فالطبيعيات لم تكن إلا سلما للإلهيات، وليست مطلوبة في حد ذاتها أبدا للفهم والتفسير، المطلوب فقط استخدامها، وبالتحديد استخدام «حدوث العالم» كدليل على العقائد الإلهية. الحادث هو الجسم الطبيعي، فكانت الطبيعيات محض صورة عقلية للإلهيات، خادمة لها وليس للإنسان في حين أن الإنسان هو الذي يحيا في الطبيعية، وهو الذي يصارعها، وهو الذي يحتاج لترويضها وتطويعها.
دليل الحدوث؛ أي كون حدوث العالم أو العالم الحادث المخلوق دليلا على وجود الله وقدرته وعلمه الشاملين، وحكمته وحياته. ذلك هو ما سلم به المتكلمون جميعا تسليما، بل المسلمون جميعا، أوليس الكلام مكنوننا النفسي ... أيديولوجيتنا؟ فكان دليل الحدوث هو مدخل اشتباك علم الكلام القديم بالعالم، ومن ثم بالطبيعيات.
فلم يكن العالم بالنسبة للمتكلمين إلا علامة على وجود الله، على ما وراءه؛ «إنما سمي «العلم» علما؛ لأنه إمارة منصوبة على وجود صاحب العلم، فكذلك «العالم» بجواهره وأعراضه وأجزائه وأبعاضه دلالة دالة على وجود الرب سبحانه وتعالى.»
4
كلمة «عالم» مشتقة أصلا من العلم والعلامة، وفي أصلها اللغوي البعيد من الحسي: العلام؛ أي الحناء لما يترك من أثر باللون، والعلامة ما تترك في الشيء مما يعرف به، ومن هذا العلم لما يعرف به الشيء أو الشخص كعلم الطريق وعلم الجيش (الراية)، وسمي الجبل علما لذلك. ومنه علمت الشيء أي عرفت علامته وما يميزه، ونقيضه الجهل، وتكون بعد ذلك المعاني الخاصة والاصطلاحية في «العلم».
5
لم ترد لفظة «العالم» ولا لفظة الطبيعة في القرآن الكريم أبدا، وردت فقط في صيغة الجمع «العالمين»، ربما على سبيل التأكيد ثلاثا وسبعين مرة، هذا غير «العالمين» (بكسر اللام) من العلم بالشيء، التي وردت ثلاث مرات.
6
وكانت المشكلة المحورية للطبيعيات الكلامية هي العلاقة بين الله وبين العالمين أو العالم أو الطبيعة التي اتخذت مبدئيا شكل الإيجاد والخلق من العدم، إحداث المحدث: هذا العالم.
وظل دليل الحدوث دائما إطار الطبيعيات الكلامية ككل وكأجزاء، مبررها وتسويغها، مما جعل الإلهيات هي النهاية ... المتجه والهدف والغاية مثلما كانت قبلا هي البداية المنطلق وزخم الدفع، في دائرة مغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس.
صفحة غير معروفة