46
ويذهب حسين مروة إلى أن الفكر الفلسفي عاش طور الحضانة تحت جناحيهم، ثم كان شقهم لمجرى الفلسفة الإسلامية تحت تأثير قمعهم واضطهادهم
47
الذي تكالبت عليه كل التيارات المحافظة؛ حتى غفروا للخليفة المتوكل أفعاله الشنعاء، وزعموا أن الله أيضا غفر له؛ فقط لأنه قضى على المحنة الدهماء؛ أي الاعتزال. وعمل الكثيرون على تشويه آرائهم، خصوصا أبو المظفر الأسفراييني (ت471ه/1078م) الذي أفرد صفحات كثيرة من مصنفاته لهذا الغرض، فيما أسماه التعريف بفضائح منهج أهل البدع؛ هذا فضلا عن محق نصوصهم حتى اندثر معظمها، مما حال دون التعرف على تراثهم كاملا. وتحت تأثير القمع والاضطهاد رسم المعتزلة دائرة الحكمة، أو شقوا مجرى الفلسفة؛ ليكون موازيا لمجرى عقلنة اللاهوت الذي شقه الأشاعرة وحدد مساره الغزالي. على أية حال كان المعتزلة دائما هم المؤسسون الحقيقيون والرواد المخلصون لعلم الكلام، وهم في النهاية ليسوا إلا جزءا من كل هو الكلام الذي أدى إلى الحكمة.
وخلاصة هذا أن الكلام والحكمة لا يفهم أحدهما بدون الآخر كأصل أو كامتداد، وبالتالي لا بد للمقاربة المتكاملة لأية قضية من قضايا التراث الإسلامي أن نبحث في أصولها الكلامية، أو في امتداداتها الفلسفية، ولكي يكتمل تناولنا لطبيعيات علم الكلام القديم لا بد من متابعتها في طبيعيات الفلاسفة، أو في الحكمة الطبيعة. فماذا عن هذا؟ ما الذي طرأ على الطبيعيات الكلامية حين واصلت المسير وانتقلت من دائرة الكلام إلى دائرة الحكمة؟ في الإجابة على هذا السؤل بشكل عام نجد الطبيعة ومباحثها أكثر وضوحا وتميزا عند الفلاسفة منها عند المتكلمين، فقد سلموا جميعا بأنها قسم من أقسام الحكمة الثلاثة: العقليات والطبيعيات والإلهيات، ثم تفرعت إلى فروعها عند كل منهم، أفردوا لها مصنفات أو رسائل أو فصولا، إنها أصبحت عنوانا للبحث وموضوعا محوريا للحديث.
ولئن ناقش نفر من أهل الاعتزال فكرة خلق القديم، فقد سلم المتكلمون جميعا - من أولهم لآخرهم - بأن: العالم حادث. بدأ الفلاسفة بالتسليم بهذه القضية، لكن بوصفها محل نظر ومحتاجة لبرهان «الكندي»، وتحت تأثير فلسفة الإغريق الذين عجزوا تماما عن تصور الخلق من العدم، وتأكيد أرسطو أن العالم قديم غير مخلوق، راح فلاسفة الإسلام يتلمسون سبل التعامل مع أطر قضية حدوث العالم. لجئوا إلى الفيض والصدور كبديل (الفارابي وابن سينا). ثم رفض ابن رشد هذا البديل وأسرف في تبيان أن العالم قديم ومخلوق، هذا في فلسفته الطبيعية الأنضج نسبيا من حيث إنها المركب الشامل في تلك الصيرورة الجدلية: محدثة/فيض/قديمة.
في كل هذه التوترات المتتالية ظلت الطبيعة قابعة دائما في قلب الأنطولوجيا المتجهة أولا وأخيرا نحو المتجه الإلهي ... نحو الثيولوجيا ... أي إنه لا فرق.
لكن هذا الحكم الخطير ينطوي على تقييم جريء للتراث القديم برمته، ولا يمكن إسناده إلى تصور مجمل أو إجابة بشكل عام، لا بد من تفصيلها استكمالا لصورة الطبيعيات في تراثنا القديم ... وهذا هو موضوع الفصل التالي.
الفصل الرابع
الطبيعيات ... من الكلام إلى الحكمة ... ولا فرق
صفحة غير معروفة