالد قوله:
ليست الوحدات في المجتمع الهندي إقليمية كما هو شأنها في الدول الأوروبية، فالهند قارة تضم إليها مجموعات بشرية ترجع إلى أجناس مختلفة وتتكلم لغات متباينة وتؤمن بأديان غير متقاربة، وإن المبدأ الذي تعتنقه أوروبا الديمقراطية لا يمكن تطبيقه بحال على الهند دون أن يسبقه اعتراف بوجود المجموعات الطائفية، وعلى هذا فمطالبة المسلمين بتأسيس هند إسلامية داخل الهند مطلب له ما يبرره تماما ... وبودي أن أرى البنجاب وإقليم الحدود الشمالية الغربية والسند وبلوجستان وقد توحدت وأصبحت دولة واحدة.
ويبدو لي أنه ليس أمام المسلمين سوى هدف أخير واحد، هو تكوين حكومة ذاتية لهم إما داخل الإمبراطورية البريطانية وإما خارجها، وتكوين دولة إسلامية هندية تقع في شمال غربي الهند. وهذا الرأي يجب ألا يخيف الهندوس أو البريطانيين، فالهند إنما هي أكبر دولة إسلامية في العالم، وحياة الإسلام كعامل ثقافي حضاري في هذه الدولة إنما ينهض على تركيزه في حدود معينة فقط، وفي رأيي أن تركيز هذا العدد الهائل من المسلمين في الهند، ومنهم جنود الجيش ورجال البوليس الذين جعلوا الحكم البريطاني في هذه الدولة سهلا ممكنا، برغم المعاملة غير العادلة التي يلقونها من البريطانيين. أقول إن هذا التركيز إنما هو الحل لمشكلة الهند بل لمشكلة آسيا أيضا، وهذا الحل من شأنه أن يزيد من مسئولياتهم وأن يرهف من شعورهم الوطني. وإذا ما أتيح لهذه الدولة المسلمة الجديدة أن تقوم فإنها ستكون المدافع الأكبر عن الهند ضد أي هجوم أجنبي عليها، سواء أكان هذا الهجوم هجوم مبادئ أم هجوم حراب ...
وأنا لهذا أطالب بتكوين دولة إسلامية موحدة ... وقيامها هذا سيكون في صالح الهند كما هو في صالح الإسلام ... سيكون قيام هذه الدولة الجديدة في صالح الهند لأنها ستعنى بإقرار السلام والطمأنينة نتيجة لتوازن القوى في الداخل، وستكون كذلك في صالح الإسلام لأنها ستعمل على محو الطابع الاستعماري الغربي الذي أجبرت على أن تطبع به، ولأنها ستتيح للقوانين الإسلامية أن تسود، وللتعليم والثقافة أن يعملا جنبا إلى جنب، وفي تعاون، لإظهار الروح الإسلامية الصحيحة وإمكان تطبيقها في هذا العصر الحديث.
ويرى بعض المفكرين في هذا الذي نادى به إقبال عام 1930 نبوءة عن تأسيس دولة الباكستان، كما يرون أنه المؤسس الروحي لهذه الدولة.
وكان جناح في هذه الأيام في لندن ولكنهم طلبوا منه العودة ليتسلم زمام المسلمين، فلما عاد ألف فرعا للرابطة الإسلامية في داخل الجمعية التشريعية.
وكانت الرابطة قد أصابها وهن سرعان ما تغلب جناح عليه ورد فيها الحياة. وفي أبريل 1936 عقدت الرابطة دورتها في بومباي، وفيها تقرر دخول المسلمين الانتخابات الإقليمية، كما تألف فيها مجلس برلماني مركزي. وفي الاجتماع السنوي الذي تلا هذا الاجتماع، وكان في لكنو، وضع جناح برنامجه الإنشائي، وفيه تقرر عدم قصر عضوية الحزب على القلة المتعلمة، بل السماح لملايين المسلمين بالانضمام إليه.
وكان عسيرا على الهيئة الجديدة الاشتراك في هذه الانتخابات، خاصة وأن المسلمين يقلون بكثير جدا عن الهنود. وبرغم أن اجتماع حزب الرابطة لم يسفر عن نجاح مشهود في هذا السبيل فإنه كان فرصة للمسلمين لكي يعبروا عن مشاعرهم في المجالس التشريعية.
وعندما اشتد ساعد حزب المؤتمر، الذي يمثل الأغلبية الهندية، في الأقاليم بدأ المسلمون يشعرون بما أصاب مصالحهم بل وثقافتهم من ظلم، الأمر الذي أدى إلى إيقاظ الوعي القومي فيهم.
وابتدأ حزب الرابطة يقوى وأصبح برنامجه ثوريا يهدف إلى التغيير والتعديل، وبعد أن كان يحاول الحصول على حكومة مسئولة أصبح يهدف إلى الاستقلال المطلق، كما أعلن عن عزمه على إلغاء نظام الملكية. •••
وعندما نشبت الحرب العالمية الأخيرة في عام 1939 رأت الحكومة البريطانية نفسها مضطرة لأن تعدل سياستها بالهند، وقد عمد حزب المؤتمر الهندي إلى إحراج مركز الحكومة البريطانية وذلك بأن طلب إلى وزاراته بالأقاليم المختلفة الاستقالة من الحكم، وقد عد المسلمون هذا العمل نصرا كبيرا واحتفلوا به في كل مكان على أنه يوم من أيام الخلاص، وكانت بريطانيا وقتئذ تقاسي من أهوال الحرب، ولم يكن هناك من يتوقع لها النصر.
وعمد حزب الرابطة في هذه الأثناء إلى تعديل برامجه وأهدافه كذلك، وأخيرا قبلت فكرة إقبال وتقرر في الدورة التاريخية التي عقدها حزب الرابطة بلاهور عام 1940 الموافقة على قرار «الباكستان».
وقد جاء في هذا القرار التاريخي ما يلي:
وفي رأي المؤتمر في دورته الحالية أنه لن يمكن تحقيق أي خطة دستورية في هذه البلاد يقبلها المسلمون، إلا إذا جرت حسب المبادئ الأساسية التالية، بمعنى أن الوحدات الجغرافية المتجاورة يجب أن تخطط وتحدد بعد إدخال بعض التعديلات الإقليمية إن دعت الضرورة لذلك، بحيث تصبح المناطق التي تقطنها غالبية من المسلمين، كما هو الحال في المناطق الشمالية الغربية والشرقية من الهند، ولايات مستقلة تتمتع الوحدات المكونة لها بالاستقلال والسيادة.
ويجب أن يتضمن الدستور كفالة حقوق الأقليات في الوحدات وفي المناطق كفالة تامة فيما يتعلق بحماية دينهم وثقافتهم واقتصادهم وسياستهم وشئون الإدارة بينهم، وكذلك كفالة الحقوق والمصالح الأخرى بالتشاور معهم. وفي المناطق الأخرى من الهند حيث يكون المسلمون أقلية يجب كفالة حقوقهم كفالة تامة فيما يتعلق بالاحتفاظ بدينهم وثقافتهم واقتصادهم وسياستهم وشئون الإدارة بينهم، وكذلك صيانة حقوقهم ومصالحهم الأخرى بالتشاور معهم.
وقد خول المؤتمر السلطة للجنة التنفيذية لوضع مشروع للدستور يتمشى مع هذه المبادئ الأساسية ويستطيع أن يزود الأقاليم المختصة بكل السلطات كالدفاع والشئون الخارجية والمواصلات والجمارك وغيرها مما تدعو الحاجة إليه.
وعلى الرغم من أن إقبال كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل هذا بسنتين، فإن محمد علي جناح كان قد اعتنق فكرته كما اعتنقها معه حزب الرابطة الإسلامية ومن ورائه ما يقرب من مئة مليون مسلم يقطنون شبه القارة الهندية الباكستانية.
وتلا ذلك أعوام من الشدة والقلق إذ اقتربت الحرب من حدود شبه القارة، وكان دخول اليابان الحرب وتأرجح مصير الحلفاء في مختلف الميادين مدعاة لقيام حزب المؤتمر الهندي بحملة جديدة أخرى شنها في وقت كانت بريطانيا نفسها تناضل فيه للإبقاء على ذاتها.
ولما فشلت مهمة سير ستافورد كريبس تشجع زعماء حزب المؤتمر وظنوا أن الحكومة البريطانية لا تستطيع العمل بدونهم. وقامت بعثة برلمانية بزيارة الهند، ودعا نائب الملك وقتئذ، لورد ويفل، إلى اجتماع يعقد في سملا ويشترك فيه زعماء المؤتمر والرابطة الإسلامية. وفي هذا الاجتماع أصر محمد علي جناح على وجوب تحقيق فكرة الباكستان التي أصبحت الهدف الذي يتطلع إليه حزب الرابطة، ورفض أن يشترك في أية مباحثات ما لم تقبل هذه الفكرة أساسا لها، ولما لم يرض المسلمون عن خطة ويفل أعلن فشل المباحثات.
وأعقب قدوم البعثة البرلمانية إلى الهند قدوم بعثة أخرى مكونة من أعضاء من مجلس الوزراء البريطاني، وقد تقدمت بمشروع جديد يتضمن حلا يقوم على تقسيم المناطق، ومع أن حزب الرابطة كان قد قبل هذا الحل في أول الأمر إلا أن المناورات والسياسة التي كان يتبعها زعماء حزب المؤتمر قضت على كل أمل في إمكان قيام وحدة في البلاد. ومن جديد قام حزب الرابطة، ومن ورائه الملايين العديدة من المسلمين، يطالب بقيام الباكستان دولة إسلامية مستقلة ذات سيادة، باعتبار أن هذا هو الحل الوحيد الذي يقبلونه.
ولما تولى حزب المؤتمر الحكم في الحكومة المركزية عد المسلمون هذا العمل ضربة موجهة إليهم، وفي الحال عقدت الرابطة اجتماعا في بومباي حيث اتخذت القرار التاريخي المعروف بقرار «العمل المباشر»، وطلب الحزب من كل أعضائه التنازل عن أي لقب يحمله أحدهم من الحكومة البريطانية، وأعلن عن نضاله السافر ضدها.
وقد دل حزب الرابطة في كل أعماله على أنه ممثل المسلمين كافة، واستطاع أعضاؤه أن يفوزوا بأغلبية أصوات المسلمين في الانتخابات المركزية والإقليمية. ولما اشترك المسلمون مع الهندوس في حكومة ائتلافية يرأسها نائب الملك، كان حلم الباكستان وشيك التحقيق وظهرت أمام المسلمين بارقة من الأمل، ودعت الحكومة البريطانية إلى مؤتمر يعقد بلندن وحضره ممثلون لحزب الرابطة ولحزب المؤتمر، وفي 3 يونيه عام 1947 أعلن قبول فكرة تأسيس الباكستان كما أعلن استقلال الهند.
وفي 14 أغسطس من عام 1947 قامت الباكستان بعد جهاد طويل مرير بدأ منذ عام 1857 واستمر تسعين سنة، بذلت فيها تضحيات كبيرة وقاسى فيها المسلمون ألوانا من الضيق والإكراه والشدة، ولكنهم كانوا خلالها أبطالا صمدوا للأحداث وواجهوها بقلوب عامرة وعزم ثابت، وهكذا قامت هذه الدولة وهي تستند إلى جهاد طويل وثقافة تعود إلى آلاف السنين.
ولقد دلت الأحداث الكثيرة التي مروا بها خلال القرن التاسع عشر على استحالة الحياة مع أمة غيرهم تكبرهم بثلاثة أضعاف.
ومنذ سنة 1936 حتى 1947 كان القائد الأعظم محمد علي جناح محور السياسة الذي كان حزب الرابطة يدور حوله، والقائد الزعيم الذي كان المسلمون يتطلعون إليه، وهكذا نجح هذا الزعيم القادر، وحوله القلوب المطمئنة المؤمنة، في تحقيق هذا الحلم الجميل.
وقد أطلق على الدولة الجديدة اسم باكستان لأن باكستان معناها أرض الطهر. ولكن الكلمة ترمز إلى جانب ذلك إلى الولايات المختلفة التي تتكون منها هذه البلاد؛ فحرف (ب) يرمز إلى بنجاب، وحرف (ا) يرمز إلى الباتان، وحرف (ك) يرمز إلى كشمير وإن كانت لا تزال معلقة المصير، وحرف (س) يرمز إلى سند. أما كلمة ستان فمعناها دولة.
وباكستان هي حقا بلاد الجد والفضيلة والنهضة، وقد نشأ أهلها على حب مصر والمصريين، وهم يحرصون كل الحرص على علاقتهم الودية بمصر ويودون لو زاد المصريون من توثيق علاقاتهم بباكستان. ولا أزال أذكر كيف أنني في أول ليلة من وصولنا إلى كراتشي خرجت مع الزملاء من الفندق نلتمس مكانا نقضي فيه السهرة أو بعض الوقت، فسرنا على أقدامنا مسافة طويلة ولم نجد شيئا، ثم عدنا في النهاية إلى الفندق ليقضي كل منا السهرة في حجرته، كانت الأضواء قد سلطت على المتاجر الكبيرة لتعرض بعض مصنوعات باكستان الناهضة لا ليعلن عن الملاهي أو دور السينما أو المشارب.
وقد قامت الباكستان لا لتكون غاية وإنما لكي تكون وسيلة تستهدف المساهمة مع بقية شعوب العالم في إقرار السلام وإشاعة الطمأنينة.
وقد جاهدت منذ أول يوم ارتفع فيه صوتها في المحافل الدولية في الدفاع عن الأمم الضعيفة والمظلومة، وليس ذلك غريبا على دولة تأسست لنشر العدل والطمأنينة بين رعاياها بعد طول ما قاسوا من ظلم واضطهاد.
ولكن هذا لا يمنع من القول إن الحياة في كراتشي عاصمة باكستان لا تكاد تختلف عن الحياة في أية عاصمة أخرى من العواصم الغربية، وإنه يمكن لمن يريد أن يجد فيها المتع التي يجدها في العواصم الأخرى.
القائد الأعظم!
كانت أول زيارة قمنا بها في كراتشي هي زيارة قبر «محمد علي جناح» أو القائد الأعظم كما يطلق عليه سكان باكستان.
ولا شك أن محمد علي جناح هو القائد الأعظم بالنسبة لملايين المسلمين الذين أسسوا دولة باكستان، فحقق لهم حلما جميلا ظل يداعبهم قرنا من الزمان.
وتاريخ محمد علي جناح يعتبر درسا للشباب ولهؤلاء الذين يظنون أحيانا أن الأمانة والصدق في السياسة مما يعوق عن الوصول.
ولد جناح في 25 ديسمبر من عام 1876، واعتادت باكستان، حكومة وشعبا، أن تحتفل دائما بذكرى هذا اليوم تخليدا لاسم الرجل الذي قاد مسلمي شبه القارة الهندية في جهادهم وحقق لهم حريتهم.
وعندما تحتفل باكستان بذكرى مولد محمد علي جناح فإنها في الواقع تحتفل بالتراث المجيد الذي خلفه لها الرجل، ممثلا في تلك الدولة القوية الفتية التي أصبحت أكبر الدول الإسلامية في العالم، وفي ذلك الشعار الذي رسمه لبني وطنه ولخصه لهم في ثلاث كلمات هي: الاتحاد والإيمان والنظام.
وقد نشأ جناح في أسرة يحترف عائلها التجارة، وكان من المنتظر أن يشتغل بالتجارة مثل أبيه، ولكنه ما لبث أن تحول إلى دراسة القانون وسافر إلى بريطانيا ليتم دراسته القانونية هناك، وكان عمره إذ ذاك 16 عاما.
وقضى جناح في البيئة الإنجليزية أربع سنوات اتصل فيها بالحياة العامة في بريطانيا وتأثر بأساليب السياسة الإنجليزية، وهي سياسة عملية في صميمها لأن حياة الشعب البريطاني تتوقف على التجارة وهو مضطر أن يبحث دائما عن أسواق خارجية لتصريف المصنوعات التي ينتجها في بلاده.
فلما عاد القائد الأعظم إلى الهند واشتغل بشئون القانون ومنها المحاماة وسلك سبيل الحياة التشريعية بعد أن انتخب في المجلس التشريعي الهندي، زاده ذلك كله اتجاها للحياة العامة التي أخذ يعالجها بروح عملية لا تنسى المثل العليا ولكنه لا يقف جامدا أمامها.
وكان في أول أمره متصلا بحزب المؤتمر في الهند وأغلبيته من الهندوس، وكان يحسب أنه يستطيع أن يجد الوسيلة العملية التي تمهد للهند كلها سبيل الحكم الذاتي، وتمهد للمسلمين الوسيلة لحريتهم وإقامة شعائرهم والعيش حسب عقائدهم، فلما نشأ حزب الرابطة الإسلامية جعل القائد الأعظم همه أن يوفق بين هذا الحزب وحزب المؤتمر.
ولكنه رأى في آخر الأمر أن هذا التوفيق غير يسير، وأن قسمة شبه القارة الهندية إلى دولتين هما الهندوستان والباكستان هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الفكرة الأولى في سبيل الغاية التي يسعى إليها، كما أنه الوسيلة لإقامة دولة إسلامية كبرى يكون لها في الحياة الدولية مقام له اعتباره وتقديره.
والعجيب في حياة القائد الأعظم أنه رغم زعامته لأكبر أمة إسلامية وتأسيسه لدولة قامت على الدين، فإنه لم يكن يتظاهر أبدا بالنسك والتصوف أو الإغراق في التقوى والصلاح، ومع ذلك فلم يؤخذ عليه أبدا أنه ظهر بصورة تخالف ما يجب أن يظهر به الزعيم المسلم، وكان إذا اشترك في اجتماع وحان وقت الصلاة أم الحاضرين.
وكان مثالا للسماحة التي يتصف بها كل من يفهم الإسلام على حقيقته، وكان يزوره في منزله المسلمون وغير المسلمين من أبناء الطوائف الأخرى، كما كان هو نفسه يزور أصدقاءه من المسلمين وغيرهم.
القائد الأعظم: محمد علي جناح.
روى لنا السردار نشتر، وقد كان ممن اشتركوا مع محمد علي جناح في جهاده لتأسيس باكستان، أنه كان يزور يوما بصحبة القائد الأعظم إقليم الولايات الشمالية عند الحدود، فلما اقتربت السيارة من إحدى المدن هدأت من سيرها فخرجت جموع غفيرة لاستقبال القائد الأعظم والترحيب به، وكان على رأس هذه الجموع العلماء وكبار المشايخ بعمائمهم الكبيرة ولحاهم وملابسهم التقليدية التي تدل على مركزهم الديني.
وكان هؤلاء العلماء الذين يطلقون عليهم اسم «الملا» يعدون وراء سيارة القائد الأعظم دون حساب لمركزهم الديني، ودهش القائد الأعظم لهذا المنظر فالتفت إلى السردار نشتر وقال له: لماذا يجري هؤلاء العلماء والمشايخ وراءنا بهذا الشكل؟! إنني رجل أرتدي الزي الإفرنجي وأطلق لحيتي وشاربي وليس في مظهري ما يدل على التقديس ... فلماذا يعدون ورائي هكذا ... لماذا؟!
وأخذ يكرر كلمة «لماذا» ...
وسكت السردار نشتر من فرط تأثره بالموقف، وما لبث أن سمع القائد الأعظم يتحدث من جديد وكأنه يرد على السؤال الذي ألقاه على نفسه، وسمعه يقول: نعم، إن السبب هو الثقة! ... إنهم يثقون بقائدهم ويعلمون أنه يعمل لخيرهم ولصالح أمتهم!
وقد أقعد الجهاد في سبيل تأسيس الوطن محمد علي جناح عن الزواج حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم حدث في عام 1916 في أحد الاجتماعات العامة التي عقدت في بومباي أن كان أحد أثرياء الفرس واسمه «دنشابتيت» يشهد الاجتماع ومعه ابنته الحسناء «رتن»، وكان الثرى الإيراني وابنته من أتباع زرادشت.
وفي ذلك الاجتماع الحافل أعجبت الإيرانية الحسناء بمحمد علي جناح وهو يصول ويجول ويخطب ويقارع الحجة بالحجة وينتصر في المعارك الخطابية التي يدخلها، فما انتهى الاجتماع إلا وأبدت له الفتاة إعجابها وتقربت منه وصارحته بأنها تتمنى لو تزوجت برجل مثله.
وفوجئ جناح بهذا الطلب، فنبه الفتاة إلى فوارق متعددة تفصل بينه وبينها؛ أولها فارق الدين فهو مسلم وهي من أتباع زرادشت، وهي في العشرين من عمرها وهو في الأربعين، وهي إيرانية وهو هندي مسلم ... وأخيرا، وليس آخرا، أنها تنتسب لأسرة عريضة الثراء وهو رجل فقير ...
إلا أن الفتاة لم تهتم لهذه الفوارق وأخذت تهدمها واحدا بعد الآخر، فقالت إنها فيما يتعلق بالدين تريد أن تعتنق الإسلام وتترك مذهب زرادشت، وأما فيما يتعلق بالسن فإنها لا ترى أنه يقوم حائلا بين المرأة والرجل، وكذلك فيما يتعلق بالجنس، أما فيما يتعلق بالثروة فإنها تعرف أنها سوف تفقد نصيبها من ثروة والدها الكبيرة فيما إذا تم هذا الزواج.
ولما تبين جناح إخلاص الفتاة لم يجد ثمة مانعا من الزواج منها، وخاصة بعد أن اطمأن إلى أن أحدا لن يتهمه بأنه رغب في الزواج طمعا في مال الفتاة.
وتم الزواج وأسلمت الفتاة فحدثت ضجة كبرى وثار أهل الفتاة ضد جناح وحاولوا إلغاء هذا الزواج من طريق القضاء، إلا أن الفتاة أثبتت أن سنها تخول لها الحق المطلق في اختيار زوجها، وأراد القاضي أن يغمز محمد علي جناح فلمح له إلى أنه يسعى وراء مال الفتاة الثرية، فما كان من رتن إلا أن ثارت وقالت إنها هي التي عرضت الزواج على محمد علي جناح، وقد عرضته وهي تعرف وجناح يعرف أيضا أنها ستحرم من كل ثروتها، ولكنها ليست في حاجة إلى هذه الثروة.
وقد عاش الزوجان بعد ذلك في سعادة وهناء برغم كل ما كان بينهما من فوارق انعدمت بعد الزواج، وكانت ثمرة هذا الزواج فتاة أطلق عليها اسم «فينا».
إلا أن الزوجة ما لبثت أن انتقلت إلى رحمة الله وهي لم تبلغ الثلاثين من عمرها بعد، فحزن جناح لفقدها واضطر أن يترك الطفلة عند جدتها لأمها.
وما لبثت أواصر الصلة بينه وبين هذه الابنة أن انقطعت. •••
واحتمل جناح هذه الصدمة بشجاعة نادرة فلم يندب حظه أو يشكو لأحد ما أصابه، وإنما ازداد تفانيا وإخلاصا في خدمة المسلمين في الهند ... وكأنه أراد أن ينسى في غمار الجهاد الوطني قسوة الصدمة النفسية التي أصابته بموت زوجته أولا ثم بانقضاء ما كان بينه وبين ابنته.
ويربط كثيرون من المؤرخين بين ما أصاب جناح في حياته الخاصة بعد أن انتهى ما كان بينه وبين زوجته الزرادشتية، وبين التحول الذي ظهر في اتجاهاته السياسية بعد هذه النكبة العاطفية ...
ففي ذلك الوقت عينه، وبعد الانفصال الأبدي بينه وبين زوجته وابنته أخذ جناح ينادي بضرورة انفصال باكستان عن الهند. •••
لم يبدأ جناح حياته السياسية بالدعوة إلى الفصل بين الهند وباكستان، بل لقد بذل الرجل كل جهده في بادئ الأمر للتوفيق بين البلدين والإبقاء على وحدة شبه القارة الهندية، ولكنه اضطر في النهاية إلى المناداة بالفصل بعد أن استنفد كل وسيلة للتوفيق.
وأكبر دليل على هذا أن جناح لم ينضم فورا إلى حزب الرابطة الإسلامية بعد تأسيس هذا الحزب وآثر أن يعمل للتوفيق، فلم يصبح عضوا فيه إلا بعد انقضاء سبع سنوات على تأسيس الحزب، وحاول بعد أن انضم لحزب الرابطة أن يقف من حزب المؤتمر الهندي موقف الصديق وقال إنه ليس هناك ما يمنع من أن يصبح حزب الرابطة الإسلامية جناحا وحزب المؤتمر جناحا آخر، وبهذا يمكن لشبه القارة كله أن يطير وأن يحلق في الجو حتى تتحقق له الحرية، وليس هناك طائر يمكن أن يطير بجناح واحد!
وهكذا ظل جناح رسول مودة وإخاء بين المسلمين والهندوس حتى استحق من هؤلاء وأولئك كل تقدير وإجلال.
ولكنه مع ذلك أثبت أنه سياسي صادق، بعيد النظر، واسع الأفق، راجح الفكر، فما كاد يقتنع بأن الخير في قسمة شبه القارة الهندية واستقلال مسلميها في دولة قائمة بذاتها؛ حتى سار قدما في تحقيق فكرته هذه ولم يتراجع قط.
وقد كانت المصاعب التي واجهت جناح منذ أول يوم من جهاده كفيلة بأن تبعث اليأس إلى نفسه وتثنيه عن عزمه، ولكنه استطاع بإخلاصه وصبره وكفاحه ومثابرته وتضحياته أن يقود السفينة إلى بر الأمان وأن يحقق الأماني القومية لمسلمي الهند حتى أصبح مثلا يحتذى لغيره من المجاهدين، وبذلك استطاع أن يجمع حوله تأييد 100 مليون مسلم كانت تضمهم شبه القارة الهندية واستطاع بهذا التأييد أن يحقق حلم «الباكستان».
ولعل من أبلغ الأدلة على بعد نظره ما رواه لنا السيد أصفهاني وزير الصناعة الباكستاني، إذ قال:
في عام 1942 وقبل تأسيس باكستان بخمس سنوات، اجتمعنا في بومباي لدراسة الحالة التي نشأت عن اعتقال غاندي وجميع أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر الوطني الهندي والزج بهم في السجن، وكان الاعتقال قد تم قبل هذا الاجتماع ببضعة أيام وراجت في أوساط حزب المؤتمر والدوائر الهندوسية على أثر هذا الاعتقال دعايات تنادي بضرورة اتفاق حزب الرابطة الإسلامية مع حزب المؤتمر على الإضراب لتحقيق استقلال شعوب شبه القارة.
فاجتمعت اللجنة التنفيذية لحزب الرابطة الإسلامية في بومباي، وخاصة بعد أن حرص زعماء حزب المؤتمر الذين كانوا خارج السجن والزعماء الهنود عامة على التأكيد بأن حزب المؤتمر يريد أن يكون عادلا مع المسلمين وأنه سيمنحهم الاستقلال الذي يريدونه، ورأت طائفة من زعماء حزب الرابطة في مختلف الأقاليم أن هذه هي فرصتنا للتضامن مع حزب المؤتمر إذا كنا نرغب في نيل حريتنا، وكنت أنا من بين من يرون هذا الرأي.
ووصلت إلى بومباي في مساء اليوم السابق لعقد الاجتماع، ولا أزال أذكر جيدا تلك المقابلة التي جمعتني بالقائد الأعظم مع اثنين من أخلص أصدقائي، وكان أحدهما من الأعضاء البارزين في اللجنة التنفيذية للحزب. وفي هذه المقابلة انطلقنا نعرب عن رأينا بحرية وصراحة ونبين كيف أن الظروف التي كانت سائدة في البلاد تدعونا إلى عدم تفويت مثل هذه الفرصة التي ستمكننا من انتزاع الحرية من أيدي البريطانيين ومنحها للهندوس والمسلمين على السواء.
ولم تمض بضع دقائق حتى أدركت أن جناح لا يقرنا في الرأي وأن هدوءه المعتاد يخفي وراءه فكرته التي كان ينادي بها، وهي أن مصالح المسلمين تقتضي منا اتخاذ سياسة ترمي إلى تفادي الوقوع في أساليب البريطانيين والهندوس على السواء، وكان من رأيه أن نتخذ موقف المحايد الحذر وألا نعبأ بأي القوتين وأن نغتنم كل فرصة لتدعيم حزب الرابطة الإسلامية.
ولا أزال أذكر جيدا ما حدث في أول اجتماع عقدته اللجنة التنفيذية للحزب في اليوم التالي، فلقد كان أحد أعضاء الحزب البارزين في البنغال يتحدث مؤيدا وجهة نظرنا ولكنه لم يكد يستمع إلى الأسباب التي قدمها جناح من كرسي الرئاسة لمعارضة هذا الرأي حتى عاد العضو المذكور إلى مقعده دون أن يتم حديثه وقد أصبح من أكبر مؤيدي جناح، وترسم عدد آخر من الأعضاء خطى هذا العضو فأعرب بعضهم عن تأييده لجناح بإلقاء الخطب، كما اكتفى البعض الآخر بالإعراب عن هذا التأييد بالصمت.
وقبل أن يجري التصويت على القرار لم يكن قد شذ عن الإجماع سوى ثلاثة أعضاء اتفقوا فيما بينهم على الامتناع عن التصويت، كما اتفقوا مع القائد الأعظم على تقديم استقالاتهم إذا لم تسر الأمور على ما يرام في خلال ثلاثة أشهر بموجب اقتراح الرئيس، وكنت أنا أحد هؤلاء الثلاثة. قال لنا القائد الأعظم يومذاك: امنحوني فرصة ثلاثة أشهر، فإذا لم أتمكن من إثبات صحة وجهة نظري استقلت أنا من رئاسة الحزب.
ورفض أحد الأعضاء الامتناع عن التصويت وأدلى بصوته ضد القرار بعد أن فشلت جميع الجهود التي بذلت لإقناعه باتخاذ موقف حياد على الأقل. وانفضت اللجنة فقررت أنا وصديق لي تأجيل رحيلنا عن بومباي بضعة أيام، وفي هذه الأثناء كنا نجتمع بجناح أكثر من مرة في اليوم لنصارحه بعدم اقتناعنا بصواب القرار الذي اتخذته اللجنة التنفيذية للحزب، ولكن القائد الأعظم واصل محاولاته لإقناعنا بوجهة نظره.
وفي صبيحة أحد أيام الآحاد اطلعنا على مقالين؛ أحدهما مقال كان قد نشره غاندي في صحيفة «هاريجان»، والآخر مقال نشرته صحيفة «بومباي كرونيكل» للبندت نهرو في نفس اليوم، وكان المقالان قد ظهرا في الليلة السابقة لاعتقال زعماء حزب المؤتمر، وقد أثبت لنا المقالان أن موقف الهندوس أو حزب المؤتمر من المسلمين لم يتغير، وأنه لا يزال من رأيهم أن يظل المسلمون أقلية تتمتع بالحقوق التي تتمتع بها غيرها من الأقليات في «الهند الديمقراطية».
وفي صبيحة يوم الأحد المذكور غيرنا رأينا، وآمنا بوجهة نظر القائد الأعظم، وتركناه بعد أن أكدنا له أننا سنعمل بعد عودتنا إلى أقاليمنا على بذل كل جهد في استطاعتنا لنثبت للشعب الذي كان يؤمن بالفكرة التي كنا نؤمن بها قبل حضور هذا المؤتمر؛ أنه كان على خطأ كما كنا، وأن القرار الذي اتخذه حزب الرابطة الإسلامية، والذي لم يكن سوى قرار القائد الأعظم نفسه، هو القرار الصائب الوحيد.
ولما عدنا إلى أقاليمنا لم تعوزنا الدلائل التي كنا نستخلصها مما يجري حولنا من أحداث لإثبات صحة هذا القرار الذي اتخذ برأي القائد الأعظم وحده، إذ لو لم يرشدنا القائد الأعظم إلى تجاهل المحاولات التي كان يبذلها حزب المؤتمر واغتنام كل فرصة ممكنة لتنظيم وبناء حزب الرابطة الإسلامية؛ لابتلى المسلمون بنكسة ولمضت عليهم سنوات طويلة قبل أن يفيقوا منها، ولما تمكن حزب الرابطة الإسلامية من أن يتمتع بالقوة التي نمتع بها بين ذلك التاريخ وعام 1946، ولما أصبح هذا الحزب السياسي المسئول الوحيد الذي ينطق بلسان جميع المسلمين في شبه القارة الهندية.
وقد استقبل كثيرون دعوة جناح لقسمة الهند واستقلال مسلميها في دولة منفصلة ذات حدود بكثير من الشك والارتياب وخاصة هنا في مصر التي كانت تنادي منذ قامت حركتها الوطنية الأخيرة في عام 1919 بالوحدة مع السودان ... فقد تشكك المصريون في دعوة جناح إلى قسمة شبه القارة بين الهندوس والمسلمين، ورأوا فيها محاولة لإضعاف تلك الدولة الكبيرة وهدما لوحدتها، ولم يكن من اليسير على المصريين أن يفهموا إذ ذاك حقيقة الأسباب التي أدت بجناح إلى الدعوة لتأسيس باكستان.
ولكن جناح لم يكن بدعوته يطلب شهرة أو مجدا فقد عاش طول حياته أبعد ما يكون عن السعي إلى الشهرة، كما أنه لم يكن يسعى إلى هدم الوحدة القائمة بين سكان شبه قارة الهند، وإنما بدأ بدعوته بعد أن آمن بها إيمانا وتيقن أنها الوسيلة الوحيدة للسلام في ذلك الجزء من العالم ولإنصاف المظلومين والنهوض بالمتخلفين من أبناء دينه.
لم يتحرك القائد الأعظم للفكرة عفوا ولا بوحي من أحد، بل إنه آمن بها بعد أن عالج الحياة العامة سنوات طويلة حاول في أثنائها التوفيق بين الحزبين المتنافرين وبذل كل ما يمكن أن يبذل ليحقق لمسلمي الهند حريتهم، فلما ثبت له أن سياسة التوفيق لا يمكن أن تؤدي إلى نتيجة لم يجد بدا من الدعوة إلى الفصل بين الهندوس والمسلمين ليزول ما بينهم من دواعي الاحتكاك الذي كاد يبلغ الحرب الأهلية.
وقد روى الدكتور محمد حسين هيكل تفصيل حديث جرى بينه وبين محمد علي جناح بالقاهرة من عشر سنوات أو نحوها، فقد مر - رحمة الله عليه - بهذه العاصمة في ذهابه إلى لندن أو عودته منها إلى الهند، واجتمع به الدكتور هيكل مع لفيف من الإخوان، فأخذ يحدثهم في نظريته عن الباكستان وإنشائها. ويقول الدكتور هيكل وهو يروي نبأ هذه المقابلة:
وكنا يومئذ مجمعين على أنه لا يجوز إقامة دولة يهودية في فلسطين، وكان من بين الحجج التي يقوم عليها رأينا أن إنشاء دولة على أساس ديني أمر لا يسيغه التفكير في العصر الحاضر، وأبديت هذا الرأي لصاحب فكرة الباكستان وقلت إنني أخشى أن نبدو متناقضين إذا نحن أيدنا رأيه في الوقت الذي نقاوم فيه إنشاء الدولة اليهودية، فباكستان التي يدعو إليها كانت الفكرة فيها قيام دولة من المسلمين مستقلة عن الهند، أي قيام دولة على أساس ديني.
ورد الرجل اعتراضي يومئذ قائلا:
شتان يا أخي بين الأمرين! فالدولة اليهودية التي يراد إنشاؤها يراد أن يجلب إليها اليهود من أطراف الأرض المختلفة في أوروبا وأمريكا ولا أدري من أين من القارات الأخرى، فهي إذن دولة لا وجود لها اليوم ويراد إكراه أصحاب فلسطين العرب على التخلي عن وطنهم لإنشاء هذه الدولة، أما الباكستان فأهلها هم أهلها، وهم المسلمون في بلاد الهند، وبين التقاليد والعقائد الإسلامية والهندوسية من التناقض ما يجعل عيش الفريقين معا ظلما على الأقلية، أي على المسلمين. فهم يريدون، من غير أن يضار الهندوس في شيء، أن يستقروا في بلادهم، وأن يكون معهم إخوانهم الذين يريدون الانضمام إليهم من أرجاء الهند، لا من بلاد أخرى، ليكون لهم جميعا من الحرية في آرائهم وعقائدهم وتقاليدهم ما يعانون اليوم تقييده ومعارضته. فنحن لا نريد أن ننشئ دولة من لا شيء، ولا نريد أن نغتصب أرض أحد، ولا نريد أن نجني على حرية أحد، وإنما نريد أن نهيئ لهؤلاء المسلمين - وعددهم مائة مليون - وسيلة صالحة وطبيعية للتمتع بحريتهم في عقائدهم وتقاليدهم من غير إضرار بأحد ولا اعتداء على أحد.
قال الرجل هذا الكلام مقتنعا به كل الاقتناع، مؤمنا به كل الإيمان، فانتقل إلينا إيمانه واقتناعه، وكتبت أؤيد رأيه، وكان ذلك طبيعيا، فقد استطاع القائد الأعظم أن ينقل هذا الاقتناع وهذا الإيمان من قبل إلى عشرات الملايين من مسلمي الهند في ذلك العهد، ثم استطاع أن ينقله إلى الحكومة البريطانية وإلى الهندوس من أهل الهند، وكذلك انتهى إلى أن أسس الباكستان.
ومن هذا يكون من غير الحق في شيء أن يقال إن جناح سعى إلى تقسيم الهند وإلى الاستقلال بالباكستان على أنقاض الوحدة الهندية تحقيقا لمطمع شخصي أو تعصبا لإخوانه المسلمين أو فرارا من الوحدة القومية التي تسوي بين العناصر والأديان.
ولكن جناح ألفى نفسه مضطرا في آخر الأمر إلى أن ينهج هذا الأسلوب وأن يشق الطريق الذي انتهى بقيام الباكستان، بعد أن رأى ألا جدوى من التعاون وألا سبيل إلى الحياة الحرة الكريمة إلا بتحقيق الانفصال ليستطيع المسلمون والهندوس أن يعيشوا في حسن جوار وفي تعاون، وليتمكن عشرات الملايين من المسلمين من أن ينهضوا من سباتهم وأن يلقوا عن كواهلهم عبء الجمود والتأخر الذي لا يمكن التخلص منه إلا إذا تحققت لهم حريتهم في عقيدتهم الإسلامية وفي شعائرهم وتقاليدهم ونوع حياتهم.
وقد استغرق هذا التطور في تفكير القائد الأعظم عشرات السنين ثم استقرت نتيجته في ذهنه واحتلت من قلبه مكان الإيمان، ذلك لأنه كان سياسيا عمليا، يؤمن بالمثل العليا ثم يلتمس لتحقيقها الوسائل الممكنة، ولا يكتفي بالدعوة إليها وإن لم تتيسر الوسائل لتحقيقها، ولعله آمن بهذه السياسة العملية بحكم وراثته ثم بحكم دراسته. •••
وكان جناح محاميا شديد الاعتزاز بكرامته، وقد حدث مرة أثناء مرافعته في إحدى القضايا أن قال له القاضي: أرجو أن تلاحظ أنك تترافع أمام قاض من الدرجة الأولى!
