قال الطغرائي: «وأما البرودة فإنها ضد الحرارة في التعريف والفعل، فنقول إن البرودة كيفية من شأنها جمع المختلفات وتفريق المؤتلفات عكس الحرارة كما ذكرنا؛ وذلك أنها إذا سلطت على المركب من جسمين أحدهما حار يابس والآخر حار رطب؛ فإنها تجمع بينهما وتخلطهما ببعضهما بعضا، ولا تزال مع ذلك تفرق الأجزاء المؤتلفة من كل منهما وتبددها وتنشرها، فما دامت البرودة مسلطة على مثل ذلك المركب الذي ذكرنا فإنها تختلط الأضداد التي فيه بعضها ببعض، وتنشر أجزاء كل منهما بالتفريق والتبديد بحيث يستحيل قل أحدهما على الآخر ويمنع جمع أجزاء أحدهما مع بعضها بعضا؛ مثال أن الجسم الدهن عقب انحلاله بالحرارة عند التبريد يتحقق فيه اجتماع أجزائه وانضمام بعضها، بل إن الجسم القابل للتكليس والاحتراق إذا كان ملاصقا للجسم البارد الرطب كالماء فإن الحرارة إذا سلطت عليه لا تقدر أن تتمكن من فعلها فيه، وإنما ذلك لأن الحرارة تريد أن تفكك أجزاءه والبرودة التي مسته تزيد فيه جمع أجزائه وإبقاءه على حالة التركيب؛ وبذلك يتضح أن البرودة وفعلها ضد فعل الحرارة، والحرارة ضد البرودة في الفعل؛ فإن النار العنصرية المشاهدة لا تحرق شيئا إلا بشرط ألا تمسه برودة أصلا؛ وذلك كله يشد لما ذكرناه.»
81 (11) ابن باجة (القرن 6ه/12م)
ناقش ابن باجة (توفي 533ه/1138م) التضاد في فعل الجسمين الحار والبارد نظريا؛ فالجسم الذي نراه حارا كان في سابق عهده باردا، والمادة التي لديها استعداد لاكتساب الحرارة يكون لديها أيضا استعداد لقبول البرودة. ويعزو ابن باجة السبب في حدوث التضاد بين الحار والبارد إلى المستقيم؛ فهو عنصر هندسي متمم وليس تاما مثل الدائرة.
قال ابن باجة: «فأما الحار وقوة البارد، فإن وجوده حارا هو سبب كونه باردا بالقوة، ومن أجله كان ذلك لأن نسبة الحار والبارد إلى المادة نسبة واحدة؛ فمن الجهة التي تقبل الحار؛ فمن تلك الجهة تقبل البارد بعينها، وهما متغايران. ولو قبلتهما معا لما بقي هنالك تغاير أصلا، وإنما كانا متغايرين لأن المادة التي لهما تقبل الاستقامة، والمستقيم هو السبب الأول في التضاد؛ لأن المستقيم هو متمم وليس بتام بذاته؛ فلذلك له وسط وطرفان لأنه متصل، وكل متصل فهو ذو أجزاء - إلا أن هذا القول يليق بالنظر في سبب وجود الأضداد - وليس للقوة المتحركة التي هي له معنى يكون به أكثر أو أقل، إلا أن تكون في جسم أعظم أو أصغر.»
82 (12) ابن ملكا البغدادي (القرن 6ه/12م)
يقرن هبة الله ابن ملكا البغدادي (توفي 560ه/1165م) بين مفهومي الحرارة والبرودة والضوء والظلام، معتبرا أن البرودة بمثابة الظلام، مع اختلاف واحد بينهما أن للبرودة أثرا فعالا؛ فالجسم البارد يبرد ما يجاوره في حين أن الظلام لا يجعل الأشياء التي يقع عليها ذات لون أسود. «إن البرودة ليست من المعاني الوجودية، وإنما هي معنى عدمي بالقياس إلى الحرارة كالظلمة للنور. وما قالوا حقا؛ لأن الأعدام لا تفعل، فإن الظلمة لا تحيل غيرها إلى طبعها، والبرودة تفعل؛ فإن البارد يبرد كما أن الحار يسخن.»
83
ولتفسير ظاهرة تكاثف الماء التي تحدث حول كأس بارد، افترض أبو البركات وجود أجزاء لطيفة مائية، وهو ما نسميه حاليا بخار الماء، وهي التي تكون محيطة بالإناء البارد وتتكاثف على سطحه الخارجي؛ فما يحدث هو أن جزيئات بخار الماء الموجودة في الهواء تكون حارة، وعندما تلامس السطح البارد للإناء فإنها تفقد حرارتها وتبرد وتثقل فتنزل على أطراف الوعاء، ومع تراكم الكثير من الجزيئات التي تبردت تتشكل قطرات الماء.
الفكرة التي كان ابن ملكا محقا فيها، بخلاف ابن سينا والطوسي، هو أن الهواء لا يحوي في معظمه بخار الماء، وإنما كميته قليلة، وهي تتغير من فصل لآخر، وما يتكاثف على السطح البارد هي القريبة منه، التي تنقص من تلك الكمية إذا ما استمرت عملية التكثيف.
رأي ابن ملكا السابق أورده لنا مؤلف مجهول في إحدى المخطوطات التي عثرنا عليها في معهد المخطوطات في طوكيو: «فإنه زعم (أي ابن ملكا) أن في الهواء الطائف بالإناء أجزاء لطيفة مائية، لكنها لصغرها وجذب حرارة الهواء إياها لم تتمكن من خرق الهواء والنزول إلى الإناء، فإذا برد الإناء الذي عليه زالت السخونة من أجزاء المائية الصغيرة فتكثفت وثقلت فنزلت واجتمعت على الإناء، وهذا أيضا لأن الهواء الطائف بالإناء لا يمكن أن يشتمل على أجزاء كثيرة مائية، لا سيما في الصيف؛ فإن حرارة الهواء تبخرها وتصعدها، وعلى تقدير بقاء شيء من تلك الأجزاء يلزم أحد أمور ثلاثة؛ إما نفادها، وإما تناقصها، وإما تراخي أزمنة حدوثها، والكل خلاف الواقع؛ وذلك لأن تلك الأجزاء إما على قرب من الإناء أو على بعد منه، فإن كانت على قرب منه فإما أن ينزل الكل دفعة فيلزم نفادها في مرة واحدة، أو ينزل شيئا فشيئا على التساوي فيلزم نفادها وانقطاعها إذا تواتر نزولها، ولها بعد التسخين مرة بعد أخرى مع بقاء الإناء بحالته الأولى، أو على التناقص فيلزم تناقصها، وإن كانت على بعد منه يلزم تراخي الأزمنة لبعد المسافة، واعترض على ذلك:
صفحة غير معروفة