فيبدو لنا بعد هذا العرض وهذه المناقشة أن الحياة بدأت على الأرض بفعل الله خالق المادة والحياة، وأن لا سبيل إلى تفادي هذه النتيجة.
هوامش
الفصل الثالث
الحياة الحاسة
(1) علم النفس قديما وحديثا
هنا يبدأ علم النفس الحديث، وقد تخفف من مبحث النفس النامية، ولكنه تضخم بوفرة المسائل ووفرة الاستشهادات من سائر العلوم الطبيعية والفلسفية أو التطبيقات عليها، وأهمها مسألة المعرفة التي كان هو أحد نتائجها. لقد مر بنا الكلام في آراء القدماء في النفس النامية، وقد نظروا إلى النفس الحاسة كذلك كل بحسب مذهبه العام في الفلسفة. وها نحن موردون الآن بعض آرائهم لتركيز تصورهم لها، فليس غرضنا تاريخيا، وإنما هو مذهبي، يعرض للمشكلات الفلسفية ويبدي فيها الرأي بالأدلة القاطعة. فليس هذا الفصل والفصل التالي عرضا لعلم النفس بجميع مسائله وتحليلاته، ولكنهما يكونان «فلسفة علم النفس» المبينة لما يعتقد في المشكلات وما لا يعتقد.
وربما كان فاتح الباب أمامهم ديموقريطس بنظريته في الجوهر الفرد أو الذرة؛ فالنفس عنده مادية طبعا، مؤلفة من أدق الجواهر وأسرعها حركة، كلما تكاثرت اكتسبت الحساسية والإدراك، فهي لذلك أوفر عددا في أعضاء الحواس وفي القلب والمخ. وأعقبه أنبا دوقليس، وهو الذي اعتبر الماء والهواء والنار عناصر وأصولا، وزاد عليها التراب، وقال: إن النفس مزاج من هذه الأركان الأربعة يغلب فيها الهواء والنار؛ ولذا كانت ألطف وأدق، وكان للنبات شعور كما للحيوان، ولكنه أضعف. واصطنع أبيقور مذهب ديموقريطس، وقال: إن الأحياء نشأت اتفاقا، وبقي الأصلح وثبت نوعه، والنفس مادة حارة لطيفة للغاية، تتكون مع الجسم وتنحل بانحلاله. وقال الرواقيون: ليس للنبات تصور ولا حركة، فليس له نفس، وإنما النفس للحيوان والإنسان، وهي نفس حار.
هذه أقاويل ساذجة لا تستحق الذكر إلا لبيان أصول المذهب المادي في هذا المضمار. أما علم النفس فقد نضج واتخذ طابعا علميا ممتازا بجهود أفلاطون وأرسطو. أفلاطون فيلسوف الروحانية والخلود. وأرسطو فيلسوف اتحاد النفس والجسم في جوهر واحد، وواصف مختلف القوى الإنسانية من حواس ظاهرة وباطنة وعقل وإرادة، وصفا ما أدقه وأعمقه. أثبت أفلاطون للإنسان نفسا روحية لسببين: أحدهما أنه يعقل المعاني الكلية أو المثل، وهي غير متحققة في التجربة بما هي كلية، وغير مكتسبة بالحس، فلا بد من قوة روحية مثلها تعقلها؛ والسبب الآخر أن المادة جامدة ساكنة بطبعها، فلا بد من مبدأ لا مادي يحرك الجسم. ولا يمكن أن يقال: إن النفس عبارة عن توافق الأخلاط أو العناصر المؤلفة للبدن، فإن التوافق نتيجة التركيب والنفس تدبر البدن وتقاومه بالإرادة، فلا بد أن تكون شيئا متمايزا منه.
على أن رأي أفلاطون فيها وفي صلتها بالبدن لا يخلو من التردد والغموض: فإنه يحد النفس تارة بأنها فكر خالص، وطورا بأنها مبدأ الحياة والحركة في الجسم؛ ويقول تارة: إن النفس هي الإنسان، وطورا يضع بينهما وبين الجسم علاقة وثيقة إلى حد علاج النفس بالجسم وعلاج الجسم بالنفس، وتارة يضع في النفس قوى ثلاثا للإدراك والغضب والشهوة، وطورا يضع في الإنسان ثلاث نفوس. فهو يترنح بين مذهبه المثبت للنفس وجودا مستقلا، وبين التجربة المثبتة لها علاقة جد متينة بالجسم، وهذه هي النقطة الضعيفة في مذهبه: يتصور النفس جوهرا تاما حالا في الجسم حلول شيء في شيء، ويضيف إلى الحياة والإحساس والانفعال والتعقل وسائر الظواهر الوجدانية، ويعتقد أن الجسم مجرد آلة مادية، فلا يفسر تأثير الجسم في النفس ولا تأثير النفس في الجسم، مع إقراره بتفاعلهما.
وكان هو أول من قال بروحانية النفس من بين فلاسفة اليونان، أعني بتجردها عن المادة أصلا وقيامها بذاتها روحا وقوة. ودليله على وجود النفس بلا مادية كالمثل، يفيده في التدليل على خلود النفس، فإنه يقول: إن النفس لا مادية كالمثل، ومن ثمة بسيطة، فهي ثابتة باقية؛ لأن المركب هو الذي ينحل إلى بسائطه ويتحول. كانت في الأصل في العالم المعقول أو السماوي، ثم ارتكبت خطيئة، فكان عقابها الهبوط إلى الجسم، وإن لم تقض حياتها الأرضية في العمل على استعادة برارتها الأولى، عادت بعد الموت إلى جسم آخر بشري أو حيواني، وهكذا، إلى أن تطهر تماما، فتعود إلى مقرها الأول ذلك الجرم الفلكي السعيد بصحبة الآلهة السعداء. وهذه نظرية التناسخ تلصق بالمذهب لصقا.
صفحة غير معروفة