فما كان من جناح إلا أن صاح به: وأنت ... هل تظن أنك تخاطب محاميا من الدرجة الثالثة؟
وحدث مرة أن أخذ القاضي يلقي درسا على المحامين في ضرورة المحافظة على المواعيد، وكان جناح من بين المحامين الذين استمعوا لهذا الدرس، وكان يعرف أن لهذا القاضي الذي يقف من المحامين موقف المعلم الناصح ولد مستهتر لا يحافظ على الكلمة ولا على المواعيد ... فما كان من جناح إلا أن قال للقاضي قبل أن يتم نصحه للمحامين: ألم يكن الأجدر بك أن تلقي هذا الدرس في منزلك!
الصحفيون المصريون ينشرون غطاء من الزهور على قبر محمد علي جناح.
ولم تتح الأقدار للقائد الأعظم أن يعيش ليرى تحقيق فكرته الثانية؛ فكرة تعاون العالم الإسلامي مع العالم المسيحي ومع البلاد الآسيوية لتحقيق السلام العالمي، كما رأى تحقيق فكرته الأولى بإنشاء الباكستان، فقد اختاره الله بعد مرض طال به وأضناه، لكنه ظل رغم مرضه يعمل جاهدا، مخالفا نصائح أطبائه، ليوطد أركان الدولة الجديدة، وليثبت خطاها في سبيل التقدم، مؤمنا بأن التعاون المنتج لا يكون إلا بين الأكفاء، وأن تعاون العالم الإسلامي مع سائر بلاد العالم الأخرى لا يثمر النتيجة المرجوة منه إلا إذا بذل هذا العالم الإسلامي الجهد ليكاتف غيره من دول العالم في ركب الحضارة.
هذا هو المثل الأعلى الذي ارتسم في ذهن القائد الأعظم مؤسس الباكستان بعد أن تم تأسيسها، وبعد أن أصبحت دولة لها كيانها بالفعل ولها أثرها في سياسة العالم. وقد كان لهذا المثل الأعلى عدة مظاهر منذ بدأت الباكستان حياتها كدولة، ومنذ انضمت إلى الأمم المتحدة، فمنذ سنة 1947 بدأت الباكستان تلعب دورها مع الدول العربية بوصفها دولة إسلامية، بل أكبر دولة إسلامية، ولم ينس أحد ممن تتبعوا أخبار الأمم المتحدة سنة 1947 ما قام به ظفر الله خان، وهو وزير خارجية الباكستان، في مشكلة فلسطين، وكيف قاوم بكل قوة إقامة دولة إسرائيل، وكان في هذا متفقا مع مبادئ محمد علي جناح، القائد الأعظم، تمام الاتفاق. وهما في هذا كانا يعبران بإخلاص عن اتجاه العالم الإسلامي في الدول العربية وفي غير الدول العربية.
إقبال ...
إن اسم «إقبال» ليس من الأسماء الخالدة في تاريخ باكستان أو في تاريخ الهند كلها بوصفه شاعرا أو فيلسوفا، ولكنه كان فوق ذلك كله من قادة المسلمين ومن باعثي الروح الوطنية الذين أوحوا بفكرة قيام باكستان.
ولد محمد إقبال بسيالكوت بالبنجاب عام 1873 في عائلة براهمية اتخذت الزراعة في قرية «لوهار» بكشمير مهنة لها، وقد اعتنق أحد أسلافه الدين الإسلامي قبل حكم الإمبراطور المغولي «أكبر»، بعد أن تشبعت نفسه بتعاليم حضرة شاه همداني أحد أئمة المسلمين آنئذ، وهكذا تفتح صدر هذه العائلة للإسلام، وقد نزح جد إقبال الأكبر الشيخ محمد رفيق من كشمير ومعه إخوته الثلاثة ومنهم الشيخ محمد رمضان الذي عرف بالتصوف والذي ألف كتبا كثيرة باللغة الفارسية، وحط المهاجرون رحالهم في سيالكوت، وسرعان ما بدأ الجد في العمل بمساعدة ابنه الأكبر والد إقبال.
وبدأ إقبال تعليمه في أحد المكاتب ثم في مدرسة البعثة الأسكتلندية حيث كان يدرس مولانا مير حسن أحد أصدقاء والده، وقد تكفل الأستاذ منذ البداية بتعليم ابن صديقه وأولاه عطفا خاصا لما لمسه فيه من ذكاء واستعداد للنبوغ، وعلمه الفارسية والعربية.
وبعد حصوله على الشهادة الثانوية حصل على شهادة الكلية الأسكتلندية بدرجة ممتازة، ثم التحق بكلية الحكومة بلاهور حيث أتم دراسته، وهناك تمكن من الاتصال بالمستشرق الإنجليزي السير توماس آرنولد أحد أساتذتها آنذاك ومنها حصل على درجته النهائية، وبعد ذلك التحق بالكلية الشرقية كمحاضر ثم بكلية الحكومة بلاهور.
وكان إقبال يشكو من ضعف في قوة إبصاره ولذلك استحال عليه الدخول في خدمة الحكومة لما تتطلبه خدمتها من شروط وقيود، وكان فشله في الالتحاق بها نعمة على العالم الإسلامي وملايين المسلمين الذين سعدوا بقراءة شعره وباعتناق مبادئه، فإنه لولا هذا النقص لجرفته خدمة الحكومة في تيارها، ولما أمكنه أن يكرس حياته للمثل العليا التي كان يستهدفها، ولما نعم العالم والإنسانية والإسلام بنتاج قريحة وثابة كقريحته.
ولم يكتف إقبال بما حصله من العلم والمعرفة بل أراد أن يستزيد منهما، ولهذا رحل إلى أوروبا عام 1905 قاصدا كامبردج ثم هيدلبرج بألمانيا ثم ميونخ في سويسرا حيث حصل على الدكتوراه بعد أن قدم رسالته القيمة «تطور الفكرة العقلية في إيران». وفي سنة 1908 حصل على درجة في القانون ثم عاد إلى وطنه وأهله.
ورغم دراسة إقبال للقانون فإنه لم يشغف به بل كان حب الأدب طاغيا على صدره منذ الصغر، وقد أقنعته زيارته لأوروبا بأنه لم يخلق إلا للأدب والشعر.
ومع أن إقبال كان شاعرا وفيلسوفا إلا أنه لم يقطع صلته بدنيا السياسة، فكان عضوا في المجلس التشريعي بالبنجاب لمدة ثلاث سنين، كما أنه اشترك في مؤتمر المائدة المستديرة الذي عقد في لندن، وكان رئيسا لحزب الرابطة الإسلامية في كل الهند، كما كان العضو العامل في مؤتمر «الله أباد» التاريخي، حيث قام ينادي بضرورة انفصال المسلمين عن الهندوس ووجوب تكوين دولة خاصة بهم، الأمر الذي لم يتحقق إلا بعد مماته، وكذلك كان إقبال رئيسا لجمعية حماية الإسلام التي كانت تشرف على عدد من المدارس والملاجئ في باكستان الغربية.
وكما درس إقبال الأدب والقانون درس الاقتصاد وذلك بقصد الإلمام بالأحداث العالمية التي كانت تحيط به، وقد دعي لإلقاء محاضرات في جامعات أوروبا ولكنه لم يلب دعوة واحدة منها، غير أنه استجاب لطلب جامعة مدراس حيث ألقى ست محاضرات عن «التشكيل الجديد للفكر الديني الإسلامي».
الفيلسوف الشاعر: إقبال.
وتحت تأثير السن وبعد هذه المجهودات الكبيرة في سبيل الإسلام والعلم والفلسفة والدين ضعفت بنيته وأصيب بالمرض في سنة 1937، وقبل شروق شمس 21 أبريل سنة 1938 لفظ نفسه الأخير وصعدت روحه إلى بارئها.
وكانت آخر كلمة فاه بها «الله أكبر»! •••
وقد سأل العلامة السيد سليمان الندوي، تلميذ العلامة المرحوم شبلي النعماني، إقبال عن أسرار بلاغته التي اكتشف بها غوامض الدين ومعالم الحق ووصل بها إلى أساليب من التعبير ندر أن وصل إليها أحد من أهل الفقه والعلم، فأجاب إقبال: «يرجع الفضل في كل ما أنشأته من شعر أو نثر إلى توجيهات أبي - رحمه الله - فقد عودني تلاوة القرآن الكريم بعد صلاة الصبح من كل يوم، وكان كلما رآني سألني ماذا أصنع فأجيب بأني أقرأ القرآن الكريم، ثم إنه كان يعود إلى إلقاء هذا السؤال علي في صبيحة كل يوم فأجيبه بالجواب نفسه، حتى دفعني الفضول والضجر من تكرر السؤال إلى أن أقول له ذات يوم: «يا والدي، أنت تراني أتلو كتاب الله فلم تلقي هذا السؤال علي وأنت تعلم جوابي؟!»
فقال رحمه الله: بل إنني أردت أن أقول لك: اقرأ القرآن وكأنه نزل عليك! «ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن وأقبل على دواخل كلماته ومعانيه فكان من أنواره ما اقتبست ومن بحره ما نظمت ...»
وكان إقبال ينشد الشعر بالأوردية والفارسية، وكانت الصحف تنشر له كثيرا مما ينشده في المجامع والمحافل فجمع من آثاره ديوان أسماه «رنين الجرس»، ثم نشر بعده عدة كتب منها «أسرار خودى ورموز بيخودى» أي «أسرار الذاتية ورموز اللاذاتية» و«بيام مشرق» أي «رسالة المشرق» و«زبور عجم» و«جاويد نامه» وكل هذه باللغة الفارسية، بينما نظم «بال جبريل» و«ضرب كليم» و«رنين الجرس» باللغة الأوردية. وقد وافته المنية وهو ينظم ديوانه «أرمغان حجاز» أي «شقائق الحجاز» ونصفه بالفارسية والنصف الآخر باللغة الأوردية، وقد طبع هذا الكتاب بعد وفاته.
وقد ضمن إقبال دواوينه هذه مناحى كثيرة من فلسفته وتفكيره وعواطفه، وتناول فيها العالم والإسلام والأخلاق محاولا إيقاظ الشعور وإلهاب الحماسة في قلوب المسلمين خاصة والشرقيين عامة، وفي ذلك يقول أحد زعماء الهندوس: «إن إقبالا وضع المصباح على باب المسلم ولم يحجب نوره عن غير المسلمين، بل استطاع الجميع أن يستضيئوا بنور ذلك المصباح»، وعده أحد سفراء الفرس في الهند من أصحاب الرسالات الخالدة لإنارة العالم والإنسانية.
أما منظومته «جاويد نامه» فقد كتبها في شكل رحلة قابل فيها ملوك الشرق ومفكري المسلمين واقتبس اسمها من اسم أصغر أبنائه «جاويد»، هادفا بذلك إلى بناء جيل جديد في الأمة الإسلامية. وأما «بيام مشرق» (رسالة الشرق) فقد أودعه زبدة آرائه ومذاهبه في الحياة ومناحي خياله وفنه في الأدب.
وهذا هو نموذج من شعر إقبال الخالد في «بيام مشرق» أو «رسالة المشرق»:
1
مضى زمان المولى
والعبد قد تولى
سكندر قد ولى
وقيصر قد ذلا
والوثن اضمحلا
ننظر سائرات •••
عقلك في عقد وحل
من كم وكيف في شغل
مثل غزال قد عقل
مضطرب ومضمحل
ونحن في العليا نحل
ننظر سائرات •••
ما السر ما الظهور؟
وما الدجى ما النور؟
ما القلب ما الشعور؟
ما فطرة ضجور؟
ما الغيب والحضور؟
ننظر سائرات •••
كثرك عندنا أمم
حولك عندنا لمم
يا من بصدره خضم
قنعت بالطل انسجم
نحن بعالم نهم
ننظر سائرات
وكان المثل الأعلى للإنسان، في نظر إقبال، هو ثبات الذات وتوكيدها، لا سلبها، وهو يرى أن الإنسان يقترب من تحقيق هذا المثل كلما برزت فرديته وشخصيته.
وتقوى الذات بما يسميه إقبال بالعشق، وهو يعني به الحماس والرغبة في العمل الخلاق. وأعلى صور العشق عنده خلق القيم وإنشاء المثل العليا والسعي الحثيث إلى تحقيقها، وكما أن العشق يقوي الذات «فالسؤال» يضعفها ويوهنها، والسؤال هنا هو الخمود وقصور الهمة والقعود عن العمل.
جدة الدنيا بتجديد الفكر
ليست الدنيا بصخر ومدر
همة الغائص في «الذات» لها
من غدير الماء بحر قد زخر
قاهر الأيام من أنفاسه
هي أعمار خلود في الدهر
2
فبروز الذات في فلسفة إقبال هو هدف الحياة ومحورها، وذلك لأن الحياة الصحيحة هي حياة السعي والعمل والإقدام.
على كل غصن تبين أن الن
بات مشوق لرحب الفضاء
فما قر في ظلمة الترب حب
جنون النشوء به والنماء
هذه لمحة خاطفة عن أعمال وإنتاج هذا العبقري الذي يعتبر من أعظم الشعراء والمفكرين. ولقد أبدع سير توماس أرنولد عندما لخص مكانة إقبال في «مملكة الفلسفة» حيث قال: «لقد وجدت الحركة العصرية في شعر إقبال أعظم معبر لها ، فقد حول بعض أفكار برجسون ونيتشه إلى أفكار خاصة، ولم يكن فيما فعله مجرد صدى لآراء غيره، ولكنه كان مبتكرا أصيلا».
أما فيما يختص بفنه الشعري فقد وهبه الله قدرة خيالية فريدة فهو يرسم صورا لا يمكن لغيره أن يصورها ويقدمها في إطار رائع بديع، وهو رغم ذلك لا يبتعد عن الحقيقة، بل هو - شأنه في ذلك شأن وردسورث وكيتس وشيلي - لا يشق له غبار في وصف الطبيعة، وقد تجلى هذا في كتابه «بال جبريل».
وأما فيما يختص بقدرته على التعبير فإنه متقدم على من سبقوه بمراحل، إذ إنه ابتكر أساليب جديدة في التعبير وألبس الأسرار الغامضة والمعاني الخفية مظهر الوضوح في كلام جميل لا لبس فيه ولا إبهام.
بيد أن شهرة إقبال في بلاده تعود إلى توصله لفكرة إيجاد دولة مستقلة لمسلمي الهند، وعظمة شعره تتركز في أنه بعث الحياة وأحيا النشاط في شعبه، ولا شك أن رسالة الأمل والعمل واحترام النفس التي نادى بها هي التي أيقظت مسلمي الهند بعد رقاد دام عدة قرون.
ومع ذلك فإن إقبال لم يقصر هدفه على بعث مسلمي الهند وحدهم، بل إنه صور إمكان إنشاء حكومة إسلامية عالمية لا تعمل حسابا للفوارق الجنسية أو الجغرافية ويكون هدفها خدمة الجميع.
ولقد جعل إقبال من الإنسان شيئا عظيما، وبين الوسائل التي يستطيع بها أن يستغل إمكانياته.
كان إنسانا، وكانت إنسانيته هي مصدر عظمته، فإن شعره وفلسفته وسياسته كانت كلها أبلغ دليل على هذه الإنسانية.
والإنسانية في نظر إقبال هي الحافز الذي يدفع الإنسان ليجعل من نفسه مخلوقا حرا لا عبدا للدكتاتوريين السياسيين أو الطغاة المفكرين أو الجهلاء من دعاة الخرافات. وكان إقبال يؤكد أن شخصية الرجل لا يمكن أن تتبلور إلا في ظل الحرية وفي جو الانطلاق، وهكذا فإنه في الوقت الذي كان العالم كله قد تعود حياة السيطرة السياسية راح إقبال يتغنى بقيمة الحرية.
وقد علمنا إقبال أن نعنى بمن هم أضعف منا لا شفقة عليهم أو رحمة بهم وإنما تقديرا لقيمتهم نفسها ، وكان هو نفسه يحترم رجل الشارع للصفات المشتركة بينهما، ويرى أنه ليس هناك ما يسمى بالمخلوق الممتاز؛ فإن لكل إنسان - في نظره - ميزات خاصة به، وهذا وجه الخلاف بينه وبين الفيلسوف نيتشه الذي لم يكن سوى الازدراء لجمهرة الشعب أو لرجل الشارع، فلقد كان إقبال يتمسك بأرستقراطية روحية ترحب بكل من يرغب فيها وفي الانضمام إليها.
كان إقبال يريد أن يرى الأخوة المشتركة تربط بين بني البشر كلهم رغم تفرقهم إلى شيع ومجموعات بسبب العوامل الجغرافية وبعد المسافة بينهم، ولذا راح يبشر ضد التعصب القومي الذي لا يؤدي إلا إلى تشتيت شمل الناس والتفرقة بينهم، بل إنه لم يناد بتأسيس الباكستان إلا مدفوعا بالعامل الإنساني الصرف، إذ إنه لم يكن يتصور أن يسيطر شعب على شعب آخر، أو أن يسيطر جزء من شعب على الجزء الآخر لا لسبب إلا لأن للأول أغلبية دينية.
وهكذا كان إقبال أول من راودته فكرة الباكستان، وليس ثمة شك في أن الدور الذي قام به في إحداث الثورة الفكرية بين مسلمي شبه القارة الهندية كان له أكبر الأثر في خدمة قضية المسلمين، وأن ظهور الباكستان إلى حيز الوجود دولة مستقلة قد أضفى على شخصيته كأديب وكفيلسوف وكسياسي عظمة فريدة في نوعها.
ويقول الأستاذ محمد مظهر سعيد: إن إقبال ورث حكمة الهند عن أسلافه البراهمة، كما ورث حب الإسلام عن آبائه المسلمين، ثم نهل من معين الفلسفة الغربية في أوروبا وحصل على إجازتها الجامعية من كامبردج وميونخ، وتأثر إلى حد كبير من تعاليم نيتشه في السوبرمان وبرجسون في التطور المبدع وكنت في الاتجاه العملي. ثم هو من جانب آخر تأدب بأدب الفرس وتأثر بشعر حافظ ثم عرج على التصوف فتأثر بمذهب جلال الدين الرومي.
أفلا يحق لنا أن نقول كما قال مهيار عن نفسه: «جمع المجد من أطرافه: حكمة الهند وفلسفة المغرب وأدب الفرس ودين العرب».
هذا هو إقبال رسول العصر الذي يقول عن نفسه: لست في حاجة إلى الأذن التي تسمعني اليوم فأنا صوت شاعر الغد أهدي الضال وأنادي بروح جديدة.
وقص علي الأستاذ محمد حبيب، وهو من المصريين القلائل الذين قابلوا إقبال وتحدثوا إليه:
بينما كانت مصر تكافح في سبيل استقلالها، ومعاهدة 1936 لا تزال في الميزان لم تعرض بعد على البرلمان البريطاني من ناحية والبرلمان المصري من الناحية الأخرى؛ كنت أطوف في بلاد الهند، وكان من حسن حظي أن اجتمعت بالسيد محمد إقبال.
كنت أظن أنني سأقابل رجلا عني بشئون الهند خاصة، وركز كل همه في أن ينال للمسلمين حقوقهم وسط الأغلبية الهندوسية.
ولكني لم ألبث أن وجدت نفسي بحضرة رجل اتسع أفقه السياسي حتى شمل الشرق بأكمله.
حدثني عن مصر فقال: كل ما يخطر ببال السياسيين المصريين عن الهند أنها بلد اتصل بمصر في العصور القديمة وقد يستدلون على ذلك بأن بعض العناصر العربية استوطنت مقاطعة حيدر أباد الدكن، وأن بهذه المقاطعة نهرا يسمونه «النيل»، ولكن هذه النظرة التاريخية يجب أن تلازمها نظرة واقعية.
فمصر والهند ترتبطان برباط وثيق من الناحية السياسية الحديثة، فقد ابتليت الهند بالاستعمار البريطاني ونكبت مصر بالاحتلال البريطاني.
واليوم إذ قدر للهند أن تتخلص من الاستعمار البريطاني وسقطت هذه المستعمرة كما تسقط أوراق الخريف، ثم تلا ذلك سقوط مستعمرات التاج في الشرق الأقصى فسيكون من الطبيعي أن تخف وطأة الاحتلال البريطاني لمصر، ذلك الاحتلال الذي لا يسوغه في نظر البريطانيين إلا أنه تأمين للمواصلات الإمبراطورية.
ومن الناحية الأخرى إذا قدر لمصر أن تتخلص من الاحتلال البريطاني، وأصبحت قناة السويس - الشريان الحيوي للإمبراطورية - في يد غير بريطانية؛ فمن المقطوع به أن يتأثر الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية وقد يزول.
من ذلك يرى الإنسان ضرورة الترابط والتساند بين مصر وشبه القارة الهندية في محاولة التخلص من النفوذ البريطاني.
وقد وجهت للسيد إقبال سؤالا فقلت: إذا كانت نظرية المسلمين تجاه الهندوس هي ما شرحت لي فكيف تعلل وجود مجموعة من خيرة المسلمين في معسكر المؤتمر؟
وهناك قال لي: أنا لا أحاول الدفاع عن موقف هؤلاء، وإنما أحيلك على ما قاله لي رجل من خيرتهم هو السيد سليمان الندوي، وكان السيد سليمان الندوي، رحمه الله، من خيرة المسلمين المساهمين مع حزب المؤتمر، وظل كذلك حتى تم التقسيم، ولكنه بعد ذلك انتقل إلى الباكستان.
يقول السيد سليمان الندوي: إن سيارة بغير «فرامل» لا تساوي شيئا، ووجود المسلمين في حزب المؤتمر أشبه بوجود الفرامل في السيارة، فلو أن المسلمين انصرفوا كافة عن المساهمة مع حزب المؤتمر أو الدخول فيه لسارت سيارة المؤتمر بغير فرامل فيما يختص بالمسلمين ولتوالت النكبات بسرعة عليهم، أما وجود المسلمين في هيئة المؤتمر العليا فقد كان باعثا على الدوام للعفة في التصرفات بإزاء المسلمين.
ثم عقب إقبال على ذلك فقال: هذه هي نظريتهم التي لا أنبري للدفاع عنها، ولكني أيضا لا أنبري لنقدها.
ولما تطرق بنا الحديث إلى السياسة الدولية، كان رحمه الله يتوقع نشوب حرب عالمية بين يوم وآخر. فقال لي في لهجة الواثق: مما لا شك فيه أن الحرب القادمة ستكون آخر حرب تخوضها بريطانيا والهند مجندة إلى جانبها، ستستقل الهند خلال الحرب القادمة مهما كانت الظروف، وسيلعب الشرق الأقصى دورا خطيرا في هذه الحرب.
قد تستقل الهند كأثر لانتصار دول المحور ومن بينها اليابان، وقد تنتزع استقلالها من بريطانيا المنتصرة ثمنا لمساهمتها معها في هذا النصر.
وفي خلال رحلتي في الهند اتصلت ببعض رجال السياسة في البنغال، وقد عرفت منهم أن من بينهم من اتصل بالساسة اليابانيين، ومهد لاحتمالات الحرب القادمة وموقف الهند منها.
وقد أسفرت الحرب العالمية الثانية عن أن شرقي الهند كان يتأثر لليابانيين، مما يدعم نظرية الاتصال الذي أشرت إليه.
ولكني لا أستطيع أن أقطع بأن السيد محمد إقبال كان على علم بهذه الاتصالات يوم أدلى إلي بهذا التصريح.
وإذا كان الأستاذ محمد حبيب قد زار إقبال وتحدث معه، فقد قال له الدكتور عبد الوهاب عزام سفير مصر السابق في باكستان وهو يناجيه عندما زار ضريحه:
كان من مناي أن أزورك في حياتك، ثم تمنيت أن أزور ضريحك بعد مماتك، وها أنا ذا أشرف بأن ألقي أمامك هذه الكلمات وأودع ضريحك هذه الزهرات:
عربي يهدي لروضك زهرا
ذا فخار بروضه واعتزاز
كلمات تضمنت كل معنى
من ديار الإسلام في إيجاز
بلسان القرآن خطت ففيها
نفحات التنزيل والإعجاز
فاقبلنها على ضآلة قدري
فهي في الحق «أرمغان الحجاز»
و«أرمغان الحجاز» في البيت الأخير معناها «هدية الحجاز»، وهو اسم آخر منظومة نظمها إقبال، وقد نشرت بعد وفاته.
ولهذه الأبيات قصة طريفة رواها الدكتور عبد الوهاب عزام فقال: إنه لما سافر إلى مدينة دلهي في عام 1947 قرر السفر إلى لاهور على بعد الشقة وظهور الفتن في أرجاء الهند، ثم استطرد فقال:
وما كان مثلي، وقد قدم الهند، ليصبر عن زيارة ضريح إقبال وداره، فأعددت للسفر إلى لاهور ونظمت أربعة أبيات، وسألت نقاشا في دلهي القديمة أن ينقشها على لوح من الرخام وحملتها معي، وسلمتها إلى القوام على ضريح إقبال لتوضع هناك.
قسمة شبه القارة
لكي يتحقق ذلك الحلم الجميل الذي داعب خيال الشاعر إقبال، ولكي يتحقق ذلك الأمل الوطني الذي نادى به السياسي محمد علي جناح وهو تكوين وطن لمسلمي الهند، كان لا بد في النهاية أن تقسم شبه القارة الهندية، فيستقل المسلمون في جزء منها وينفرد الهندوس بالجزء الآخر.
وقد اختلفت الآراء في هذه القسمة التي انتهت إليها شبه القارة، وتساءل الكثيرون: هل كان التقسيم إجراء طبيعيا في هذه الوحدة الجغرافية المتحدة؟ وهل كان في مصلحة السكان الذين تضمهم شبه القارة؟ ألم يكن في وسع السياسيين أن يبحثوا عن وسيلة أخرى يتمكن بها سكان شبه القارة الهندية جميعا، من هندوس ومسلمين وغيرهم، من العيش في سلام دون الالتجاء إلى وسيلة التقسيم؟ هل أضر هذا التقسيم بمصالح المسلمين أو بمصالح الهندوس؟ وهل أرضى التقسيم رغبات الفريقين؟ وهل أنهى التقسيم الخلافات العنيفة التي استمرت أزمانا طويلة بين المسلمين والهندوس؟ وهل كانت القسمة التي انتهت إليها شبه القارة قسمة عادلة روعيت فيها المصالح العليا للسكان؟ وهل أصبحت العلاقات بين المسلمين والهندوس بعد تقسيم شبه القارة بينهما أحسن مما كانت قبل التقسيم أو أسوأ منها؟ ومن هو المسئول الأول عن كل ذلك؟
كل هذه أسئلة تتردد في ذهن كل من يزور شبه القارة الهندية أو من يدرس تاريخها أو تاريخ دولة من دولتيها ... أو يتعرض لدراسة مشكلة من مشكلاتها القائمة وفي مقدمتها مشكلة كشمير.
لقد كان من أكبر أسباب الأزمات التي تعرضت لها شبه القارة الهندية في نضالها ضد الاستعمار الأجنبي ذلك الخلاف الكبير بين أكبر شعبين من شعوبها وهما الهندوس والمسلمون، وذلك الاختلاف الكبير في وجهات النظر بين زعماء المسلمين الذين نادوا بإنشاء «باكستان» لتكون وطنا لمسلمي الهند، وبين زعماء الهندوس الذين عارضوا هذه الفكرة وقاوموها.
فقد كانت الهند وزعيمها يؤمنان بأن شبه القارة كله يتكون من أمة واحدة، أما المسلمون وزعيمهم فقد كانوا يؤمنون بأنه لا مفر من الاعتراف بوجود أمتين في شبه القارة. وقد سبق أن أشرنا إلى حقيقة الأسباب والبواعث التي جعلت محمد علي جناح يؤمن بذلك.
1
كان جواهر لال نهرو يؤمن بالوحدة القومية للهند كلها، وكان يؤمن بأن هذه الوحدة ليست إلا نتيجة طبيعية للتاريخ المشترك والنضال المشترك والتأثير المشترك للثقافات المختلفة وعادات الشعوب المختلفة.
وكان نهرو يفسر الخلافات بين الهندوس والمسلمين بأنها خلاف «بين الطبقات العليا حول توزيع مغانم السلطة أو التمثيل في المجالس النيابية»، وكان نهرو مقتنعا بأن تلك الخلافات يسببها «طرف ثالث» هو بريطانيا التي حكمت الهند على مبدأ «فرق تسد»
divide et impera ، وكان غاندي يشاركه هذا الرأي.
ولكن محمد علي جناح كان لا يؤمن بفلسفة نهرو الخاصة بوحدة الهند، وكان كثيرا ما يتساءل: لماذا لا يحاول أصدقاؤه الهنود أن يتفهموا طبيعة الإسلام وحقيقته وما يفرق بينه وبين الهندوسية؟! «إنهما ليسا دينين بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، بل هما في الحقيقة نظامان اجتماعيان يتميز كل منهما عن الآخر كلية. وإنه لحلم أن يندمج الهندوس والمسلمون في أمة واحدة. إن الهندوس والمسلمين يتبعان فلسفتين دينيتين تختلف كل منهما عن الأخرى، وعادات اجتماعية مختلفة وآدابا مختلفة. إنهم لا يتزاوجون فيما بينهم ولا يشتركون في طعام، وكل منهم إنما يتبع في الحقيقة حضارة مختلفة عن حضارة الآخر تقوم على آراء ونظريات تتعارض مع الآراء والنظريات التي تقوم عليها الحضارة الأخرى».
وقد بذلت المحاولة الأخيرة لمنح شبه القارة حريته مع الاحتفاظ بوحدته في نفس الوقت في ربيع عام 1946، فقد زارت بعثة وزارية بريطانية مدينة دلهي في شهر مايو وتقدمت بمشروع لإقامة «هند» مستقلة مع ضمانات لحقوق الأقليات وضرورة تمثيلها في المجالس التشريعية.
وظن المراقبون في ذلك الوقت أن هذه هي الفرصة المواتية التي يمكن أن يتفق فيها حزب المؤتمر مع الرابطة الإسلامية، إلا أن المشروع لم يصادف نجاحا لسبب غير جدي وهو عدم اتفاق الفريقين على تكوين الحكومة، وهذا السبب يكشف في حد ذاته عن مدى التباعد الكبير الذي كان قائما بين الفريقين، وعمق الخلافات التي كان يحسها كل منهما تجاه الآخر.
ومنذ ذلك الوقت أسرعت الحوادث في عدوها لكي تصل في النهاية إلى مرحلة القسمة، القسمة التي لا مفر منها ... وكان غريبا أن تقسم هذه البلاد في نفس اليوم الذي كان يجب أن تحتفل به بالخلاص الأبدي من ربقة الاستعمار.
وفي عام 1947 كانت الأحوال في شبه القارة الهندية قد وصلت إلى درجة صار لا بد معها من إعلان الاستقلال، وأصدرت الحكومة البريطانية في 20 فبراير من ذلك العام بلاغا ذكرت فيه عزمها النهائي على اتخاذ الخطوات اللازمة لنقل السلطة إلى الأيدي الهندية المسئولة في موعد لا يتجاوز شهر يونيو من عام 1948.
وعين لورد مونتباتن نائبا للملك في الهند، ومنح السلطات اللازمة ليؤدي واجبا ساميا هو نقل السلطة من البريطانيين إلى السلطات الجديدة، فإما إلى حكومة موحدة للهند كلها وإما إلى حكومتي الهند وباكستان.
ووصل مونتباتن إلى دلهي في 23 مارس من عام 1947، وما إن وصل حتى أدرك في الحال استحالة التوفيق بين حزب المؤتمر الهندي والرابطة الإسلامية لإقامة حكومة موحدة للهند كلها، وأعلن أنه سيسير على أساس إقامة حكومتين منفصلتين، وفي 3 يوليو نشرت الحكومة البريطانية، بناء على نصيحته، مشروعا لقسمة الهند.
وبعد ستة أسابيع وفي يوم 18 يوليو على وجه التحديد، صدر قانون استقلال الهند، وأعلن فيه أنه ابتداء من يوم 15 أغسطس ستصبح كل من الهند وباكستان دولة مستقلة. وتقرر أن يتم التقسيم طبقا للقومية السائدة في الولايات؛ فالولايات ذات الأغلبية الهندوسية من السكان يتكون منها الاتحاد الهندي، والولايات ذات الأغلبية المسلمة من السكان تتكون منها دولة الباكستان.
ولا شك أن مهمة مونتباتن كانت مهمة عسيرة في ذلك الخضم المضطرب، وفي وسط الخلافات العنصرية والمذهبية، كما أنه كان مكلفا بالاتصال بعدة شخصيات تختلف عن بعضها اختلافا تاما؛ فقد كان هناك جواهر لال نهرو زعيم حزب المؤتمر الهندي الذي لم يؤمن في يوم من الأيام بفكرة قيام دولة «باكستان» مستقلة، وكان هناك «مهاتما» غاندي الذي وإن لم يكن له منصب رسمي إلا أنه كان كبير التأثير بين قومه بواسطة المقالات اليومية التي كان ينشرها في الصحف وإقامة الصلوات وعقد الاجتماعات الخاصة، وكان على استعداد دائم لإعلان «الصيام» في أي وقت بقصد إثارة الملايين من الناس.
وأخيرا - لا آخرا - كان هناك القائد الأعظم محمد علي جناح الزعيم الذي كان يقدسه المسلمون، والذي قال فيه الشاعر إقبال:
إنه المسلم الوحيد في الهند الذي يمكن للمسلمين أن يتطلعوا إليه باطمئنان في طلب القيادة والهداية.
ولا شك أن جناح كان يتمتع بسلطة مطلقة بين أتباعه، إلا أن معارضيه وجدوا فيه خصما عنيدا، وما كان جناح بالشخص العنيد ولكنه كان وطنيا كبيرا آمن بفكرته إيمانا جعله لا يقبل فيها مساومة.
وكان جناح يشتبه في نيات قادة حزب المؤتمر، كما أنه كان قليل الثقة في لورد مونتباتن.
ولم يتمكن غير عدد قليل جدا من المراقبين الأجانب أو المراسلين من عقد أواصر الود معه، ولكنهم مع ذلك كانوا يلمسون قوة شخصيته، وصلابة إرادته، وأكيد عزمه، ومقدرته السياسية الفائقة ...
كانت هذه القوات الرئيسية الثلاث التي يجب على مونتباتن أن يتفاوض معها أثناء عملية تقسيم شبه القارة الهندية ... ولكن هذه القوات الرئيسية الثلاث لم تكن هي الوحيدة في الميدان، فقد كان هناك الأمراء أيضا، وقد زعموا أن من حقهم أن يكون لهم رأي وأن يشتركوا في تلك القرارات التاريخية الحاسمة التي كانت على وشك أن تتخذ. •••
إن باكستان تحس أن ظلما كبيرا قد وقع عليها في هذه القسمة التي انتهت إليها شبه الجزيرة الهندية، ولا تكاد تقابل أحدا من سياسييها في كراتشي أو حيدر أباد أو لاهور أو بشاور إلا ويشكو إليك من هذا الظلم!
ولست في حاجة إلى ذكاء كبير لكي تعرف من المسئول عن هذا الظلم ... ومن المسئول عن القسمة الجائرة.
إن مسئولية بريطانيا كبيرة جدا أمام التاريخ، فقد كان من نتائج قسمة شبه الجزيرة الهندية، على الوضع الذي انتهت إليه، أن كادت الحرب الأهلية تنشب أكثر من مرة في هذا الجزء من العالم بين أقوام عاشوا جنبا إلى جنب سنوات طويلة.
ولطالما ارتفع صوت الظلم الذي تحس به باكستان إلى أذن القاضي الذي احتكمت إليه، ولكن القاضي كان يصم أذنيه عن سماع الشكوى أو يتظاهر بالانشغال عنها متناسيا أن باكستان أكبر دولة في الدول الإسلامية التي تمتد من شاطئ الأطلنطي في شمال أفريقيا عبر مصر وإيران والمملكة العربية السعودية حتى سنغافورة، ومتناسيا فوق ذلك أن باكستان تقف حجر عثرة في طريق روسيا إلى الشرق، وربما كانت الحجر الوحيد الباقي في هذا الركن من الكرة الأرضية.
ومن العجيب أن بريطانيا، التي قامت في قسمة الهند بدور السمسار الأمين، تمد كل دولة من الدولتين باكستان والهند بالضباط والجنود البريطانيين علاوة على العتاد الحربي والذخيرة، دون أن تهتم قبل ذلك بتهدئة الجو بين الدولتين، أو تسوية المشاكل القائمة بينهما على أساس العدالة، مع أنها تعرف أكثر من غيرها مقدار ما يتعرض له السلام العالمي من خطر بسبب استمرار المنازعات بين دولتين تضمهما مجموعة الدول البريطانية (الكومنولث).
قال لي ضابط بريطاني قابلته في باكستان، وكان ذلك في فبراير عام 1953: لا شك أنه سيكون من العار أن تنشب الحرب بين دولتين في داخل «الكومنولث»، ولكن لا شك أن هذه هي النتيجة المحتومة إذا لم تتدارك لندن الموقف ...
وسألت الضابط البريطاني: ولكن ماذا يكون موقفك أنت لو حدثت حرب أو مذابح بين الهند وباكستان؟ هل تشترك بوصفك ضابطا باكستانيا وتحارب مع الباكستانيين؟
وابتسم الرجل وقال: لا! إن التعليمات صريحة، ولو حدث شيء من هذا القبيل بين الدولتين فإن على كل ضابط بريطاني أن يترك قيادته في الحال، وإلا وجهت إليه تهمة التمرد وعصيان الأوامر بعد عودته إلى بريطانيا ...
وهكذا تبين أن حكومة لندن قد وضعت لنفسها خطة تتبعها في حالة الحرب ... ولكنها لم تحاول أن تضع خطة للسلم!
إن باكستان تتهم نهرو دائما بالرغبة في القضاء على باكستان، ولكنني سمعتهم في كراتشي يتهمون شخصا آخر هو لورد مونتباتن البريطاني ويقولون: إنه أكبر أصدقاء نهرو، وإنه هو المسئول الأول!
ويبدو أن الإنجليز عندما اضطروا إلى الانسحاب من شبه جزيرة الهند عز عليهم أن ينسحبوا دون أن يتركوا أثرا من آثار استعمارهم البغيض، فخلفوا من ورائهم بعض المشكلات الخطيرة التي تواجهها باكستان اليوم، وتعمل على أن تحلها مع جاراتها من الدول الأخرى بكافة الوسائل السلمية.
