المنهج «العلمي»
Scientific
هو البعد الغائب المفتقد حقا في أيديولوجيتنا ... في ثقافتنا وطرائق تفكيرنا وعوائد سلوكنا وسمات شخصيتنا القومية، بل وحتى سمات شريحة الإنتلجنسيا فينا.
واحتياجنا لعلم كلام جديد هو عينه احتياجنا لأيديولوجيا ثورية تهيئ لخلق إنسان عربي مسلم جديد. أهم مهامها توطين المنهج العلمي في حس الجماعة بأن تزرعه في ثقافتنا وتجذره في تربتنا، لنتمرس على مواجهة الواقع الصلب العنيد الذي يتأبى علينا ونفشل في تطويعه، فنستورد دائما حلولا لمشاكله، في استنزاف للموارد وتعويق للنماء والتقدم، والمطلوب الخروج بالمنهج العلمي إلى الآفاق الأيديولوجية، فلا يقتصر على المنظور الترانسندانتالي المتعالي للثقافة كموضوع للحوار بين صفوة المثقفين أو أبحاث بعض المتخصصين، بل تشريب المواطن بآفاق المنهج ليغذو أسلوبنا في الإنشاء وفي الإدارة، في التخطيط والتنمية، في الإنتاج وفي الاستهلاك، في مواجهة وقائع الحياة اليومية.
فليس منهاج العلوم الطبيعية - أي المنهج الفرضي الاستنباطي - إلا تجسيدا لطريقة التفكير المثمرة السديدة، للعقل حين ينطلق بمجمل طاقته لوضع الفروض العلمية، لكنها دونا عن كل انطلاقات العقل ملتزمة بمعطيات الواقع، ما تنبئ به التجربة، لتتعدل الفروض أو تقبل أو ترفض وفقا له، فالتجربة اختبار للفرض، ناقد قاس لا يعرف الرحمة في تعيينه لمواضع الخطأ والقصور، قاض حاتم ذو حكم موجب النفاذ، إنها المسئولية العسيرة أمام الواقع والوقائع التي لا يقوى على الاضطلاع بها إلا المنهج العلمي، فهو التآزر الجميل المثمر الخصيب بين العقل والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، إنه العقلانية التجريبية.
هكذا يستقي المنهج العلمي أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضاري والنبيل، لكنه ينصب في قلب البناء الحضاري ليس البتة كتقنية خاصة بذوي الاحتراف، بل كبلورة للتفكير الملتزم بالواقع وبالانتقال من المشكلة إلى محاولة حلها، لتعقيل السير نحو الهدف، للوسيلة التي امتلكها الإنسان للسيطرة على واقعه الأولي المعاش - الطبيعة - وسبيل الظفر في خضم هذا العالم الواقعي ومشكلاته، وهو لهذا يعد أكثر من ضروري، يفيد أيديولوجيتنا إلى أقصى الحدود ... أو إلى أقصى آفاق المستقبل.
لا تجديد مغنيا للتراث، لا بحث فعالا عن مستقبل لعلم الكلام، لا تنوير ولا تثوير في أيديولوجيتنا، إن لم يعمل هذا على إزالة العوائق التي تحول دون تسرب المنهج العلمي إلى ثقافتنا وشخصيتنا القومية. أهم هذه العوائق وأخطرها وأساسها الذي يتمخض عن بقيتها هو النظرة التغريبية للعلم ومنهجه، فصياغته جاءت كنتاج للحضارة الغربية، وبالتالي يتم اكتسابه على حساب أصالتنا وخصوصيتنا الأيديولوجية، هذا في حين أن المنهج العلمي التجريبي أجل صيغ وتبلور في الغرب، لتمثل نشأته في حضارتهم قطيعة ونقلة محورية، لكن فقط بالنظر إلى طبيعة الحقبة الأوروبية السابقة، الحقبة الوسيطة التي رأت الانشغال بالمادة عارا وشنارا، وليس الأمر هكذا في الحضارة الإسلامية التي كانت حاملة للواء التجريب والمنهج العلمي آنذاك.
وإذا كان الغرب قد استغل نقلته المحورية صوب التجريب أعمق وأروع استغلال، فليس يعني هذا أنهم خالقوه أو محتكروه، ويخبرنا تاريخ العلم بدور العرب في خلق فصول من قصته، ودوره في خلق فصول من قصتهم.
وتتقدم فلسفة العلم لتعلمنا كيف أن المنهج العلمي التجريبي مجرد تطوير وبلورة لفعالية مفطورة في صلب العقل البشري من حيث هو عقل، ومن حق وواجب البشر أجمعين - ليس الغرب فحسب - تسخيره واستغلاله في كل جزئية من جزئيات الواقع.
إن المنهج العلمي يحوي قيما منشودة في أيديولوجيتنا من قبيل التخطيط والتفكير الملتزم والإبداع، والتنافس لحل المشاكل في تعددية الرأي والرأي الآخر، ثم الالتجاء إلى محك الواقع المشترك بين الذوات أجمعين للفصل بين المتنافسين، والأهم البحث الدءوب عن الأخطاء والقصورات في كل محاولة، والمجال المفتوح دوما للمحاولة أو النظرية الأقدر والأجدر والتقدم الأعلى، وبالتالي الاحتمالية والنسبوية، فلا شيء مطلق أو يقيني، وليس ثمة حقيقة نهائية تتخذ مبررا لكبح انطلاق العقول وفرض الوصاية على البشر.
صفحة غير معروفة