هو الإمام أبو عبد الله، محمد بن ادريس بن العباس بن عثمان بن الشافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشافع بن السائب، هو الذي ينسب إليه الشافعي، لقي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مترعرع، وأسلم أبوه السائب يوم بدر، فإنه كان صاحب راية بني هاشم فأسر من جملة من أسر، وفدى نفسه، ثم أسلم. كانت ولادة الشافعي، بغزة من الشام، لأن أباهوغيره من قريش، كانوا يتعاهدونها، وذلك في سنة خمسين ومائة، وقيل: ولد بمنى، حكاه ابن معن في التنقيب وقيل بعسقلان، وقيل باليمن، ثم حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، ونشأ بها، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، و«الموطأ» وهو ابن عشرة وتفقه على مسلم بن خالد مفتي مكة، ويعرف بالزنجي، لشدة شقرته، من باب الأضداد، وأذن مسلم المذكور له في الافتاء وعمره خمس عشرة سنة، ثم رحل إلى مالك بالمدينة ولازمه مدة ثم قدم بغداد سنة خمسة وتسعين ومائة، فأقام بها حولين، فأجتمع عليه علماؤها، وأخذوا عنه، وصنف بها كتابه القديم، ثم خرج إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين، فأقام بها شهرا، ثم خرج إلى مصر، وصنف فيها كتبه الجديدة، ولم يزل بها ناشرا للعلم ملازما للاشتغال بجامعها العتيق، إلى أن أصابته ضربة شديدة، فمرض بسببها أياما على ما قيل ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى وهو قطب الوجود، يوم الجمعة سلخ رجب سنة أربع ومائتين، ودفن بالقرافة بعد العصر من يومه، وكانت له كرامات ظاهرة منها، أنه لما حضره الموت نظر إلى أصحابه قال للبويطي: يا أبا يعقوب تموت في قيودك، فكان منه ما سنذكره قريبا، وقال للمزني: سيكون لك بعدي سوق فعظم شأنه بعده عند الملوك فمن دونها، وقال لابن عبد الحكم: تنتقل إلى مذهب أبيك، فانتقل لأمر يأتي ذكره، وقال للربيع: أنت راوية كتبي، فعاش بعده قريبا من سبعين سنة، حتى صارت الرواحل تشد إليه من أقطار الأرض لسماع كتب الشافعي. وكان رحمه الله أول من صنف في أبواب كثيرة من الفقه معروفة، ومع ذلك قال: وددت لو أخذ عني هذا العلم من غير أن ينسب إلي منه شيء.
وقال ما نظرت أحدا إلا وددت أن يظهر الله الحق على يديه، وحكمته كما قال البيهقي، إنه لا يستنكف عن الأخذ به بخلاف خصمه فإنه قد لا يأخذ به، وكان جهوري الصوت جداوفي غاية الكرم والشجاعة، وجودة الرمي وصحة الفراسة وحسن الأخلاق، وكان قوله حجة في اللغة، كقول امري ء القيس ولبيد ونحوهما كما نقله ابن الصلاح في طبقاته، في فصل المحمدين عن ابن هشام صاحب السيرة بسند صحيح، ولهذا عبر ابن الحاجب في «تصريفه» بقوله: وهي لغة الشافعي كما يقولون لغة تميم، وربيعة، وكان أعجوبة في العلم بأنساب العرب وأيامها وأحوالها، ذا شعر غريب، طلب رحمه الله من محمد ابن الحسن صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهما أعارة كتب لما قدم بغداد فمنعها، وكان الشافعي يعظمه ويثني عليه ثناء كثيرا فبعث إليه رقعة فيها:
قل لمن لم ترعينا من رآه مثله ومن كان من رآه قد رأى قبله
العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله لعله يبذله لأهله، لعله
وله:
أمت مطامعي، فأرحت نفسي فإن النفس ما طمعت تهون
وأحييت القنوع، وكان ميتا ففي احيائه عرض مصون
إذا طمع يحل بقلب عبد علته مهانة وعلاه هون
وله:
صفحة ١٩