وأولى هذه المشاكل تكوين باكستان من وحدتين كبيرتين: باكستان الغربية التي تقع في الشمال الغربي من الهند، باكستان الشرقية وتقع في الشمال الشرقي من الهند.
فمن العجيب في هذا التكوين الشاذ أن الهند نفسها تفصل بين باكستان الشرقية وباكستان الغربية، إذ يقع جزء كبير من شمال الهند بينهما كما أن المسافة بين باكستان الشرقية وباكستان الغربية في أقرب المواضع تبلغ نحو 1200 ميل تقع كلها داخل حدود الهند الشمالية طبعا. لقد ذكرني هذا الوضع بموقف هتلر من بولندا عند نشوب الحرب العالمية الثانية في عام 1939، فقد كان الممر البولندي قبل هذه الحرب يفصل بين الجزء الأكبر من الوطن الألماني وبين جزء صغير هو «بروسيا الشرقية»، وكان هتلر لا ينقطع قبل عام 1939 عن المطالبة بوصل الحدود بين ألمانيا وبين بروسيا الشرقية، وربما لو قبل الحلفاء وقتئذ مسالمته في هذا وتنازلوا له عن الممر البولندي الذي كانت تملكه بولونيا في ذلك الوقت، لما هاجم بولندا ولما نشبت الحرب في عام 1939 ولتغير وجه التاريخ.
2
ولا شك أن وجود قسم كبير من باكستان في الشرق وصعوبة الاتصال بين باكستان الشرقية وباكستان الغربية، من العوامل التي تؤثر على علاقة باكستان الشرقية بالحكومة المركزية في كراتشي الواقعة في الغرب، كما أنه مما يزيد من نفقات الدفاع الذي يستنزف نسبة كبيرة من ميزانية الباكستان، وذلك لأن كل قسم من قسمي الباكستان، الشرقي والغربي، يحتاج إلى وسائل دفاعية كاملة مما يضاعف النفقات.
ليس هذا فحسب، بل إن الباكستان والهند كانتا تؤلفان قبل التقسيم وحدة سياسية واقتصادية كاملة، فلما أجري التقسيم على أساس طائفي دون اعتبار للعوامل الاقتصادية كان من نتيجة ذلك أن وقع ظلم واضح على باكستان، فقد ظهر فيما بعد أن منابع الأنهار التي تروى منها باكستان تقع كلها في ولايات ضمت للهند أو ولايات واقعة تحت سيطرة الهند، والأنهار بالنسبة لباكستان هي شرايين الحياة التي تبعث الروح والنماء في الأرض.
وكان من نتيجة ذلك أن وقع نزاع خطير على مياه الأنهار بين الهند وباكستان، وكان النزاع يدور حول من هو صاحب الحق الأول في مياه الأنهار، فالهند تدعي لنفسها هذا الحق لأن الأنهار تنبع في ولاياتها، وباكستان تتمسك بهذه الأنهار لأنها تجري في أراضيها ولأنها مصدر الحياة لسكانها.
وعندما هددت المجاعة حياة الملايين من سكان الباكستان في عام 1952-1953 كان سبب القحط هو قلة المياه في مجاري الأنهار، وظهر أن الهند قد استولت على نسبة كبيرة من مياه هذه الأنهار وكانت باكستان تعتمد عليها لري أرضها، هذا مع العلم أن أراضي باكستان كفيلة بإنتاج ما يكفي سكانها من طعام.
ومشكلة اللاجئين، وهي أكبر المشاكل التي تواجهها باكستان، جاءت هي الأخرى في أعقاب التقسيم.
ومشكلة كشمير، وهي أخطر المشاكل المعلقة بين الهند وباكستان، نتيجة مباشرة من نتائج القسمة. •••
فقسمة شبه القارة إذن، وإن كانت قد حققت لمسلمي الهند آمالهم في وطن يستقرون فيه، وإن كانت قد جعلت من خيال إقبال ومن أبيات شعره حقيقة ملموسة وإن كانت قد مثلت نجاح محمد علي جناح في جهاده ... إلا أنها لم تضع حدا نهائيا لخلافات المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية، بل إن هذه القسمة زادت من عدد المشاكل القائمة وحولت الخلافات الدينية القديمة إلى خلافات اقتصادية وسياسية.
وقد ظلت نفوس الهندوس، حتى بعد أن أصبحت القسمة حقيقة واقعة، مفعمة بالمرارة والأسى، وليست مشكلة كشمير المعلقة إلا مثلا من بين الأمثلة المتعددة التي تدل على أنهم لم يقبلوا مبدأ القسمة إلا مرغمين.
بل هل لنا أن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول إن القسمة حولت شبه القارة الموحد إلى معسكرين في كل معسكر منهما شعب وجيش، ينظر الشعب والجيش الآخران شزرا وقد امتلأا بروح التحفز والتهديد.
ولكن هل العيب هو عيب القسمة في حد ذاتها أم أنه عيب الذين تولوا أمرها وأشرفوا على تنفيذها، فأثاروا في النفوس أحقادا قديمة دفينة لا يعلم إلا الله متى يقدر لها أن تزول، وما ذلك إلا لكي تكون لهم - وحدهم - السيادة في نهاية الأمر، وذلك عملا بمبدأ الإمبراطورية القديم
Divide et impera .
وقد صحبت قسمة شبه القارة، كما تلتها، اضطرابات وقلاقل كان أهمها مذبحة أميتسار في شرق البنجاب التي قضى فيها «السيخ» على عدد كبير من المسلمين، ولما انتشرت أخبار هذه المذبحة فزع المسلمون في جهات كثيرة وبدأت حركة الهجرة فانتقل الملايين من المسلمين الذين كانوا يقطنون ولايات تتبع الهند إلى الولايات التي تتكون منها باكستان.
ولما كانت الهند قد اتخذت عاصمتها في دلهي، وهي العاصمة القديمة، فقد كان من الطبيعي أن تحصل من القسمة على النصيب الأوفر من الامتيازات والتسهيلات والأموال المدخرة.
ولا أزال أذكر حديثا دار بيننا وبين السرداد نشتر في كراتشي، فروى لنا أن حكومة الباكستان بعد تأسيسها واستقرارها في عاصمتها الجديدة كراتشي لم تكن تجد ورقا أبيض تحرر عليه خطاباتها الرسمية أو تعليماتها ...
بل لقد روى لنا السردار نشتر كيف أنه دخل مرة على القائد الأعظم محمد علي جناح، وكان ذلك بعد تأسيس الدولة الجديدة بشهرين، فوجده مهموما وأخذ يشكو إليه اضطراب الإدارات والمصالح الحكومية وعدم انتظامها في أعمالها بسبب افتقارها إلى الأدوات الأولية، حتى إن مدير السكك الحديدية أصدر أمره لموظفي المحطات بصرف تذاكر المسافرين على قصاصات من الورق الأبيض بعد ختمها ...
وقال القائد الأعظم يسأل نشتر: إن ما أعجب له هو أين مخلفات الحكومة القديمة، ولماذا لا نستعملها؟!
فأجاب نشتر: ليس عندنا شيء منها، ونحن لا نملك شيئا إلا وحدتنا وثقافتنا وتضامننا! وهز القائد الأعظم رأسه مؤمنا وهو يقول: نعم! ليس عندنا حقا غير هذا!
مشاكل الدولة الجديدة
إن مشكلة تكوين باكستان من قسمين متباعدين أحدهما في شرق الهند والآخر في غربها ليست هي المشكلة الوحيدة التي تواجه هذه الدولة، فهناك مشاكل كثيرة أخطر من هذه.
وأكبر مشكلة هي مشكلة كشمير التي لا تزال تنتظر إجراء استفتاء عادل يفصح عن رغبة أهلها، فإما الاستقلال وإما الانضمام إلى باكستان أو الهند.
وثمة مشكلة ثالثة تتعلق بموقف أفغانستان من باكستان، فالحالة على الحدود بين هاتين الدولتين غير مستقرة، ورغم أن أفغانستان هي التي تجاور باكستان مباشرة ورغم الروابط الدينية، فإن أفغانستان أوثق صلة بالهند من باكستان. ومع ذلك فإن باكستان تسير في طريقها قدما، وتجاهد في سبيل تحقيق أمانيها بكافة الوسائل برغم العقبات التي تعترض طريقها، ومنها عقبات ورثتها عن الماضي وعقبات متجددة، أهمها مشكلة اللاجئين الذين يبلغ عددهم ثمانية ملايين يتزايدون باستمرار.
ولا تزال مشكلة هجرة اللاجئين وتدبير أمر استقرارهم من أكبر المشاكل التي تواجه الباكستان في الوقت الحاضر، ومع أن مشاكل اللاجئين تعتبر عادة من الظواهر العامة التي تلازم تأسيس أية دولة حديثة إلا أنها ذات وضع خاص بالنسبة لباكستان.
فقد ابتدأت هجرة المسلمين من سكان شبه القارة الهندية إلى الباكستان منذ اللحظة التي وافق فيها زعماء الطرفين على مشروع تقسيم البلاد إلى الباكستان والهند، وما إن أعلن عن ميلاد دولة الباكستان في أغسطس عام 1947 حتى ابتدأت جموع اللاجئين المسلمين تتجه إليها بشتى الوسائل؛ بالقطارات والسيارات وقوافل المشاة.
ولم يكد ينتهي العام المذكور حتى كان قد دخل الباكستان زهاء خمسة ملايين شخص، كان معظمهم في حالة يرثى لها، واستمر سيل هؤلاء اللاجئين حتى بعد أن تمت عملية الجلاء المنظم إلى الباكستان الغربية، وعندما أجري أول إحصاء عام للبلاد في أوائل عام 1951 كان عدد اللاجئين في البلاد قد أربى على سبعة ملايين لاجئ، وإنه لمن المتعذر أن نحصي هنا جميع الصعاب التي جابهت هذه الدولة الفتية ذات الموارد المحدودة أثناء محاولتها توفير سبل الاستقرار لهؤلاء المشردين.
ومما يثير القلق في هذا الموضوع أن سيل اللاجئين من الهند لم ينقطع بعد، وخاصة عبر الحدود الفاصلة بين السند وجودبور في الباكستان الغربية، وهو الأمر الذي يزيد مشكلة إيواء اللاجئين المزمنة تعقيدا، وقد تخطى عدد اللاجئين في البلاد المليون الثامن ويقيم سبعة ملايين منهم في الباكستان الغربية.
ومع ذلك فإن حكومة الباكستان تضع هذه المشكلة في المرتبة الثانية بعد مسألة الدفاع عن البلاد، وبرغم أن هذه الحكومة تقوم منذ قيام دولة الباكستان ببذل كافة الجهود لإيواء هؤلاء اللاجئين والعمل على استقرارهم، فأنه يجب علينا أن نعترف أن هذه المشكلة من الضخامة بحيث يتعذر حلها في وقت سريع.
وتبلغ نسبة المزارعين بين اللاجئين في الباكستان زهاء 70٪ من مجموعهم، وقد وفد معظم هؤلاء إلى إقليمي البنجاب والسند خلال الفترة بين عامي 1947-1948، وقد أقطعوا حال وصولهم بعض الأراضي كما منحوا قروضا وإعانات، وفي 1950 برز إلى الوجود مشروع تسوية أحوال اللاجئين الذي منح مثل هؤلاء اللاجئين المزارعين بموجبه بعض الحقوق الدائمة بصورة مؤقتة، وقد تم تنفيذ هذا المشروع في 18245 ضيعة، وتم النظر في 1014073 طلبا من الطلبات التي قدمت لامتلاك أراضي النازحين عن البلاد، وبلغت مساحة الأراضي التي تمت تسوية هذه المسائل فيها 1094951 فدانا، وبذا يمكن القول إنه قد تمت تسوية 85٪ من مثل هذه المشاكل في البنجاب.
سيل اللاجئين المشاة من الهند إلى الباكستان.
وقد منح اللاجئون في بلوجستان مثل هذه الحقوق المؤقتة، كما قطع هذا المشروع مرحلة مرضية في إقليم السند، أما ولاية بهاولبور وخير بور وإقليم الحدود وكراتشي فإنها جميعا ماضية في تنفيذه.
وكان من الطبيعي أن يؤدي استمرار وفود اللاجئين إلى البلاد إلى عدم كفاية الأرض الزراعية في إقليمي الباكستان الشرقي والغربي لسد حاجاتهم، ولذا بدأ استصلاح بعض الأراضي الجديدة في إقليمي البنجاب والسند، حيث يجري إنشاء قناطر ضخمة لاستصلاح 2800000 فدان من الأراضي، ويتوقف توفير الاستقرار للمزارعين من اللاجئين هناك على نتائج هذا المشروع. أما في الباكستان الشرقية فإن مثل هذه المشكلة تعتبر أشد تعقيدا، وذلك لشدة الضغط على الأراضي بسبب ازدحام الإقليم بالسكان.
ولقد أدت هجرة اللاجئين على هذا النطاق الواسع إلى ازدحام معظم مدن الباكستان الغربية والبنغال الشرقية، ويظهر حرج الموقف الناجم عن ذلك في المدن الكبرى كلاهور وحيدر أباد وكراتشي وداكا، التي يهرع إليها اللاجئون للبحث عن الوظائف والأعمال. والمشكلة الرئيسية التي تنجم عن هذا هي مشكلة توفير السكن لهؤلاء اللاجئين المدنيين في مثل هذه المدن المزدحمة بالسكان، وتعتزم حكومة الباكستان حلا لهذه المشكلة إنشاء مدن جديدة تلحق بهذه المدن أو توسيع أحياء المدن القائمة، وقد قامت حتى الآن بتقديم قروض إلى الأقاليم والولايات بلغ مجموعها 104,5 ملايين روبية، منها 50 مليونا لمشاريع إيواء اللاجئين و54,5 مليون روبية هي قيمة ما حصلته من ضريبة اللاجئين منذ بدئ بتحصيلها في نوفمبر عام 1950 حتى نهاية مارس 1954، كما قدمت الحكومة المركزية قرضا قدره 15 مليون روبية للبنجاب، و16,6 مليون روبية للبنغال الشرقية، وخمسة ملايين روبية للسند؛ وذلك لتدعيم القروض التي قدمت لها في العام السابق للغرض نفسه، وقد استغل زهاء 60 مليون روبية من مجموع القروض التي قدمت للولايات حتى الآن في إنشاء مثل هذه المدن الجديدة في الأقاليم.
وتجيء بعد ذلك مشكلة مياه الأنهار والقنوات.
ومشكلة مياه الأنهار وثيقة الصلة بمشكلة كشمير، ومما يستحق الذكر بشأنها أنه لما استدعت لجنة الأمم المتحدة للوساطة في موضوع كشمير الجنرال سير دوجلاس جريسي القائد العام للجيش الباكستاني وقتئذ، وهو بريطاني، روى لها الرجل وهو يبرر دخول القوات الباكستانية إلى كشمير أن إدارة المخابرات العسكرية في الجيش الباكستاني قد نمى إليها أن الجيش الهندي يعد حركة هجوم على نطاق واسع يهدف بها إلى احتلال كشمير، وقال القائد: إن المشروع، كما وصل إليه رجال المخابرات، كان يتضمن الوصول إلى نقط استراتيجية بعيدة سواء في الشمال الغربي أو الجنوب الغربي في مناطق قريبة جدا من حدود باكستان، وكلها شديدة الازدحام بالسكان وتبلغ نسبة المسلمين فيها 100٪.
وقد رأى المسئولون في باكستان أنه لو تم هذا المشروع لكان فيه القضاء على باكستان، وذلك لأن احتلال الهند لكشمير كان القصد منه وضع العالم كله أمام الأمر الواقع ... كما أنه سيكون من نتيجة تنفيذ هذه الخطة هجرة بضع مئة ألف أخرى من اللاجئين إلى باكستان مما يزيد من حدة الأزمة الاقتصادية، كما أنه يؤدي إلى تهديد دائم للحدود الباكستانية بواسطة الجيش الهندي وتهديد للخط الحديدي الذي يوصل بين بشاور ولاهور مخترقا غرب إقليم البنجاب ... وأخيرا فإن أخطر النتائج التي تترتب على ذلك هي احتلال مصادر المياه العليا للأنهار الثلاثة التي تنبع في كشمير وتجري في باكستان، إذ كان معناه سيطرة الهند على هذه المياه وإمكان خنق الباكستان في أي وقت.
ويقول جوزيف كوربل عضو بعثة الأمم المتحدة للوساطة في النزاع بشأن كشمير إن الذين قابلهم في كراتشي كانوا يعتقدون أن الهند لا ترضى بشيء أقل من إزالة الباكستان من خريطة العالم!
1
وقد كان لهذا التهديد بحرمان باكستان من المياه أثر عميق في نفوس الباكستانيين، فقد كانت مياه الأنهار الستة، وهي السند وجيهلم وجيناب وراوي وستلج وبياس، ومجموعة القنوات التي تربط بينها ذات أهمية حيوية للزراعة في شبه القارة.
أما الهند فقد استنكرت هذا الاتهام بكل شدة وقالت إنه لم يدر أي تفكير في مشروع كهذا، وأشارت إلى الاستحالة المادية التي تعترض التصرف في هذه المياه وإلى ما يتكلفه تنفيذها، بفرض إمكانه، من أموال طائلة. كما أشارت إلى أن كميات المياه في هذه الأنهار من الوفرة بحيث يمكن أن تكفي حاجة الدولتين.
ولكن على الرغم من هذا ظلت الباكستان في قلق بسبب مشكلة المياه، وذلك لأن باكستان الغربية تعتمد اعتمادا كليا على مياه حوض نهر السند التي تستمد منها حياتها، وسكان هذا الإقليم يتزايدون بكثرة، وقد زاد عليهم عدد اللاجئين الذين هاجروا إليه من الهند ، وكل هؤلاء بحاجة إلى كل مياه الري التي سبق أن أحالت في الماضي 31 مليون فدان من أراض صحراوية إلى أراض زراعية تعد من أخصب أراضي العالم التي تنتج الحبوب.
وقد كان من الوسائل التي عمدت إليها بريطانيا في مكافحة المجاعات المروعة التي كانت تكتسح إمبراطوريتها بالهند في النصف الأخير من القرن التاسع عشر؛ إقامة نظام للري في إقليمي البنجاب والسند يعتبر من أحسن وأعظم أعمال الري في العالم كله، وقد ساعد هذا النظام على استغلال مياه الأنهار الخمسة التي تصب في نهر السند، وهي أنهار جيلوم وشناب وراوي وبياس وستلج، وفي تحويل 36,5 مليون فدان من الأراضي الصحراوية إلى جنات زاهرة أطلق عليها بحق «سلة الخبز» بالهند. ويكفي لكي نبين أهمية هذه الأنهار الخمسة لإقليم البنجاب أن نذكر أن كلمة «بنجاب» مشتقة منها، فكلمة «بانج» باللغة الأوردية معناها «خمسة» و«آب» معناها ماء، وعلى هذا يكون معنى «بنجاب» أرض الأنهار الخمسة.
ولولا كميات المياه التي تفيض بها هذه الأنهار لتحولت كل هذه الأراضي الخصيبة في الحال إلى صحار جرداء.
وتزخر أنهار حوض السند بالمياه الغزيرة في شهور يونيه ويوليه وأغسطس من كل عام، وذلك حين تنساب الثلوج المذابة في أعلى التلال وتتضاعف كمياتها بالتقائها بمياه الأمطار الموسمية في المناطق التي تتجمع فيها مياه هذه الأنهار، وتقل الإفادة من هذه المياه عند حلول موسم الفيضان وتنساب كميات كبيرة منها إلى البحر.
وقد كانت المياه توزع توزيعا عادلا بين الولايات بما يتفق مع القواعد الدولية المرعية، بمعنى أن من يستغل هذه المياه عند أعلى مجاريها يجب أن يحترم حاجة من يريد الإفادة منها عند مصابها، ولذلك وضعت اللوائح المفصلة لحماية حقوق أصحاب الحاجة إلى هذه المياه عند المجاري السفلى.
وقد أعيد النظر في هذه المبادئ في عام 1942 على يد لجنة السند (لجنة راو)، وقد جاء في تقريرها أن إقامة سد «بهكرا» على أعالي نهر ستلج سيؤثر على كميات المياه التي تحصل عليها السند من ستلج، وقد وضع هذا التقرير على أثر احتجاج تقدم به إقليم السند. •••
وعند تنفيذ قرار التقسيم اتفق الطرفان على عدم إجراء أي تعديل في نظام توزيع مياه الري كنتيجة لتخطيط الحدود الدولية الجديدة، لأن هذا المبدأ منصوص عليه في التقرير الذي وضعته لجنة تقسيم البنجاب، وجاء فيه ما يلي:
توافق اللجنة على أنه ليس هناك ما يدعو لتعديل الأنصبة المصرح بها من الماء المخصص للمنطقتين وللقنوات المتعددة.
وإذا كان التقسيم قد منح الباكستان أكبر جزء من الأراضي الخاضعة لنظام الري في كل من البنجاب والسند، إلا أن المشاريع التي تتحكم في مياه بعض القنوات الضخمة التي تغذي الباكستان بمياهها قد تركت في أيدي الهند أو كشمير.
ففي المناطق الغربية من البنجاب والسند في الباكستان أراض تعتبر من أخصب الأراضي التي تنتج المواد الغذائية في العالم، ولكن هذه الأراضي لن تلبث أن تتحول إلى صحارى إذا ما حرمت من مياه الري، فقد يجف في أسبوع واحد 20 مليون فدان من الأراضي وبذلك يتعرض عشرات الملايين من السكان لخطر الموت جوعا، وليس في استطاعة أي جيش بما لديه من قنابل وقذائف نارية أن يدمر هذه الأراضي كما يدمرها مجرد حرمانها من المياه التي تبعث الحياة في حقول الباكستان وأرواح سكانها.
وإذا ما استثنينا الفترة القصيرة التي تسقط فيها الأمطار الموسمية فإن الأمطار لا تسقط في الباكستان والأراضي المجاورة لها من الهند، وهي المنطقة التي تكون جزءا من حوض السند العظيم وفروعه الستة، وإذا ما علمت أن مدينة عظيمة كلاهور تعتمد في مياه الشرب على إحدى القنوات أدركت أن المزارع ليست هي الوحيدة التي تحتاج إلى مياه هذه القنوات، وهذا ما يجعل الباكستان في خوف دائم من المستقبل.
ومن جهة أخرى، فإن على الهند أن تحصل على مياه وفيرة وإلا هددتها أخطار المجاعة، إذ إن التقسيم لم يمنح الهند أية قناة أو أي مشروع من مشاريع الري، كما أن نسبة الأراضي التي ترويها مثل هذه المياه ضئيلة إذا قورنت بما تحتاجه الهند منها، إذ تبلغ حصة الباكستان من الاثنين والعشرين مليون فدان التي ترويها مياه نهر السند 18 مليون فدان، أما حصة الهند فهي تقرب من خمسة ملايين فدان، ومع ذلك فإن عشرين مليون نسمة يقطنون هذه المناطق من حوض السند في الهند، أما عدد الذين يسكنون هذه المناطق في الباكستان فيبلغ 22 مليون نسمة، وهنالك 35 ألف فدان أخرى من نصيب الهند في وادي السند يمكن أن تستغل استغلالا عظيما في زيادة إنتاج المواد الغذائية إذا توفر لها الري المناسب، ولذا فإننا نرى الهند تسارع إلى حفر القنوات وإنشاء السدود والمصارف لتوفير المياه اللازمة لهذه المساحة الكبيرة من الأراضي بقدر المستطاع.
وكان من الطبيعي أن يصاب الباكستانيون بالفزع حين يعلمون بنبأ هذا البرنامج الذي ينفذه الهنود لتحسين حال الري في بلادهم، إذ إن معظم هذه المياه التي ستستغل في المشاريع المذكورة ستسحب من الأنهار والقنوات الموجودة في الهند، والتي كانت ستجري إلى الباكستان لو لم تجد من يحول دون ذلك.
ويقول الباكستانيون إن معنى ذلك هو حرمانهم من المياه التي لهم حق شرعي وإنساني في الحصول عليها. أما الهند فتقول إن هذه المياه هي مياهها وإنها صاحبة الحق الأول فيها وإن شعبها يجب أن يأكل كذلك. وقد نتج عن ذلك صراع خطير يتوقف عليه مصير 42 مليون إنسان.
وليس هنالك أي أمل في أن يخيم السلام على ربوع شبه القارة الهندية الباكستانية ما دامت بوادر الانفجار ماثلة للعيان، ولن يتحقق هذا السلام إلا إذا عجل بإيجاد حل حاسم لمشكلة المياه، حتى ولو أجري الاستفتاء في كشمير، إذ إن حل مشكلة المياه حلا إيجابيا لابد أن يخلق جوا جديدا يمهد السبيل لحل مشكلة كشمير على أساس جديد لا يخطر على الأذهان في الوقت الحاضر، لعقم الطريقة التي تعالج بها هذه المشكلة والجو الذي يحيط بها. •••
والواقع أن النزاع على المياه بين باكستان والهند يكاد يكون مشكلة هندسية أو مالية لا علاقة لها بالسياسة أو الخلافات الدولية، فإنه إذا أمكن استغلال كميات المياه التي تضيع هباء بواسطة مشروع من المشروعات الكبيرة كمشروع وادي نهر تنيسي
2
أو غيره من المشروعات الضخمة ، فإنه مما لا شك فيه أنه سيمكن استصلاح مساحات كبيرة من الأرض في المناطق التي تجري فيها هذه الأنهار، وإذا استصلحت الأراضي فإنه سيمكنها أن تستوعب عددا كبيرا من اللاجئين الذين لا يجدون عملا أو مأوى حتى اليوم.
ويبدو أن البنك الدولي قد بدأ في المدة الأخيرة يهتم بهذا المشروع، وأنه لا يمانع في تمويله، ولهذا دارت في واشنطون محادثات بين المختصين في هذا البنك ومندوبي الهند وباكستان، وإذا انتهت المحادثات إلى نتيجة مرضية فلا شك أنها ستؤدي إلى حل عملي لهذه المشكلة تفيد منه الدولتان، إذ سيمكن الانتفاع بمياه الفيضان التي تضيع هباء، وسيمكن استصلاح الأراضي، وإيواء اللاجئين، وبذلك تحل مشكلة من مشاكل الدولة الجديدة، ويسوى نزاع خطير بينها وبين جارتها الهند.
ولننتقل الآن للكلام عن كشمير ومشكلتها الكبرى.
رحلة في كشمير
تقع ولاية كشمير في قلب آسيا فوق سلاسل جبال الهملايا، وتحدها من الشمال أفغانستان وروسيا وولاية سنكيانج الصينية، ومن الشرق التبت، ومن الجنوب الهند، ومن الغرب باكستان.
وتنقسم الولاية إلى ثلاث مناطق مساحتها جميعا 161068 ميلا مربعا: (1)
محافظة جمو
Jammu . (2)
محافظة وادي كشمير. (3)
محافظة لداخ
Laddakh
وبالتستان
Baltistan
وجلجيت
Gilgit .
ويبلغ تعداد سكان كشمير أربعة ملايين نسمة «حسب إحصاء 1941»، ويقطن معظمهم في محافظتي جمو وكشمير، منهم ثلاثة ملايين من المسلمين والباقي من الهندوس والسيخ. وتقع منطقة جمو في الجنوب الغربي لسلسلة جبال بير بانجال
التي يخترقها ممران هامان: أحدهما ممر
والآخر ممر بني هال
Banihal
الذي يصل منطقة جمو بوادي كشمير ويبلغ ارتفاعه عشرة آلاف قدم.
وتقع منطقة كشمير فوق سلسلة جبال البيربانجال شمال جمو، وتعرف بوادي كشمير الذي تكون بفعل نهر جيلوم
Jhelum
الذي ينبع من هذه المنطقة، وهذا الوادي معروف من قديم الزمان لما اشتهر به من جمال خاص فضلا عن اعتدال مناخه بالنسبة لارتفاعه، وتنبت فيه أحسن فواكه العالم، وهو مشهور بصناعاته اليدوية كالحرير والصوف وحفر الأخشاب. ووادي كشمير محاط من جميع نواحيه بسلاسل جبال قراقورم ولداخ والهملايا وبيربانجال، ويبلغ ارتفاع بعضها 25 ألف قدم.
واختلاف الارتفاعات في ولاية كشمير هو الذي ميزها باختلاف المناخ، فمن حرارة شديدة في المناطق المنخفضة إلى برودة شديدة وجليد في المناطق المرتفعة.
وقد حدث عندما وصلنا إلى لاهور عاصمة مقاطعة البنجاب أن رأيت في محطتها شابا نشيطا يقبل علينا باسما مرحبا ... وأقبل علينا يقول: أنا مصري!
فكانت مفاجأة سارة أن نقابل شابا مصريا في هذا المكان دون أن نتوقع ذلك، وعلمت بعد ذلك أن الشاب هو المهندس اللاسلكي محمد حسين جمعة الذي يعمل في لجنة الهدنة الدولية التابعة للأمم المتحدة في كشمير.
ومما يدعو إلى الفخر أن محمد حسين جمعة هو المصري الوحيد في تلك اللجنة، وهو يعمل في تلك الجهات النائية بعيدا عن أهله ووطنه دون أن يشكو مرارة البعد عن الأهل والوطن، بل هو يقبل على عمله في نشاط وحماسة، ويعتبر نفسه سفيرا لبلاده في تلك الجهات.
وقصة محمد حسين جمعة واختياره في لجنة الهدنة الدولية جديرة بالتسجيل لتكون مثلا حسنا للشباب، ففي شهر ديسمبر من عام 1950 مر بالشرق الأوسط موظفان من كبار موظفي الأمم المتحدة، وكانا يبحثان عن أربعة ضباط للعمل بقسم اللاسلكي وقد رشحت لهما مصلحة التليفونات والتلغرافات المصرية 20 موظفا من أكفأ موظفيها، ولما عقد الامتحان لاختيار المرشحين نجح محمد حسين جمعة فيه.
وفي شهر أبريل من عام 1952 رشح للوظيفة وصدرت إليه الأوامر بالسفر في الحال إلى دلهي عاصمة الهند لمقابلة مندوب الأمم المتحدة هناك، حتى يقوم بتسهيل سفره إلى سرينجار عاصمة كشمير، لكي يعمل مع بعثة المراقبين الحربيين التابعين للأمم المتحدة في كشمير.
مدينة سرينجار وشوارعها مائية تشبه طرقات البندقية.
وأثناء زيارتنا لباكستان كانت بعثة الأمم المتحدة تتكون من 150 مراقبا، منهم العسكريون وضباط اللاسلكي وبعض الإداريين والسكرتيرين، وقد تم اختيارهم بعناية من جميع الدول فكان منهم البلجيكي والأسترالي والدنماركي والمصري، وكان كبير المراقبين الحربيين - عامئذ - هو الجنرال نيمو الأسترالي وكبير الإداريين هو المستر أندرسون الكندي.
أما المحطة اللاسلكية التي يعمل بها المهندس جمعة فمقرها مدينة «روالبندي» في باكستان، وهي تقوم بالاتصال بجميع بعثات الأمم المتحدة في كافة أنحاء الأرض وبالمقر الرئيسي للأمم المتحدة في نيويورك، وقد أعدت شبكة داخلية من المحطات اللاسلكية على طول خط الهدنة في كشمير وذلك لتسهيل الاتصال رأسا بمقر كبير المراقبين في حالات الضرورة كوقوع حوادث فيها نقض لشروط الهدنة بين الفريقين، وإذا جاء الصيف تنتقل بعثة الأمم إلى مدينة سرينجار عاصمة كشمير لاعتدال مناخها، وللبعثة طائرة خاصة تستعمل في تنقلات موظفيها وهي ذات لون أبيض وعليها شعار الأمم المتحدة.
وقد سنحت الفرصة للمهندس محمد حسين جمعة فزار كشمير عدة مرات، وقد روى لي بعض تفاصيل عن رحلته ومشاهداته أثناء هذه الزيارات بأسلوبه الساحر فقال:
هبطت بنا الطائرة في مطار دلهي وكان ذلك في شهر يوليه، وكانت أرض المطار مغطاة بالحشائش الخضراء حتى ليصعب عليك أن تميز مدرجات المطار. وما إن فتح باب الطائرة حتى لفح وجوهنا لهيب كأنه ريح السموم، وكان أغلب المستقبلين عند باب المطار من الهنود ببشرتهم السمراء اللامعة وشعرهم الأسود، وكان الرجال منهم يلبسون نوعا من القماش الخفيف الأبيض وقد لف حول أجسامهم بطريقة خاصة وفي أرجلهم صنادل عادية. أما النساء فقد لبسن «الساري» الجميل، وهو عبارة عن قطعة واحدة من القماش الخفيف الملون تلف حول الجسم والكتف اليسرى، وهن لا يلبسن جوارب إطلاقا بل يكتفين بصنادل خفيفة مزركشة.
وتمت إجراءات الجوازات والجمرك بسرعة عجيبة، وقد أعجبت بموظفي المطار لبشاشتهم وحسن معاملتهم للضيوف الذين يقصدون بلادهم. كان العرق يتصبب مني، ورغم أن المكاتب جميعها مجهزة بالمراوح الكهربائية فإن الحرارة كانت شديدة إلى درجة غير مألوفة.
ثم توجهت فورا إلى وزارة الحربية الهندية للحصول على تصريح بدخول كشمير، فمرت بنا السيارة في منطقة الوزارات بعاصمة الهند وقد بنيت وفقا لطراز هندسي حديث، إذ يقع قصر رئيس الجمهورية في الوسط وبجواره قصر رئيس الوزراء، ومن حولهما دور جميع وزارات ومصالح الحكومة. وفي مكتب وزارة الحربية تملأ عدة استمارات خاصة وتوقع على عدد آخر حتى تحصل أخيرا على التصريح الحربي بدخول منطقة كشمير.
وللذهاب إلى كشمير طريقان: أحدهما بالقطار إلى مشارف كشمير الجنوبية أي منطقة جمو ، ومنها بالسيارة إلى قلب كشمير حيث توجد مدينة سرينجار العاصمة. أما الطريق الأسهل فهو بالطائرة طبعا، وهذا ما فعلته هربا من حرارة الطريق البري في الصيف.
وفي الصباح الباكر حلقت بنا الطائرة فوق مدينة دلهي، واتجهت صوب الشمال حتى هبطت بعد ساعتين في بلدة أمرتسار
Amritsar
بالقرب من الحدود الهندية الباكستانية، وفيها معبد السيخ الكبير ذو القباب الذهبية الذي يعد من أكبر المعابد.
ثم استأنفت الطائرة رحلتها، وبدأت تخترق سلاسل الجبال المرتفعة ثم واديا فسيحا وهبطت بعد نصف ساعة في بلدة جمو
Jammu
وهي العاصمة الثانية لكشمير كما أنها المقر الشتوي للحكومة، وذلك بسبب انخفاضها وإحاطتها بالجبال الشاهقة من كافة نواحيها.
وبعد استراحة قصيرة حلقت بنا الطائرة للمرة الأخيرة فوق بلدة جمو في طريقها إلى العاصمة سرينجار
Srinagar ، وهي رحلة تستغرق 45 دقيقة، رأيت فيها أجمل وأمتع ما شاهدت في حياتي فقد عبرت بنا الطائرة سلاسل جبال البيربانجال
الشاهقة الارتفاع، ثم مرت خلال ممر بني هال
Bani Hal
وهو الطريق الوحيد الذي يصل بين وسط وغرب كشمير ويبلغ ارتفاعه عشرة آلاف قدم، لقد كانت الطائرة تمر بين سلسلتين شاهقتين أفسحا ممرا طبيعيا تعبره الطائرة وهي على ارتفاع ستة آلاف قدم، أي في منتصف المسافة بين قمة الجبال وسطح الأرض.
ومن نافذة الطائرة شاهدت أجمل منظر في هذه الرحلة، فما إن عبرت الطائرة ممر بني هال وأصبحت في وادي كشمير الساحر حتى شاهدت الجبال العالية وقد غطتها الأشجار العديدة والحشائش الخضراء الجميلة والوديان العميقة وقد فرشت ببساط سندسي أخضر زاهي الألوان، وفي قاع الوادي لاحظت أشرطة من الفضة تلمع تحت أشعة الشمس؛ تلك هي منابع الأنهار ومصارف مياه الأمطار التي تغذي شبه القارة الهندية كلها: الهند وباكستان، إنه منظر فريد يأخذ بالألباب. وأجمل منه تلك القصور الجميلة المستقرة فوق قمم الجبال أو في قاع الوديان، وتلك القرى المنتشرة أو المبعثرة هنا وهناك وقد أحاطت بها خضرة جميلة هي الطبيعة على أصلها لم تمسها يد بالتغيير أو التبديل.
وفي وسط هذا الجمال الساحر يقع وادي كشمير ، أجمل منطقة في العالم، وكان ولا يزال يسمى «فردوس الأرض»، وتعجب لهذا الوادي فإنه قابع في قلب الجبال ويبلغ ارتفاعه خمسة آلاف قدم فوق سطح البحر وفي وسطه توجد بحيرتان كبيرتان ناجين
Nagin
ودال
Dal
التي تقع عليها مدينة سرينجار. إن المنطقة أشبه بسويسرا من نواح عديدة، إلا أنها ما زالت على طبيعتها لم تلمسها يد الإنسان أو الصناعة.
وبعد قليل هبطت بنا الطائرة في مدينة سرينجار، فأدهشني اعتدال المناخ وتلك الرياح الرطبة التي تهب علينا. تقدمت بأوراقي إلى رجال البوليس والجمرك وهم كشميريون، وأول ما يلاحظ عليهم بياض بشرتهم واستدارة وجوههم، وهم أقرب بكثير إلى شعوب منطقة الشرق الأوسط ويختلفون كثيرا في أشكالهم عن الهنود والباكستانيين، ومعظمهم يتكلم الإنجليزية بطلاقة بسبب اختلاطهم بالسائحين الذين يفدون إلى بلادهم.
ويقيم الناس في سرينجار إما في الفنادق أو في عوامات
House Boats
قائمة على شاطئ البحيرة، تلك العوامات التي تنفرد بها سرينجار عن أي مدينة أخرى، وهي عبارة عن قصور عائمة نصبت على طول ساحل البحيرة وقد فرشت بأفخر الأثاث والسجاجيد وأعدت فيها كافة وسائل الراحة، ويقطن صاحب العوامة وأسرته في قارب متوسط الحجم بجوار «العوامة»، ويقوم هو وأسرته بإعداد الطعام لنزلاء «العوامة».
إن الحياة في هذه العوامات جميلة حقا، إذ تشعر أنك تعيش بين أفراد أسرتك لما امتاز به الكشميريون من بشاشة وكرم ضيافة، وهم يقدمون ألوانا من الأطعمة إنجليزية أو فرنسية أو إيرانية أو مصرية، وذلك بفضل ما تعلموه من السائحين من مختلف الأجناس.
