13 •••
إذن؛ أيديولوجيتنا يمكنها، بل يجب عليها، الاستفادة من العلم الطبيعي المعاصر، ليس فقط صلب مساره الناشر للضوء الكثيف، بل أيضا من طرفيه الأقصيين: المنهج والتقانة.
ولا سبيل إلى الاستفادة ما لم ندرك الإبستمولوجيا العلمية في حد ذاتها كفاعلية عقلية شقت طريقها المظفر، مستقلة تماما عن الأيديولوجيا والطوباوية وما سواهما، هذا الاستقلال لهو أخص خصائصها؛ حتى إن معيارها - معيار القابلية للاختبار التجريبي أو التكذيب، الذي يفرق في الحديث عن العالم بين ما هو علمي وما هو لا علمي - يرسم حدودا صارمة حول القضايا العلمية التي تحمل مضمونا إخباريا وقدرة تفسيرية وطاقة تنبؤية فقط عن وقائع العالم التجريبي، وهي حدود يستحيل أن يتخطاها ما لم يحمل مثل هذه الوظيفة المحددة للعلم الطبيعي؛ أي لا تتخطاها مثلا قضايا الدين والميتافيزيقا والفلسفة والفن والمشاريع الأيديولوجية والأخلاق المعيارية ... بعضها أهم وأعلى وأكثر فعالية من العلم
14
لكنها ليست علما
Science ، فهي غير قابلة للاختبار التجريبي أو التكذيب، وليس مطلوبا منها أن تقبله؛ لأنها تقوم بوظائف أخرى، وليس بوظيفة العلم التي تتجسد عينيا في السيطرة على الظاهرة الطبيعية، ومعيار التكذيب شهادة الصلاحية للقيام بهذه الوظيفة، إنه معيار العلوم الطبيعية، وفي نفس الوقت الخاصة المنطقية المميزة إياها، من حيث إنه الإطار الضام لمجمل منطقها أو الأصل الذي ترتد إليه، أو يمكن أن نشتق منه كل قضاياها المنهجية، كما أثبتت فلسفة كارل بوبر. ولأن فلسفته محض تطبيق لهذا، عد شيخ فلاسفة العلم الطبيعي في القرن العشرين، إلى كل هذا الحد تفرض الإبستمولوجيا العلمية الطبيعية استقلالها.
أما إذا كانت أيديولوجيا الحضارة الغربية قد اتخذت منها بشكل ما أحد مراكزها، فذلك موضوع آخر، إنه اختيارهم الذي لا يلزمنا بشيء، وليس من الضروري أن نتمركز مثلهم حولها، لكن من الضروري جدا جدا أن نعطيها كامل حقها، معترفين باستقلاليتها، التي تستلزم فريقا بل جيشا من الباحثين يتكرس لها في حد ذاتها.
في موضع سابق كان التوقف عند الأيديولوجيا لتأخذ حقها، حين تكرس لهذا الجزء الثاني من الفصل الأول، والآن دور الإبستمولوجيا العلمية وإعطائها حقها.
ومهما اختلفنا أو اتفقنا في سعة، بل هلامية تصور الأيديولوجيا، فقد اتفقنا في علم الكلام بالذات؛ فلا جدال في أنه هو مناط أيديولوجيا، بوصفها حضارة تدور حول مركز الوحي، ولأن علم الكلام الجديد أو أيديولوجيتنا المستقبلية لا بد أن تعطي الإبستمولوجيا العلمية حقها، كان من الضروري استئناف الطريق لكي يمتد «الموقف الطبيعي» للمسلم إلى اضطلاع بفعالية حية متنامية باستمرار. هذه الفعالية ... التنامي ... الصيرورة ... الحركة الديناميكية المستمرة للعلم الطبيعي، هي على وجه التعيين والتحديد روح العصر التي يتوجب على طبيعيات علم الكلام الجديد استقطابها، تمثلها وتمثيلها، والتي من أجلها لا بد وأن تصبح الطبيعيات مشكلة إبستمولوجية أولا وأخيرا. •••
فقد قيل إن العلم الطبيعي «شيء حي».
صفحة غير معروفة