التقاء نهر جيلوم بالبحيرة في سرينجار. منظر ساحر من مناظر كشمير «الفردوس الأرضي».
وما إن تستقر في «العوامة» الفاخرة وأنت تطل على البحيرة الجميلة وقد أحاطت بها الجبال من كل ناحية، حتى يحضر إليك الأهالي مرحبين ليعرضوا عليك بضائعهم المختلفة، لقد علموا بوصولك وعرفوا مكان إقامتك فحضروا إليك من البحيرة في قوارب رفيعة طويلة تسمى شيكارا
Shikara
وقد أقيمت في وسطها مظلة خشبية يجلس تحتها التاجر وأمامه بضاعته، هذا يعرض عليك أنواعا مختلفة من الأقمشة الكشميرية المطرزة وأشهرها الشيلان الكشميرية المعروفة ، وذاك يعرض عليك بعض المصنوعات الخشبية المحفورة التي تفنن فيها الكشميريون بسبب جودة الأخشاب وكثرتها، وثالث يعرض عليك بعض الأحجار الكشميرية كالعقيق والزمرد وغيرها، وآخر يعرض عليك أنواعا مختلفة من الفراء والمصنوعات الجليدية، ولا تنتهي من أحدهم إلا ويحضر لك الآخر وكل تاجر يريد أن يعرض عليك بضاعته، إنه لا يهمه أن تشتري - أو هكذا يقول على الأقل - إنهم أمهر من عرفت في طريقة عرض بضائعهم، وهم يتحدثون الإنجليزية بطلاقة عجيبة، ثق أنك لا بد مشتر منهم شيئا فهم يعرضون مصنوعات يدوية جميلة متقنة ستعجبك كثيرا، ثم هم يلحون ويلحون ولا يتركونك إلا وقد اشتريت شيئا، ولكن احذر الأسعار فأنت في كشمير سائح، وانظر ماذا يدفع السائح في مصر!
وفد الصحافة المصري في ضيافة حاكم السند. وقد ظهرت زوجته الكشميرية بملابسها الوطنية في وسط الصف الأول.
وينبت في كشمير عدد مختلف من أجمل أنواع الأزهار وألذ الفواكه كالتفاح والكمثرى والبرتقال والكريز والتين والمشمش وغيرها، وهي رخيصة الثمن جدا بسبب عدم تصديرها لصعوبة المواصلات، كما يوجد بها عدد لا بأس به من الدببة والنمور والثعالب خصوصا في المناطق الشمالية، وتوجد مواسم خاصة للصيد فتقوم الحكومة بمنح تصاريح للهواة في صيد الحيوانات أو الطيور.
ووسائل المواصلات في كشمير هي الطائرة والسيارة فقط، والأخيرة لا تصلح في فصل الشتاء بسبب وعورة المسالك وسقوط الجليد، فإذا انتقلت من مكان لآخر مرت بك السيارة في طرق حلزونية ملتوية تصعد تارة حتى تصل إلى مستوى السحاب أو فوقه وتهبط تارة أخرى حتى تخترق مجاري الأنهار ومصارف المياه.
ومما يسترعي النظر أن الطبيعة قد أضفت جمالها بسخاء على كشمير فالجبال والحيوانات والطيور قد انطبع عليها جمال خاص، وكذلك الأهالي أيضا فالنساء والبنات والأطفال آيات رائعة من الجمال، فهذه البشرة المستديرة البيضاء والعيون الزرقاء والقوام المعتدل هي الصفات التي تميز أهالي كشمير عن بقية أهالي القارة الهندية.
والكشميريون شعب مسالم يحب الهدوء والقناعة إلا أن الفقر ما زال يخيم على المنطقة بأكملها، فتجد الفلاح يكد ويكدح ليحصل على دراهم معدودة وكذلك التاجر والصانع وغيرهم، ولعل ذلك من آثار عهود الإقطاع السابقة.
ومن الطريف أن الأهالي ينتهزون موسم الأمطار فيزرعون كل شبر من الأرض سواء في أعلى الجبال أو في أسفل الوديان، حتى البحيرات العديدة يزرعونها! فتراهم يجلبون التراب ويلقون به على سطح البحيرة فيترطب ويتماسك وتتكون منه طبقة يبلغ سمكها نحو نصف متر فيزرعونها بالأزهار والفواكه المختلفة، ولكل شخص قطعة كبيرة قد تبلغ الفدان أو يزيد، وكلها متماسكة حتى إنه يستطيع أن يقف فوقها ويتفقد نباتاته. وقد ظهر بين الفلاحين نوع طريف من اللصوص الذين يسرقون الأراضي، وذلك بأن يربطوا قطعة الأرض المتماسكة في قارب ثم تنقل إلى مكان آخر على سطح البحيرة بما عليها من فواكه وأشجار، فيصبح الصباح ويتفقد الفلاح أرضه فلا يجدها! وهذه هي الحدائق العائمة في كشمير.
أما الشتاء في كشمير فهو موسم الهدوء والكساد، وللشتاء جماله هناك كما للصيف جماله، إذ تغطي الثلوج قمم الجبال وبالتالي الطرق الجبلية فتنقطع سبل المواصلات بين وادي كشمير والمناطق الأخرى، فتهرع الحكومة والهيئات الرسمية والأعيان إلى منطقة جمو حيث الشمس الساطعة والدفء الجميل.
والكشميريون عادة يتزوجون صغارا، ولا يزال معظمهم أو كلهم محافظين لأن أغلبهم مسلمون، ويندر جدا أن ترى امرأة أو فتاة سافرة الوجه، وإذا حاول السائحون التقاط أي صور لهن فإنهن يهربن ويخفين وجوههن بكافة الطرق.
ولقد تغنى الشعراء بجمال كشمير من أقدم العصور، حتى لقد وصل إلينا هذا الشعر الذي يرجع تاريخه إلى عام 1620 منسوبا إلى الإمبراطور سليم جاهنجير يصف فيه جمال كشمير:
هناك حوريات الحدائق لامعات
وخدودهن تضيء كالمصابيح
وعلى أجسامهن زهور رقيقة
وكأنها أساور تزين ذراع المحبوب
والبلابل المستيقظة تغني
لكي تعبر عن رغبات الشاربين
وعند كل نافورة ترى البط يدلي بمنقاره
كالمقصات الذهبية وهي تقطع الحرير
هناك سجاجيد من الزهور والورود النقية
والهواء يهب على مصابيح الزهور
فيغلق البنفسج أقفاله.
مشكلة كشمير
هي أهم المشاكل التي تواجه باكستان اليوم ... فإن كشمير وجمو من الناحية الجغرافية تعتبر جزءا متمما لباكستان الغربية، أما من الوجهة الاقتصادية فإن كلاهما يعتمد على الآخر، فمثلا أسواق الفاكهة والخضراوات التي تنمو في كشمير هي روالبندى وسيالكوت بالباكستان الغربية، كما أن المدينتين هما السوق الكبرى للأصواف والسجاجيد التي تصنع هناك، وأقرب منفذ بحري طبيعي لتجارة كشمير الخارجية هي كراتشي عاصمة الباكستان.
وكما أن كشمير تعتمد كلية على الباكستان، فإن هذه بدورها تعتمد على الأنهار التي تنبع من كشمير أو التي تمر بأرضها، إذ إن أنهار الباكستان الثلاثة المهمة «السند وجيلوم وشناب» تنبع من كشمير وتصب في الباكستان. ولما كان خط الدفاع الحيوي للباكستان يقوم عند الطريق الحديدية التي تسير بموازاة الطريق البرية التي تبدأ من لاهور وتنتهي عند بشاور مارة بروالبندي، فإن احتلال الهند لكشمير يحطم هذا الخط الدفاعي ويهدد كيان الباكستان.
هذه هي حقيقة الأسباب الاقتصادية والجغرافية التي دعت باكستان إلى التمسك بولاية كشمير والمطالبة بها. فإذا أضفنا العامل الديني وهو تكون غالبية السكان من المسلمين لأدركنا عمق الخلاف القائم بين الهند وباكستان بسبب كشمير.
وقد زادت السياسة التي سار عليها حاكم هذه الولاية قبيل تقسيم القارة من تعقيد المسألة كما زاد من حدة النزاع عليها بين الهند وباكستان، ولكي نوضح هذه السياسة يجب أن نرجع خطوة إلى الوراء.
فقد حدث عند التقسيم في أغسطس من عام 1947، وبعد ظهور الهند والباكستان، أن بقي في شبه القارة 584 إمارة هندية صغيرة، بل أكثر من هذا العدد، كانت تتمتع قبل 15 أغسطس 1947 بدرجات متفاوتة من السيادة.
كانت هذه الإمارات أو «الولايات الأميرية»
1
مبعثرة في شبه القارة الهندية، وكان عدد سكانها لا يقل عن 99 مليون نسمة، وكان بعض الأمراء يمثلون السلطة الحقيقية في إماراتهم، ومثل ذلك نظام حيدر أباد الذي كان يحكم ولاية تكاد تبلغ مساحتها نفس مساحة ألمانيا، وعدد سكانها 17 مليون نسمة، أما الإمارات الصغرى فقد كانت أصغر حجما وأقل سكانا من ذلك، وكان العدد الأكبر من هذه الإمارات هنديا، أما الولايات الإسلامية فلم يكن عددها يزيد على ست إمارات.
وكان الأمراء الذين يتولون الحكم في هذه الولايات «الأميرية» يفخرون بمركزهم الذي يوازي مراكز الملوك، وكانوا يطلبون طاعة وولاء لا حد لهما من رعاياهم، كما كانوا يصرون على أن يلقوا الاحترام الذي يلقاه الملوك كلما سافروا إلى الخارج، وكان الواحد منهم يحمل لقب «مهراجا» إذا كان هندوسيا ولقب «نواب» إذا كان مسلما، وكان الحديث يوجه إليهم مسبوقا بلقب «صاحب العظمة»، أما حاكم حيدر أباد فكان يحمل لقبا خاصا هو «نظام» وكان الحديث يوجه إليه مسبوقا بكلمة «صاحب العظمة السامية».
وكانت العلاقات بين التاج البريطاني وهذه الإمارات قائمة على المعاهدات التي خولت للسلطة العليا في شبه القارة أن تتولى شئون السياسة الخارجية والدفاع في الإمارة على أن تضمن للأمير حقوق وراثة الحكم والاستقلال بالسلطة الداخلية، وهكذا كانت الهند البريطانية (أي قبل 1947) ترتبط مع هذه الولايات الأميرية بنوع من الاتحاد الشخصي، وكان نائب الملك في الهند يعتبر ممثل التاج البريطاني لدى كل أمير في ولايته.
ولا شك أن هؤلاء الأمراء كانوا يفضلون الحياة في ظل هذه العظمة بعزلة عن الأحداث التي كانت تجري في الهند البريطانية، ولكن لم يكن في وسعهم أن يصدوا عن رعاياهم نسيم الحرية الذي كان قد أخذ يغمر شبه القارة حتى اكتسحها اكتساحا، كانت الأحزاب السياسية قد أخذت تتكون في بعض هذه الولايات على غرار حزبي المؤتمر الوطني (الهندي) والرابطة الإسلامية.
وفي عام 1921 أنشأ الأمراء لأنفسهم مجلسا في دلهي، وكان الغرض الأساسي منه هو الاهتمام بدراسة التطورات السياسية في شبه القارة، وما إن بدأ التفكير يدور في منح الهند استقلالها، في ربيع 1946، حتى أثيرت في الحال مسألة السيادة على الولايات «الأميرية» ولمن تكون.
فلما صدر قانون استقلال الهند قضى بمنح هذه الإمارات حريتها الكاملة واستقلالها وبزوال السيادة عنها.
وقد حدث بعد ذلك أن ظهر اللورد مونتباتن، نائب الملك في الهند وقتئذ، أمام مجلس الأمراء، وكان ذلك في يوم 25 يوليو من عام 1947، لكي يشرح للأمراء بصورة واضحة تطبيق قانون الاستقلال فيما يتعلق بهم، وقد أكد مونتباتن للأمراء أنه سيكون لزاما عليهم أن يتنازلوا لحكومتي الهند أو باكستان عن شئون الدفاع والتمثيل الخارجي والمواصلات، وأنه في مقابل ذلك لن تتعرض إحدى الحكومتين - أي الهند وباكستان - للمسائل الداخلية أو المتعلقة بالسلطة في الولاية، ولكل ولاية أن تنضم بعد ذلك لإحدى الدولتين.
وأخذ مونتباتن يحث الأمراء على ضرورة اتخاذ قرار سريع لأن اليوم الحاسم - 15 أغسطس - كان يقترب بسرعة، فإذا حل اليوم المذكور كان عليهم إجراء أي نظام يرونه بوصفهم حكام دول مستقلة.
وكان من المسلم به أن الولايات الهندوسية ستتبع الهند والولايات الإسلامية ستتبع باكستان.
وكان من رأي قادة الهنود وقتئذ أن يكون أمر انضمام أية ولاية إلى الهند أو إلى الباكستان قائما على الرغبة التي يبديها شعبها لا بناء على رأي حكامها فقط.
وحدث بعد ذلك أن اضطربت الأحوال في ولايات حيدر أباد وجوناجادا وكشمير، فحيدر أباد كان يحكمها حاكم مسلم ولكن غالبية سكانها من غير المسلمين، وجوناجادا التي تلاصق الباكستان عن طريق البحر كان عليها حاكم مسلم ولكن أغلبية سكانها كذلك من غير المسلمين، أما كشمير فكان حاكمها هندوسيا ولو أن غالبية سكانها من المسلمين.
وقد كان لأمراء هذه الولايات الثلاث موقف خاص، إذ إنهم وقفوا موقف التردد بين الانضمام للهند أو لباكستان، وهم أمراء حيدر أباد وجوناجادا وكشمير، فما لبثت الإمارات أن اعتبرت مستقلة فعلا من 15 أغسطس 1947.
وكان لسياسة هؤلاء الأمراء أسوأ الأثر على رعاياهم الذين دفعوا ثمن سياسة الضعف والتردد.
فلما استقر رأي نواب جوناجادا فيما بعد على الانضمام إلى باكستان كان الجيش الهندي قد اقتحم حدود الولاية وأمن السكان على حقهم في تقرير مصيرهم، وكذلك حدث أن نظام حيدر أباد حاول أن يرجئ اتخاذ قرار حاسم فما لبث الجيش الهندي أن اقتحم الولاية وضمها إلى الهند في سبتمبر من عام 1948.
أما في كشمير فقد أخذ المهراجا هو الآخر يؤجل اتخاذ القرار الحاسم الخاص بولايته من يوم إلى آخر مع أنه كان من المفروض أصلا أن هذه الولاية ستنضم إلى باكستان بسبب أغلبيتها المسلمة، بل إن حرف «ك» في كلمة «باكستان» قد وضع ليرمز إلى كشمير وكان ذلك منذ ولدت هذه الكلمة في عام 1940 واتخذها مسلمو شبه القارة الهندية شعارا يتطلعون إلى تحقيقه، ولم يجد الهندوس منذ ذلك الوقت سببا يدعوهم إلى الاحتجاج أو المعارضة.
وقد حاول مونتباتن نفسه أن يتدخل في الأمر في شهر يوليو من عام 1947 فزار مهراجا كشمير وقضى في الولاية أربعة أيام، ولكنه لم يتمكن في نهايتها من حث المهراجا على اتخاذ قرار إما بالانضمام إلى الهند أو باكستان.
وفد الصحفيين المصريين في زيارة مظفر أباد وهو يستمع لخطاب مؤثر جاء فيه ذكر ما قاساه أهل كشمير.
وقد كانت هذه السياسة الحمقاء القائمة على التردد من جانب المهراجا هي التي سببت النكبات التي توالت فيما بعد على الولاية أولا ثم على باكستان والهند.
فقد حل يوم 15 أغسطس من عام 1947 وولاية كشمير لم تحدد موقفها من الدولتين الكبيرتين، كما أن رغبات الأغلبية العظمى من السكان لم تتحقق ... ولما أراد المسلمون في ذلك اليوم المشهود الاحتفال بيوم الباكستان أمر المهراجا بتمزيق الأعلام التي رفعوها وبإغلاق جميع الصحف الموالية لباكستان.
وتابع المهراجا بعد ذلك سياسة العسف والشدة، وإن كان قد ارتبط مع الباكستان في 15 أغسطس من عام 1947 بميثاق انتقلت بمقتضاه إلى الباكستان الواجبات والمسئوليات التي كانت تضطلع بها حكومة الهند قبل التقسيم في جمو وكشمير فيما يتعلق بالمواصلات والبريد والبرق.
ومن الغريب أنه لم يبرم مثل هذا الاتفاق مع الهند.
وتظاهر المهراجا بأنه يريد أن يقف موقف المحايد بين الهند وباكستان، ولكنه في حقيقة الأمر كان لا يرغب إطلاقا في أن يعلن انضمام الولاية لباكستان.
وهكذا أخذت الثورة تسري في نفوس السكان ولم يكن المهراجا يجهل ذلك، كما أنه لم ينتقص من خطورة الموقف فأخذ في تقوية الحاميات العسكرية المكونة من السيخ والهندوس في المناطق الإسلامية، وأصدر أمرا في أواخر شهر يوليو يقضي بأن يسلم المسلمون أسلحتهم للبوليس.
وكان رد المسلمين على هذا أن بدءوا في تنظيم صفوفهم استعدادا لحرب العصابات واتخذوا مقرهم في تلال «بونش» الغربية، وكان قائد الحركة كشميري شاب هو السردار محمد إبراهيم خان الذي شرع في تنظيم المقاومة وأخذ يستثير الروح الوطنية في نفوس مواطنيه، ولما أحس به المهراجا وأصدر الأوامر بالقبض عليه تمكن من الهرب إلى باكستان، وفي مدينة موري وضع أساس حركة تحرير البلاد وهي الحركة التي تمخضت بعد ذلك عن مولد أزاد كشمير أو كشمير الحرة.
وأخذت الأيام تمضي والمهراجا مستمر في سياسة القمع والشدة ضد المسلمين حتى تطور الموقف في أواسط شهر أكتوبر وبدأ القضاء على المسلمين «بالجملة»، فاحتجت الباكستان على ذلك وتبادلت حكومتها مع حكومة المهراجا عدة برقيات شديدة اللهجة، وفي إحدى هذه البرقيات عرض المهراجا إجراء تحقيق محايد في الموضوع كله، ولكنه أشار في نهاية برقيته إلى أنه إذا لم يلب هذا الطلب فإنه لن يجد مناصا من طلب المعونة لمقاومة الأعمال العدائية التي توجه ضد بلاده.
وقد أدركت حكومة باكستان في الحال أن إشارة طلب المعونة معناها الالتجاء إلى الهند، وثبت لديها بصورة قاطعة أن الرجل يبيت أمرا.
وفي خلال معركة البرقيات بين كراتشي وسرينجار أطلق سراح الشيخ عبد الله وهو زعيم المؤتمر الوطني، وكان قد حكم عليه بالسجن لمدة تسعة أعوام في شهر مايو من عام 1946 بسبب حملة «اخرجوا من كشمير» التي قادها ضد المهراجا، وقد عرف فيما بعد أن الإفراج عن الشيخ عبدالله جاء نتيجة وساطة حكومة الهند.
وما إن أفرج عن الشيخ عبدالله حتى عقد الرجل اجتماعا كبيرا نادى فيه بأن أول طلب يتقدم به سكان كشمير هو ضرورة نقل السلطة إلى الشعب، على أن يترك بعد ذلك لممثلي الشعب في كشمير الديمقراطية أن يقرروا هل ينضمون إلى باكستان أم إلى الهند.
ورغم ما يبدو في هذا المطلب من إخلاص فإنه مما لا شك فيه أنه كان يحمل في طياته معنى الولاء للهند ... أو فلنقل روح العداء لباكستان ما دامت القاعدة التي سارت عليها الولايات الأميرية كلها في الانضمام لإحدى الدولتين كانت قاعدة الدين الغالب في الولاية.
وبعد الإفراج عن الشيخ عبد الله بأيام قليلة زار نيودلهي، حيث أدلى بتصريح عارض فيه الانضمام لباكستان مصرا على ضرورة «الحرية قبل الانضمام».
وفي 21 أكتوبر من عام 1947 وقبل انقضاء تسعة أسابيع على استقلال الهندوس والمسلمين بعد استعمار دام نحو قرنين من الزمان، اشتعلت نار الحرب القومية في شبه القارة.
فقد وقع الانفجار في كشمير ذات الأغلبية المسلمة والحاكم الهندي الذي كان يعتمد على الهند، وملتقى الطرق للاجئين المسلمين والهندوس، وبدأ الانفجار في فجر يوم 22 أكتوبر إذ أغار رجال قبائل الأفريدي
2
وغيرهم على حدود كشمير للدفاع عن المسلمين بعد أن وصلت إليهم أنباء الاضطهادات التي وقعت لهم.
وبسرعة غريبة تمكن رجال القبائل المغيرة من احتلال مظفر أباد وأورى بعد أن هزموا قوات الجيش، وانضم إليهم في جمو ثوار أزاد ومتطوعو باكستان الذين أقبلوا من غرب البنجاب، وقد تولى قيادة هؤلاء المحاربين الجنرال أكبر خان، الذي أطلق عليه اسم «الجنرال طارق» تشبها بطارق بن زياد الذي غزا إسبانيا ونشر فيها الإسلام.
وقد دب الفزع في سرينجار على أثر الغزو الذي قام به رجال القبائل وأصبح الشيخ عبدالله بطلا من أبطال الدفاع، ووقع اضطهاد جديد على المسلمين الذين عرف عنهم أنهم من أنصار الانضمام لباكستان. وهكذا اشتعلت النار في كشمير وجمو كلها واشترك السيخ والهندوس وقوات الولاية واللاجئون في القضاء على المسلمين، وأخذ المسلمون في الفرار من الولاية حتى بلغ عدد الذين لجئوا إلى باكستان في بحر أيام قليلة نحو 100 ألف لاجئ، وصلوا إليها ومع كل منهم قصة من قصص الرعب والفزع.
ودافع المهراجا والزعماء الهنود عن موقفهم فادعوا أن المغيرين من المناطق الشمالية بالباكستان هم الذين بدءوا في إيجاد حالة الاضطراب. والواقع أن ما حدث بكشمير لم يكن إلا نتيجة طبيعية لمحاولة المهراجا ضم ولايته المسلمة إلى الهند ووقوفه ضد رغبات شعبه ونتيجة لسياسته في سحق المعارضة، إذ لم تؤد هذه السياسة التي سار عليها هو وقواته إلى قيام ثورة مسلحة في داخل بلاده فقط، بل كان لها أكبر الأثر في المناطق المجاورة بسبب روابط الجوار والدم.
وكان من نتيجة ذلك أن فشلت حركة كشمير «الحرة» وهرب المهراجا قبل 26 أكتوبر سنة 1947 من عاصمة ملكه سرينجار إلى جمو، ومن هناك كتب خطابا إلى حاكم عام الهند طلب إليه فيه أن يرسل له قوات هندية، ولما لم يكن من الممكن أن يتم ذلك إلا إذا ضم بلاده إلى الهند فإنه عرض على الهند أن ينضم لها!
واستجابت الهند لهذا النداء وبعثت بقواتها إلى كشمير بالطائرات واحتلت سرينجار، فاضطرت باكستان إلى الهجوم بقواتها على كشمير من حدودها الغربية مستعينة بقوات من المجاهدين الوطنيين من أهالي كشمير الذين أعلنوا عصيانهم ضد المهراجا.
وظلت المعارك دائرة بين الجيش الهندي والباكستاني مدة طويلة حتى لجأت الهند إلى مجلس الأمن، الذي أمر بوقف القتال بين الطرفين وأرسل بعثة من المراقبين الحربيين نجحت في وقف القتال وحددت خط الهدنة بين الجيشين المتحاربين حتى يتم الوصول إلى حل سلمي. وتحتل الهند الآن منطقتي جمو ووادي كشمير بأكمله، كما تحتل باكستان معظم المناطق الشمالية والغربية، والموقف هناك أشبه بالموقف في فلسطين.
وقد اتخذت حرب كشمير طابعا خطيرا حتى لقد ظن بعض ساسة باكستان في خلالها أن الهند تريد أن تتخذ منها ذريعة لا لتثبيت أقدامها في كشمير فقط وإنما للقضاء على استقلال باكستان أيضا، ونذكر على سبيل المثال تلك البرقية التي بعث بها رئيس وزراء باكستان وقتئذ لياقت علي خان إلى نهرو بعد أن تحرجت الأمور فقد قال فيها:
إنه لمما يؤسف له أعظم الأسف أنه حتى اليوم يقوم بعض أعضاء الحكومة الهندية، ومنهم أنت، بالإدلاء بتصريحات عن عزمهم، أو عن أملهم، بإعادة باكستان إلى الاتحاد الهندي، وهم يعلمون حق العلم أن هذا لا يمكن أن يتم بدون الغزو المسلح.
إن الهند لم ترحب مخلصة بمشروع تقسيم شبه القارة إلا أن زعماءها قبلوه صاغرين حتى يطردوا القوات البريطانية منها، وقد خرجت الهند اليوم لتقضي على دولة باكستان، وإن نفس قرار انضمام جمو وكشمير للهند يعتبر عملا عدائيا موجها ضد باكستان التي تستهدف الهند دمارها.
إلا أن جواهر لال نهرو سارع إلى دفع التهم بكل شدة، ولم يكتف بذلك بل إنه ذكر أن اشتراك باكستان في القتال بكشمير يعتبر عملا عدوانيا.
وقد أخذت لجنة الأمم المتحدة للوساطة تعرض حلولا كثيرة لإنهاء النزاع، وكان من بينها قسمة كشمير بين الهند وباكستان، ويذكر أحد وسطاء الأمم المتحدة أنه عرض هذا الحل في إحدى المناسبات على غلام محمد
3
وقال له إن الهند على استعداد لقبول مثل هذا الحل، وكان رد غلام محمد على هذا الاقتراح أنه لا يمكن لباكستان أن تقبل حلا لمشكلة كشمير يقوم على أساس قسمة الولاية إلا إذا اقتصر نصيب الهند من هذه القسمة على شرق جمو ولا أكثر من ذلك، لأن باقي أقسام كشمير التي يسود فيها المسلمون يجب أن تعود إلى باكستان.
وذكر الوسيط أنه كان يزور غلام محمد بعد ظهر يوم من الأيام، وتحدث غلام محمد عن كشمير ثم قال وهو يختتم حديثه: لقد كنت صديقا لنهرو مدة ثلاثين عاما، ولقد حاربنا سويا ضد الإنجليز، والآن قد تحررنا وأصبح لكل منا دولته المستقلة، ولكن نهرو يكره مجرد وجود باكستان وهو يريد أن يقضي علينا. «وبعد، فإن في وسعه أن يفعل ذلك فلديه الجيش والعتاد، وفي وسعه أن يسير بجيوشه إلى كراتشي وأن يقتحم هذا البيت وأن يطعن قلبي بخنجره ولكنني محال أن أسلم، وستعيش إلى الأبد الفكرة السامية التي عشت من أجلها ... ومحال أن نتنازل عن كشمير».
وذكر نفس الوسيط، وهو العضو التشيكوسلوفاكي في اللجنة، أن لجنة الأمم المتحدة للوساطة في هذه المشكلة زارت سرينجار فنظمت لها حكومة كشمير رحلة إلى مدينة بارامولا التي تبعد نحو 35 ميلا من العاصمة، ورأت البعثة آثار الحرب الطاحنة وإحراق القرى والمنازل، وكانت بارامولا نفسها عبارة عن أطلال تدل على البؤس والشقاء، وكانت اللجنة تتنقل من مكان إلى آخر والبوليس يحيط بها، كما كان يتبعها آلاف من السكان التعساء، ونظم اجتماع في مكان عام وتحدث أحد الخطباء، ثم أخذ الناس يصيحون:
الهند ... كشمير ... الشيخ عبد الله ... زنده باد.
4
كما هتفوا بحياة الاتحاد بين الهند وكشمير.
ويقول الراوي: «إن كل من عاش في أمة من الأمم المكبوتة الحرية وعرف الطرق التي تنظم بها المظاهرات السريعة للتعبير عن الآراء، كان في وسعه أن يدرك أن هذه الطرق تكاد تكون واحدة في كل أنحاء العالم!»
وحدث في أثناء ذلك، كما يقول الراوي، أن اخترق نطاق البوليس شاب من الوطنيين وألقى ورقة أمام اللجنة ثم صاح باللغة الإنجليزية:
إنني أريد أن أقول لكم إن هؤلاء القوم يكتمون حريتنا.
وقبض البوليس في الحال على الرجل إلا أنه كان في وسع اللجنة أن تسمعه وهو يصيح بين الجماهير:
فلتحيا باكستان ...
وقد أزعج هذا الحادث أعضاء اللجنة إذ كان المسئولون قد أكدوا لها أن سكان كشمير يتمتعون بحرية الرأي، ولذلك فقد طلبت من أصحاب الدعوة استدعاء الرجل للمثول أمام اللجنة، وبعد دقائق ظهر أمام اللجنة رجل غيره باعتباره الشاب الذي ألقى الورقة وصاح بحياة باكستان، ولما ذكر أعضاء اللجنة أن هذا الشاب الذي جيء به ليس هو الذي هتف، قال الشاب: نعم! إنني شخص غيره ... وصديقي في السجن ولكن هذا لا يهم ... ففي وسعي أيضا أن أخبركم أننا نريد الانضمام لباكستان! •••
وتقوم اليوم في سرينجار حكومة موالية للهند يرأسها رئيس للوزراء يدعى بكشي غلام محمد ورئيس الدولة هو نجل المهراجا ويدعى كاران سنج، أما الجزء الباكستاني من كشمير فقد قامت فيه حكومة كشمير الحرة وتسمى «آزاد كشمير»، وقد ألفها المجاهدون الوطنيون الذين قاتلوا في صفوف باكستان، ولها مجلس وزراء ومحطة إذاعة خاصة وجيش منظم، وقد اتخذت لها مقرا في بلدة مظفر أباد
Muzafar Abad
وتعاونها باكستان ماديا وأدبيا.
وقد تم الاتفاق بين هيئة الأمم المتحدة من جهة وبين حكومتي الهند وباكستان من الجهة الأخرى على أن يمنح أهالي كشمير حق تقرير المصير، وقد قدم الوسيط المعين لهذه المهمة عددا كبيرا من المشروعات الخاصة بطريقة تقرير المصير وكانت كلها تقابل بالرفض إما من جانب الهند أو باكستان.
ولما عين السيد محمد علي رئيسا لوزراء الباكستان أراد أن يحسن العلاقات بين بلاده وبين الهند مستعينا بصداقته القديمة للبانديت نهرو، فبذل عدة محاولات لحل مشكلة كشمير وفعلا تمت عدة مقابلات بينهما في دلهي وكراتشي، إلا أنه لم تظهر في الأفق أي نتيجة بعد. وتحرج الموقف بعد ذلك بين الهند وباكستان بسبب المساعدات العسكرية التي تقدمها أمريكا لباكستان واستنكار الهند لهذه السياسة، مما جعلها توعز لكشمير المحتلة بتأليف جمعية تأسيسية تشبه «الجمعية التشريعية» وقد قامت الجمعية بإعلان انضمامها إلى حكومة الهند، وهي مناورة سياسية بارعة قصدت بها الهند إحراج باكستان والأمم المتحدة إلا أن الأمم المتحدة لم توافق على ذلك، وما زالت بعثتها في كشمير تؤدي مهمتها حتى ينفذ قرار تقرير المصير.
وفي خلال هذا الصراع الدامي حول كشمير، وقد بلغ عمره اليوم أكثر من ثمانية أعوام، يبدو أن العالم الحر كله قد نسي أو تناسى أن هناك خطرا جاثما تحت هذه المشكلة ... بل يبدو أن الفريقين المتنازعين نفسهما قد نسيا أو تناسيا ذلك ...
يبدو أن الجميع قد نسوا ذلك المثل القائل: «عندما يتقاتل الأسد والنمر ينتهز الثعلب الفرصة ويهرب بالفريسة» ...
فإن الأخطار السياسية التي تنجم عن هذا النزاع حول كشمير، وهذا التهديد القائم بنشوب الحرب بين الهند وباكستان بسبب هذه المشكلة، وذلك العبء الاقتصادي الذي تحتمله الدولتان بسبب الاحتفاظ بقوات عسكرية كبيرة في تلك المنطقة ... كل هذه بواعث كفيلة بإثارة القلق ...
ولكن أهم من ذلك كله أن حالة عدم الاستقرار التي تعانيها الولاية نفسها سواء من الوجهة السياسية أم من الوجهة الاقتصادية تساعد على انتشار الشيوعية بين السكان بطريقة منتظمة ... ولا شك أن كشمير بمشاكلها الاقتصادية واضطراب أحوالها الداخلية ومنازعاتها الدينية، وبوضعها الجغرافي الملاصق لسنكيانج وتبت وهما من البلاد الشيوعية ... إنما تقدم أرضا خصبة جدا لانتشار الشيوعية.
وإذا كان الموقف في كشمير متوترا إلى هذا الحد يهدد بالانفجار أو يهدد بانقلاب شيوعي في تلك الولاية، فإن ذلك بلا شك ينطوي على تهديد للسلم في شبه القارة الهندية كله بل في قارة آسيا ... بل لماذا لا نقول إنه يعتبر تهديدا للسلم العالمي كله؟
وعندما قبلت باكستان المعونة الحربية الأمريكية في مستهل عام 1954 أعلن نهرو أن ذلك من شأنه أن يحول شبه القارة إلى «منطقة حرب»، ولكن الواقع هو أن سياسة السوفييت وأساليبهم في الحرب السياسية تقوم على تحويل أي منطقة من المناطق إلى «منطقة حرب».
فمن وجهة نظر السوفييت تعتبر كشمير المنقسمة على نفسها مثل كوريا المنقسمة، أو مثل الهند الصينية المنقسمة، أو مثل ألمانيا المنقسمة، أو مثل النمسا.
ولو كانت كشمير اليوم متحدة في ظل نظام ديمقراطي، ولو اتخذت مكانها هنا أو هناك بما يحقق رغبة سكانها، لعجز السوفييت عن أن يتخذوا منها رأسا للسهم الذي يريدون أن يصوبوه إلى شبه القارة في هذا الجزء من العالم.
والثابت تاريخيا أن الروس، منذ عهد القياصرة، كانوا يطمعون في الهند وفي الاستيلاء عليها، حتى إنه يروى أن بطرس الأكبر، مؤسس روسيا الحديثة، وقف في عام 1772 عندما وصل إلى خليج إستراباد على بحر قزوين وأشار إلى ناحية الهند ثم قال:
من هنا (أي من خليج إستراباد) إلى بلخ وباداكشان تستغرق الرحلة 12 يوما فقط على ظهور الجمال، ومن ذلك الطريق إلى الهند لا يمكن لأحد أن يعترضنا.
وقد حاول ستالين بعد ذلك أن يسير في نفس الطريق الذي سار فيه القياصرة، ونشط الحزب الشيوعي الهندي الذي كان يعمل في شبه القارة كله منذ عام 1920 في سبيل نشر مبادئه، ولم يعترف الحزب بقسمة شبه القارة إلا في شهر مارس من عام 1948 فانقسم هو الآخر إلى الحزب الشيوعي الهندي والحزب الشيوعي الباكستاني.
ولم يلق الحزب الشيوعي الباكستاني نجاحا يذكر في داخل الرابطة الإسلامية رغم ما بذله من نشاط، أما في الهند فكان له شأن آخر.
وإذا كان الشيوعيون، سواء في باكستان أم في الهند، لا يمثلون خطرا مباشرا في الوقت الحاضر. إلا أن الحالة الاقتصادية وانخفاض مستوى المعيشة الذي لا يمكن تحسينه فورا ويجب أن يستمر على حاله بضع سنوات أخرى، يقدمان للشيوعيين حقلا خصيبا لمباشرة نشاطهم.
ولذلك يتفق المراقبون، حتى ولو لم يكن التهديد الشيوعي مباشرا، في أن الموقف لا يدعو إلى الارتياح أو الطمأنينة، وخاصة إذا لم يدرس على حدة وإنما على ضوء اتصاله بالموقف في الناحية الأخرى من الحدود، أي في وسط آسيا السوفييتية وفي سنكيانج والتبت.
مشاكل السياسة
إن مشاكل الدولة الجديدة لا تنتهي عند هذه المشاكل التي فصلناها في الفصل السابق، وهي المشاكل التي جاءت نتيحة مباشرة لتقسيم شبه القارة، وإنما هناك مشاكل أخرى خطيرة يتطلب الأمر حلها، وقد عالجتها باكستان منذ أول نشأتها ومع ذلك فقد بقيت دون حل حتى الآن.
وأولى هذه المشاكل هي المشكلة الدستورية في الدولة الجديدة، فعلى الرغم من أن الدورة الافتتاحية للجمعية التأسيسية في باكستان قد عقدت في أغسطس من عام 1947، فإن هذه الجمعية التي كانت تقوم بمهمة مزدوجة هي مهمة وضع الدستور من جهة ومهمة الهيئة التشريعية للبلاد من جهة أخرى؛ لم تستطع، حتى العام الماضي، أن تؤدي واجبها للبلاد.
وقد تكون عملية وضع الدستور عملية شاقة معقدة، وقد كانت في حالة الباكستان بالذات أكثر تعقيدا وأشد صعوبة، وذلك بسبب طبيعة البلاد وتكونها من قسمين متباعدين أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، واختلاف السكان من مكان إلى آخر. ومع ذلك فإن الجمعية التأسيسية التي كانت تضم عددا كبيرا من محترفي السياسة أثبتت أنها عاجزة عن إتمام هذه العملية، فهي في الواقع لم تقدر خطورة المهمة التي اضطلعت بها ولم تبذل محاول جدية لإخراج الدستور الذي ظلت تتطلع إليه البلاد منذ نشأتها.
وكان من بين الانتقادات التي وجهت إليها أنها لا تجتمع في العام أكثر من أسبوعين أو ثلاثة ثم تنفض دون نتيجة.
وهكذا أخفق السياسيون في إرساء قواعد الحكم الدستوري، وشعر سكان الباكستان جميعا أن الديمقراطية في خطر.
وقد أثارت بعض أعمال الجمعية التأسيسية عاصفة من السخط في جميع أنحاء البلاد، حتى لقد دأب الناس على التساؤل عن مدى صلاحيتها للتعبير عن آرائهم، كما أصبحت قراراتها لا تصادف قبولا عاما من الشعب، وهو شرط أساسي من شروط وضع دستور متين، كما أخفقت الجمعية في بث روح الثقة في البلاد وروح الاستقرار بين الشعب، بل إن بعض قراراتها قد أحدثت آثارا عكسية، واتضح من جميع هذه الظروف أنها لم تعد في وضع يسمح لها بأداء وظيفتها بصورة فعالة.
وقد أثر ذلك في الوضع السياسي في البلاد نتيجة للتدهور السريع الذي أصاب الجمعية التأسيسية في هيبتها وسلطانها.
وإذا كانت عملية وضع الدستور أمرا بالغ الأهمية، إلا أن أمن البلاد واستقرارها أمر يفوق هذا في الأهمية بكثير. ولقد نشأت عن عملية وضع الدستور التي كانت تقوم بها الجمعية تطورات عرضت الوحدة القومية في باكستان للخطر، وذلك بما أثارته من شكوك وحزازات شخصية وطائفية وإقليمية، وقد اقتضت الضرورة وضع حد لهذه الأمور، لأن مصالح الدولة العليا يجب أن تقدم على أي اعتبار آخر، وهذا هو ما حدا بالحاكم العام إلى اتخاذ قرار الحل.
وقد اصطدم قرار الحل بمعارضة البعض ورفع الأمر إلى القضاء ولا زال الموقف غامضا. وهناك إجماع على ضرورة إجراء انتخابات جديدة أو استدعاء جمعية تأسيسية جديدة لوضع مشروع الدستور المرتقب والانتهاء منه بسرعة.
وهناك كذلك اقتراح بدعوة جمعية وطنية أو تأسيسية تتكون من البرلمانات المحلية في المقاطعات التي تتكون منها باكستان لكي يعرض عليها مشروع دستور، فإذا أقرته هذه الجمعية الوطنية جرت الانتخابات في ظرف عام أو عامين على أساس هذا الدستور، حتى تستقر الأوضاع الدستورية في البلاد.
وعلى أي حال فالآراء متفقة على ضرورة تصفية الموقف الدستوري والبرلماني في أقرب فرصة، إذ ليس في مصلحة البلاد أن يبقى معلقا أكثر من ذلك. •••
أما فيما يتعلق بالوضع السياسي العام لدولة الباكستان بين الدول الأخرى، فقد استقر الرأي على أن تصبح جمهورية مع استمرار وجودها في مجموعة الدول البريطانية المستقلة (الكومنولث)، وليس في هذا ما يتعارض مع مركز الباكستان كدولة مستقلة ذات سيادة.
ويعتقد المراقبون أن هذا القرار الذي اتخذته باكستان من شأنه أن يزيدها قوة، فإن اتحادا يضم الشعوب المتساوية الحرة، مهما كانت الرابطة بينها، لهو أفضل دائما من اتحاد يقوم على أساس الإجبار بين شعب قوي وشعب آخر أضعف منه.
وقد عرض هذا القرار على آخر مؤتمر عقدته دول المجموعة البريطانية (الكومنولث) فوافقت عليه، ومن المنتظر بعد أن تستقر الأوضاع الدستورية في الدولة أن تتم الإجراءات الخاصة بتثبيت أحكام هذه القرارات وتنفيذها، حتى تستقيم الأمور وتسير في خطوطها المرسومة. •••
وقد أثير لغط كثير حول اشتراك باكستان في الأحلاف العسكرية الخارجية، كما أنني أشرت في مكان آخر من هذا الكتاب إلى تلك الرغبة الملحة التي بدت من جانب الباكستان للاشتراك في حلف الشرق الأوسط (ميدو)، الذي عرض على مصر قبل إتمام اتفاقية الجلاء فعارضته ورفضته بشدة كما عارضت فيما بعد اشتراك العراق بوصفها عضوا في الجامعة العربية في حلف عسكري مع تركيا.
ولباكستان وجهة نظر خاصة في هذا الموضوع، إذ يرى المسئولون عن سياستها في الوقت الحاضر أن الوضع الجغرافي الذي تنفرد به في شبه القارة الهندية وإحاطتها بكثير من الدول التي تعتقد أنها ذات مطامع إقليمية؛ يجعل اشتراكها في التدابير الدفاعية الجماعية على جانبي حدودها أمرا ضروريا، وأن من شأن مثل هذا التعاون أن ينشر التقدم والسلام في ربوع جنوب شرق آسيا، وأن توقيع الباكستان ميثاقها مع تركيا وتحالفها مع الولايات المتحدة واشتراكها في منظمة الدفاع عن جنوب شرق آسيا يحقق هذا الغرض، وأن جميع الالتزامات التي ارتبطت بها باكستان ترمي إلى غرض واحد هو ضمان حرية البلاد وسيادتها.
وباكستان تؤمن بعالم تستطيع فيه الدول، كبيرها وصغيرها، قويها وضعيفها، أن تعيش في سلام ووئام متحررة من الخوف والعدوان والاستغلال الاقتصادي والسيطرة المذهبية، وهي تدين بمبدأ السعي لحل جميع المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، وهذا هو ما جعلها تؤكد في مؤتمر بانكوك أهمية بناء وتدعيم الصرح الاقتصادي والأخلاقي لأقطار جنوب شرق آسيا إلى جانب بناء صرحها العسكري.
وقد اعترفت الأمم التي اشتركت في هذا المؤتمر بأهمية الاقتراح الباكستاني.
وتعتقد الباكستان أن في وسعها أن تلعب دورا سياسيا إيجابيا وأن العزلة أو الحياد في الشئون الدولية أمر متعذر كما أن الضعف يشجع على العدوان، ولذا فهي تعمل دائما على تقوية نفسها بالتعاون مع الأقطار الحرة. •••
ومسألة العلاقات مع الهند هي الأخرى من أكبر مشاكل السياسة في باكستان، فقد تطور النزاع على كشمير بين الهند وباكستان حتى أصبح اليوم رمزا للخوف والارتياب، إذا لم نقل الكراهية، اللذين سيطرا على العلاقات بين الهند وباكستان غداة تقسيم شبه القارة.
حتى موضوعات النزاع التي ثارت بين الدولتين ولم يكن لها أدنى اتصال في بادئ الأمر بموضوع النزاع على كشمير، كمسألة المياه والأملاك ونصيب الباكستان من رصيد الدولة القديمة وغير ذلك ... كل هذه الموضوعات اندمجت في موضوع النزاع على كشمير حتى أصبحت جزءا منه.
وسعادة الباكستان، بل وسعادة الهند، بل إن الاستقرار في شبه القارة الهندية كله يتطلب التعاون التام لكي يمهد الفريقان السبيل لحياة هادئة واستقرار لشعبين كبيرين كانا في يوم من الأيام يعيشان في بيت واحد، وقد جمعت بينهما ذكريات الجهاد المشترك للخلاص من الاستعمار البريطاني الذي دام نحو قرنين من الزمان، إنهما شعبان كانا متحدين في يوم من الأيام ثم قضت الضرورة أن ينفصلا، ولم يكن الهدف من الانفصال إلا السعي وراء حياة أفضل وأكثر سلاما ... ولا تزال الصلات الطبيعية التي ربطت بينهما في الماضي أقوى بكثير من هذه الحدود التي اصطنعتها المعاهدات والاتفاقيات.
ولذلك فمن الخير ألا تقوم العلاقة بين الهند وباكستان على أساس هدنة مسلحة في كشمير، ومن الخير أن تعتمد كل دولة منهما على الأخرى اعتماد الجار على جاره، والصديق على صديقه، ومن الخير أن تحاول الدولتان التقريب بين حياتيهما في مختلف الميادين الاقتصادية والثقافية، بل وفي ميدان السياسة أيضا إذا أمكن ذلك ...
ويوم تصبح العلاقة بين الهند وباكستان مثل العلاقة بين الأمريكيين من سكان الولايات المتحدة والكنديين، لهو اليوم الذي تستقر فيه الأوضاع في شبه القارة الهندية ويستتب فيه الأمن ...
وقد أصبحت الباكستان حقيقة واقعة على خريطة العالم بعد أن كانت حلما، ولا يمكن أن تفكر الهند أو غير الهند في إزالتها عن هذه الخريطة كما توارد إلى خواطر البعض في أعوامها الأولى، إذ كلما مضى عليها عام ازدادت استقرارا وثباتا ... •••
وبرغم هذه المشاكل تشق الباكستان اليوم طريقها في الميدان الدولي وتسير فيه بعزم وثبات، ومواقفها في الأمم المتحدة مشهورة، فقد كانت تنتهز كل فرصة للدفاع عن حقوق الأمم الضعيفة مسلوبة الحرية التي أوقعها سوء طالعها تحت سيطرة دول أخرى.
ولهذا فقد انبرت في المحافل الدولية للدفاع عن قضايا فلسطين وليبيا وتونس ومراكش، وهي تعمل دائما على تعزيز كل ما من شأنه أن يوثق علاقتها بالعالم الإسلامي.
وقد عبر عن هذه السياسة رئيس وزراء الباكستان، إذ قال وهو يشير إلى الدول الإسلامية:
إننا نشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، ومصالحهم تماثل مصالحنا، وكل قوة أو نجاح يصلون إليه إنما هو قوة ونجاح لنا.
وما دمنا قد أشرنا إلى علاقة باكستان بالدول الإسلامية وتعلقها بها، فلا بد أن نذكر شيئا عن الأقليات الدينية التي تعيش فيها فقد تساءل العالم الخارجي كله بعد قيام الباكستان عن مركز هؤلاء الذين بقوا داخل حدودها من غير المسلمين ... وهل يجدون لهم مكانا في هذه الدولة التي قامت على أساس الدين الواحد المشترك؟
وقد عرفت باكستان، وعلى رأسها القائد الأعظم محمد علي جناح، أن وحدة البلاد ونهضة الوطن الجديد يستلزمان تضافر جميع الأيدي وتعاون جميع المواطنين الذين أقسموا يمين الولاء لعلم باكستان حتى ولو لم يكونوا من المسلمين. عرفت باكستان أن الدين لله والوطن للجميع، وأن المسلمين الذين كانوا يشكون من الاضطهاد الديني يجب أن يمنحوا الأقليات التي اختارت باكستان وطنا لها حريتها الدينية.
ولذلك فإن العالم لم يلبث أن أدرك بعد قيام باكستان أن الأقليات هناك تتمتع بحريتها التامة وأنها تمارس عقائدها دون أن يعترضها أحد بأي حال من الأحوال. وما لبث مسلمو الباكستان أن لمسوا تماما قيمة المعاونة التي يمكن أن يقدمها المواطنون، من غير المسلمين، في بناء الوطن الجديد، ومبلغ ما يسهمون به لمضاعفة ثروة الدولة في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وقد دل إحصاء عام 1951 على أن نسبة الأقليات في باكستان تبلغ 14,1 في المائة، وهي تتكون بحسب عددها من الهندوس ثم المسيحيين ثم الفارسيين
ثم البوذيين، ومعظم الهندوس يعيشون في شرق الباكستان وتبلغ نسبتهم هناك 23,2 من النسبة العامة للسكان، ومما يستحق الذكر أن أكبر عدد من الهندوس الذين يعيشون خارج حدود الهند هم الهندوس الذين يعيشون في باكستان، مع أن الهندوس ينتشرون في بلاد أخرى كثيرة مثل بورما والملايو وجنوب أفريقيا وشرق أفريقيا وإندونيسيا.
والبوذيون عرفوا معنى الحرية في ظل العلم الباكستاني، فإنهم يترددون على معابدهم ويؤدون شعائرهم الدينية ويمارسون حقوقهم ويؤدون واجباتهم مثل سائر المواطنين.
والمسيحيون في باكستان يبذلون قصارى جهدهم للاندماج في الحياة العامة، وكل منهم يقوم بدور المواطن الصالح الذي يعرف حقوقه وواجباته. وهكذا تعيش هذه الأقلية، وغيرها من الأقليات، مستمتعة بحريتها الكاملة في أداء شعائرها الدينية والتعبير عن آرائها ومعتقداتها، ويمكن أن نقول إنه يوجد في باكستان كنائس تمثل جميع العقائد المسيحية، وإن كانت غالبية المسيحيين هناك تنتسب للكنيسة الكاثوليكية.
والواقع أن معاملة الأقليات الدينية في باكستان تنطوي على سماحة تستحق الإعجاب وفهم لحقيقة مبادئ الإسلام؛ ففي المجالس النيابية بمختلف مقاطعات الباكستان أعضاء يمثلون الأقليات. وتحتل هذه الأقليات مكانتها في الحياة العامة ويتمتع أفرادها من الوجهة السياسية بنفس الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، ولا يحول الدين، كما لا تحول العقيدة، دون تولي أي منصب من المناصب.
وتسترشد باكستان في هذه السياسة السمحاء بما قاله القائد الأعظم محمد علي جناح يوم وجه الحديث إلى الأقليات التي آثرت العيش في باكستان:
إنكم أحرار، إنكم أحرار في الذهاب إلى معابدكم، أحرار في الذهاب إلى مساجدكم، أحرار في الذهاب إلى أي مكان من أمكنة التعبد في دولة باكستان هذه، وقد ينتسب الواحد منكم إلى أي مذهب وقد يعتنق أي عقيدة من العقائد، فهذا لا شأن للدولة به إطلاقا.
نهضة شاملة
على الرغم من تلك المشاكل الكثيرة الكبيرة التي تجابهها باكستان سواء في الميدان الخارجي كمشاكل كشمير والمياه وأفغانستان، أو في الميدان الداخلي كمشاكل اللاجئين أو الدستور أو ارتفاع الأسعار؛ فإن الدولة الجديدة سارت قدما منذ أول يوم من نشأتها فنهضت بالمرافق العامة رغم العقبات التي صادفتها وسجلت في جميع الميادين تقدما محسوسا، في سبيل النهوض بجميع هؤلاء الذين ضمتهم حدودها وأصبحوا من رعاياها الأوفياء كما أصبح لهم حقوق قبل هذه الدولة.
ولقد كان من أول المسائل الرئيسية التي واجهتها باكستان عقب التقسيم في عام 1947 مسألة دراسة الأرض التي أصبحت من نصيبها، ونسبة توزيع السكان في كل منطقة من المناطق وما تتطلبه إدارتها من أنظمة.
وعلى الرغم من العقبات التي واجهتها الباكستان نتيجة لبقاء الجزء الأكبر من نصيبها في الأدوات والآلات التي تستعمل في مسح الأرض في الهند، فإنها تمكنت من قطع شوط بعيد في هذا المضمار، فقد تم مسح نحو 11000 ميل مربع من أرض الباكستان مسحا عصريا، رغم أن جهود الباكستان كانت مركزة خلال السنوات القليلة الأخيرة في تنفيذ مشروعات الإصلاح، كما تمت عملية تعديل خرائط مساحات شاسعة جدا من الأرض.
ولقد أفادت مصلحة المساحة الباكستانية من استغلال وسائل المسح الجوي بواسطة الطائرات، فتم لها بهذه الوسائل مسح مئات الآلاف من الأميال المربعة.
وعلى الرغم من أن الجزء الأكبر من نصيب الباكستان من آلات الطباعة قد ترك في الهند، فإنه قد تم طبع ملايين النسخ من الخرائط المختلفة والرسوم.
وبدأت أول عملية للإحصاء في الباكستان في شهر فبراير من عام 1951، وكانت تشمل إحصاء عدد السكان وتقسيمهم إلى فئات من أصحاب الأراضي والمزارعين والعمال والمهاجرين.
وقد تبين من هذه العملية بعد إتمامها أن متوسط كثافة السكان في الباكستان يبلغ نحو 208 أشخاص للميل المربع الواحد، وهو في بعض المناطق أكثر منه في البعض الآخر، فإنه في إقليم الحدود الشمالية الغربية 240 شخصا للميل المربع، وفي البنغال الشرقية 777 شخصا للميل المربع، وفي البنجاب 302، وفي السند 91، وفي بلوجستان 11 شخصا.
وظهر من هذه العملية كذلك أن نسبة المسلمين بين سكان الباكستان تبلغ 85,9 في المائة، وأن 5,7 في المائة منهم من الهندوس، و7,2 في المائة من طوائف أخرى. أما نسبة المسلمين في الباكستان الغربية فهي 97,1 في المائة، وفي الباكستان الشرقية 76,8 في المائة.
وقد طلب إلى جميع المواطنين الباكستانيين الذين يقيمون في الخارج أن يسجلوا أسماءهم في أقرب سفارة أو مفوضية أو قنصلية باكستانية، فإذا لم يفعلوا ذلك في مدة سبع سنوات تبدأ من 13 أبريل سنة 1951 سقط حقهم في الجنسية الباكستانية. •••
وفي عام 1948 أعلنت حكومة الباكستان سياستها الخاصة بالتوظف، وكانت تقضي بالاحتفاظ ب 15 في المائة من الوظائف المركزية الكبرى لرعايا الباكستان المتعلمين في الخارج، وبترك ال 85 في المائة الباقية للمنافسة الحرة.
واتضح بعد ذلك أن بعض مناطق الباكستان لم تحصل على نصيبها في الوظائف، وبعد بحث مستفيض تقرر الاحتفاظ ب 20 في المائة من الوظائف الخالية ليعين فيها الموظفون بحسب جدارتهم، وتقسيم الباقي إلى أربع وحدات مستقلة تكون نسبة كل منها بحسب مقدار السكان الذين تضمهم.
وقد تم استيعاب عدد كبير من الموظفين الذين كانوا يعملون في الهند وحيدر أباد في وظائف الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم.
ولقد كانت قلة الموظفين من ذوي الخبرة لملء المناصب الكبرى ولا سيما مناصب وكلاء الوزارات ونواب الوزراء مشكلة بدت لأول وهلة عويصة الحل، إلى أن تقرر إيجاد الاحتياطي الإداري العام، وفي عام 1948 وعام 1950 دعي رجال الأعمال وذوو الخبرة والمتعلمون إلى الانضمام إلى هذا الاحتياطي، وتكررت الدعوة في عام 1952 وأسفرت في النهاية عن التغلب على هذه المشكلة.
وتبين في المراحل الأولى بعد التقسيم أن طبيعة العمل في وزارتي المالية والاقتصاد والتجارة تستدعي الاستعانة بموظفين من الخبراء المختصين ذوي المؤهلات العالية والكفاءات الممتازة، فتقرر في نوفمبر من عام 1950 إعداد طبقة من الموظفين المختصين من موظفي حكومة الباكستان ومن مصلحة مراجعة الحسابات.
ولكي تنفذ الحكومة المشاريع الإنشائية في الدولة على أساس منظم وضعت في عام 1950 برنامجا أسمته مشروع السنوات الست، بلغت تكاليف المشروعات التي تضمنها 2,600 مليون روبية.
وضعت الحكومة نصب عينيها واجبا سعت جهدها في تحقيقه، هو تصنيع البلاد بكل وسيلة ممكنة وتشجيع الاستثمار في المؤسسات الصناعية، وهي في سبيل هذا عدلت كثيرا في سياستها الضريبية، فقد أعفت الحكومة في العام الماضي ربع الأموال المستثمرة من ضريبة الدخل ومن غيرها من الضرائب، على ألا يزيد هذا الربع على عشر الدخل الكلي، ثم ما لبثت هذه النسبة أن تعدلت إذ أعفت الحكومة كل الأموال المستثمرة في الصناعة من هذه الضرائب على ألا تتعدى عشر الإيراد الكلي، مما كان له أحسن الأثر في الادخار وفي الاستثمار.
وامتد منح الامتيازات إلى الرجل العادي كذلك، وكانت الحكومة قد خفضت في عام 1951 كثيرا من ضريبة الدخل وعادت هذه السنة فزادت من نسبة الخفض، وكان من نتيجة هذا أن رفع الكثير من الأعباء عن كاهل الرجل المتوسط والمنخفض الدخل.
وشمل جدول الإعفاء من الرسوم حبوب الغذاء والخضراوات والأسماك واللحوم واللبن الطازج وخيوط الغزل اليدوي والأقمشة المغزولة والكتب المطبوعة.
وكذلك ألغيب ضريبة المبيعات على الأحجار والأدوية والعقاقير والمخصبات الكيميائية وورق الصحف والجلود المدبوغة وغير المدبوغة وهي المخصصة للتصدير ثم منتجات صهر الحديد.
ويمكن القول بوجه عام إن مركز ميزانيات الأقاليم الباكستانية قد تحسن كثيرا خلال هذه السنوات الخمس، كما يمكن أن يقال كذلك إنه لو رفع عن كاهل هذه الميزانيات ما تئن به من مصروفات تخصصها للاجئين، فإن مركزها يكون بلا شك أحسن من مركزها الحالي بكثير.
وفضلا عن هذا فإن الحكومة المركزية تمد يد العون المالي لحكومات الأقاليم منذ عام 1947، ويخصص هذا المال لإيواء اللاجئين والإصلاحات الزراعية وشق الطرق وتعزيز الحراسة البوليسية على الحدود والتعليم ورفع المستوى الاجتماعي وغيرها.
ولكي تتغلب الحكومة على المشاكل التي نجمت عن وفود ملايين اللاجئين إليها، فرضت ضريبة منذ عام 1950 ووزعت حصيلتها على مختلف وحدات اللاجئين في الدولة، وعلاوة على هذا فإن الحكومة منحت صندوق اللاجئين مبلغا قدره 250 مليون روبية، ولم تكتف الحكومة بذلك بل منحت بعض الأقاليم قروضا للصرف منها على اللاجئين، وقد بلغ مجموعها 30 مليونا. •••
وتظهر أجلى صورة للتقدم الذي أحرزته الباكستان خلال السنوات القليلة التي انقضت على قيامها في حركة تجارتها الخارجية، التي زادت واتسعت من عام إلى عام. ولم تترك طائفة من طوائف الشعب دون أن تكون قد عادت عليه بفائدة. وقد كان لزيادة الصادر من المواد الخام على المستورد من البلاد الأجنبية تأثير كبير على ثبات الاقتصاد الباكستاني، إذ نجم عن هذه الحالة توفر العملات والأرصدة الأجنبية .
وكان من أول ما اتخذ من إجراءات لتنمية اتصالات الباكستان التجارية بالخارج الاهتمام بموارد البضائع والخامات وإيجاد أسواق تبعث إليها بصادراتها. كما كان من أهم ما قامت به الباكستان خلال هذه السنين قرارها الذي اتخذته بصدد عدم تخفيض قيمة روبيتها، ذلك القرار الذي اتخذته وهي تتطلع إلى رغبتها الصادقة في تنمية مصالح منتجي المواد الخام المعدة للتصدير، وإلى رغبتها كذلك في خلق ظروف مواتية يمكن معها نشر الصناعة في البلاد.
ومن الحق أن نقول إن مركز الباكستان بالنسبة لميزان المدفوعات لم يكن يستدعي تخفيض عملتها، كما أن مركز صادراتها من المواد الخام لم يكن يحتم اتخاذ هذا القرار، ولذلك فقد كان قرار الباكستان الخاص بعدم تخفيض قيمة عملتها متمشيا مع المصلحة العامة ... ولكي توفر الباكستان لنفسها مجالا لتجارتها الخارجية وقعت مع عدد من الدول على اتفاقيات تجارية ثنائية، وراحت منذ عام 1947 تستقبل البعثات الأجنبية المختلفة التي وفدت إليها للبحث في إمكان عقد هذه الاتفاقيات التجارية، كما أرسلت هي بدورها إلى الخارج بعثات تجارية مماثة لعقد اتفاقيات جديدة أو لتجديد اتفاقيات موجودة فعلا.
وكانت الباكستان في كل هذه الأعمال تحاول أن تنظم صادراتها من المواد الخام حتى تستطيع أن تحصل على رءوس الأموال والأدوات اللازمة لتنمية الصناعة فيها، ولتحصل كذلك على أكبر قسط من سلع الاستهلاك الواجب توافرها لتفي بحاجة أهلها.
وما لبثت الباكستان أن خطت خطوة أخرى لزيادة تجارتها الخارجية، وذلك بإنشاء مجلس لتنمية التجارة الخارجية؛ ليكون أداة صلة بين الحكومة ومختلف رجال الأعمال، وقد ألف هذا المجلس لجنة لتنمية الصادرات مهمتها التوصية بالخطوات التي يراها لزيادة الصادر.
ونتيجة لكل هذه الخطوات استطاعت الباكستان خلال هذه السنوات أن تزيد من تجارتها الخارجية إلى حد كبير وأن تحسن كثيرا من ميزان مدفوعاتها، وكان هذا التحسن الملموس نتيجة لمضاعفة مقدار الصادرات وارتفاع أسعار موادها الخام. وقد بلغ احتياطي العملات الأجنبية بالباكستان في يناير من عام 1950 مبلغ 980 مليون روبية، فأصبح في مارس عام 1951 مبلغ مليون و380 ألفا وفي مارس عام 1952 مبلغ مليون و480 ألفا. •••
وعلى الرغم من أن زراعة الباكستان من الحبوب قد جعلتها قادرة على كفاية نفسها بنفسها، فإن حاصلاتها التجارية كالقطن والجوت والشاي قد مكنتها من الحصول على مبالغ كبيرة من العملة الأجنبية التي تحتاج إليها.
وقد زادت مساحة الأراضي المزروعة في الباكستان من 47221000 فدان في عام 1949-1950 إلى 48090000 فدان في عام 1950-1951 بزيادة 1,8 في المائة، وفي الوقت نفسه زادت مساحة الأراضي المزروعة قطنا من 2862000 فدان في عام 1949-1950 إلى 3011000 فدان في عام 1950-1951.
وعلى الرغم من أن الباكستان بلد زراعي، فإنها غنية بالمعادن والغابات والأسماك، وقد كانت مسئولية استغلال الثروة المعدنية قبل التقسيم تقع على عاتق حكومات الأقاليم، ولكن حكومة الباكستان أصدرت في شهر ديسمبر من عام 1948 قانون تنظيم المناجم وآبار البترول، وأخذت على عاتقها هذه المسئولية، وبعد عام واحد من صدور هذا القانون أصدرت الحكومة قانون إنتاج البترول وقانون امتياز المناجم. •••
ولما كان البترول أهم ما تحتاج إليه الباكستان لصناعتها وتجارتها، فإن الأبحاث قائمة على قدم وساق سعيا وراء اكتشاف آبار جديدة، وقد تم اكتشاف كميات كبيرة منه في البنجاب وجيلوم وروالبندي، وهناك كميات أخرى - ليست كبيرة - في ميانوالى وفى خور وأتوك بالبنجاب. أما في جويامير فإن البحث عن البترول قد أدى إلى نتائج مشجعة، ولو أن نوع الناتج منه ليس بالجودة التي تمتاز بها الأنواع الأخرى، ويتبين من ذلك أن الإنتاج الخاص بالبترول في ازدياد مطرد منذ أن تم إنشاء الباكستان. •••
وقد كان البحارة الباكستانيون هم العمود الفقري في الأسطول الهندي قبل التقسيم، ثم أنشئ الأسطول الباكستاني في أغسطس عام 1947 من بحارة الباكستان في الأسطول الهندي السابق. وكان الأسطول الباكستاني يتكون من البوارج المضادة للطائرات، والبوارج المضادة للغواصات، وكاسحات الألغام، وسفن صيد السمك، وكاسحات الألغام الأوتوماتيكية، والزوارق التجارية التابعة لحراسة الشواطئ.
وقد وضعت في السنوات الأخيرة مشاريع ضخمة، كما بذلت جهود كبيرة لإعداد الأسطول الباكستاني وتنظيمه وتثبيت أركانه ورفعه إلى المستوى الحالي الذي وإن كان صغيرا إلا أنه يعتبر قوة بحرية فعالة تستطيع أن تساهم في الدفاع عن الباكستان في حالة الخطر .
وكان هدف الأسطول الباكستاني الأول هو تنظيم ما هو موجود فعلا وتثبيت أركانه لا توسيعه، فحولت مدرسة المدفعية في مانورا (بالقرب من كراتشي) إلى مؤسسة تدريبية مشتركة تحوي مدرسة للمدفعية ومدرسة كهربائية ومدرسة لدراسة الإشارات ومدرسة للرادار ومدرسة للتموين وأعمال السكرتارية.
وعلى الرغم من السرعة التي تم بها هذا التغير فإنه برهن عن فائدته في تزويد البحرية بطلباتها العاجلة. وقد أنشئت كذلك مدرسة لتدريس الميكانيكا، واتخذت إجراءات سريعة لإرسال بعض رجال البحرية للتخصص، كما استعير عدد من الإخصائيين من البحرية الإنجليزية، واتخذت إجراءات سريعة أخرى لإنشاء مخازن للمهمات البحرية في كراتشي تعمل على مد الأسطول بمستلزماته ولو على نطاق محدود.
وأخذ الأسطول الباكستاني خلال السنوات الأولى لتأسيس الدولة يتسع اتساعا يتمشى مع مصادر البلاد، فمنذ أن تم التقسيم أضيفت ثلاث مدمرات إلى الأسطول، وكانت هذه تعمل في المياه الإقليمية الباكستانية بالاشتراك مع البوارج وكاسحات الألغام على تدريب الضباط البحريين على شئون الدفاع عن ساحل البلاد وعن الطرق البحرية. •••
وقد قام الأسطول برحلات بحرية في داخل المياه الإقليمية وخارجها وقام بزيارات ودية ورحلات تدريبية، وأبحرت هذه القطع في رحلاتها إلى أستراليا ونيوزيلندا وإندونيسيا والملايو وبورما وتركيا وشرق أفريقيا وإيطاليا واليونان والمملكة العربية السعودية، وقامت بمناورات وتدريبات بالاشتراك مع بعض السفن الحربية الحديثة بهذه البلاد.
وفي عام 1951 انضمت سفن البحرية الباكستانية في تشكيلة واحدة مكونة بذلك أسطولا صغيرا يحمل علم البحرية الباكستانية ويقوم بإجراء برامج التدريب، ولم يمض وقت طويل بعد إنشاء هذا الأسطول حتى اشترك في التمرينات الحربية التي تجرى سنويا لتدريب طلاب الكلية الحربية في كويتا.
وتقوم البحرية الباكستانية بعمل سلمي ملحوظ في الوقت الحاضر هو مسح المياه الإقليمية للباكستان.
ويلاحظ أن تجنيد الضباط وذوي الرتب العالية يزداد ازديادا ملحوظا، وهناك عدد كبير منهم يمضون فترة التمرين في المملكة المتحدة ومؤسسات التدريب التابعة للبحرية الباكستانية.
ولما كانت الباكستان مكونة من وحدتين متباعدتين فقد استلزم ذلك قيام حلقة اتصال بينهما عن طريق البحر، ولذا استدعت الضرورة أن يكون لها أسطول تجاري يتطلب بحرية ضخمة لحماية الطرق التي تسير فيها هذه السفن، وبالإضافة إلى ذلك فإن الباكستان بلد زراعي ينتج مواد أولية تصلح للتصدير كما يستورد البضائع الهامة، والأدوات الميكانيكية، ويعتمد التقدم الصناعي والاقتصادي في البلاد على سلامة مختلف الطرق البحرية، ولا يتم ذلك إلا بوجود أسطول يقوم بحماية هذه الطرق وساحل البلاد الطويل.
نموذج للقوة والحيوية والثقة بالمستقبل. أحد جنود بحرية الباكستان.
أما جيش الباكستان، غداة التقسيم، فكان مفتقرا إلى الرجال والعتاد والنظام، وكان يتكون آنذاك من 150 ألفا من الضباط والجنود، وسبب ذلك أن عددا كبيرا من الضباط والجنود الذين كان يرجى أن تتكون منهم نواة الجيش قد تركوا مبعثرين في شتى أنحاء الهند، أما اليوم فالجيش مجهز تجهيزا تاما وقد زيد عدده زيادة كافية كما ثبتت أركانه حتى غدا قوة عسكرية فعالة.
وتم استقلال الجيش الباكستاني عام 1951 بتعيين قائد عام باكستاني، واستبدال رئيس أركان الحرب وضباط الأركان البارزين في القيادة العامة وغيرهم من كبار الضباط في المراكز الرئيسية،
1
وتقدمت الأكاديمية العسكرية الباكستانية تقدما محسوسا منذ إنشائها في عام 1948 لما اشتهرت به من دقة التدريب، كما تسير كلية أركان حرب سيرا حسنا جذب إليها الطلاب من داخل البلاد وخارجها، ويرسل الجيش ضباطا إلى المعاهد العسكرية المشهورة في الخارج لاستكمال تدريبهم، ولا يزال سلاح المشاة هو العمود الفقري لجيش الباكستان. •••
أما سلاح الطيران الباكستاني فقد أخذ هو الآخر يزود نفسه بأحسن المعدات، وهو يحاول دائما أن يحصل على أحدث المعدات بسرعة.
ولما كانت الخدمة في الطيران تتطلب جهودا خاصة، فقد أنشئت مراكز عدة للتجنيد في شرق الباكستان وغربه، وتقوم فرق التجنيد بجولة في كل ناحية من نواحي الباكستان.
وقد بدت في السنوات الخمس الماضية تحسينات ظاهرة في طرق التدريب لسلاح الطيران الذي يبذل غاية جهده لكي يزود نفسه بما يحتاج إليه، وقد أعيد تنظيم معاهد التدريب السابقة حتى تساير أحدث الطرق المتبعة، وقد ابتدأت كلية سلاح الطيران الباكستاني عملها في سبتمبر عام 1947، وهي تقوم بتدريب طياري الخدمات العامة. وبازدياد عدد الطلبة في الكلية وفي قسم الأسراب الجوية في الجامعة ازدادت الحاجة إلى مدرسين يقومون بهذا العمل، وقد اتخذت خطوات سريعة لمواجهة هذا النقص، وقد قامت مدرسة الصنائع بتخريج عدد كبير من الفنيين وساعدتها في ذلك مدرسة الإشارات اللاسلكية ومدرسة الرادار.
ويبدو نشاط السلاح في سلسلة الرحلات التي قام بها في السنوات الخمس الماضية والتي تشهد له بالفخر، ففي هذه الفترة حلقت طائراته فوق المملكة المتحدة والملايو وإيران وتركيا، وتشهد الرحلات الجوية التي تقوم بها طائراته بين شرق وغرب الباكستان بمهارته. •••
وباكستان دولة ناشئة لم ينقض من عمرها أكثر من ست سنوات، ولكنها مع ذلك استطاعت خلال هذه الحقبة القصيرة من عمرها أن تسجل تقدما في شتى الميادين الفنية.
ولعل ما أحرزته من تقدم في ميدان الفن هو أروع ما يستحق التسجيل، ومن هنا كان حرص المسئولين على أن يطلعوا الصحفيين المصريين خلال زيارتهم الأخيرة على مدى التقدم الفني في باكستان.
ففي اليوم التالي لزيارة الصحفيين المصريين لكراتشي دعتهم محطة الإذاعة اللاسلكية المشهورة باسم «راديو باكستان» إلى زيارتها، وقدمت لهم في هذه الزيارة عدة برامج من غناء وموسيقى، منها الكلاسيكي ومنها الحديث.
ومع تمسك باكستان بالدين الإسلامي وتقاليده، فإن ذلك لم يحل دون الاهتمام بترقية الفن ومتابعة تطوراته مع الحرص على التقاليد الشرقية.
وأول ما يستلفت النظر في الفن الباكستاني هو أنه مستمد من طبيعة بيئة شبه القارة الهندية، ولا يكاد يفترق كثيرا عن الفن الشرقي القديم، ولعل ذلك راجع إلى أن أولئك الذين أسسوا دولة الباكستان كانوا قبل مولد دولتهم جزءا من الهند، فتشبعوا بفنها القديم ولم يعمدوا بعد ذلك إلى تغييره، لأن الفن لا يعرف وطنا.
والشيء الثاني الذي يستحق التسجيل هو أن الفن الباكستاني الحديث يعتبر صورة حية لتكوين الباكستان السياسي، فالمطربون والمطربات يحرصون جميعا على أن يسجلوا في أغنياتهم نوازعهم الوطنية القومية، وعلى الأخص ما يتعلق بحبهم لوطنهم الناشئ وتمسكهم به، وكان طبيعيا أن يستلهم هؤلاء الفنانون من شعر «إقبال» الأب الروحي للوطن الباكستاني.
فقد كان الشاعر «إقبال» أول من بشر بالباكستان، وله في ذلك دواوين خالدة من الشعر الجميل الذي يجمع بين البلاغة والحكمة والجمال.
والشيء الثالث الذي يستلفت النظر هناك هو أن النهضة السينمائية جاوزت ما كان يتوقعه النقاد الفنيون في الدول الشرقية، فقد كانوا يظنون أن تمسك الباكستان بالدين قد يقف حجر عثرة في سبيل هذه النهضة السينمائية، إلا أن الواقع هو أننا لمسنا أثناء زيارتنا مدى تفتق الوعي السينمائي في هذه البلاد، فقد رأينا أنهم أنشئوا «استديو» في كراتشي وأنفقوا عليه مبالغ كثيرة، وأخذوا يخرجون وينتجون الأفلام النظيفة التي شهد النقاد بأنها لا تقل روعة عن الأفلام التي تنتجها أرقى الدول الشرقية، وكلها باللغة الأوردية.
ومما يستحق التسجيل أن سوقا جديدة قد فتحت للفيلم المصري في باكستان ... فقد أعلنت دور السينما مدة وجودنا عن قرب عرض أول فيلم مصري، وقد لقي هذا الإعلان ترحيبا قلبيا صادقا من الباكستانيين، الذين يعتزون بصداقة مصر وبكل ما هو مصري سواء كان شخصا أم سلعة أم فنا.
الإصلاح الزراعي
تعتبر الباكستان في جوهرها بلادا زراعية يعيش زهاء 85٪ من سكانها في القرى، وإنك لتجد ملايين من المزارعين الباكستانيين منتشرين في قراها وفوق جبالها وفي أحضان وديانها وعلى ضفاف أنهارها ونهيراتها الجميلة وهم يجدون ويعملون. لقد بزغ عليهم فجر الحرية، ولكن شمس التحرر التام من المرض والفقر والجوع - وهي العلل التي يشكون منها - لم تبزغ بعد.
قال القائد الأعظم محمد علي جناح يوما: «لقد حبتكم الطبيعة بكل شيء، فلديكم موارد غير محدودة، وها هي ذي دعائم دولتكم قد أرسيت، وعليكم الآن أن تبنوا وتبنوا بسرعة وبقدر ما في مستطاعكم».
إن الإجراءات الإصلاحية التي تتخذ لتعديل ملكية الأراضي في بلد كالباكستان تدور في معظمها حول هدف واحد، هو الاستعاضة عن الملكيات الكبيرة الشاسعة التي يفلحها المستأجرون الزراعيون بوحدات زراعية صغيرة يملكها أولئك الذين يفلحونها.
ولقد ظهرت مشكلة هذه الإقطاعيات الكبيرة بأجلى معانيها في الباكستان الشرقية التي قامت حكومتها فعلا باتخاذ إجراءات تشريعية للقضاء على هذا النظام الإقطاعي، كما اتخذت إجراءات مماثلة في إقليمي الحدود الشمالية الغربية والبنجاب ، وهما الإقليمان اللذان تكثر فيهما الإقطاعيات الكبيرة التي يطلق عليها اسم «جاجير»، وكانت تمنح مجانا في الماضي.
وتقضى هذه الإجراءات بمنح حقوق ملكية هذه الأراضي للمزارعين الذين يفلحونها، ولا شك أن تحويل ملكية هذه الأراضي إلى الفلاحين يعتبر عملا صائبا، وذلك لأن هنالك ارتباطا عاطفيا بين المزارع وقطعة الأرض التي يفلحها، وهذا هو الاعتبار الذي قامت عليه سياسة الإصلاح الزراعي التي تتبعها حكومة الباكستان.
والباكستان بإتاحة الفرصة للملايين من المزارعين أو المستأجرين المزارعين لامتلاك مزارع خاصة بهم تخطو نحو تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين الحالة الاقتصادية العامة، وهما الأمران اللذان يعتبران هدفا لسياستها الزراعية، وإذا كانت لم تتمكن من تحقيق نتائج سريعة في هذا المضمار فقد كان السبب في ذلك هو الصعاب المالية والاقتصادية.
وقد زار مصر في مستهل عام 1955 بير علي محمد راشدي الذي كان من أكبر المرحبين بوفد الصحافة المصري في باكستان عام 1953، وقد علمت منه عندما قابلته هنا أنه حضر إلى مصر ليدرس قانون الإصلاح الزراعي الذي كان باكورة نتاج الثورة المصرية، ومع أنه ينهض في السند بشئون وزارتين خطيرتين هما وزارة الإيراد ووزارة الصحة، فإن أهم ما يشغل ذهنه في الوقت الحاضر هو دراسة قانون الإصلاح الزراعي في مصر.
ولما سألته عن سر اهتمامه بهذه الدراسة بدأ في الحال يحدثني عن سياسة باكستان الحالية فيما يتعلق بالزراعة، قال:
لقد خلف لنا الاستعمار فيما خلفه نظاما هو الإقطاع بعينه، ونحن نطلق عليه في باكستان اسم (جاجير دار)، فقد كان المستعمرون يهبون أنصارهم ومؤيديهم والمخلصين لهم مساحات هائلة من الأرض ويعفونها من دفع الرسوم والضرائب ...
وكان ذلك في عام 1843 عندما أغار الإنجليز على ولاية السند، وقد استمرت هذه الإقطاعات في أيدي أصحابها ممن كانوا في الأصل من أعوان الاستعمار، حتى انتقل بعضها إلى أبنائهم وأحفادهم ...
وتبلغ مساحة هذه الأراضي (الجاجير دار) في السند نحو مليون فدان يملكها نحو 80 شخصا فقط، ولذلك فقد قررت بمجرد أن توليت منصبي الوزاري أن أخلص البلاد من هذا النظام الفاسد، وأن أعيد توزيع الأراضي على الفلاحين الكادحين الذين يزرعونها.
وقد اتجه تفكيري في الحال إلى شقيقتنا مصر، وقلت لنفسي إنه من العبث أن نجرب نظاما جديدا، وما دامت مصر قد نفذت نظام الإصلاح الزراعي الذي نال شهرة في العالم كله فلننتفع إذن بتجاربها في هذا الميدان.
ولهذا جئت إلى مصر وكلي رغبة في دراسة قانون الإصلاح الزراعي دراسة عملية، إذ أردت أن أعرف الصعوبات التي اعترضت القانون في مراحله الأولى، ونتائج الإصلاح في عامه الأول، والوحدة الاقتصادية التي سار عليها النظام، ومدى الإنتاج.
كل هذه مسائل هامة حضرت لدراستها في مصر قبل أن نقدم على إلغاء النظام القائم في باكستان حتى نفيد من تجارب مصر في هذا النظام.
واستطرد يقول:
وسوف أحمل معي كل ما يتعلق بقانون الإصلاح الزراعي في مصر، وسوف نحاول أن نطبقه عندنا في باكستان بعد أن ندخل عليه من التعديلات ما يتلاءم مع حالة بلادنا.
كما أنني دعوت الأستاذ سيد مرعي لزيارة باكستان حتى يساعدنا بآرائه، وقد قبل الدعوة.
وقد اقترح علينا البعض أن نجرب طريقة فرض الضرائب التصاعدية على ملاك الإقطاعيات الزراعية ولكننا فضلنا هذه الفكرة، مترسمين خطى مصر في ذلك، إذ إننا لا نريد أن ينتظر الفلاح عشرات السنين حتى تئول إليه الأرض، بل نريد أن يشعر من الآن أن الأرض أصبحت أرضه، وأن نعيد إليه العزة والكرامة كما فعل جمال عبد الناصر وجمال سالم في مصر.
ولم تكتف حكومة الباكستان بالعمل على تنفيذ الإصلاح الزراعي، ولكنها علاوة على ذلك أعدت برنامجا شاملا للنهوض بالقرية ينطوي على ضرورة إعادة بناء الحياة في القرى حتى يتسنى لسكانها أن يحيوا حياة ميسورة صحيحة.
وأول ما يرمي إليه هذا البرنامج زيادة وتحسين الإنتاج الزراعي، فقد لوحظ أن الصعاب التي جابهتها البلاد في الماضي كان منشؤها قلة المياه، أو قلة المعلومات عن طرق صناعة أو استخدام الأسمدة أو المخصبات الكيماوية بأنواعها أو مقاومة الحشرات بالوسائل الزراعية الحديثة، أو قلة المعلومات عن طرق تحسين التقاوي والمعدات، أو عدم وجود نظام سليم للتسليف الزراعي .
والعناية الصحية أمر مرتبط بمشكلة تحسين الأحوال الزراعية، وذلك لأن سوء الحالة الصحية ينشأ عن تلوث مياه الشرب أو خزانات المياه أو التربة أو البيئة أو عن الحشرات الناقلة للأمراض أو انعدام الغذاء الصحي أو العناية الصحية وأسباب الوقاية من بعض الأمراض أو عدم وجود وسائل التهوية المناسبة. يضاف إلى كل هذا اختفاء التعليم بسبب عجز الناس هناك عن إدراك قيمة التعليم للبنين والبنات أو لقلة المدارس والمدرسين والمعدات.
ومن الأمور التي لا تزال بحاجة إلى العناية في القرية مسألة التدبير المنزلي؛ إذ إن ربة البيت الريفي لا تزال بحاجة إلى من يعلمها طرق تدبير شئون بيتها بمصادرها المحدودة، وطرق تقديم وجبات متنوعة من الطعام، وحفظ المأكولات، وتحسين أحوال المعيشة بتجميل البيت، وفصل الحيوانات عن الآدميين، وبناء صوامع منفصلة للغلال.
ومن الأمور الأخرى الهامة في حياة القرية زيادة أسباب التسلية فيها بإدخال الألعاب الرياضية فيها وإنشاء الملاعب وتدريب القرويين على شتى الألعاب وتشجيعهم على متابعة النشاط الرياضي والثقافي، وتهيئة بعض الأعمال الإضافية للقرويين ليزاولوها في أوقات فراغهم، وبذا يتسنى لهم زيادة دخلهم.
وكل هذا هو ما تعمل الحكومة بهمة على إدخاله في المجتمع الزراعي بالباكستان كعلاج لأمراضه المستعصية.
النهضة الصناعية
كان من أول المناطق التي زرناها في باكستان المدينة الصناعية الجديدة التي تضم مصانع النسيج والبلاستيك والكيماويات، وهي تقع على مقربة من كراتشي، وقد كان مما يثير الإعجاب حقا أن نرى ذلك النشاط الصناعي وهو يدب في بلاد جديدة كان المفروض أن تعتمد على الزراعة فقط.
ولكن باكستان كانت قد اقتنعت منذ نشأتها، كما اقتنعت مصر في عهدها الجديد، بأنه لا يمكنها الاعتماد على الزراعة فقط إذا أرادت أن تعيش وأنه لا بد من التصنيع لرفع مستوى الأهالي.
ولذلك فإنه يتبين من تتبع التقدم في حياة باكستان خلال السنوات الماضية منذ نشأتها في عام 1947 أنه قد حدث انتقال تدريجي من سياسة الاعتماد على الزراعة إلى سياسة التصنيع بجانب الزراعة.
ولذلك فقد كانت الصناعة من أهم المسائل التي شغلت بال الحكومة الباكستانية ومن أولى الأمور التي بحثتها، وذلك لمعرفة مدى حاجة البلاد إليها وتحديد مصادرها ثم وضع سياسة صناعية تقوم بتنفيذها.
فما إن انقضى على قيام الدولة الجديدة أربعة شهور إلا وعقدت الحكومة - وكان ذلك في ديسمبر سنة 1947 - مؤتمرا للصناعات قصد منه تهيئة الوسائل لتحسين الحالة المعيشية للشعب عن طريق الإفادة من الموارد الطبيعية وتوفير العمل المريح، ثم حمايتهم من العوز وتهيئة الفرص المناسبة لهم، وأخيرا توزيع الثروة توزيعا عادلا.
وقد اهتم المؤتمر كذلك بدراسة حالة المؤسسات الخاصة والفردية حتى لا تتمكن من فرض سياسة احتكار ما تتداول فيه من سلع، وقد وجدت الحكومة من الضروري أن تضع المبادئ والقوانين لهذه المؤسسات، وفعلا أصدرت كثيرا من التشريعات الخاصة بهذه الشئون.
وكانت أول خطوة قامت بها الحكومة في هذا الصدد هي إصدار التشريعات الخاصة بتحديد المسئولية والخاصة بالتعدين والكشف عن آبار البترول والموارد المعدنية الأخرى، وكان قانون المناجم وحقول الزيت أول قانون صدر في عام 1948 متضمنا الاشتراطات اللازم توفرها لمنح الامتيازات.
وكان ثاني قانون هو القانون الخاص بالنهضة الصناعية وقد صدر في سنة 1949، ويتضمن مدى المساعدة التي تمنحها الحكومة لرجال الصناعة ومدى ما يسمح به للصناعة الفردية من حقوق.
وقد عمدت الحكومة بقصد إشاعة الثقة في نفوس الناس وتدفق رأس المال في الميدان الصناعي إلى إنشاء اتحاد للتمويل الصناعي، يعمل على أساس تجاري ويقوم بمنح قروض طويلة الأجل ومتوسطة الأجل للمؤسسات وللجمعيات التعاونية.
وأنشأت الحكومة اتحادا لتنمية الصناعات لكي يهتم بتنفيذ الأهداف والأغراض التي تتوخاها الحكومة، ومن أغراض هذا الاتحاد النظر في إمكان إقامة مصانع إنتاج يمولها أفراد لصناعة الجوت والورق والآلات الهندسية والعقاقير والمخصبات وبناء السفن، وإلا فإن الاتحاد - في حالة عدم إمكان قيام الأفراد بها - يوصي الحكومة بأن تضطلع بها بنفسها.
يجرى البحث بهمة في باكستان عن آبار جديدة للبترول.
وعمدت الحكومة كذلك إلى زيادة وسائل تسهيل الائتمان في البلاد، وكان لتأسيس بنك الدولة الباكستاني أثر كبير في هذا السبيل، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن المصارف الخاصة قدمت كثيرا من هذه المساعدات.
وللمساعدة في تكوين رءوس الأموال ألغت الحكومة بعض الضرائب التي كانت مفروضة إما على الأرباح وإما على رءوس الأموال، ورحبت الحكومة برءوس الأموال الأجنبية التي تدفقت على البلاد لاستثمارها في الميدان الصناعي ولم تفرض عليها أي شروط خاصة. وكان للسياسة الحكيمة التي اتبعتها من السماح لرءوس الأموال الباكستانية بالمشاركة في الصناعات التي أقامتها العناصر الآتية من الخارج؛ تأثير عميق في المستثمرين أنفسهم.
وتحقيقا لسياسة الحكومة في تنمية الصناعة أنشئ مكتب للتعريفة الجمركية وتحديدها على هدي مطالب رجال الصناعة وحاجة البلاد إلى حماية صناعاتها المحلية، وقد أفاد من وضع هذه التعريفات كثير من الصناعات.
وأنشئت كذلك إدارة للبحث العلمي الصناعي وذلك لتقديم كل ما يمكن من معونة للصناعة، وكان أول عمل قامت به هذه الإدارة أن أنشأت معملا لاختبار المواد الخام المخصصة للصناعة بطريقة علمية، حتى تتأكد من ارتفاع مستوى الإنتاج.
وعلاوة على هذا فإن هذه الإدارة ترسل إلى الخارج بعثات لتلقي التدريب العملي في المصانع الكبيرة المشهورة، كما أنها تهتم بدراسة المصادر المعدنية في البلاد ومدى إمكان الإفادة منها.
وفد الصحافة المصرية في زيارة أحد مصانع نسج الحرير بكراتشي.
ومما يذكر أن كثيرا من البلاد الأجنبية تقوم بتدريب بعض الفنيين الباكستانيين لديها تعزيزا لروابط الصداقة والمودة بينها وبين باكستان.
وهناك كثير من المشاريع الإنشائية التي اعتمدتها الحكومة وهي بسبيل إتمامها، وقد تضمن مشروع السنوات الست كل هذه المشروعات. ومع أن الحكومة معنية بتنفيذ هذه المشروعات إلا أن هناك بعض عقبات حالت دون الإسراع في تحقيقها، ومنها تعذر الحصول على بعض المواد الخام من الخارج، ولهذا فقد اهتمت الحكومة بالإسراع في تحقيق المشروعات التي تتوفر موادها الأولية في الباكستان ذاتها، والتي يتسنى بواسطتها كفاية البلاد نفسها بنفسها. ومن هنا ظهر مشروع السنتين، وهو مشروع تبنته الحكومة وليس للمؤسسات الخاصة دخل فيه.
وينطوي هذا المشروع على تشجيع الصناعات الآتية: القوى والوقود - الجوت - المنسوجات - الورق - الأسمنت - الأدوية - العقاقير الطبية والكيمائيات - الجلود والأحذية - المواصلات التليفونية - بناء السفن وإصلاحها - إنتاج الزيوت.
مشاريع القوى
من الحقائق المعروفة أنه لا صناعة ما لم يكن هناك قوى محركة لإدارة المصانع، ومن سوء الحظ أن الباكستان تعاني نقصا في هذه القوى سيما أن مشاريع إنتاجها لم تتم إلى الآن، وتصنيع هذه الجهات التي تكون أقسام الباكستان لم يكن بالأمر الذي يسترعي اهتمام العهد السابق، لأن البلاد كانت تحصل على حاجياتها وقتئذ إما عن طريق استيرادها من الخارج، وإما عن طريق إنتاجها في بعض أجزاء الهند الأخرى.
ولما كانت الباكستان تعاني نقصا في الفحم والزيت، فإنها أولت مشاريع القوى الاهتمام الأول، وذلك بعد أن درست حالة مواردها من هذين المعدنين، وبعد أن اكتشفت أنها قد تستطيع أن تتغلب على هذه الصعاب بما يتوفر من هذه المواد في أرضها.
ومما ساعد على توليد القوى وجود الأنهار بكثرة في كل من الباكستان الغربية والشرقية؛ ففي الباكستان الغربية تنبع الأنهار من الهمالايا وتصب في سفوح البنجاب والسند، وفي الباكستان الشرقية شبكة كبيرة من الأنهار المتقاطعة المتشعبة، وكان بالباكستان الشرقية والغربية عند تنفيذ التقسيم من هذه القوى 76030 كيلووات، أما اليوم وبمقتضى المشروعات الموضوعة فسيمكن مضاعفة هذه القوة عدة مرات.
المرأة الباكستانية
قاست المرأة في هذا الجزء من العالم اضطهادا شديدا وأنكرت عليها حقوقها حتى نهاية القرن التاسع عشر، مما اضطرها إلى أن تلازم منزلها وأن تخضع لنظام قاس من ألوان الحجاب أطلق عليه اسم «البردة»، ولا تزال آثاره باقية عند طبقات قليلة إلى اليوم ... وقد بدأت حركة نهضة المرأة في أواخر القرن التاسع عشر باستيقاظ الوعي السياسي والاجتماعي، فأسست بعض الجمعيات النسائية وصدرت في مدينة لاهور في عام 1886 مجلة أسبوعية نسائية اسمها «تهذيب النسوان»، وقد قامت هذه الجريدة بجهود كبيرة في سبيل نهضة المرأة المسلمة في الهند، وفي عام 1913 تأسس اتحاد النساء المسلمات في الهند على يد بيجوم بهوبال.
وعندما أعاد القائد الأعظم محمد علي جناح تنظيم الرابطة الإسلامية بالهند، سارعت السيدات المسلمات إلى الاشتراك في الحال وبذلن جميعهن كل مرتخص وغال في سبيل إنشاء دولة باكستان، وفي أثناء هذا الصراع قبض على كثيرات من بينهن وأودعن السجون.
والدور الذي لعبته المرأة في سبيل استقلال باكستان أو في سبيل إنشائها لا يقل عن الدور الذي لعبته المرأة المصرية في عام 1919 عند بدء جهاد مصر من أجل الاستقلال، وإذا كان الحجاب في ذلك الوقت لم يمنع السيدات المصريات وعلى رأسهن صفية زغلول وهدى شعراوي من القيام بالمظاهرات، فإن البردة لم تمنع المرأة الباكستانية من الجهاد في سبيل حرية بلادها.
كما أن البردة لم تمنع المرأة في باكستان في العشرين سنة الأخيرة، بل قبل ذلك، من مباشرة حقها في التصويت وفي الانتخاب، وقد برزت كثيرات من الباكستانيات في مختلف الجمعيات والهيئات التشريعية.
ويعترف دستور الباكستان بحق المرأة في العمل والكسب كالرجل تماما. •••
وفي كراتشي يمكنك أن تستأجر «بسكليت» تجلس على مقعد أعد عليها ثم يقودها لك رجل آخر تنقده أجره عندما تصل إلى المكان الذي تقصده.
ويمكنك أن تستأجر دراجة بخارية (موتوسيكل) بنفس الطريقة، فتجلس على مقعد أعد على الموتوسيكل ثم يقود الموتوسيكل رجل آخر بل إن المقعد يتسع لشخصين، ويمكنك أيضا أن تجد إلى جانب الدراجة والموتوسيكل سيارات فاخرة من آخر طراز.
وهكذا أيضا المرأة في الباكستان ... فهناك سيدات لا تزال البردة تمنعهن من الخروج أو الظهور، وهناك فتيات وسيدات يقمن بجميع ما تقوم به المرأة الغربية، بل إن بعضهن يعمل في أسطول الباكستان وبعضهن في الجيش وبعضهن يكون حرسا وطنيا.
قال لنا سائق السيارة الذي أقلنا من المطار إلى المدينة: هل عندكم بردة في مصر؟
وفهمت أنه يقصد الحجاب بوجه عام فقلت له: إنها في طريق الزوال.
ثم سألته: وعندكم؟
قال: إنها لا تزال موجودة في بعض طبقات وإن كانت قد زالت من طبقات أخرى.
سألته: وأنت إذا أردت أن تتزوج هل تحرص على أن تكون زوجتك من أهل البردة؟
وحار الرجل في الإجابة ثم قال: إنني شخصيا قليل العلم ويجب أن أتبع تقاليد أبي وأمي وقبل أن أتزوج ينبغي أن استشيرهما ... وأمي لا تزال محافظة على البردة ولا شك أنها ستطالبني بأن أتزوج واحدة مثلها، بل إنها هي التي قد تختار لي زوجتي.
سألته: وهل لك أن تبدي رأيك فيها؟
ونظر إلي الرجل دهشا وهو يقول: وكيف أبدي رأيي وأنا لا أراها إلا في ليلة الزواج؟!
وأخذ يشرح لنا ما كنا نسمعه من آبائنا وأجدادنا في مصر منذ نصف قرن تقريبا، عندما كان الآباء والأمهات يزوجون أبناءهم وبناتهم دون استشارتهم ودون أن يتقابل الطرفان.
وشكل البردة ومنظر المرأة الباكستانية وهي ترتدي البردة من المناظر التي تسترعي نظر من يزور باكستان لأول مرة ...
فالبردة عبارة عن عباءة كبيرة واسعة فضفاضة تكسو المرأة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها بحيث لا يظهر منها شيء مطلقا، أما عند الوجه فقد أعدت ثقوب صغيرة جدا كثقوب الكلة (الناموسية) في مواجهة العين حتى يمكنها أن ترى الطريق وهي تسير.
هذه هي البردة التي ترتديها غالبية نساء باكستان حتى اليوم، تلبسها المرأة عند خروجها من المنزل إلى السوق أو إلى الطبيب أو إلى المستشفى، ذلك لأن تقاليد المرأة في باكستان لا تسمح بخروجها إلا لأمر هام جدا لا يمكن قضاؤه وهي في منزلها ...
والبردة ذات أشكال وألوان مختلفة ولكنها جميعا لا تختلف عن هذا الوصف الذي ذكرناه، واللون الشائع هو الأبيض وقد يرجع السبب في تفضيله إلى حرارة الجو.
ومع صرامة التقاليد التي تمنع المرأة من مغادرة منزلها إلا لأمر هام، فإنه ليس غريبا أن ترى نساء يرتدين البردة وقد جلسن إلى جانب أزواجهن في دور السينما لمشاهدة الروايات الغرامية والاستماع إلى أغاني العشق والهيام ... بل لقد رأيت ما هو أعجب من هذا، رأيت فتيات وسيدات في مكتبة جامعة لاهور وقد ارتدين البردة وانتحين جانبا من القاعة وأخذن يطالعن في الكتب والمراجع المختلفة.
بل رأيت في المجلس النيابي بالولايات الشمالية «عضوين» من النساء، وقد جلستا في أحد أركان القاعة وأخذتا في الاطلاع على جدول الأعمال ومتابعة المناقشات والاشتراك فيها، وكلتاهما ترتدي «البردة» السوداء اللون، وسألت عنهما فقيل لي إنهما من أنشط أعضاء المجلس النيابي وإنهما يواظبان على الحضور أكثر من الرجال، كما أنهما تدافعان عن رأيهما بحرارة ... كل ذلك من وراء ستار البردة.
ولكن إذا كان بعض الرجال يسمحون لبناتهم أو لنسائهم بالقيام بمهام التمثيل السياسي أو بالتردد على المكتبات أو الجامعات وهن مرتديات «البردة»، فإن هناك رجالا آخرين لا يسمحون لفتياتهم أو لنسائهم بمغادرة المنزل إلا في حالتين اثنتين، هما حالة الفرح وحالة الحزن.
ويبدأ ارتداء البردة في سن مبكرة، إذ لا تكاد الفتاة تبلغ الثالثة عشرة من عمرها حتى يلزمها أهلها بارتداء البردة، وإذا ارتدتها فإنها غالبا لا تخلعها إلا بعد موتها.
كنا نزور قبائل الشمال المعروفة باسم «الباتان»، وهي قبائل لها تقاليدها الخاصة التي تحافظ عليها ولا تتخلى عنها، كما أنها أشد محافظة على التقاليد من أهل الولايات الأخرى، وكان معنا في السيارة أحد أعيان تلك الجهات وهو يعرف هناك باسم «سيد»، لأنه لا يتبع قبيلة معينة وإنما يعتبر نفسه قاسما مشتركا بين جميع القبائل بحكم نسبه الشريف.
قال لنا إنه لم يشهد السينما الناطقة بعد!
ولما سألناه: لماذا؟ قال: لأن آخر فيلم شهدته كان يمثل ابنة أمير شرقي تقع في غرام رجل أجنبي، وكان ذلك في عهد السينما الصامتة منذ أكثر من 30 عاما.
واستطرد الرجل قائلا: ومنذ رأيت هذا الفيلم صممت على ألا أدخل السينما، وقد بررت بوعدي.
وسألته: وزوجتك وبناتك هل يترددن على السينما؟
ونظر إلي الرجل مستنكرا، ثم قال: إن زوجتي وبناتي لا يغادرن المنزل بتاتا، فكيف تريد منهن أن يشاهدن السينما؟!
قلت: ولكن ... ماذا تفعل زوجتك أو ابنتك إذا أرادت أن تشتري شيئا؟!
قال: إنها تكلفني بما تريد وأنا أقوم بشرائه ...
قلت: وهل يعجبها ما تشتريه لها؟
قال: طبعا، لأنني أعرف ذوقها، وكل ما أشتريه لها يعجبها.
قلت: ولكن زوجتك طبعا ترتدي البردة إذا اضطرت للخروج.
قال: نعم.
قلت: فكيف حصلت زوجتك إذن على البردة التي ترتديها عند الخروج؟
أجاب الرجل وهو يبتسم لهذا السؤال: «إذا أرادت زوجتي أو إحدى بناتي أن (تفصل) لنفسها بردة، فإني أستدعي الترزي إلى المنزل وأجلسه في حجرة منفصلة وأتلقى منه التعليمات اللازمة للقياس، ثم أدخل أنا إلى زوجتي أو ابنتي وأقيس لها طولها وعرضها ثم أسلم القياس للترزي! «وفي يوم آخر يحضر الترزي إلى المنزل ومعه «بروفة» البردة فتقيسها زوجتي أو ابنتي وتبدي ملاحظاتها عليها وأنقل أنا إليه هذه الملاحظات، وبعد ذلك يرسل إلي البردة بعد إتمامها ...
وسألت الرجل: ولكن كيف يتم الزواج إذا كانت التقاليد لا تسمح بالاختلاط؟
قال: إن النساء هن اللاتي يقمن بهذه المهمة فيخطبن البنات لأولادهن ...
وسادت فترة صمت طويلة ... قطعها الرجل أخيرا بقوله: ومع ذلك فنحن نكرم المرأة وإذا تزوجت الفتاة فإن والدها يمنحها عند زواجها نصيبها من ممتلكاته كاملا ... حتى نصيبها في أثاث منزله ومقتنياته يجب أن تحصل عليه عندما تتزوج، هذا عدا نفقات الزواج!
وضحك السيد ثم قال يختتم الحديث: وأنا مثلا عندي أربع فتيات، ولا شك أنه عندما يتم زواجهن جميعا سأكون قد أفلست تماما ... أليس كذلك؟ •••
وإذ كنت قد شهدت البردة في باكستان وسمعت حديث الحجاب وحديث المرأة التي لا تغادر منزلها، فقد رأيت أن أشهد صورة أخرى للمرأة الباكستانية الحديثة، ولذلك طلبت مقابلة البيجوم لياقت علي خان
1 (أو قائد الملة) ... وتمت المقابلة بمنزلها في ضواحي كراتشي.
وقد كانت أول مقابلة لها مع أعضاء الوفد الصحفي كله، ولا أزال أذكر كيف كانت تحدثنا في هذه المقابلة عن آمالها وآلامها، وكان من بين ما قالته لهم في لحظة من لحظات حماستها إن بعض الرجعيين المتعصبين من الرجال يعارضون تقدم المرأة ولا يشجعونها على خلع البردة، وقالت إنهم بذلك يشيعون الشلل في نصف المجتمع ... وقالت: إنه لا يرجى تقدم إلا إذا تخلصنا من هذه الذقون!
ورفعت بيجوم لياقت نظرها فإذا بها تفاجأ بوجود شخص له لحية بين المستمعين! وضحكت البيجوم وقد أصابها شيء من الخجل، ثم وجهت الحديث إلى صاحب اللحية قائلة: إنني آسفة! ولكن ذقنك أنت قصيرة على كل حال، ليست من نوع الذقون التي أتحدث عنها! ...
وقد أعجبت منذ المقابلة الأولى بشجاعة بيجوم لياقت علي خان، التي تعتبر اليوم زعيمة الحركة النسائية في باكستان؛ فقد رأيتها متحررة ثائرة تطلب العدالة والمساواة لبنات جنسها، ولهذا التمست مقابلة خاصة فأجيب طلبي على الفور.
وخيل إلي أنني أتحدث إلى المغفور لها هدى هانم شعراوي، فطلبت منها أن تحدثني عن تاريخ النهضة النسائية في باكستان، فانطلقت تتحدث في حماس تقول:
لقد نجم عن تقسيم شبه جزيرة الهند إلى دولتين مذابح كثيرة، ورأيت من واجبي وواجب نساء الباكستان المساهمة في تمريض الجرحى والمنكوبين، وخاصة بعد أن شهدنا حوادث القتل بأعيننا.
وإن المرأة لتولد وحب التمريض في قلبها، ولذلك رأيت استغلال هذا الشعور فناديت بنات وطني ودعوتهن للجهاد في سبيل إغاثة المنكوبين ...
وبدأ بعد ذلك وفود ملايين اللاجئين من الهند، فكانت مشكلة جديدة تقتضي مساهمة النساء.
ثم ألفنا فرقة من المتطوعات الباكستانيات، وكان لا بد من تأليفها إذا عرفت أن هناك ستين ألفا من النساء المسلمات أخذهن الهنود في عام 1947 عند التقسيم.
ولقد رأينا من الضروري أن تتعلم المرأة فن الدفاع عن نفسها حتى يمكنها استخدام هذا السلاح عند الضرورة.
في ذلك الوقت ناديت بضرورة تعليم فن التمريض، فأصبح تعليمه إجباريا كتعليم الفنون العسكرية ... وتكونت من المتطوعات فرقة نسائية باسم «الحرس الوطني للنساء الباكستانيات»، ما لبثت أن صارت جزءا من الجيش الوطني، وكان الجيش نفسه هو الذي يقوم بتدريبها.
وتتكون الفرقة كلها من المتطوعات، وكانت مدة التمرين في بادئ الأمر ستة أشهر، ولكنها خفضت بعد ذلك إلى ثلاثة.
وقد أصبح لدينا اليوم ثلاث فرق، في كل فرقة 800 امرأة ... ويتراوح سن المتطوعات من 16 إلى 60 سنة، وأهم ما يتعلمنه النظام.
إن المرأة نصف المجتمع، ولقد ظلت المرأة في باكستان نحو 2000 سنة وهي خاملة مهملة، فكان لا بد من القيام بنهضة لإيقاظها.
وقد وصل بنا التفكير إلى ضرورة توحيد الجهود المبذولة لتحرير المرأة الباكستانية، فأنشأنا اتحادا نسائيا اسمه «اتحاد نساء الباكستان»، ومن أهم شروطه أنه لا يتدخل في السياسة، ولا صلة له بالحكومة إطلاقا، ولأي امرأة في باكستان حق الالتحاق به بغض النظر عن جنسيتها أو دينها أو لغتها.
ويستهدف اتحاد جميع نساء الباكستان المشهور باسم
APWA
رفع مستوى المرأة الباكستانية، وذلك بإنشاء عيادات للمرضى، والبحث عن صناعات للاجئين، وتوجيه الساقطات إلى حياة أفضل، وافتتاح المدارس للتعليم بالمجان ...
ونحن نعتمد على أفراد الشعب في جمع الأموال اللازمة للقيام بهذه المشروعات.
إن المرأة في باكستان تتمتع بالمساواة مع الرجل في الحقوق السياسية، وقد خصص لنا رئيس الوزراء الأسبق بعض مقاعد في الجمعية التشريعية، ولذلك لا تخلو مجالسنا التشريعية بمختلف الولايات من نساء يقمن بأعمالهن في ميدان النيابة خير قيام.
ومن رأيي أنه يجب أن تستمر هذه السياسة، فتحجز لنا في المجالس النيابية مقاعد بين الأعضاء، إلى أن نستعد للقيام بواجبنا الانتخابي، وتصبح المرأة الباكستانية قادرة على استخدام حقوقها في الانتخابات ...
وإنني أنتهز هذه الفرصة لأبعث إلى نساء مصر، بالنيابة عن جميع نساء الباكستان، بأصدق التحيات وأطيب الأماني وأكبر الأمل في أن يصلن في مرحلة البعث الوطني إلى كامل حقوقهن الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
المؤلف في زيارة بيجوم لياقت علي خان.
إننا نرتبط اليوم، إلى جانب صلة الدين المشترك والصداقة القديمة الوطيدة، بروابط جديدة من المصلحة المشتركة في تقدم المرأة في العالم كله وبخاصة في البلدان المتأخرة.
ولا تقتصر هذه الروابط على نيل الحقوق والمطالب، بل إنها تجاوز هذا إلى ما هو أعظم كميدان العواطف المشتركة، والمسئوليات الخطيرة التي تتحملها، سواء في المنزل أو في الأمة أو في الإنسانية ... وهي المسئوليات التي تمليها الحقوق والمطالب.
إن نساء الباكستان يشتركن بنصيب ملحوظ في الحياة الوطنية، وهن يكافحن بشجاعة وأمل في حل المشكلات التي نشأت عن تأسيس الوطن الباكستاني المستقل عام 1947.
ولهذا فإنهن يبعثن عن حب وعطف، هو وليد التجارب، بتحيتهن إلى شقيقاتهن في مصر، وهن يتطلعن إلى الأمام في سبيل إحكام الروابط وتعزيز أواصر الصداقة والمصالح المشتركة بينهن جميعا.
والواقع أن تقدم المرأة الذي شاهدناه في الباكستان ليس حديث العهد، بل إنه يرجع إلى ألف عام مضت عندما كان المسلمون يحكمون القارة الهندية، والتاريخ الإسلامي يزخر بشخصيات نسائية عظيمة تزعمت الحركة الفنية والثقافية والسياسية في هذه المنطقة حتى فقن الرجال في مختلف هذه الميادين.
ومن بين هذه الشخصيات الكبيرة: السلطانة رضية إمبراطورة عائلة العبيد، فقد حكمت البلاد برقة نسائية متسمة بحزم ومقدرة خلال القرن الثالث عشر الزاخر بالأحداث، وثارت جيوشها خلال معارك عديدة، وماتت في ميدان القتال في إحدى الحروب الأهلية.
وكانت البيجوم جولبادان، ابنة الإمبراطور بابر - أول عظماء ملوك المغول - من أعظم الشخصيات التي عنيت بالفن والثقافة، ونشرت مذكرات رائعة باللغة الفارسية عن أخيها الإمبراطور همايون.
واشتهرت السلطانة سليمة، ابنة أخت الإمبراطور همايون، بقرض الشعر باللغة الفارسية، وكانت تنظم الشعر تحت اسم مستعار هو «مخفر»، وتزوجت ابن عمها الإمبراطور «أكبر» الكبير، وكانت مربيته تدعى «مهام أنجا» وكانت تتمتع بثقافة عالية وأنشأت كلية في دلهي.
ويمكن مقارنة السلطانة «شاند» ملكة «دكن» بجان دارك الفرنسية، فقد كانت باسلة جريئة هاجمت جيوش الإمبراطور «أكبر» العظيمة التي اجتاحت مملكتها وقاتلتها قتالا مريرا.
وأنجب القرن السابع عشر الإمبراطورة «نورجهان» أي نور العالم، وهي من ألمع النساء في التاريخ وأكثرهن فتنة، وقد كان تأثيرها عظيما على السفراء الأجانب الذين أتيح لهم الاجتماع بها في بلاط زوجها الإمبراطور جهانكير، فكتب عنها سير هوكنس وسير توماس رو وإدوارد تيري وويليام فنشي يشيدون بنبوغها العظيم وفتنتها وذوقها ... كان لها ذوق في الأزياء (الموضة) ووضعت رسوما جميلة رائعة للملابس والأبسطة والسجاد، ولا تزال نساء الباكستان حتى يومنا هذا يقلدن ما وضعته من رسوم المجوهرات والأزياء وهندسة البيوت من الداخل وتزيينها وتجميلها.
وقد بدأت العصور المظلمة للمرأة في الباكستان بسقوط الإمبراطورية المغولية في القرن الثامن عشر واستمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر ... وفي خلال هذه الفترة عزلت المرأة واختفت وراء «البردة» أو الحجاب الباكستاني.
وبانتهاء القرن التاسع عشر بدأت المرأة تستيقظ من جديد على أثر الحركات الإصلاحية التي قامت في البلاد، وأخذت النساء المتعلمات ينشئن الجمعيات والهيئات النسائية، وظهرت في لاهور عام 1886 المجلة الأسبوعية النسائية «تهذيب النسوان» وقد أنشأتها البيجوم محمدي ، ويرجع إلى هذه المجلة فضل إنهاض المرأة المسلمة في الهند.
وفي عام 1913 خرج إلى الوجود مؤتمر النساء الهنديات المسلمات في «بهوبال».
وفي عام 1917 اجتمع هذا المؤتمر في مدينة «بونا» أيضا، وبدأت النساء يبدين نشاطا كبيرا في أعمال المؤتمر، ولهذا المؤتمر الفضل في إنشاء كلية ليدي إروين في دلهي.
ولكن سرعان ما أدركت المرأة أنها لا تستطيع تحقيق أية إصلاحات كبيرة في النواحي الاجتماعية والثقافية إلا إذا أحرزت نفوذا في الميدان السياسي.
وهكذا بدأت المرأة تشترك في الكفاح في الرابطة الإسلامية في الهند، وقد أدى نشاطها هذا إلى اختيار البيجوم جاهانارا شاه نواز عضوا في مؤتمر المائدة المستديرة الذي عقد بلندن في عامي 1930 و1932، وكان من نتيجة ذلك أن نص الدستور الذي صدر عام 1935 على تحرير أكثر من 60 مليون امرأة، وتخصيص مقاعد للمرأة في جميع المجالس التشريعية تقريبا.
وقد لعبت البيجوم شاه نواز دورا هاما في الحياة السياسية في بلادها، فاشتركت في عدد من المؤتمرات الدولية إلى أن انتخبت بالإجماع في عام 1937 عضوا في مجلس الرابطة الإسلامية لكل الهند.
وقامت المرأة بنصيب كبير في حركة العصيان المدني التي قامت في البنجاب عام 1947، وتعرضت لرصاص المستعمرين ووحشيتهم وبطشهم، واعتقل عدد كبير من الزعيمات.
وعندما تم تقسيم شبه القارة بين الهند والباكستان أنشأت البيجوم لياقت علي خان جمعية من المتطوعات لمساعدة اللاجئين من الهند إلى الباكستان.
ولقد استوحت دولة الباكستان مبادئها من الروح الديمقراطية فمنحت المرأة المساواة في الحياة السياسية مع الرجل، وهكذا أتاحت لسيدتين أن تبرزا في الجمعية التأسيسية والمجالس التشريعية، وهاتان السيدتان هما: البيجوم شاه نواز والبيجوم إكرام الله، وقد قامتا بجهود رائعة لوضع التشريعات الخاصة بالحقوق الأساسية للمواطن ولطوائف الأقليات، وقد حققتا بذلك مبدأ المساواة بين المرأة والرجل لا في ميدان الحياة السياسية فحسب بل وفي الأجور أيضا.
وكان طبيعيا أن تؤدي نهضة المرأة الباكستانية إلى مواجهة مشكلة جديدة، هي الاختيار بين البقاء في بيتها أو الخروج منه إلى العالم الواسع لشق طريقها في الحياة واختيار عمل مستقل تعتمد عليه في معيشتها ...
واختارت المرأة الباكستانية الطريق الأخير، ولكنها حرصت على عدم قطع صلتها بمطبخها وبمنزلها.
وهكذا أصبحت المرأة تعمل الآن في مختلف نواحي النشاط القومي في الباكستان.
إننا نجدها في الوظائف العامة الكبرى وفي الجيش وفي هيئات التدريس في الجامعات وفي المصارف وفي مهنة الطب وغيرها من المهن الحرة ... فقد منح الدستور المرأة الباكستانية حق المساواة التامة في جميع الفرص الممنوحة للرجال.
ولم تكتف المرأة بذلك بل اقتحمت أيضا ميدان الصناعة، فقد أنشأت السيدة رضية غلام علي مصنعا تديره وتشرف عليه بنفسها، كما تعمل الآنسة سيدة نجفي، وهي إخصائية في صناعة النسيج، مستشارة فنية لمصنع كبير للنسيج.
واقتحمت الدكتورة أمينة رحمان ميدان الطاقة الذرية، فهي تقوم بأبحاث دقيقة في هذا المضمار.
أما الأديبة السيدة حجاب امتياز علي فقد اختارت التحليق في الأجواء العليا وأصبحت أول طيارة مسلمة في الباكستان، وقد شاركتها في هذه الهواية الآنسة روكسانا رضا، بينما اختار عدد آخر من النساء العمل في شركات الطيران كمضيفات وموظفات.
ويعمل عدد كبير منهن في محطة إذاعة الباكستان، وبعضهن يتولى مناصب هامة كمشرفات على مختلف برامج الإذاعة.
واجتذبت الصحافة عددا كبيرا من النساء، فأخذن يعملن في مختلف نواحي النشاط الصحفي.
ولم تنس المرأة الباكستانية أن جيش بلادها منذ، أيام حكم المغول، كان يضم عددا كبيرا من النساء، وأن الأميرات المغوليات كن يتلقين تدريبا عسكريا كاملا.
ولذلك أنشئ في أوائل عام 1948 الحرس الوطني لنساء الباكستان، وهو يهدف إلى إنشاء جيش من النساء لتقديم الخدمات العامة والطبية في حالة الطوارئ، وبدأ يعمل على تخريج ضابطات من مختلف الرتب، وتستطيع كل امرأة أن تنضم إلى الحرس بصرف النظر عن جنسيتها أو عقيدتها الدينية، على ألا يقل سنها عن 16 ولا يزيد عن 50 عاما. وينقسم الحرس إلى قسمين: قسم (أ) وتتعهد عضواته بالعمل في جميع أنحاء البلاد، وقسم (ب) ولا تعمل عضواته إلا في المناطق التي يقمن فيها.
وشعرت الباكستان في عام 1949 بحاجتها إلى متطوعات في البحرية، فأنشأت فرقا من الاحتياطي النسائي للبحرية الباكستانية، لا بقصد احتلال مكان الرجل بل لمساعدته في شتى الشئون.
وقد انضم إلى فرقة الأطباء في الجيش عدد كبير من الطبيبات يعملن كضباط نظاميين.
وقد أبدت نساء الباكستان اهتماما شديدا بشئون الدفاع المدني وأقبلن على التطوع إقبالا كبيرا، وقد أنشئ في مدينة كراتشي عدد كبير من مراكز التدريب الخاصة بهن.
وحكومة البنجاب تعد قسما خاصا للنساء في منظمة الدفاع المدني، وقد اشتركت المرأة أيضا في جميع الهيئات الخاصة بالدفاع الوطني في مختلف الولايات، وبفضل هذا الشعور الوطني العظيم أصبح القسم الأكبر من شعب الباكستان مدربا تدريبا كافيا للعمل في حالة الطوارئ. •••
ولم يقتصر نشاط المرأة في الباكستان على حدود بلادها، بل تعداه إلى الميدان الدولي.
ففي عام 1947 مثلت البيجوم تصدق حسين بلادها في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفي عام 1948 و1949 رافقت البيجوم لياقت علي خان زوجها، وكان رئيسا للوزراء في ذلك الوقت، في رحلتيه إلى بريطانيا وقامت بدراسة واسعة للمشاكل الاجتماعية والوسائل التي تتبعها الهيئات النسائية في بريطانيا لمواجهتها وحلها.
وعندما عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة دورتها الثالثة في مستهل عام 1948، اختيرت البيجوم شايستا إكرام الله مندوبة عن بلادها في الجمعية، واشتركت في أعمال اللجان الاجتماعية والقانونية والإنسانية بوصفها مندوبة عن الباكستان.
وفد نساء باكستان إلى الصين الشيوعية.
ومما يذكر أن الجمعية العامة أقرت في دورتها هذه ميثاق حقوق الإنسان.
وفي خلال إقامتها في باريس اتصلت البيجوم إكرام الله برئيس الاتحاد الدولي النسائي ووضعت الأسس لضم الاتحاد النسائي الباكستاني إلى الاتحاد الدولي.
وفي عام 1949 مثلت بلادها في المؤتمر الدولي البرلماني الذي عقد في دبلن وطالبت بوضع ميثاق دولي لحماية الطفولة وخاصة من ويلات الحرب.
وكانت قبل ذلك قد مثلت بلادها في مؤتمر الأدباء الذي عقد في أدنبره، وكانت هذه أول مرة تشترك فيها الباكستان في مؤتمر دولي أدبي.
وقامت المرأة الباكستانية بنشاط رائع في الولايات المتحدة خلال عام 1949 حتى جذبت إليها جميع الأنظار.
فقد أقيم في نيويورك في ذلك العام المعرض الدولي السنوي السادس والعشرون، ومثلت الباكستان فيه البيجوم إقبال حسين مالك والبيجوم نذير أحمد، وانتزعت الباكستان الجوائز الأولى والثانية والثالثة في أشغال الإبرة، وقامت مندوبتا الباكستان بتقديم مسرحيات قومية وإلقاء أحاديث وخطب من محطات الإذاعة والتليفزيون في الأمم المتحدة وجمعيات الشابات المسيحية واتحاد الناخبات الأمريكيات، وعقدتا عدة مؤتمرات صحفية لإطلاع الرأي العام على أحوال الباكستان وتقدم المرأة فيها.
وقامت البيجوم لياقت علي خان بنشاط هائل عام 1950 عندما رافقت زوجها في رحلة رسمية إلى الولايت المتحدة، فقد اتصلت بعدد كبير من الشخصيات الأمريكية وتحدثت إليهم عن بلادها وقامت بدعاية لوطنها على نطاق واسع لم يسبق له مثيل، وقد زارت أيضا في رحلتها هذه دول الشرق الأوسط.
وفي ذلك العام أيضا مثلت البيجوم إكرام الله بلادها في دورة الأمم المتحدة التي عقدت في ليك سكسس.
وفي مايو 1951 دعتها وزارة الخارجية الأمريكية لزيارة الولايات المتحدة، فقبلت الدعوة وزارت جميع الولايات الأمريكية وألقت سلسلة من المحاضرات والأحاديث القيمة عن الباكستان وتطورها وتقدمها وأهدافها.
وقامت زعيمات الباكستان بتمثيل بلادهن في كثير من المؤتمرات الدولية الهامة، ومنهن البيجوم سعيدة وحيد التي مثلت الاتحاد النسائي في اجتماعات لجنة حقوق الإنسان في جنيف، والبيجوم أنور غلام أحمد وقد مثلت الاتحاد قي مهرجان بريطانيا، حيث أتيح لها في هذه المناسبة فرصة الاتصال بعدد كبير من الشخصيات وزيارة معاهد رعاية المرأة والأطفال والمستشفيات الخاصة بهم.
الصحفيون المصريون عند زيارتهم للآنسة فاطمة جناح شقيقة القائد الأعظم وهي من زعيمات النهضة النسائية في باكستان.
وعهد إلى البيجوم حسين مالك بتمثيل بلادها في المؤتمر الدولي الإقليمي للهيئات غير الحكومية الذي عقد في «بال»، وانتخبت رئيسة للجنة الثالثة التي عينها المؤتمر للبحث في وسائل نشر المعلومات والأنباء عن نشاط اليونسكو والهيئة الصحية الدولية وهيئة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.
وقد رافقت البيجوم هارون زوجها عندما عين مندوبا ساميا للباكستان في أستراليا، ومنذ وصولها إليها قامت بنشاط كبير في مختلف الميادين الاجتماعية والنسائية، وقد عملت بمساعدة بعض سيدات أستراليا على إنشاء صندوق إغاثة الباكستان.
وفي العام الماضي اختارت الباكستان البيجوم شاه جهان منهيم لتمثلها في مؤتمر الشبيبة العالمية في نيويورك.
وشهر مارس من عام 1952 يعتبر حدثا تاريخيا هاما بالنسبة للاتحاد النسائي لا في الباكستان فحسب بل بالنسبة للعالم الإسلامي أيضا.
ففي ذلك الشهر انعقد أول مؤتمر عالمي نسائي ودعيت إليه مندوبات عن جميع البلاد الإسلامية، واشتركت فيه نساء مصر وتركيا وإيران والعراق ولبنان وإندونيسيا، وكان عملا رائعا يدل على الشعور بالروابط المشتركة والتضامن بين نساء العالم الإسلامي، وقد رأست جلسات المؤتمر البيجوم لياقت علي خان، وهي التي نظمت المؤتمر ودعت إليه.
واشتركت في المؤتمر ثلاث عشرة مندوبة من خارج الباكستان يمثلن مختلف الهيئات التي تعتز بالخدمات والمسائل الاجتماعية، مثل: جمعية رعاية الأمهات والأطفال الإيرانية، وجمعية المنزل العربي، وجمعية الهلال الأحمر العراقي، واتحاد النساء العراقي، وجمعية النهضة النسائية المصرية، واتحاد النساء المسلمات في إندونيسيا.
وقد انقسم المؤتمر إلى عدة لجان للبحث في المشاكل المتصلة برفع مستوى الاقتصاد والصحة والتعليم والفن والثقافة، ووضعت هذه اللجان عدة مشروعات تهدف جميعها إلى تحسين أحوال المعيشة وزيادة الإنتاج ووضع نظام للتغذية الكافية لمختلف الطبقات.
الأميرة اللاجئة
ومن أروع الأمثلة التي تدل على مدى ما قامت به المرأة في باكستان من جهود وما ساهمت به في بناء الوطن قصة الأميرة اللاجئة ...
فمنذ خمس سنوات اخترقت حدود الباكستان أميرة مسلمة لم تكن تحمل معها من بين كل ما كانت تملك في هذ العالم سوى حقيبتين جاءت بهما من بيتها في الهند، بعد أن صممت على العيش في ظل الوطن الذي اختارته لنفسها: الباكستان.
أما هذه الأميرة فهي عبيدة سلطان، وكانت الوريثة الشرعية لولاية بهوبال في الهند وزوجة نواب سروار علي خان، حاكم ولاية كورداي في الهند الوسطى، وقد تنازلت الأميرة عن حقوقها في الإرث وفي دخلها من ممتلكاتها، كما انفصلت عن أهلها وعائلتها وابتعدت عن أصدقائها لتكون حرة التصرف في خدمة الباكستان.
وبالرغم من الخسارة المادية الفادحة التي حاقت بالأميرة بعد أن أصبحت لا تملك شيئا، فقد استطاعت أن تقدم لوطنها الجديد خبرتها في شئون الحكم التي حصلت عليها عندما كانت تشترك اشتراكا فعليا في تصريف شئون بهوبال، فقد ظلت تشغل منصب السكرتير العام للحكومة منذ عام 1943 إلى عام 1947، ولذلك كانت على اتصال وثيق بمختلف دوائر الحكومة ومصالحها، وفي خلال الحرب العالمية الثانية رأست وزارة «بهوبال».
ولما كانت الأميرة كبرى أخواتها فقد أمكنها بهذه الصفة أن ترافق والدها في عدد كبير من زياراته الدبلوماسية إلى الولايات المتحدة، وقد قدمت أول خدمة لدولة الباكستان في الخارج عندما عينت مندوبة عن الباكستان في الأمم المتحدة.
ومما ساعدها على القيام بمهمتها - على أكمل وجه - إتقانها عددا من اللغات، منها الأوردية، وهي لغتها الأصلية، والإنجليزية والإيرانية والعربية والفرنسية.
وترتدي الأميرة عبيدة الملابس الوطنية البسيطة (الساري)، ولا تضع أية شارة تدل على أنها سليلة أسرة مالكة، وهي لطيفة المعشر خفيفة الظل.
وقد حدثت الأمريكيين عند وصولها إلى نيويورك عن المرأة في الباكستان وقضية كشمير.
وقالت إنها تستطيع المساهمة في حكم بلادها، لأن مبادئ الدين الإسلامي لا تمنع ذلك.
وقالت: إن المرأة المسلمة تتمتع بحقوق أكثر من تلك التي تجري مناقشتها في لجان الأمم المتحدة، فهي لا تتمتع بحقوق توازي حقوق الرجل فحسب بل إنها تتمتع بحقوق أكثر منه.
وأضافت تقول: وقد تكون الدولة قد عجزت حتى الآن عن أن توفر للمرأة في شئون التعليم نفس التسهيلات التي يتمتع بها الرجل، وذلك لانشغالها بمشكلة أهم وهي توفير الغذاء والمأوى للاجئين القادمين من الهند وضحايا الفيضانات والزلازل.
والأميرة رياضية كبيرة ومن كبار هواة الصيد والقنص، وقد استطاعت أن تقتل 73 نمرا، وذكرت أن الرياضة منتشرة بين عدد كبير من نساء بهوبال وأن عددا كبيرا منهن يهوين الصيد والقنص، وهن يقمن باصطياد الحيوانات المفترسة وخاصة النمور، وأن نساء عائلتها، منذ عدة أجيال، كن من كبار هواة صيد النمور، وغير ذلك من فنون الرياضة. وتهوى الأميرة أيضا السباحة والبولو والرماية والهوكي والكريكت والإسكواش والتنس والانزلاق على الجليد.
وقبل حضورها إلى نيويورك كانت بطلة الإسكواش في الهند الغربية، واشتركت في مباريات مع الرجال في هذه الرياضة وانتصرت في مباريات كثيرة ولم تهزم إلا في مباراة واحدة، وكانت تشكو مدة وجودها في نيويورك من كثرة الدعوات التي وجهت إليها للظهور في التليفزيون وإلقاء المحاضرات في الراديو والاشتراك في أعمال لجنة الأمم المتحدة وذلك بوصفها ممثلة الباكستان في اللجنة الثالثة المختصة بالشئون الاجتماعية والإنسانية والثقافية، مما منعها عن ممارسة الألعاب الرياضية التي تحبها.
وكان للأميرة نجل يتلقى علومه في كامبردج، وقد تنازل هو الآخر عن حقوقه في الإرث ليصبح مواطنا عاديا في دولة الباكستان.
هذا هو نموذج للمرأة الباكستانية الناهضة التي تجاهد في سبيل توطيد دعائم الوطن الجديد.
التعليم في باكستان
قبل تقسيم شبه القارة كان أكثر من 80٪ من السكان، وعددهم نحو 400 مليون، أميين، أما في الباكستان وحدها، وهي التي تحتوي على أكثر مناطق شبه القارة تأخرا في التعليم، فكانت نسبة المتعلمين منخفضة عن ذلك. ويبلغ عدد المتعلمين - وفقا لإحصاء عام 1951 - 10374000، أي ما يعادل 13,8٪ من مجموع السكان، ولذلك فقد أولت الحكومة مشكلة التعليم عناية فائقة منذ اللحظة الأولى.
وفي نوفمبر من عام 1947 دعا وزير المعارف في الحكومة المركزية إلى عقد مؤتمر من وزراء المعارف في حكومات الأقاليم، ونواب مستشاري الجامعات الباكستانية، ومديري التعليم العام، وغيرهم من كبار رجال التربية والتعليم، لإعادة النظر في نظم التعليم الباكستانية وإصلاحها بما يحقق حاجات البلاد وأمانيها، وقد عني المؤتمر عناية فائقة ببحث كل ما يتعلق بالتعليم، ووافقت الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم وسائر الولايات على قرار المؤتمر بأن تكون المثل العليا الإسلامية هي الأساس الذي يشاد عليه صرح التعليم في الباكستان.
ولم يكد قيام الدولة الباكستانية يتحقق حتى تبينت الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم والولايات أنها تواجه مشكلات خطيرة نشأت عن «التقسيم»، وكان عليها أن تحافظ على مواردها المالية على قلتها لتستطيع تخصيصها لإنشاء القوات الدفاعية ولإقرار ودعم حياة البلاد الاقتصادية، ولاستقبال ذلك العدد الكبير من اللاجئين الذين وفدوا إليها نتيجة التقسيم.
أما فيما يختص بالتعليم فقد كانت المهمة الأولى لهذه الحكومات هي علاج الأضرار الناشئة عن هجرة المعلمين غير المسلمين بالجملة، ومن غلق الكليات والمدارس التى كان مديروها من غير المسلمين، وقبول المدرسين والطلبة القادمين إلى الباكستان من الهند.
وكان من العقبات أيضا انعدام البيانات الإحصائية المبنية على أرقام دقيقة يمكن الاعتماد عليها.
وعلى الرغم من كل هذه المصاعب ورغم المهام الأخرى الكثيرة التي كان لها علاقة مباشرة بما تمخض عن التقسيم من مشكلات، استطاعت الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم والولايات أن تسير قدما نحو إصلاح التعليم حتى يلائم احتياجات الباكستان كدولة مستقلة.
إن بعض البلدان التي ضربت في التقدم بسهم وافر تقدم التعليم حتى المرحلة الثانوية مجانا وإجباريا لكل مواطن، ولكن نظرا لأن موارد الباكستان في المال والرجال الفنيين محدودة للغاية فإنها اكتفت في الوقت الحاضر بتقرير حق كل مواطن في أن يتعلم بالمجان تعليما ابتدائيا مداه خمس سنوات، كما قررت أن يكون ذلك إجباريا.
وحددت حكومة البنغال الشرقية عشر سنوات لهذه الغاية، بينما ترى حكومات البنجاب وإقليم الحدود الشمالية الغربية والمناطق القبلية وبلوجستان وبهالبور أنها بحاجة إلى عشرين عاما، أما السند فقد طبق فيها هذا النظام فعلا على حوالي نصف سكان الإقليم، والمظنون أن تعميمه لن يطول أكثر من ست سنوات أخرى، وأما كراتشي فقد أعدت برنامجا مداه عشر سنوات.
وإن في زيادة المدارس الابتدائية في كافة الأقاليم زيادة سريعة مطردة، وهي الظاهرة التي امتاز بها التعليم بالأقاليم خلال السنوات الخمس الماضية؛ لدليلا يبرر ما يذهب إليه من يتوقعون أنه في خلال السنوات العشرين القادمة سيكون التعليم الابتدائي المجاني الإجباري قد عم أنحاء الباكستان.
وقد استهدفت باكستان من التعليم الثانوي أن يكون مرحلة مستقلة من مراحل التعليم العام وليس مجرد وسيلة لتغذية التعليم الجامعي كما هو الآن، صحيح أنه سيظل من أهم وظائف هذا التعليم أن يقدم أصلح خريجيه للجامعات، ولكن هدفه الرئيسي سيكون إتاحة الفرصة لأغلبية الطلاب للاشتغال مباشرة بعدد كبير من الحرف والمهن التي لا يحتاج المشتغل بها إلى شهادة جامعية.
وتبحث حكومة البنغال الشرقية جديا الآن في إنشاء جامعتين جديدتين.
ولم يترك التقسيم للباكستان إلا ثلاث كليات هندسية وبعض المعاهد الصناعية، ولذلك أحس المسئولون بضرورة إصلاح التعليم الفني بالبلاد، ولتحقيق هذه الغاية شكلت الحكومة مجلسا للتعليم الفني قام بوضع الخطة اللازمة لذلك.
وأنشئت أول مدرسة فنية عالية في كراتشي في يوليه سنة 1951، وتقدم هذه المدرسة لطلابها تعليما عاليا تغلب عليه التوجيهات والاعتبارات الفنية.
وقد واجهت الباكستان، وهي دولة ناشئة، عقبات جمة في طريق تيسير التعليم للمرأة، ولكنها تغلبت على أكثرها وأصابت تقدما ملحوظا في هذا السبيل، فقد أصبح الآن في البلاد أكثر من عشرة آلاف مدرسة مدربة يشرفن على تعليم وتثقيف نحو مليون طالبة وتلميذة.
وقد ارتفع عدد مدارس البنات بنسبة كبيرة، فأصبح منها الآن أكثر من ستة آلاف مدرسة ابتدائية ونحو ألف مدرسة ثانوية و100 مدرسة للتدريب و13 معهدا فنيا، علاوة على 117 مدرسة عليا و13 كلية.
وعلاوة على ذلك فإن نظام الجمع بين الجنسين يطبق في كليات وجامعات الباكستان وخاصة في كليات العلوم، ويبدو من الإحصائيات أن فتيات الباكستان يفضلن بوجه خاص دراسة السياسة والعلوم المنزلية والاقتصاد والتاريخ واللغات الحديثة والآداب والموسيقى وعلم النفس الخاص بالأطفال.
وفي الباكستان أيضا عدد من المؤسسات العلمية الممتازة التابعة للإرساليات المسيحية تساهم الحكومة في نفقاتها وتشرف عليها الراهبات، وقد أرسلت الحكومة على نفقتها عددا من الفتيات لإكمال دراستهن العليا في الجامعات الأجنبية.
ولعل أعظم عمل يسجل لحكومة الباكستان هو فرض نظام التعليم الإجباري للجنسين من سن 6 سنوات إلى سن 11 سنة.
ولما كانت مشكلة النقص في عدد الأطباء والممرضات والمستشفيات من بين المشاكل الخطيرة التي واجهتها الباكستان عند تأسيسها، فقد تكاتفت الأيدي للعمل على الخلاص من هذه المشكلة وكان التعليم هو الوسيلة الفعالة لذلك، فقد أنشئت خمس كليات للطب من بينها كلية «فاطمة جناح» المخصصة للبنات، وقد التحق عدد كبير من الطالبات بجميع هذه الكليات كما أرسل قليل منهن لإكمال دراستهن الطبية والجراحية في الجامعات الأجنبية.
وقد أنشئ في مختلف أنحاء البلاد عدد من المعاهد لتخريج الممرضات والقابلات، وأنشئت لجنة خاصة برياسة فاطمة جناح لرعاية الطفولة، وقد ساهمت نساء الباكستان مساهمة فعالة في الجهود التي بذلتها الحكومة والمؤسسات الدولية الأخرى لمكافحة الأمية والأمراض.
زيارة لجامعة بشاور
وقد كان من أجمل الزيارات التي قمنا بها في باكستان زيارة جامعة بشاور الحديثة، وكان من المصادفات الحسنة أن نسعد بلقاء أستاذ مصري كريم هو الدكتور عبد المحسن الحسيني الذي يرأس قسم اللغة العربية في تلك الجامعة.
وقد حدثنا الدكتور الحسيني عن جامعة بشاور بما يلي:
جامعة بشاور هي أحدث جامعات الباكستان، افتتحت رسميا في أكتوبر 1950، وتولى افتتاحها رئيس وزراء الحكومة المركزية الراحل شهيد الملة لياقت علي خان. والمقصود بجامعة «بشاور» هو مجموعة الدراسات العالية بعد درجة الليسانس أو البكالوريوس، لأن بشاور كان بها قبل افتتاح الجامعة الكلية الإسلامية التي أسست سنة 1913 وكانت تخرج حتى درجة الليسانس والبكالوريوس، وكانت هذه الكلية تابعة لجامعة البنجاب، فاعتبرت هذه الكلية نواة للجامعة، وأنشئت الدراسات العليا في الجامعة في عام 1950، وليست الكلية الإسلامية هي الكلية الوحيدة التي تتبع جامعة بشاور بل هناك كليات أخرى في بعض بلدان ولاية الحدود
N. W. F. P.
بها كليات تابعة لجامعة بشاور، مثل مردان وبنو وديره إسماعيل خان وأبوت أباد.
وفي بشاور نفسها كليتان من الكليات الخاصة تتبعان جامعة بشاور: الأولى هي كلية البنات لأن التعليم الجامعي حتى الليسانس غير مختلط، والكلية الثانية هي كلية إدوارد وهي كلية مسيحية كانت تقوم مناظرة للكلية الإسلامية، وكلية إدوارد كان يقوم على إدارتها المرسلون المسيحيون. ومن هذه الكليات جميعا تكونت جامعة بشاور.
أما الدراسات العالية بجامعة بشاور فقد أنشئت في الفروع الآتية حيث خصص لكل فرع قسم به: اللغة الإنجليزية، اللغة العربية، الاقتصاد السياسي، التربية والتعليم، الرياضة والهندسة. فهذه هي الأقسام التي أنشئت حتى الآن، وفي كل عام ينشأ قسم جديد، وفي العام القادم سيفتح قسم البشتو وهي لغة ولاية الحدود وبعض بلاد أفغانستان ويتكلمها 14 مليونا. والدرجات الموجودة التي تمنحها الجامعة حتى الآن هي درجة الماجستير، وبعد سنتين أو ثلاث ستكون هناك درجات في الدكتوراه.
وجامعة بشاور توجد خارج حدود مدينة بشاور على الطريق بين بشاور وممر خيبر، وتبعد عن المدينة مسافة تتراوح بين خمسة أو ستة أميال تقريبا ، وعن خيبر سبعة أميال تقريبا. ومنطقة الجامعة ومنطقة الكلية الإسلامية هي منطقة مربعة تقريبا طول ضلعها ميلان، ويتكون قسم منها من المباني القديمة للكلية الإسلامية والقسم الآخر هو المباني الحديثة للجامعة والكلية، والأساتذة يسكنون في هذه المنطقة بعيدا عن المدينة في عزلة تكاد تكون تامة فالمواصلات بين المدينة والجامعة بعد الغروب تكاد تكون مقطوعة تماما، وفي أثناء النهار لا يتعدى الاتصال عشر رحلات للأوتوبيس بمعدل رحلة في كل ساعة، أما في أيام العطلات فهي أربع فقط.
وقد أنشئ قسم اللغة العربية بجامعة بشاور في سبتمبر 1952، وتولى أعماله الدكتور عبد المحسن الحسيني بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية. وقد بدأ القسم بالسنة الأولى من الماجستير، وفي عام 1953 تخرجت أول دفعة من طلبة الدراسات العالية. وقسم اللغة العربية هو فرع من كلية الدراسات الشرقية التي تضم اللغة الأوروبية، اللغة الفارسية، لغة البشتو. ويتولى الدكتور عبد المحسن عمادة هذه الكلية منذ أول يناير 1953، وفي أول يناير من كل عام ينتخب أعضاء الكلية عميدا لهم مدة العام الميلادي.
ومنهج الدراسة في قسم اللغة العربية بجامعة بشاور يختلف عن غيره من المناهج في جامعات الباكستان الأخرى، فقد وجه توجيها جديدا يكفل لجامعة بشاور أن تكون في الصف الأول بالنسبة لجامعات الباكستان في هذا النوع من التخصص. كما حرص الدكتور الحسيني على أن يكون القسم على اتصال قوي بالأدب العربي والثقافة العربية بمصر والبلاد العربية. وقد وضعت الأموال لوصل الدراسة العربية في الباكستان بالدراسات الدينية بمصر، كما أعدت الخطط للاستعانة بالأساتذة المصريين في هذا الصدد حتى تتوطد أواصر الصداقة والصلات بين البلدين.
وقد بدا لي أن أسأل الدكتور الحسيني عما لمسه من فروق بين الطالب المصري والطالب الباكستاني بعد أن خبر الاثنين فقال:
الفرق بين الطالب المصري والطالب الباكستاني هو الفرق بين عمر مصر وعمر الباكستان؛ فمصر أمة أكبر عمرا من الباكستان وأكثر تجربة في الحياة، وأما الباكستان فقد ولدت منذ سنوات قليلة فقط، ومصر أمة تعيش على تقاليد موروثة وثقافة متصلة، وأما الباكستان فهي تبدأ في تأسيس ثقافتها وحضارتها ومقومات شخصيتها.
ولذلك فإن وعي الطالب المصري أقوى وأعمق من وعي الطالب في الباكستان، فهو يعرف نفسه ويعرف أمته ويعرف ثقافته ويحس بها جميعا وبموقعها من العالم، وأما الطالب الباكستاني فهو يتلمس هذه الخصائص التي يحسها غامضة في نفسه.
جامعة بشاور.
ولا يحس بالعالم إلا أنه يعيش في بقعة منعزلة عنه، فطابع شبه جزيرة الهند الذي فرض العزلة على سكانها يجعل الطالب الهندي عامة والباكستاني خاصة بمعزل عن التيارات الثقافية والحضارية في العالم.
والفارق الثاني بين الطالب المصري والطالب الباكستاني هو فرق ما بين ثقافة مصر وثقافة الهند والباكستان قبل التقسيم، فأهداف السياسة الإنجليزية في التعليم غير خافية فقد كان كل غرضها أن تخرج موظفين للدولة لا أن تكون عقولا مستقلة.
وأستطيع أن أقول: إن الثقافة المصرية في جملتها تهدف إلى تكوين المواطن الصالح، وأما الثقافة الإنجليزية التي فرضت على الهند والباكستان فقد كانت تهدف إلى تخريج الموظف الصالح أي المطيع! وكان من أثر ذلك أن دراسة العلوم الإنسانية في جامعات الباكستان لا تحل محلا لائقا بها، كما أن دراسة العلوم الاجتماعية لا تبذل لها أية عناية، والقدر الذي يوجد منها يبتعد عن حقيقة الدراسة الاجتماعية، فالتاريخ مثلا يتجه في أكثر الأحيان لدراسة تاريخ إنجلترا، والجغرافيا تعتبر مادة من مواد كلية العلوم، أي إنها تدرس في ضوء المناهج التي تدرس بها العلوم وليست التي تدرس بها المواد الاجتماعية. والفلسفة لا تعنى بالفروق بين المذاهب والمدارس وغير ذلك، وأما علم النفس فهو نوع من التربية.
وأما الفرق الثالث بين الطالب المصري والطالب الباكستاني فهو فرق ما بين السياسة الاجتماعية في الباكستان ومصر، فالسياسة الاجتماعية في مصر تتجه نحو الحضارة الأوروبية والتقدم الأوروبي، وأما في الباكستان فيرون أن النظم الاجتماعية والحضارة في أوروبا ذات طابع «بورجوازي»، وهم يريدون أن يكون طابع الثقافة والمجتمع في الباكستان طابعا شعبيا، وفي هذه الحدود تتجه سياسة التعليم كما علمت من وزير المعارف في ولاية الحدود، وكان من أثر هذه السياسة أن الطلبة والطالبات يلبسون هنا - في الغالبية - الملابس الشعبية أو البلدية ولا يلبسون الملابس الإفرنجية، ووزير المعارف يرى في أكثر الأحيان بالملابس الوطنية ولا يلبس الملابس الإفرنجية إلا نادرا.
وكذلك النظام في الطعام والمسكن وغير ذلك فإنه يتجه اتجاها وطنيا، وخاصة لأن البضائع الإفرنجية غالية جدا في باكستان غلاء يفوق حد التصور في بعض الأحيان. ولما كانت المرأة هي التي تشجع أكثر البضائع الإفرنجية وتعتمد عليها فإننا نجد الطالبة الباكستانية قد استغنت عن الملابس الأوروبية وأدوات الزينة الأوروبية، فهي تحتفظ بحجابها حتى في الجامعة وفي قاعة الدرس، وهي تلبس الملابس الوطنية التي تستر جميع الجسم من قمة الرأس إلى أخمص القدم وتسدل على وجهها حجابا كثيفا، وأغلب ملابسها من القطن والأقمشة الرخيصة، ولباس الطالب هو القميص الإفرنجي والسروال الطويل المصنوع من البفتة والصندل.
فحياة الطالب في الباكستان أكثر تقشفا من حياة الطالب في مصر، ومشاكله الاجتماعية أقل من مشاكل الطالب في مصر، والتدخين والسينما ينظر إليهما نظرات غير مرضية، حتى تناول الطعام بالشوكة والسكين غير مألوف في الحياة العامة.
والطالب الباكستاني في غير العلوم الاجتماعية والإنسانية أقوى من الطالب المصري وأكثر عمقا، فهو يدرس العلوم البحتة واللغات دراسة عميقة ولا يعني نفسه بمشاكل الثقافة أو السياسة أو الاجتماع التي تهدف إليها هذه العلوم وإنما هو يدرس العلوم نفسها دراسة عميقة، فهو عقل يعنى بالوسائل دون الغايات وهو يجيد الوسائل أكثر من إجادة الطالب المصري، وإن كان الطالب المصري يدرك الغايات أكثر من إدراك الطالب الباكستاني.
ومشاكل العقل الباكستاني مشاكل اقتصادية أكثر منها اجتماعية أو فنية أو سياسية، والمشكلة الأولى التي تكافحها الباكستان هي مشكلة الجوع، وقد لاحظنا أن مدير الجامعة كان يتكلم مرة عن الحرية والديمقراطية فردد عبارة
Free from Hunger
أو «التحرر من الجوع»، ولا أدري هل السبب في ذلك هو المجاعات التي تتعرض لها الهند والباكستان دائما بسبب الجفاف وقسوة العوامل الطبيعية وتغيرها أو هو النظام الاقتصادي الذي فرضه الإنجليز على الباكستان والذي جعل المشكلة الأولى في الباكستان هي مشكلة الاقتصاد ثم ربطهم فيها بالكومنولث ؟ ويكفي في هذا أن تعلم الشخص العادي في الباكستان قد لا يجد ما يكفيه من الخبز في بعض الأحيان، ولقد سمعت عن مشاكل جامعية قامت بسبب نصيب كل طالب من الدقيق، فقد أضرب الطلبة في بعض المعاهد طلبا لرفع المقررات لأن ما يأخذه الطالب لا يكفي طعاما له. وإذا كان ما يأخذه الأستاذ هو ثلاثة أمثال ما يأخذه الطالب، ويكاد يكون هو القدر المعقول الذي يكفي شخصا عاديا، فلا أدري كيف يتصرف الطلبة!
وقد ظهرت مشكلة الجوع على أشدها في عام 1953، ولكن هي مشكلة تعاود الهند والباكستان من وقت لآخر حتى علمت القوم الادخار والاحتياط، وجعلت المعايير هناك معايير اقتصادية قبل كل شيء، فالمثالية والمروءة التي نألفها في مصر والبلاد العربية لا توجد في باكستان ويوجد بدلها واقعية واحتياط شديد وإمساك، ولهذا كان هدف التعليم فيها اقتصاديا للكسب وليس هدفا مثاليا لرفع إنسانية الإنسان وعقله، ولهذا تعجب في الجامعة للأعداد الضخمة التي تقبل على دراسة الحقوق لأنها الطريق إلى وظائف الحكومة، ولقد سمعت من بعض الناس مثلا عندهم يقول
Law means money
أي دراسة القانون معناها الثروة.
والطالب الباكستاني يعنى بالرياضة البدنية عناية عظيمة وهذا من أثر التوجيه الإنجليزي، فالتربية الإنجليزية تهدف إلى تكوين جسم قوي ينفع في الجيش وإن كانت لا تعنى بالعقل الذي يصرف أمور هذا الجسم. وتوضع الرياضة في باكستان في موضع خاص يؤثر في مجرى الحياة العامة، ومن طريف ما يذكر في ذلك أننا أعلنا عن حاجتنا إلى مدرس في قسم اللغة العربية فكان مما أثار دهشتي أن أعثر بين الطلبات التي قدمها الراغبون في هذه الوظيفة على طلبات كثيرة يذكر أصحابها من قبيل المؤهلات أنهم يجيدون لعب الهوكي أو البولو أو غير ذلك فكنت أعجب من هذه المؤهلات! وقد كنت عضوا في لجنة من اللجان لاختيار أستاذ للتاريخ في بعض الكليات فوجدت من بين الأسئلة التي وضعت أمام راغب الوظيفة: أي لعبة من الألعاب الرياضية تلعب؟
والطلبة الذين يجيدون الألعاب الرياضية وذوو الأجسام القوية يعاملون معاملة خاصة، فهم يؤخذون لمدرسة من بين مدارس الكلية اسمها
Wing ، وهي مدرسة عسكرية تقوم مقام التدريب العسكري لطلبة الجامعة وهم يعيشون فيها معيشة عسكرية في حدود النظام العسكري ويتلقون تعليمهم الجامعي، حتى إذا أتموا المرحلة الجامعية يكونون قد أتموا المرحلة العسكرية ويتخرجون ضباطا في الجيش.
والطالب العادي ينفق على طعامه وسكنه وغير ذلك 25 روبية في الشهر وأما الطالب في هذه المدرسة فينفق عليه 80 روبية، وتحدث في بعض الأحيان مشادات بين طلبة هذه المدرسة وبقية الطلبة نظرا لما يتمتعون به من امتيازات يحرم منها الباقون. غير أن الذي يلاحظ أن مستوى الرياضة بين طلبة الباكستان أعلى بكثير من مستواها بين الطلبة في مصر.
ومن الأمثلة الرائعة لليقظة العلمية والأدبية في باكستان حلقات «المشاعرة» التي يمكن اعتبارها امتدادا لأسواق العرب الأدبية، وهي حلقات لا تجدها في غير باكستان. وقد بدأت حلقات المشاعرة بالجلسات الخاصة التي كانت تنعقد في قصور الأمراء والعظماء والأدباء، ثم انتقلت إلى المجالس العامة والندوات الشعبية.
وقد اشتهرت مجالس المشاعرة في الهند في عهد السلطان أكبر المغولي الذي وطد دعائم الحضارة الإسلامية في شبه القارة، وقد أنشأ هذا الملك حلقة خاصة للشعراء، متشبها في ذلك بالخلفاء وأمراء المسلمين، وكان يجزل العطاء لأصحاب القصائد التي تنال استحسانه.
وقد ظلت مجالس المشاعرة في الهند قاصرة على الجماعات الإسلامية مما جعلها من مميزات المسلمين، ولذلك كان من الطبيعي أن تنتقل إلى باكستان بعد تأليفها مع ما انتقل إليها من التراث الإسلامي.
وتعقد اليوم في كراتشي، عاصمة باكستان، وغيرها من المدن الكبرى مثل لاهور وداكا وغيرها، حلقات «المشاعرة» تحت رعاية الدولة التي تشجعها باستمرار.
أما قبل التقسيم فقد كانت الرابطة الإسلامية هي التي تتولى تنظيم المشاعرة، وكان القائد الأعظم محمد علي جناح من أكبر مشجعي حلقات المشاعرة، ولم ينقطع عن الاشتراك فيها حتى بعد أن تولى مقاليد الحكم.
وكذلك شاعر الباكستان الخالد «محمد إقبال» كان أول ظهوره في حلقات المشاعرة بلاهور، وكانت هذه الحلقات سببا من أسباب شهرته الكبيرة، إذ سهلت اتصاله بالجمهور كما قربت إليه هؤلاء القوم البسطاء الذين كان يحبهم.
ويهتم الجمهور اهتماما كبيرا بحلقات المشاعرة، وتعلن الصحف عن مواعيدها كما تنشر وصفا كاملا لهذه الحلقات، وتعقد مجالس المشاعرة عادة في مكان فسيح يتسع للجماهير وقد يكون صحن أحد المساجد الكبرى في المدينة أو مكانا عاما آخر، وتقام منصة عالية للشعراء أما الجمهور فيجلس على الأرض التي تفرش بالأبسطة، ويتعاقب الشعراء بعد ذلك أمام الجمهور الذي يتذوق ما يقدم له من شعر أو شعر منثور.
العربية في باكستان
عندما تتجول في طرقات كراتشي عاصمة الباكستان أو طرقات أي مدينة أخرى هناك، تلفت نظرك تلك اللافتات المكتوبة بأحرف عربية، ولكنك لا تكاد تقرأ هذه اللافتات حتى تكتشف أنك لا تفهم منها شيئا ...
وتتساءل بعد ذلك: إذن فما هذه الأحرف العربية؟
فيكون جواب تساؤلك: إنها اللغة الأوردية أو «الأوردو» ...
ولغة الأوردو خليط من لغات مختلفة أهمها اللغة العربية، وقد بلغت نسبة الكلمات العربية في الأوردو حسب آخر إحصاء نحو 40٪ من مجموع كلمات هذه اللغة ...
أما باقي اللغات التي تتكون منها الأوردو فهي: السنسكريت، والإيرانية، والتركية، والأتيوبية، والإنجليزية!
وتكتب الأوردو بأحرف عربية ...
وهذه اللافتات إلى جانب طرافتها من الوجهة اللغوية ترسم للقارئ صورة عن النشاط التجاري والصناعي في باكستان.
ولو دقق القارئ النظر فيها للاحظ أن اللغتين «الأوردو» والإنجليزية قد اختلطتا حتى أصبحت الكلمات الإنجليزية تنقل كما هي إلى الأوردو.
وتعاني اللغة الإنجليزية «بهدلة» عامة في جميع اللافتات، فلا تكاد تخلو جملة واحدة من خطأ في الهجاء!
وإلى جانب «الأوردو» في باكستان توجد اللغة السندية ويتحدث بها الناس في ولاية السند، واللغة البنجابية ويتحدث بها الناس في ولاية البنجاب، ولغة «البشتو» ويتحدث بها الناس في الأقاليم الشمالية، واللغة البنغالية ويتحدث بها الناس في شرق باكستان الذي يتكون من ولاية البنغال ...
وقد دار البحث أخيرا في نشر اللغة العربية وتعليمها في باكستان، ووجدت الفكرة ترحيبا كبيرا نظرا للتشابه الواضح بين الأوردو واللغة العربية ...
ومن الطريف أن أهم صحف باكستان تصدر باللغة الإنجليزية، أما الصحف التي تصدر بالأوردو فأضعف بكثير من الصحف الإنجليزية ...
ومع ذلك فقد أخذت باكستان منذ نشأتها تعنى عناية فائقة بنشر الثقافة الإسلامية والعمل على توثيق الصلات الروحية والثقافية بينها وبين الدول الإسلامية الأخرى.
وقد أتى على العالم الإسلامي حين من الدهر كانت تمتد حدوده من شمال الأندلس وشواطئ المحيط الأطلسي غربا إلى بلاد تركستان شرقا، وكانت اللغة السائدة فيه هي اللغة العربية، ثم حدثت نكسة صاحبت الاستعمار الأوروبي، الأمر الذي تأخرت معه الدراسات العربية والإسلامية في بعض أجزاء هذا العالم الإسلامي وأهملت إهمالا يكاد يكون تاما في أجزاء أخرى، وخاصة في شبه القارة الهندية.
واستمر ذلك إلى أن بدأت النهضة الأخيرة في مختلف دول العالم الإسلامي حين أخذ سكان العالم يحسون باليقظة وبالوعي الجديد وبضرورة العناية بماضيهم وإحياء هذه الدراسات.
والباكستان بوجه خاص تحس بهذه الضرورة إحساسا قويا لأنها قامت على أساس الدين والغالبية العظمى من سكانها يدينون بالدين الإسلامي، وهي ترغب - حكومة وشعبا - في أن تقيم علاقات الود والصداقة بينها وبين الدول الإسلامية الأخرى على أساس قوي متين، وليس أقوى ولا أمتن من أن تعمل على إحياء الدراسات الإسلامية، ومن أن تعمل على العناية باللغة العربية وتعليمها ونشرها لتعيد لها مكانتها الأولى، فقد كانت في وقت ما لغة العلم والثقافة والتأليف في الهند الإسلامية.
ولما كانت الباكستان تحس بالحاجة القوية إلى اللغة العربية فقد جعلتها مادة إجبارية في المدارس بعد أن كانت في العهد الماضي مادة اختيارية، وذلك لأنها هي صلة الاتصال التي تربطها بالعالم العربي والإسلامي في الشرق الأوسط، فبعد أن انفصلت عن الهند أصبحت تولي وجهها شطر البلاد العربية وخاصة مصر، وأحست بالحاجة الشديدة إلى تفهم اللغة العربية ودراستها فأقبلت تعمل على ذلك بجد وعزيمة.
حدثني في ذلك الدكتور عبد المحسن الحسيني أستاذ اللغة العربية في جامعة بشاور، فقال:
كانت اللغة العربية تدرس في الهند قديما قبل التقسيم بطريقتين:
الأولى:
وهي الطريقة القديمة، وكانت الغاية منها هي دراسة الدين الإسلامي، وكانت هذه الطريقة على نسق الطريقة المتبعة في الأزهر قديما منذ ثلاثمائة سنة تقريبا، وهي طريقة القسم العام بالأزهر. وكانت هذه الدراسة تقف عند مستوى العالمية، أي إنه لم يكن فيها مجال للبحث والتطويل فهي تحصيل فقط يقف دون مرحلة البحث، والمتعلمون بهذه الطريقة كانوا يعرفون العربية لغة ولكنهم لا يعرفون اللغة العربية ثقافة، أي إنهم يستطيعون فهم اللغة العربية وقراءة الكتب وخاصة القديم منها ولكنهم لا يعرفون الكثير من الثقافة العربية وتاريخ اللغة العربية وتاريخ العالم العربي وتاريخ الأدب العربي، وكانت معرفتهم للغة محدودة كذلك في نطاق الطرق القديمة، أي إنهم يفهمون اللغة ولكن لا يستطيعون التحرير أو الكتابة بها. وكانت تقوم بهذه الطريقة المدارس الدينية التي كان يقبل عليها الشعب.
الطريقة الثانية:
وهي الطريقة التي كانت متبعة في الجامعات النظامية، وكانت اللغة العربية تدرس على أساس هذه الطريقة باللغة الإنجليزية، وكان يقوم على أقسام اللغة الدينية في بعض هذه الجامعات أساتذة إنجليز أو مستشرقون. وكان الدارس على هذه الطريقة يعرف الثقافة العربية خلال النظرة الإنجليزية أو الأوروبية، فهو يعرف الأدب العربي وتاريخ الحضارة الإسلامية وتاريخ الفكر الإسلامي، ولكن مقدرته في اللغة العربية ظلت قاصرة على فهم النص العربي القديم من كتب التاريخ أو الأدب، فاللغة العربية بهذه الطريقة كانت تعامل معاملة اللغة اللاتينية أو اليونانية في الجامعات الأوروبية.
والطريقتان كانتا تعنيان بالنصوص القديمة، فالكتب التي تدرس هي الكتب التي استوفت حظها من القدم، أما الكتب الجديدة فلا يعلمون عنها شيئا، فكانت تدرس المعلقات وديوان الحماسة والمتنبي والكامل وفتوح البلدان وغير ذلك، أما الأدب الحديث والإنتاج الحديث في اللغة العربية فلم يكن معروفا هناك.
ونحن نحاول الآن في طريقتنا الحديثة أن تكون دراسة اللغة العربية دراسة للفكر العربي والثقافة العربية، كما تكون دراسة للغة نفسها. وتكون الدراسة بحثا ونظرا ونقدا، وتكون دراسة للغة لها أدبها وكتبها وصحفها لا للغة ميتة موجودة في بطون الكتب فحسب، ولذلك نولي عناية خاصة للتحرير والبحث والنقد باللغة العربية نفسها لا باللغة الإنجليزية التي هي الآن لغة التدريس في الجامعة.
وهذه الطريقة يتوقف نجاحها على شيئين إن توافرا أصابت نجاحا، وهذان الشيئان هما: الاستعانة ببعض المدرسين من البلاد العربية وخاصة مصر، ممن يستطيعون أن ينهضوا بهذه الطريقة الجديدة، وإعداد المدرسين الباكستانيين سواء من تخرج منهم على الطريقة القديمة أو طريقة الجامعات، ليكونوا أهلا لحمل أعباء الطريقة الجديدة ونشرها. والمسألة الأولى تقف العقبات المالية دونها، وإن كنا نحاول تذليلها في حدود ضيقة فقط للظروف الاقتصادية السائدة في الباكستان، وأما المسألة الثانية فهي أصعب من الأولى فأصحاب الطريقة القديمة يريدون المحافظة عليها، خاصة وأنهم يجدون صعوبة في اصطناع الطريقة الجديدة، فكلما أحسوا صعوبة نزعوا إلى الطريقة القديمة.
هذا إلى أن بعضهم يرى أن الطريقة الجديدة ستفتح الباب لدخول مزاحم لهم يحسون فيه خطرا غامضا يتخوفون منه، وإذا نجحنا في أن نحمل دارس العربية في الباكستان على اصطناع الطريقة الجديدة فقد ضمنا مستقبلا قويا للعربية في الباكستان.
والطريقة في تيسير السبيل أمام الذين يقومون على تدريس اللغة العربية في الباكستان لكي يصطفوا الطريقة الحديثة، هي أن تعقد صلة قوية بينهم وبين البلاد العربية وخاصة مصر، وطريقة ذلك هي تيسير السبل أمامهم لزيارة مصر والإقامة فيها بعض الوقت، ولكن تحول دون ذلك العقبات المالية أيضا. وحبذا لو اهتدى أولو الأمر إلى طريقة يوفرون بها لهؤلاء هذه الفرصة في حدود اقتصادياتهم المحدودة، وحبذا لو شجعت مصر أمثال هؤلاء ببعض وسائل التشجيع.
وقد تطورت اليقظة الجديدة في شعب الباكستان ورغب المتعلمون منه في أن يأخذوا أصول هذه اللغة من مصادرها، وكان أن وفدت إلى مصر في عام 1951 بعثة من عشرة طلاب بدعوة من الحكومة المصرية وزعوا على مختلف كليات الجامعة الأزهرية، وهؤلاء الطلاب هم خير رسل لحمل لواء اللغة العربية إلى بلادهم النائية، واختلاطهم بزملائهم المصريين وغيرهم من العرب كفيل بتوثيق عرى الصداقة والتعارف بين هذه الشعوب جميعها.
ويتوقف مستقبل اللغة العربية في الباكستان على الكتب أيضا، فالكتب العربية والجرائد والمجلات إنما مركزها الأساسي في البلاد العربية، وفي سبيل الحصول على النصوص العربية والكتب العربية نجد عناء شديدا، وذلك لخضوع شراء الكتب والمجلات لنظام الاستيراد، ولأن الصلة بين باعة الكتب في الباكستان وإخوانهم في مصر تكاد تكون غير موجودة.
وباعة الكتب في مصر لا يفكرون في فتح ميادين جديدة في الباكستان، بينما نجد المجهودات التي يقوم بها الناشرون الإنجليز والأمريكان في نشر كتبهم في الباكستان منطوية على كثير من البذل والتضحية، وأظن أن الزمن لم يأت بعد حتى يدرك باعة كتبنا أهمية الدور الذي يقومون به في نشر الثقافة العربية وأهمية الأدب والثقافة كوسيلة من وسائل الاتصال بين الشعوب.
وإذا كان باعة الكتب عندنا لا يدركون مثل هذا فيا حبذا لو عنيت الجهات المسئولة بإنشاء إدارة خاصة في هيئة علمية أو في وزارة التربية والتعليم يكون من واجبها القيام بالدور الذي يعجز عنه باعة الكتب، في سبيل تحقيق رسالة الثقافة العربية في البلاد النائية وإيجاد طريقة لتزويدها بالكتب والمؤلفات ولو باستعمال كوبونات «يونسكو» أو غيرها من الطرق.
ومن الأدلة على اهتمام الباكستان باللغة العربية ذلك المؤتمر الذي عقد بمدينة بشاور عاصمة إقليم الحدود الشمالية الغربية بالباكستان من 28 إلى 30 أبريل من عام 1954، واشترك فيه عدد كبير من علماء الباكستان وأساتذة جامعتها المتخصصين في الدراسات العربية والإسلامية. وقد اشترك فيه أستاذان أحدهما الدكتور جمال الدين الشيال مندوب جامعة الإسكندرية، وثانيهما الأستاذ أمين المصري الملحق الثقافي لجمهورية سوريا بالباكستان، وتولى رئاسة المؤتمر الدكتور عبد الوهاب عزام سفير مصر في الباكستان وقتذاك.
وقد درس هذا المؤتمر شتى النواحي التي تساعد على رقي اللغة العربية وازدهارها في دولة باكستان، وتناول بالبحث بين ما تناوله المسائل الآتية: (1)
القيم الاقتصادية والسياسية للعناية بدراسة اللغة العربية في الباكستان. (2)
وجوب إعادة تنظيم الطرق الخاصة لتدريس اللغة العربية على أسس من النظم التربوية الحديثة. (3)
فشل الطرق القديمة المتبعة في تعليم اللغة العربية في الباكستان لاعتمادها كلية على الترجمة، ولعنايتها الكبرى بالدراسات النحوية العتيقة. (4)
المطالبة بإنشاء المعاهد في المدن الباكستانية الكبرى لتدريس اللغة العربية.
العلاقات بين مصر وباكستان
يعتز أهل باكستان بصلاتهم الروحية بالشرق اعتزازا كبيرا ويفاخرون دائما بهذه الصلات. وعندما ظهر كمال أتاتورك في تركيا وارتفع اسمه لما بذل في سبيل وطنه من جهود، أخذ المسلمون في الهند وهم الذين تكونت منهم دولة باكستان يطلقون على أبنائهم اسم «أتاتورك» واسم «كمال».
وهكذا نجد اليوم في باكستان كثيرين يحملون اسم كمال واسم أتاتورك، وقد ظهرت اليوم في باكستان أسماء مصرية صميمة وأخذ كثيرون من أهل هذه البلاد يطلقون على أولادهم هذه الأسماء اعتزازا بمصر وأبطال مصر.
كنا في إحدى الحفلات فأقبل صبي لا يزيد عمره على اثني عشر عاما يحمل دفتر التوقيعات (الأوتوجراف) ويطلب أن نوقع له في دفتره هذا ...
ورأى الزميل محمد عبد القادر حمزة أن يكتب له جملة يحييه فيه فسأله: ما اسمك يا بني؟
وأجاب الصبي: اسمي فاروق.
وسكت لحظة ثم قال في خجل: إنني آسف لأنني ولدت قبل ثورة الجيش المصري فأطلق علي هذا الاسم!
وسافرنا إلى الشمال وتقرر أن نزور ممر خيبر المشهور، وعلى مقربة من الحدود الباكستانية الأفغانية تقيم قبائل البتان المشهورة بشجاعتها في القتال.
ولا تكاد ترى إنسانا في هذه الجهات إلا ومعه سلاحه حتى الأطفال يلعبون بالأسلحة، الأسلحة الحقيقية لا الزائفة. وبعد أن وصلنا إلى الحدود الأفغانية واسترحنا هناك عدنا لتناول الغذاء مع زعماء القبائل، وهؤلاء الزعماء الذين يطلق على كل زعيم منهم اسم «ملك» قوم في غاية البساطة وطيبة القلب برغم شجاعتهم الفائقة ونفوذهم الواسع.
وبعد تناول الغذاء وقف أحد هؤلاء الزعماء، وهو «ملك» وريث «خان»، ليحيي بعثة الصحافة المصرية.
وعبر الرجل عن سروره البالغ بوصول الصحفيين المصريين إلى هذه البقعة من العالم، ورجا منهم أن يبلغوا تحياته إلى الشعب المصري ... ثم قال الرجل في جد وبساطة: إننا نعلم أن مصر في نزاع مع بريطانيا
1
فإذا كنتم تريدون قوة تعاونكم على إجلاء الإنجليز من بلادكم، فنحن على أتم استعداد لتقديم رجالنا.
قالها الرجل في صدق وبساطة كأنها خرجت من قلبه حتى لقد شعرنا بمنتهى التأثر لهذا الإخلاص البريء الذي دفع الرجل الكريم إلى أن يقول هذا ويعرض رجاله على مصر.
وفي الباكستان صحافة إقليمية متقدمة، وإن كانت معظم الصحف الكبيرة تصدر باللغة الإنجليزية، وقد كان من الأسئلة الشائعة التي تقدم بها إخواننا في تلك البلاد السؤال التالي: كم صحيفة إنجليزية عندكم؟
فإذا سمعوا أنه لا توجد غير صحيفة إنجليزية واحدة تساءلوا: إذن بأي اللغات تصدر صحفكم؟
وكنا نقرأ في كراتشي صحيفتي «دون» - الفجر - و«سند أوبزرفر»، فلما انتقلنا إلى البنجاب أخذنا نعتمد على الصحف التي تصدر في لاهور وأهمها «باكستان تيمس» و«جازيت»، فلما انتقلنا إلى الولايات الشمالية أخذنا نقرأ صحف بشاور وأهمها «خيبر ميل».
صبي من قبائل البتان.
وتعنى صحف الباكستان بنشر أنباء مصر عناية شديدة، ولا أذكر أنه مر علينا يوم واحد ونحن هناك دون أن نطلع في الصحف الباكستانية على أهم أخبار مصر.
وقد ظننت في بادئ الأمر أن هذا الاهتمام بإبراز أنباء مصر في صحف باكستان لم يكن إلا تحية توجهها الصحافة هناك إلى الصحفيين المصريين بمناسبة وجودهم في هذه البلاد، ولكن تبين لي بعد ذلك أن هذا الاهتمام بأنباء مصر لم يكن سوى أمر عادي تستجيب به صحافة الباكستان لرغبات القارئ الباكستاني، الذي يهتم دائما بأنباء مصر اهتمامه بأنباء باكستان نفسها. وقد قال لي الأستاذ أبو السعود، وهو مصري كان يعمل في حكومة الباكستان: إن اهتمام صحف باكستان بأنباء مصر قد أغناه عن الاشتراك في الصحف المصرية.
وكنا لا نكاد نقابل صحفيا أو سياسيا باكستانيا إلا ويبادرنا بالسؤال عن «الميدو» واحتمال اشتراك باكستان فيه.
و«الميدو» هو اختصار لمشروع الدفاع عن الشرق الأوسط. وقد كان الحديث في هذا المشروع دائرا على الألسن في ذلك الوقت، وكانت في أذهان الباكستانيين فكرة غامضة عن المشروع وعن رأي مصر والمسئولين في هذا المشروع، ولقد دفعهم إخلاصهم إلى الاعتقاد بأن واجبهم يقضي عليهم بالانضمام إلى هذا المشروع للمساهمة في الدفاع عن مصر وعن الشرق الأوسط، وكنا نشرح لكل من يسألنا بكل جلاء رأي مصر في هذا المشروع وغيره، وهو أنه لا تفكير في الاشتراك في أي مشروع من مشروعات الدفاع عن الشرق الأوسط قبل أن يتم إجلاء البريطانيين عن قناة السويس، ولذلك فإن كل كلام في هذا الموضوع يعتبر سابقا لأوانه ولا محل للبحث فيه.
وفي ذات يوم ونحن في كراتشي، حضر لزيارتنا في الفندق السيد «إسلام سليماني»، نقيب الحلاقين في باكستان، وسلمنا رسالة تحية رقيقة من حلاقي الباكستان إلى وفد الصحافة المصرية ... وقد شفع رسالته برسالة أخرى طويلة طلب تسليمها إلى السكرتير العام للحلاقين المصريين، وقال السيد إسلام في خطابه إن رسالته إلى الحلاقين المصريين، بلا شك، أول رسالة من نوعها يبعث بها حلاقو دولة إسلامية إلى حلاقي الدولة الأخرى.
وتقول الرسالة: إن اتحاد جميع حلاقي الباكستان يهدف إلى إغاثة اللاجئين من الحلاقين وإلى إيجاد أعمال للمتعطلين منهم ... وإن الاتحاد يهدف كذلك إلى رفع مستوى المعيشة وتحسين حال كل من يعمل في هذا الفن ... فن الحلاقة والجمال!
أما برنامج المستقبل فهو تنظيم «صالون الحلاقة» على الطراز الحديث مع استعمال أحدث الآلات.
وتقول رسالة الحلاقين أيضا: نحن أهل الباكستان شعب مستقل، ونحن نريد أن تتمتع جميع الشعوب بنعيم الحرية! والمصريون ليسوا غرباء علينا فنحن إخوان تقوم بيننا أوثق العلاقات.
وتقوم باكستان ومصر على رأس العالم الإسلامي، ويحاول زعماء الدولتين دائما التقريب بينهما، وقد افتتحت مصر صفحة جديدة ذهبية من تاريخها تحت زعامة الجيش الذي قاد مصر إلى مصاف أهم الدول في العالم الحديث، وقد تقشعت السحب القاتمة وأصبح الطريق واضحا وسيتحقق الهدف قريبا ... ونحن نهنئ مصر وجيشها مؤسس مصر الحديثة ...
وأشارت الرسالة إلى ما قام به حلاقو باكستان في المؤتمر الإسلامي الذي عقد بمدينة كراتشي في التاسع من شهر فبراير 1951 إلى 12 فبراير سنة 1951، فقالت إن حلاقي الباكستان انتهزوا هذه المناسبة السعيدة فأعدوا صالونا عصريا أطلقوا عليه اسم «صالون الحلاقة الإسلامي الدولي»، حتى يقوم بقص شعر وحلاقة ذقون أعضاء المؤتمر وغسل وجوههم وتدليكها.
وقد اجتمع في هذا الصالون أبرع الحلاقين ليكونوا في خدمة الأعضاء، وكان من بين هؤلاء الحلاقين جماعة من أشهر فناني الباكستان، فمنهم مثلا الذين كانوا يحلقون للقائد الأعظم محمد علي جناح ، ومنهم من كانوا يحلقون لقائد الملة المرحوم لياقت علي خان ، وحلاق خوجه نظام الدين رئيس الوزراء السابق.
وقد قام بافتتاح هذا الصالون سماحة مفتي فلسطين، وكان أول شخص حلق فيه هو سردار محمد إبراهيم خان رئيس المؤتمر الإسلامي في جمو وكشمير ...
وتقول الرسالة: إن افتتاح الصالون كان فرصة ذهبية للاتصال بالمندوبين الذين وفدوا من جميع أنحاء العالم للاشتراك في المؤتمر، إذ أمكن جمع المعلومات المفيدة من اجتماعية وتعليمية واقتصادية عن الحلاقين في العالم الإسلامي، وقد اتضح من هذه المعلومات أن حالتهم في منتهى التأخر ...
وتقترح الرسالة في نهاية الأمر لعلاج حالة هذا التأخر تأسيس «الاتحاد الإسلامي الدولي للحلاقين»، وقد احتضن هذه الفكرة اتحاد جميع حلاقي الباكستان ... ويرى الاتحاد الباكستاني كذلك ضرورة تأسيس «جامعة الحلاقين الإسلامية» وذلك لتدريب الحلاقين في جميع الدول الإسلامية على الأساليب العصرية، وللتوحيد بينهم، وإجماع الرأي على رعاية مصالح الدول الإسلامية المشتركة ...
وقد اختتم إسلام سلماني نداءه إلى حلاقي مصر بهذه العبارة:
إنني بالنيابة عن اتحاد جميع حلاقي الباكستان وأعضائه، وعن جميع حلاقي الباكستان أبعث بتحيات الصداقة والأخوة إلى حلاقي مصر، ونرجو الله أن يحقق لهم التقدم والرخاء ...
وإننا لنعرض عليكم خدماتنا وتعاوننا وأي معونة أو خدمة ممكنة في أي زمان أو مكان ومن أي نوع!
والكلمة الآن لاتحاد الحلاقين المصريين!
المصريون في باكستان
لا يزال عدد المصريين في باكستان قليلا جدا، وقد يكون السبب في ذلك بعد المسافة بين مصر وباكستان، وقد يكون سببه أن باكستان لا تزال دولة حديثة تحاول أن تجد حلا لمشاكلها المتعددة وفي مقدمتها مشكلة اللاجئين، فلا أقل من أن تتاح لها الفرصة لتسوية هذه المشاكل قبل أن يحاول المهاجرون العرب، سواء من مصر أو سوريا أو لبنان أن يغزوها.
ولذلك فإن الفرصة لم تسعدنا إلا بلقاء عدد محدود من المصريين في باكستان معظمهم - أو كلهم - يعيشون في العاصمة كراتشي.
ومن تكرار القول أن نذكر مقدار ما يلاقيه المصري من ترحاب في هذه البلاد، مما لا يجعلنا نشك في أن المستقبل القريب سيحمل إلى تلك البلاد أفواجا من العرب سيفدون إليها من مصر، بل من كافة بلاد العرب.
وقد كان أكبر من ترك الأثر في نفسي من المصريين الذين قابلتهم اثنين ... قابلتهما هناك، وكان الأول يعمل في العاصمة كراتشي، أما الثاني فيعمل في جامعة بشاور على بعد 12 ساعة بالطائرة. وأنا أبعث إليهما من هنا بتحية حارة، فإنهما يمثلان مصر خير تمثيل ويرفعان رأسها في تلك البقاع النائية.
كان أولهما هو الأستاذ محمود أبو السعود الاقتصادي وخريج كلية التجارة. ظل يعمل في مصر بالإدارة الاقتصادية للجامعة العربية حتى عام 1948، وأدت الظروف السياسية التي سادت في مصر وقتئذ إلى خروجه من البلاد فرحل إلى أفغانستان حيث اشتغل بالتدريس، وكانت له هناك مغامرات عجيبة.
وفي شتاء 1948-1949 أخذ الأستاذ محمود أبو السعود ينشر في صحف باكستان التي تصدر باللغة الإنجليزية عدة مقالات في الاقتصاد والسياسة.
واسترعت مقالاته الأنظار وأخذ الناس يتساءلون: «من هو محمود أبو السعود؟» ولما عرف المسئولون في باكستان أنه مصري دعته في الحال جامعة البنجاب ومقرها لاهور إلى إلقاء سلسلة من المحاضرات، وكان ذلك في عام 1949-1950، ولما سأل عن موضوع المحاضرات قالو له إنه قد لفت أنظارهم بحث نشره في مجلة كلية الحقوق بكابول في أفغانستان وعنوانه «السياسة والاقتصاد في الإسلام»، وإنهم يحبون أن يكون هذا الموضوع هو موضوع المحاضرات.
وألقى الأستاذ أبو السعود سلسلة المحاضرات، فنالت إعجابا شديدا من جميع الدوائر الاقتصادية في باكستان.
وعلى أثر ذلك نشأت صداقة بين الأستاذ أبو السعود وبين السيد زاهد حسين محافظ بنك الدولة في باكستان، وفي يوم من الأيام قدم زاهد حسين طائفة من الأسئلة إلى صديقه أبو السعود وطلب منه الإجابة عنها كتابة.
وكانت الأسئلة كلها تتناول مشاكل المال والاقتصاد في باكستان، فانكب عليها الأستاذ محمود أبو السعود يدرسها بدقة ويضع الإجابة عن كل سؤال بعناية تامة.
ولما تلقى محافظ بنك الدولة الإجابة اشتد إعجابه بآراء الأستاذ محمود أبو السعود فرشحه مستشارا للبنك وقبل أبو السعود المنصب.
وعرف الأستاذ أبو السعود فيما بعد أن الأسئلة التى قدمها إليه محافظ البنك لم تكن غير امتحان كتابي له أداه دون أن يعرف أنه امتحان، كما عرف أنه اجتازه بنجاح.
وعمل الأستاذ أبو السعود في بادئ الأمر بعقد لمدة عام، ثم تجدد العقد لمدة عام آخر ... وما لبث أن عرض عليه المحافظ أن يعمل للباكستان مدى الحياة إلا أنه اعتذر وآثر أن يستمر في العمل بعقد يتجدد شهريا.
وقد نشأت صداقة شخصية بين الأستاذ أبو السعود وبين المرحوم لياقت علي خان، رئيس الوزارة الباكستانية الأسبق، حتى لقد عهد إليه بعدة مهام خطيرة.
وكان مما كلف به الأستاذ أبو السعود أثناء قيامه بأعباء عمله الخطير في بنك الدولة الباكستاني، رئاسة البعثة الباكستانية لعقد اتفاق دفع مع المملكة العربية السعودية في عام 1950، كما أنه انتخب رئيسا لوفد باكستان الذي أرسل لدراسة بعض النواحي الاقتصادية في مصر.
وقدم الأستاذ أبو السعود مشروعا لتنظيم الزكاة واعتبارها مصدرا أساسيا من موارد الدولة، كما أعد مشروعا آخر لتنظيم ملكية الأرض فأخذ به ونفذ فعلا.
وهو علاوة على ذلك رئيس تحرير نشرة بنك الدولة في باكستان، كما أنه عضو في هيئة تحرير المجلة الاقتصادية.
وكانت زوجة الأستاذ أبو السعود، السيدة الفاضلة ليليا مورو، ذات نشاط ملحوظ في النهضة النسائية الباكستانية، إذ إنها كانت عضوة في جماعة «أبوا» أو «جميع نساء الباكستان»، كما أنها كانت ترأس قسم اللغات في هذه الجماعة، علاوة على عضويتها في قسم البر وقسم الموسيقى وإعانة اللاجئين. •••
أما المصري الثاني فكان الأستاذ الدكتور عبد المحسن الحسيني المدرس بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وقد أعير إلى جامعة بشاور فانتخب رئيسا لقسم اللغة العربية وعميدا لكلية الدراسات الشرقية بهذه الجامعة.
وقد أنشئ قسم اللغة العربية في جامعة بشاور في شهر سبتمبر من عام 1952، وبدأ الدكتور الحسيني عمله به من يوم 16 سبتمبر سنة 1952. وقسم اللغة العربية هو فرع من كلية الدراسات الشرقية التي تضم اللغة العربية والأوردية والفارسية والبشتو.
وفي أول يناير من كل عام ينتخب أعضاء الكلية عميدا لهم عن العام الميلادي بأكمله، وفي عام 1953 انتخب أعضاء الكلية الدكتور الحسيني عميدا لهم.
وقد خطر لي أن أسأل الدكتور الحسيني عن الأسباب التي شجعته على مغادرة مصر والعمل في هذه البقعة النائية من العالم، يفصله عن الأهل والوطن ما لا يقل عن 24 ساعة بالطائرة! وقال لي الدكتور الحسيني:
شجعني على هذا شيئان: الأول أن رجل العلم يطلبه ولو بأقصى الأرض، فقد قيل: اطلبوا العلم ولو بالصين، وهو كذلك ينشره ويعمل على نشره في أية بقعة مهما بعدت، ولو علمت أن قوما يرغبون فيما عندنا من بضاعة العلم لرحلت إليهم ولو كانوا بأقصى الأرض.
فما علمت أن باكستان ترغب في أن تستعين بالمصريين في دراسة اللغة العربية، حتى بادرت إلى تلبية هذه الرغبة ولم يصدني عن ذلك بعد المكان أو جدة التجربة لعلي أكون من السابقين الأولين في بناء صرح اللغة العربية بباكستان.
ورغم ما يجده الإنسان من مشاق البعد والبيئة، فإني مساهم في بناء الصرح ما وجدت إلى ذلك سبيلا، ومتحملا في ذلك كل ما يعرض من متاعب ما وجدت نجاحا في تحقيق رسالتي.
وأما الأمر الثاني فهو أن دارس الثقافة الإسلامية يحس بحاجة ملحة إلى أن يرى جميع البلدان التي كانت مسرحا لهذه الثقافة، وأن يرى بنفسه البيئة التي ظهرت على أرضها هذه الثقافة.
ولما كان السفر إلى باكستان هو خطوة في سبيل تحقيق هذه الأمنية، فإنني لم أتردد في الإقدام عليه.
وهكذا يعيش الدكتور الحسيني بعيدا عن العمران ببضعة أميال في المدينة الجامعية التي تبعد عن بشاور بعد أن ترك زوجته في القاهرة.
وإنه ليحس هناك بالوحدة ويشعر بالحنين إلى الوطن ... ولكنه يذكر دائما أنه يعمل في مصر وأنه يجاهد في نشر العلوم والمعارف باسم مصر.
ولا أحب أن أغفل ذكر الأستاذ عبد المنعم العدوي الصحفي المصري الذي يصدر في كراتشي مجلة تحمل اسم «العرب» وهو يصدرها باللغة العربية، وقد استقر هناك مع بعض أفراد أسرته، وهو أيضا يعمل جاهدا في سبيل نشر الثقافة العربية عن طريق مجلة «العرب».
إلى الأمام!
هذه هي الباكستان في صفحات ...
هذه هي الدولة التي لم تشرق شمسها إلا منذ سنوات قليلة، وعلى الرغم من ذلك فقد غمر نورها جميع أرجاء المعمورة حتى استطاعت هذه الدولة الناشئة الفتية أن تثبت وجودها في العالم، وأن ترغم عيونه على أن تتحول إليها في اهتمام، وأن تجبر آذانه على أن تستمع إليها في إنصات ...!
ومن عجب أن تستطيع هذه الدولة التي يعد عمرها بالسنوات - والأعوام لحظات في تاريخ الأمم - أن تنمو وتزدهر وتصير شجرة باسقة سامقة في السماء رغم العقبات العديدة التي اعترضتها ولا تزال تقف حجر عثرة في سبيلها، والتي تكفي عقبة واحدة منها لتفل دولة قديمة راسخة لا جديدة ناشئة ...
مشكلة كشمير ... مشكلة اللاجئين ... مشكلة المياه ... إن مشكلة واحدة من هذه المشاكل - وهي بعض ما تواجهه الباكستان - كانت كفيلة بأن تقتلها وهي ما زالت في المهد، ولكن باكستان قد صمدت للأحداث وقارعت الخطوب، وخلقت من الشدائد عزما، ومن المصاعب قوة، وهوت بيديها القويتين على هذه العقبات والمشاكل تعمل فيها تحطيما وتفتيتا ...
يقولون: إن اليوم ابن الأمس وأبو الغد ...
فكيف يكون غد الباكستان بعد استقرار آثار أمسها واستعراض أحداث يومها؟
إن نظرة خاطفة على ماضي الباكستان القريب الحافل بالعزم الأكيد والرغبة الملحة في النجاح، ولمحة سريعة على حاضرها المشرق الوضاء المليء بالنضال والكفاح؛ لتدل دلالة واضحة لا يتسرب إليها الشك من قريب أو بعيد على أن الدولة الوليدة ستصبح في القريب العاجل عملاقا قويا ضخما يسحق كل ما يعترضه من صعاب، وينتزع النجاح حتى ولو كان بين أنياب الأسود ...!
ومن حسن الحظ أن نلتقي هنا، في القاهرة، ونحن على وشك الانتهاء من هذا الكتاب بصديق باكستاني قدم من كراتشي وهو في طريقه إلى لندن، ولما سألناه: كيف الحال في بلادكم؟ قال وهو متفائل: إنني لمست في هذه الرحلة الأخيرة إلى باكستان تقدما ملموسا من كل ناحية، فقد تحسن الاقتصاد القومي وانخفضت الأسعار وخاصة أسعار الطعام، وإن كانت أسعار الملبوسات لا تزال مرتفعة.
واستطرد فقال: وكذلك مما لا شك فيه أن الموقف السياسي قد تحسن، فقد أخذت العلاقات بين الهند وباكستان في التطور، وأخذت مرارة الحوادث التي سبقت وصحبت التقسيم في الزوال أو أن حدتها قد خفت، وهذا مما يمهد سبيل التفاهم بين دولتين ستعيشان متجاورتين تربطهما ذكريات الجهاد المشترك في سبيل الحرية.
وكان من أثر ذلك تلك المحادثات التجارية التي تمت أخيرا بين الدولتين، وقد تعقبها محادثات سياسية لتسوية المسائل المعلقة بين الدولتين كمسألة كشمير وغيرها في القريب العاجل.
كما يبدو أن مشكلة المياه قد تنتهي قريبا إلى حل يتفق عليه الطرفان بعد المفاوضات التي تدور في واشنطون ويشترك فيها البنك الدولي.
ولا شك أن ذلك كله مما يجعل المتطلع للمستقبل مطمئنا إلى مصير الباكستان ومستقبلها في ظل علاقات حسن الجوار والصداقة التي تربطها بالأمم الأخرى.
وكل عام جديد يمر في حياة هذه الدولة إنما يزيد من رسوخ قدمها في الأرض ويسهل لها حل ما استعصى من مشكلات.
وإذا كانت الأوضاع الدستورية فيها لم تستقر بعد فهذا شأن كل بلد جديد لم يألف الحياة الديمقراطية، وسيأتي اليوم الذي يعرف فيه الناس معنى الدستور على حقيقته فيلجئون إليه سعيا وراء حياة أفضل.
وليس هذا اليوم ببعيد على باكستان أو على غيرها من الأمم ...
فإلى الأمام!
مراجع هامة
إلى جانب المعلومات التي استقاها مؤلف هذا الكتاب بنفسه عند زيارته لباكستان، فقد استعان بعدة مؤلفات وكتب قيمة يمكن أن يرجع إليها كل من أراد الاستزادة في أي موضوع من الموضوعات.
أولا المراجع الإفرنجية
Danger in Kashmir by: Josef Korbel.
Mission with Mountbatten by: Alen Campbell Johnson.
Ambedkar.
Minorities in Pakistan.
India today by: Dutt.
Modern Islam in India by: Smith.
Kashmir by: Younghusband.
Muslim League Yesterday and to-day by: Rajput.
The Story of Kashmir.
Women of Pakistan.
Inside Kashmir.
ثانيا المراجع العربية
القائد الأعظم محمد علي جناح للأستاذ عباس محمود العقاد.
باكستان دولة ستعيش للدكتور عمر فروخ.
نهضة الشعوب الإسلامية للأستاذ محمد حبيب أحمد.
محمد إقبال للدكتور عبد الوهاب عزام.
صفحة غير معروفة